(536)
(239)
(576)
الدرس الثالث من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الدخان، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) }
الأربعاء 24 رمضان 1445هـ
الحمدلله مكرمنا بالقرآن وتنزيله، وتبيينه على لسان عبده ورسوله وتوضيحه وتفصيله، االلهم صل وسلم وبارك وكرِّم على عبدك الذي أنزلت عليه القرآن سيدنا محمد، وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الأدران وأصحابه الغر الأعيان، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وسلم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين
وبعد،،
فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا -جل جلاله وتعالى في علاه-، مررنا على الآيات من سورة الدخان، وقرأنا ما كان من قوم فرعون إذ ضربهم الله لنا مثلا، وما كانت النهاية والغاية من هلاك ذلك الطاغيه ومن معه، كما قال: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]، وأورثَهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما أشار فيما قرأنا، وأن سيدنا موسى آية من آيات الله جاء إلى هؤلاء القوم، وكان فرَّ منهم لما خافهم، وجاءهم بالرسالة، داعيًا لهم ومنقذًا؛ ومع ذلك هم معروفون بالجبروت والطغيان، وما قالوا نقتلك ولا سنقتلك؛ وهو لما أرسله ربه قال: إني أخاف أن يقتلون، قال: كلا؛ فما حاموا حول قتله، ولا قدروا على قتله، وقد أقام بينهم مدة بعد أن عاد، وأرسله الله تعالى مع أخيه هارون، فكان آية من الآيات حفظ هذا الإنسان، ووقاية هذا العدوان والطغيان من هذا، وإلى أن انتهى أن يقولُ: أنت الذي قتلت من أجل لا أسلَمْ أنا… كذا كذا من بني إسرائيل؛ ثم أمر الجبار أن تربيني في بيتك واليوم آتيك لإنجاز وعده الذي حدثَّك عنه من حدثَّك من قبل، فماذا تستطيع تعمل؟ هل تقدر ترد شيء؟ هل تقدر تعمل شيء؟ ومع ذلك فالحكم نفذ: (إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24))؛ حكمَ الله بغرقهم.
حتى يقال أن في قوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا..(24))، أنه أوحى إليه بعد أن جاوز البحر، ولما جاوز البحر عاد إلى البحر ليضربه بالعصا ليعود؛ حتى لا يتمكن فرعون من اللحوق له والمجيء إليه، فقال له الحق: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا..(24))؛ لنا حكمه: (إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) [هود:37]، بندخلهم بنغرقهم هنا، هذا ترتيبنا وتدبيرنا، وهذا تدبير الله لكل صادق معه، كل صادق معه هو يدبر لهم -سبحانه وتعالى- ويرتب لهم من عنده كما شاء، (إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) [هود:37].
فسرى بأمر الله بالمؤمنين معه ليلاً، وقال: (إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24))، لما يصف الله هؤلاء القوم الذين خرجوا في هذه الحادثة ثم لم يرجعوا، دولة كاملة فرعون وقواته وعسكره وجنده من أولهم لآخرهم؛ كلهم راحو خرجوا ومت رجعوا، في يوم واحد انتهوا، وانتهت دولتهم وانتهى خبرهم، وهذا بالنسبة للأرض ولكنهم انتقلوا للعذاب الشديد.
كما قال الله عن ذاك المؤمن من آل فرعون من القبيلة نفسها، وهذا يدل على عجائب إرادة الله في إنقاذ هذا؛ وإصلاح هذا؛ هذا من القبيلة ذي؛ وذلك من البيت ذا، والأمر أمره، وهذا واحد من قبيلة فرعون نفسه -ومن آل فرعون- يكتم إيمانه، وفى الأخير يقول: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر:41-44]، لا حزب معارضة عنده في المكان ولا دولة ثانية تقابل فرعون يلجأ اليها، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر:44]؛ فكانت النتيجة والنهاية: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا) [غافر:45-46] -من يوم غرقوا إلى اليوم هم يعرضون على النار- (غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖوَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ..) [غافر:46] ماهو المصير الكبير هذا؟ ونجى هذا المؤمن، ونجى من كان معه، ونجى مع سيدنا موسى من المؤمنين، ومن حين مات أحدهم وهو على الإيمان وهو في النعيم إلى يومنا هذا، والنعيم الأكبر مقبل عليهم، والعذاب الأكبر مقبل على الآخرين، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
يقول عنهم: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ ..(25)) -بساتين ومزارع كثير- (وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26))؛
تركوها، خرجوا آخر الليل، وفي الصبح ما عاد جاء وقت الضحى ما عاد أحد منهم خلاص انتهوا، ولا عاد واحد منهم، لا فرعون ولا الوزراء ولا قادة الجيش، ولا الجيش من أوله لآخره، ولا واحد من الجنود، كلهم انتهوا.
(كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)) والمعنى: لا يغركم أبسط لأحد شيء من المتاع؛ ولا رصيد من الأموال؛ ولا فسحة في حكم، ماذا يقول لنا الله؟ ما هو هذا؟ وماذا يساوي؟ لا يغركم، ولا يلفت نظركم؛ هذا أمر حقير، وانظروا إلى المستقبل الكبير، والشأن الخطير، فلا يكون نظركم إلا إلى ذلك، اعقلوا، أما هذه كما قال لهم سيدنا موسى لقومه: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]؛ تابوا وأذوهم كثير.. في الأخير هم ورثوا كل هذا، وبعدما كانوا مسخرين مستخدمين، مقهورين، مستذلين، صار الأرض لهم، والبيوت لهم، والأزرع لهم، والمساكن لهم: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) [الأعراف:137].
يقولُ: (كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28))، هذه الأرض وهذا الملك وهذا .. أعطيناها آخرين، وقال لهم قديمًا سيدنا موسى قبل سنين: (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129]، الأرض أرض الله والملك ملكه، وَلَا تُظِنُّوا إِنَّ مَنْ ولّاه اللَّهُ وَلََّهْ يَفْعَلْ مَا يشاء.. (..فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129]؛ سيحاسبكم فِي الميزان وَحِسَابُ مَنْ طَغَى مِنْكُمْ، وَمَنْ تجبر، وَمَنْ زاغ عَلَيْهِ الْعِقَابُ من بعد تكونوا أنتم .. تكونوا غيركم، (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129]، وكان ذلك بعد سنين، وَهَلَكْ عَدُوَهُمْ وَاسْتَخَلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَثَبَتْ مَنْ ثَبَتْ وَصَدَقْ مَنْ صَدَقْ وَفِيهِمْ أَوْلِيَاء وَصُلَحاء. وبدأ بعد ذلك الانحراف والفساد يدخل عليهم من هنا ومن هنا وظهر فيهم المفسدون، وظهر فيهم الذين خرجوا عن سبيل سيدنا موسى على نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال الله: هؤلاء وهلكتهم من حقارتهم؛ (فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (29))، ما يقدر أحد يؤخرهم عن هذا اليوم والساعة المعينة في ذلك اليوم، التي نغرقهم فيها ما أحد يقدر، لا هم، ولا أصحابهم، ولا أهلهم، ولا جماعتهم، ولا أحد في الأرض ولا في السماء يقدر ينقذهم من هذا، (وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (29))، ما يمكن يتأخرون عن الساعة التي حددتها لهم -جل جلاله-.
(فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ ..(29))، كيف ما بكت عليهم السماء والأرض؟ يقول لنا الرحمن: إن السماوات والأرض تحب من عبد خالقه ومن آمن به ومن خضع لجلاله؛ ثُمَّ عند فقده وانتهاء حياته تبكي عليه، إذًا فللكائنات حِسْ ومعنى؛ ولهذا للأرض شهادة يوم القيامة؛ لو كان ما تُحِس وما تشعُر، كيف تشهد؟ (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة:1-4]، تشهد بما كان يُعمَل فيها من خير؛ وتُفرِّق بين الخير والشّر، تقول هذا خير وعمل كذا وهذا عمل كذا.
إذًا فهناك معنى من الإدراك موجود في الوجود؛ ولهذا الموجودات تُسبّح بحمد ربها: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ..) [الإسراء:44]، وما يخرج عن هذا إلا قلب الكافر والمُنافق والعاصي من الإنس والجِن فقط؛ قلبُه، نعني ما أوتي من قوة اختيار وإرادة فقط؛ وإلا فما عدا ذلك منه مُسبِّح، كُلُّه مُسبِّح بحمد ربه لكن إرادته واختياره محروفة ويتكلم في نطاق ما أوتي فقط من قُدرة واختيار مُحددة ليُختَبر وليُمتحن، هذه الذي تُكفر وهذه الذي تُعاند والباقي لا يوحد شيء؛ والأعجب أن ما تفعله هذا باختيارها وإرادتها من عِناد، قد سبق في علم الله -تبارك وتعالى- وهو آتٍ على ما سبق في علمه. فسبحان من يهدي من يشاء ويُضِّل من يشاء. اللَّهم اهدنا في من هديت.
قال: (فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (29))؛
ولما هؤلاء ما صعد في أعمالهم لا إيمان ولا عمل صالح؛ فالسَّماء ما حَزِنَت عليهم ولا على موتُهم، ولا الأرض التي كانوا عليها؛ فهم من أبغض النَّاس إليها؛ لأن الأرض مُسبِّحة بحمد ربها، وتبغض بالذي يكفُر بربها، وتبغض الذي يُشرك مع إلاهها، وتبغض الذي يعصي إلاهها -جلَّ جلاله- ولكنها مُسخّرة وباقية أيضًا هي إلى أمدها ووقتها، فهؤلاء بحالهم هذا؛ لا الأرض شَهِدَت منهم أعمال صالحة، ولا السّماء صعد إليها منهم عمل صالح.
(فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ ..(29))؛ يعني مُحتقرين، والمعنى:
انظروا إلى مَنْ آمن بي وأتقاني وأطاعني فهو المُكرم، ولذا كان يَصيح به بعض العارفين يقول: ما أعزّت العباد أنفُسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفُسها بمثل معصية الله.
(فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ..(29))؛ يعني: قوم مُحتقرين، (فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ ..(29))؛ فماذا نفعهم المُلك؟ وماذا نفعهم؟ وماذا نفعتهم القوة؟ وماذا نفعهم ما كانوا يتمتعون به؟ وكان يقول فرعون: ( .. أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف51-52]، يتكلّم على سيِّدنا موسى، (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ..) [الزخرف:53-54]، وما ظنوا أنهم يهلكون بهذه الصورة؛ جيش كامل ودولة كاملة -في ساعة من نهار- ينتهوا من أولهم إلى آخرهم، لا إله إلا الله.
(فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ ..(29)):
فعلامة البُكاء:
ولكن المطر فيها رحمة، وفيها عذاب، ويكون في تعبير عن البُكاء بمُقابلة الدُّموع التي تخرج من عين الإنسان عند بُكائه، وقد يكون غير ذلك من الحِكَم. ولكن الإحمرار هذا بالسّماء علامة الحُزن والغضب. لا إله إلا الله.
(فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (29))، ومن هُنا جاء في بعض الآثار أنه حتى الثّياب الذي يلبسها المُتعمّد ترك الصَّلاة تقول له: يا عدو الله، لولا أن الله سخرني؛ لفررت منك، وإنه يرفع اللُّقمة إلى فيه، وتقول له: يا عدو الله، تأكل رزقه ولا تؤدي فرائضه! لولا أني سُخِّرت لك؛ ما طعمتني، وبيته.. كُلَّها تكرهه الكائنات لأنه خالف ربَّه -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.
وهكذا وجدنا الجمادات تفاعلت مع خير البريات، ومن قبل أن يُبعث، وإن كان محبوب لله ومحبوب للسَّماوات والأرض وما فيها ﷺ؛ وفي الحديث الصحيح: "أنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ"، يتعبد سيِّدنا جبريل بمحبته هذا الإنسان. قال ويأمرني أُنادي في أهل السَّماء: يا أهل السَّماء إن الله قد أحب فلان بن فلان "فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأرَْضِ"؛ وهذا حال الذي أبرز الله محبته بعد بروزه في هذا العالم.
فكيف بالمحبوب الأعظم لله الأكرم ﷺ! محبوب للأرض وللسَّماء وللسَّماوات وما فيها، ولكن هذا الحجر الذي من قبل أن يُبعث يُسلِّم عليه، زادت قوة محبته؛ ما عاد صبر، كُل ما يمر: السَّلام عليك يا رسول الله. ما نُبيَّ بعد ما أحد يعلم أحد بالرِّسالة وأنه سيكون رسول من النَّاس، ولكن الحجر ما يقدر يصبر. "إني لأعرف .." يقول في حديثه الصحيح: "إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يُسلِّم عليّ قبل أن أُبعث، فإني لأعرفه الآن" فما معنى أنا أعرفه الآن؟ أي: قابلنا إحسانه بإحسان، وقابلنا معروفه بمعروف؛ حتى كان مشهور في مكة إلى أوقات قريبة زُقاق الحجر؛ الشّارع الذي فيه هذا الحجر يُسموه زُقاق الحجر -لا إله إلا الله- قريب من الحرم، دخل الآن في تّوسعة الحرم.
هذا حجر يُسلّم عليه والشَّجر يسعى إليه، والجذع يَحِنْ، وجذع يَحِنْ، جذع يَحِن؛ يحن وهو موجود معه في نفس المحضر إلا القُرب كم أذرع بُعد منه.. أذرع، كان يقوم عند الجذع ويُمسِكه بيده ويتكلم؛ يخطب الجُمعة، لما بنوا المِنبَر بينه وبينه أذرع، طلع المِنبَر، حنَّ الجذع، صاح حتى كاد أن ينشَق، حتى غطى صوته أسماع أهل المسجد؛ فخرج ﷺ من المنبر وجاء إليه يضمه، خفَّ الصوت خفَّ الصوت حقه، قال: مثل الصبي تسكته أمه، يقول بعض من الصحابة التفت أنظر يمين وشمال إلا وكل واحد من الصحابة ملقي رأسه بين رجليه يبكي، والنبي خاطب الجذع وكلمه ورجع، أكمل خطبته وقال: "إنَّ هذا الجذع حنَّ لما فارقه من الذكر، وإني خيرته بين أن يعود نخلة في الدنيا أو يُغرس في الجنة فاختارالجنة"؛ يا خير جذع ويا خير اختيار عنده للجنة عنده بيشوفه دائما.
فالجمادات معه والحيوانات كذلك معه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أبرز الله فيها منها ما أبرز، وسبح الحجر في كفه الشريف، وحمل الحجر فوضعه في يد أبي بكر وسمعوا تسبيحه، ثم حمل الحجر فوضعه في يد عمر وسمعوا تسبيحه، ثم وضع الحجر وأكمل المجلس وقام، وجاءوا الصحابة يضعون الحجر في أيديهم ما سمعوا شيء، لا إله إلا الله.
ولذا يقول سيدنا أنس لما كان اليوم الذي وفدَ فيه ﷺ إلى المدينة، ودخلها أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي توفي فيه أظلم منها كل شيء، يعني: حزن كل شيء في المدينة، حتى الأشجار، حتى الحيوانات، حتى التراب، فقدوا أكرم الخلق ﷺ في الحياة الدنيوية التي يعيش بينهم فيها أو بها ﷺ.
أما هؤلاء قال: (فَمَا بَكَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30))، بعد سنين كانوا تحت الاستعباد، وتحت الإهانة، وجاوزوا الاستعباد إلى استباحة القتل، يقتلون ابنائهم، (..يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ..) [البقرة:49] بأي حق؟ طغيان الإنسان لمَّا يرى له حق يقتِّل، ما ترون في زمانكم مثل هؤولاء، لما يرى له حق يقتل، تقتِّل عيال الناس بأي حق؟! أطفال، حتى أطفال، ويولد لهم، إن كان سنة وتريه يقتل، وشفع ما يقتِّل، أي واحد يولد روحوا اقتلوه، واستحلوا دماء الخلق، وكثر طغيان الناس، كما تشاهدون وتسمعون، يطغون إلى هذا الحد، فنجاهم الله.
(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ ..(31))، الذي كان يجري على يد فرعون وسياسته ودولته؛
(كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31))، كما قال في الآيات: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) [القصص:4] وهل الارض محل علو؟ ما هي محل علو. (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ) [القصص:83]، لكن يريدون العلو عند العلي، عند الإله العلي، والنعم، أما العلو في الأرض هذا:
هذا العلو في الأرض -والعياذ بالله تعالى-، (لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
(.. إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ) -بني إسرائيل هؤلاء المؤمنين- (عَلَىٰ عِلْمٍ ..(32)) على إحاطة منا بما يقولون، ويفعلون، وما يصدر منهم، (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32))، عالمي زمانهم، الموجودين في زمانهم، من الإنس والجن، فُضلوا عليهم بإيمانهم واتباعهم للنبي موسى ولمن قبله من الأنبياء، وبعده سيدنا عيسى عليه السلام.
قال: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ (33))، يقولُ: آتيناهم من الآيات من العلامات على تفضلنا عليهم؛ (مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ (33)) أي: نعيم كامل، (مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ (33)): فقد يطلق عليه البلاء وما يبلوا به الإنسان، يعني يصادفه ويعمله، وقد يكون من خير ومن نعمه، ولذا يقولون في شكرهم الله: لك الحمد والشكر على حسن بلائك وصنعك في أنفسنا، على حسن بلائك وصنعك في أهلنا ،على حسن بلائك وصنعك في أولادنا، وما إلى ذلك.
(وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ (33)) أنزلنا عليهم المن والسلوى، ونجيناهم من البحر، وغرقنا بعض عدوهم، (وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ) ما فيه نعيم كامل لهم، (مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ (33)) يكفيهم ذلك، ولله الحمد على كل حال.
اللهم انصرنا بما نصرت به المرسلين، واحفظنا بما حفظت بالذكر المبين، وارزقنا المتابعة لحبيبك الأمين، ورد عنا كيد الكائدين، وأذى المؤذيين، وشر كل شر من الإنس والجن والخلائق أجمعين، يا معتمدنا، يا مستندانا، يا من إليك الأمر كله، اكرمنا والحاضرين والسامعين بنور القرآن، وسر القرآن، وبركة القرآن، وفهم القرآن، وعلم القرآن، والعمل بما في القرآن، وارفعنا بالقرآن، "إنك ترفع بهذا الكتاب أقواما وتضع بآخرين"، فارفعنا بكتابك العزيز يا قوي يا عزيز، وبلغنا ما نأمل وفوق ما نأمل في الدنيا والبرزخ والآخرة برحمتك
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
24 رَمضان 1445