(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس الحادي عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحجرات، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهَ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
الحمد لله وليّ الإفضال الذي لم يزل جوده في توال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحيّ القيّوم الواحد الأحد الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله ختم به الإنباء والإرسال، ورفع قدره على جميع الخلائق؛ فهو صاحب القدر العال اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك المجتبى المختار سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، وعلى من والاهم فيك واتبعهم على ممر الأيام والليال، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المخصوصين بأسنى جودك الهَطَّال، وعلى آلهم وصحبهم وتابعهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فإننا في نعمة تلقّي تعاليم ربنا وإرشاداته وكلماته وآياته وتوجيهاته وتنبيهاته ورسالته ومواصلاته -جل جلاله وتعالى في عظمته-، مررنا على معاني في سورة قاف حتى انتهينا إلى آخرها ونجيء إلى سورة الحجرات: السورة التي سمّاها الله باسم البيوت والغُرف التي كان يسكن فيها عبده خير البرّيات -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فهي مساكن إن كان تتشرف المساكن بساكنيها، فساكنها أفضل أهل الأرض والسماوات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، سُميت سورة الحجرات، وجعل الله قُوامها على: ركيزة الأدب مع الحق في رسوله المصطفى المُقرّب وما يجب أن يكون عليه أتباع هذا النبي في العلائق بينهم البين، والأخلاق والآداب فيما يدور بينهم ويكون، وإثبات حقائق الإيمان والمَنّ فيه للإله الرّحمن -جلّ جلاله-، سورة الأدب والتهذيب والأخلاق سورة الحجرات المدنية، يقول -سبحانه وتعالى- فيها: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا …} أيقنوا بعظمتنا ووجودنا وإيجادنا كل ما سوانا وكمالنا المطلق وقدرتنا والمرجع إلينا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا …} الزموا الأدب، {... لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ …} فهذا مقتضى الإيمان وهذه حقيقة الإيمان وهذه ثمرة الإيمان أن لا تُقدم بين يدي الله ورسوله، وقرأ عامة القُرّاء {..لَا تُقَدِّمُوا..} وجاء في قراءة برواية يعقوب {... لَا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ …} لا تُقدموا رأيًا ولا فكرًا ولا نظرًا ولا عقلًا ولا قولًا ولا فعلًا دون الحق ورسوله، لا تُقدموا شيء على منهج الله -تبارك وتعالى- وعلى مسلك وهدي عبده المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، كونوا من خلف هذا النبي في الاقتداء والاهتداء والإجابة والطاعة ولا تقدموا آراءكم ولا عقولكم ولا أفكاركم بل فضلًا عن أفكار غيركم وسواكم، ولا تقوموا بالعبادة إلا تابعين ولا تتقربوا إلينا إلا مُقتدين بهدي هذا المصطفى الأمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ…}. ويقول بعض أهل الأذواق: إن التقدم بين يدي الله كيف يمكن للمخلوقين؟!! ولكن الله جعل إساءة الأدب مع رسوله إساءة أدب معه، فجعل الذي يتقدم على رسوله كأنه تقدم على الله - جلّ جلاله وتعالى في علاه-، كما قال: {…مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ …} [النساء:80] و {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ…} [سورة الفتح: 10] فجعل إساءة الأدب معه إساءة أدب على الله الذي أرسله وجمّله وكمّله وفضّله وقدّمه على من سواه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ …} وحصل عدد من الأعمال التي حملت مظهر التقدم فمنها: ما كان من الصوم وأراد من أراد أن يحتاط ويصوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، فصاموا قبله بيوم أو بيومين فنهاهم الله عن ذلك، فلا تقدموا بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ومنهم: من أراد أن يسبق في الأضحية، فضحّى بأضحيته قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العيد وقبل أن يخطب ويصلي بالناس، فخطب بهم وقال: أول ما نبدأ به يومنا أن نصلي صلاتنا ثم ننحر ذبيحتنا، من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحمٍ قدمها لأهله وليست بأضحية، حتى يذبح صلى الله عليه وسلم أولًا فيذبحون من ورائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما كان بعض الناس يقولون: لو نزل في كذا وكذا، ولو قال كذا، ولو فعل كذا، فنهاهم الله وقال: {…لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ …} اتركوا آراءكم ونظرياتكم أنتم أمام ألوهية وإختيار نبوة ورسالة ما لكم حق أن تتقدموا عليها بشيء، وهذه حقائق الإيمان ومتى أمركم فامتثلوا و{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ…} [سورة النور: 51]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء:(65)].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ…}، في مشاعركم وأحاسيسكم ومشهدكم حول رسوله، اتقوا الله! فلا تعتبروه كَسِواه عبدنا البشر المخلوق الذي أبرزناه في قالب الإنسانية ميّزناه، فاعلموا مزيته، وخصصناه فأدركوا خصوصيته، وشرّفناه فاعتقدوا شرفه، وقدّمناه فاعلموا أنه المقدم، اتقوا الله فيما تنظرون به إلى نبينا فيما تستشعرونه نحو رسولنا، واتقوا الله إن الله سميعٌ لأقوالكم وما تتلفظون به، وها هو ينهى كما يأتي في الآيات عن رفع الصوت في حضرته الكريمة، إن الله سميع عليمٌ: بما يخطر في صدوركم وما يجري من أعضائكم من عمل، إن الله سميع عليم، فهذِّبوا أقوالكم مع نبيه {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}، و{ لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ...} [سورة النور63]، ميّزوه واخفضوا أصواتكم عنده ونادوه بألقاب وأسماء التشريف والتبجيل والتعظيم: ولا تقولوا يا محمد ونادوه: يا رسول الله، نادوه: يا نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إن الله سميعٌ عليمٌ بما تقولون وما تفعلون، فهذا مسلك المؤمنين مع المصطفى الأمين صلى الله عليه وصحبه وسلم، أمرنا الله بمراقبة أحوالنا مع رسوله، وأن نعرف قدره ومكانته ومنزلته عند إلهه سبحانه وتعالى، وأنه أكرم الأولين والآخرين على الله يوم القيامة ولا فخر.
وبذلك كانت حقائق الإيمان وتوحيد الرّحمن والقرب منه والمعرفة به لا عنوان لها ولا ترجمة ولا دليل إلا تعظيم هذا النبي ومحبة هذا النبي وإجلال هذا النبي والاتباع لهذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكل من كان أعرف بالله كان أعرف بمنزلة سيدنا رسول الله وقدر سيدنا رسول الله، كيف وقد انتشر هذا الإدراك والعلم في القرون الأولى حتى قال الشاعر الفرزدق في حفيده صلى الله عليه وصحبه وسلم علي زين العابدين: من يعرف الله يعرف أولية ذا من يعرف الله يعرف أولية ذا، فالدين من بيت هذا ناله الأمم فكيف بالأصل ؟! خاتم الرّسل صلى الله عليه وصحبه وسلم، من عرف الله عرف فضل محمدٍ وقدر سيدنا محمدٍ ومنزلة سيدنا محمدٍ ومكانة سيدنا محمدٍ وجاه سيدنا محمدٍ عند رب العرش، صاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود -صلوات ربي وسلامه عليه- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ…} وهكذا يجب أن: يأخذ الخطاب أولوا الألباب من المؤمنين في مختلف الأزمان والعصور، ونقول: النظريات والآراء والأُطروحات من شرق الأرض وغربها من إنس الخلق وجنّهم لا قيمة لها إلا ما وافق ما بُعث به الصادق المصدوق أكرم مخلوق، ولا شرف ولا كرامة لكل ما خالف ما جاء به كائنًا ما كان من أي أحد كان، شعوبًا ودول، صغارًا وكبار، أغنياء وفقراء، إنسًا وجنًا، لا شأن لهم مع مخالفة محمدٍ: هو المقدم وما جاء به وما بُعث به هذا: مُقتضى الإيمان لا نقدم بين يدي الله ورسوله، فكيف نسمح لمن لا يؤمن به من أعداء أن يقدموا لنا بين يدي الله ورسوله؟!! لا والله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء:(65)] ونقول: معاشر المؤمنين اغسلوا من قلوبكم وأذهانكم وعقولكم ومشاعركم وسخَ التعظيم للحقير، وعيب وخيانة التحقير للعظيم، وأنزلوا الأشياء في منازلها، واعلموا قدر الإيمان بالله الرّحمن -جلّ جلاله- الذي تنالون به إذا قمتم بحقه حقيقة العز الأبديّ الدائم السرمديّ، {… وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون: 8] فترجموا عن هذا الإيمان الذي الترجمة عنه بمثل ما قال المرسل: (لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لما جئتُ بهِ)، (لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِهِ ، وولدِهِ ، والناسِ أجمعين) هكذا صح في حديثه صلى الله عليه وآله وسلم، إن بلايا اقتداء رجال ونساء منّا بكفارٍ وفجار داهمت أزياءنا، وداهمت ملابسنا، وداهمت علاقاتنا، وداهمت أخلاقنا، وداهمت عاداتنا، وداهمت قيمنا، فلنتطهر من هذه الأوساخ ولنخرج من هذه القاذورات ولنوقن أن القدوة العظمى المُثلى في القول والفعل والعبادة واللباس والأخذ والعطاء والبيع والشراء والصناعة والزراعة محمد بن عبد الله، الكامل الخُلُق، الكامل العقل، الكامل الدين، الكامل المنزلة والمكانة عند الرّب جلّ جلاله، حوى رُتب الكمال الإنسانيّ الخَلقيّ فلا شريك له فيها، وجلّ عن المثيل هو النور المبين به اهتدينا هو الداعي إلى أقوى سبيل
أتانا داعيًا بالحق يدعــــو * * * إلى الإسلام بالقول الثقيل
فبادر في الإجابة كل عبد * * * مطيـع للإله وللرســـــول
وأنكر كل ذي كفر وبغيٍ * * * وأعرض كل ختالٍ ضلول
ففاز المقبلون بكــل خير * * * وعقباهـم إلى الظل الظليل
وخاب المعرضون وكان عُقبا * * * معاصيهم إلى الخزي الوبيل
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور:63]، {… وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا …} [سورة النور:54]، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة آل عمران: 31]. ارفع اللهم غبار التبعية لأعدائك من ديار المسلمين، من بيوت المسلمين، من أزياء المسلمين، من أقوال المسلمين، من أفعال المسلمين، وشرِّفهم بكرامة التبعية لأكرم الخلق عليك يا رب العالمين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }، ولتجددوا معاشر أهل الإيمان حقائق إيمانكم في رمضان بأسرار القرآن، وارفعوا شعار التبعية لمن أنزل عليه القرآن ولا تقدموا بين أيدي الله ورسوله فكرًا ولا نظريةً ولا مسلكًا ولا هديًا ولا نظامًا ولا قانونًا لذا ولا لذاك، وهو الأمر الذي ترجم عنه سيدنا سعد بن معاذ مع توجه النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في مثل هذه الأيام كان خروجه من المدينة، ولما رأى أن العير تفوت وأن الجيش أقبل من مكة، وأن أكثر من معه من الأنصار وكان العهد بينه وبينهم أن ينصروه وسط المدينة، لا أن يخرجوا معه فأراد أن ينظر ما استقر في قلوبهم من الإيمان وإلى ماذا وصل؟! وقال: أشيروا عليّ أيها الناس تكلم سيدنا أبو بكر فأحسن، فقال النبي: أشيروا عليّ أيها الناس تكلم سيدنا عمر فأحسن، فقال: أشيروا عليّ أيها الناس، تكلم المقداد وغبطوه على كلامه وقال: يا رسول الله امضِ بنا حيث شئت، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا فإنا معكما مقاتلون، والله لنقاتلن من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، فدعا له النبي بخير، ولكن أعاد مقالته: أشيروا عليّ أيها الناس، ففطن لها سعد ابن معاذ قال: كأنك تعنينا معشر الأنصار؟ قال: أجل، قال: يا رسول الله آمنا بك، وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، فإنما أمرنا تبعٌ لأمرك، واصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت، حارب من شئت سالم من شئت، نحن حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت، يا رسول الله: لعلك خرجت تريد أمرًا فأراد الله غيره، فامضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخُضناه معك، ولو سرت بنا حتى تبلغ بِرك الغمادِ من الحبشة لسرنا معك، ما تخلف منا رجل واحد، وقد تخلّف عنك أقوامٌ ما نحن بأشدَّ حبًا لك منهم، ولو علموا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك يا رسول الله، وما نكره أن تلقى بنا عدوًا عدونا غدًا إنا لَصبُرٌ في الحرب صُدُقٌ عند اللقاء، ولعلَّ الله يريك منا ما تقر به عينُك، فاستنارُ وجههُ كأنه قطعة قمر، في هذا البيان من سيدنا سعد قال: أنظمة الدنيا، قوانين الدنيا، شؤون القبائل، شؤون الأعراف، شؤون فارس، شؤون الروم، كل ما هو موجود على ظهر الأرض خلف ظهورنا أمام ما تأتي به، نحن تبعًا لأمرك، حرب لمن حاربت، سلمًا لمن سالمت، واصل حبال ما شئت، واقطع حبال ما شئت، لا تحسب حساب لشيءٍ من الأعراف، ولا لشيءٍ من القوانين، ولا لشيء من هذه الأنظمة، أنت جئت من عند رب الكل وإله الكل.
فكانت ترجمة الإيمان الصادق {..لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ..}، وهكذا، جاء في هذا كاد الخيِّرانِ أن يهلكا من سادة الصحابة: سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر، وفَد وفد، فقال سيدنا أبو بكر: أمِّر عليهم القعقاع، قال سيدنا عمر: أمِّر عليهم الأقرع بن حابس، قال سيدنا أبو بكر :أردت خلافي، قال: ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهم، ونزلت الآية، فكان سيدنا أبو بكر لا يُكلم رسول الله إلا كأخي السِّرار، كالذي يُسار أحد في أذنه بالكلام، وكان سيدنا عمر لا يكاد يُسْمِع النبي صوته، فلا يسأله عن شيء إلا استفهمه، قال: ما قلت؟ يقول: ما قلت؟ من شدة مخافتتِهِ بالصوت. الله أكبر!
وكان سيدنا ثابت بن قيس بن شماس عليه رضوان الله جهير الصوت، عنده صمَمْ فيه بعض أذنه، ثقل في السمع، يرفع صوته، صوتُه جهير، سمع الآية فبكى، وقعد في البيت، وما استطاع أن يخرج، حتى فقدُهُ صلى الله عليه وسلم، قال: ما بالُ ثابت؟ أيشتكي؟ عنده مرض؟ عنده شيء؟ ما الذي عنده ؟ قال له: واحد من الصحابة أنا جاره يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرفت له شكوى، ولكن سآتيك بخبره، وذهبوا يسألونَ عليه، قالت لهم زوجته: إنه دخل وسط الغرفة هذا حقّ الفرس وقفَّل على نفسه، وقال لي: قفِّلي من الخارج يبكي، فدخلوا إلى عند الغرفة التي هو فيها، وصاحوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَدَك، قال: اكسر القفل ادخل ادخل، مشى إلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، ما لك؟ ما بك؟ ما يبكيك؟ قال يا رسول الله آية سمعتك تقرٍؤها، قال: ما هي؟ {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} وما أراني إلا قد حبِطَ عملي، وأني من أهل النار، قال له صلى الله عليه وسلم: لا لست منهم، أما ترضى أن تعيش حميدًا؟ وتموت شهيدًا؟ ، وتدخل الجنة؟، قال: رضيت ببشارة رسول الله، لا أرفع صوتي بعدها أمامك يا رسول الله، فكان يُخافت صوته في حضرة المصطفى، وإن كان ثقيل السمع، ما يسمع نفسه هو ماذا يقول؟ حتى لما نزلت الآية { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ …}، قال سيدنا أبوهريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منهم ثابت بن قيس، {... امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ..} كما دخل فيها سيدنا أبا بكر وسيدنا عمر عليهم الرضوان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ…} فبقي سيدنا عمر حاملًا لها، حتى لما سمع أصواتًا ارتفعت في المسجد النبوي أقبل عليهم، فإذا هم اثنان، قال: من أين أنتما؟ قالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، أضربكم بهذه الدُّرة، أترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله؟ أما سمعتم قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ...}؟ رضي الله عن سيدنا عمر، وعن معتقده، وعن شعوره، وعن إيمانه، وعن إحساسه، وعن أدبه.
قال: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ…} أنتم تتكلمون مع بعضكم البعض يرتفع صوت بعضكم؛ لكن نبيي لا، رسولي لا، بعضكم البعض يتكلموا يُغتَفر لكم ما يكون من بينكم، لكن أمام رسولي تأدبوا، {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ …} يعني: إن جهرتم بأصواتكم أمام نبيّي أحبطتُ صلواتكم وزكواتكم وحجاتكم وجهادكم راحت عليكم، بإساءة الأدب مع نبيي، ما عاد ينفع صلاة، ما عاد ينفع قراءة، ما عاد ينفع جهاد، إذا أسأت الأدب مع حبيبه، فلا تحسب أن سبحانه وتعالى مَضحكة ولا مَلعبة، تقول أنا عابدك تعبد وتؤذي رسوله! ، تعبده وتسيء الأدب على حبيبه! أي عبادة هذه؟، {...أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } لهذا بكى ذاك التقي، بكى ذاك الوفي الأبيّ عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
{.. لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(2)} وسمعنا أنه أول ما وصلت المكروفونات ورُكِّبَت في الحرم النبوي، أحد أئمة الحرم استعظم أن يرتفع الصوت، وقال: في هذا المكان لا! ، استعفى، ولما قالوا: إنه ضرورة ولابد منها، والناس يسمعون، قال: لو كان بعيد أما جنب الحجرة، في المكان الذي فيه رسول الله، ولما كلَّفوا عليه -أمروه- صلَّى فريضة واحدة ثم مات بعدها! ، فلا يزال الشعور ساريًا في الصادقين من المؤمنين، وإن مضت القرون، ففيهم من لا يُبدِّلون ولا يُغيرون، {...فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
{..وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أي: خشية أن تحبَطْ أعمالكم برفع الصوت أمام رسول الله وأنتم لا تشعرون، وإذا لا ينفعكم صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا قراءة وتحبط الأعمال كلها، بإساءة الأدب مع حبيب الرب -صلى الله عليه وعلى صحبه وسلم-، رزقنا الله حسن الأدب معه، ومع شريعته، ومع سنته، ومع آل بيته، ومع صحابته، ومع خيار أمته خاصة، وعامتهم عامة.
{...وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ …} أخلصها للتقوى، صفّاها كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج الغش كله، قال: القلوب التي امتحنتها للتقوى علامتها هذا الأدب مع نبيي، {..يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ..} عند رسول الله، الله أكبر. وجاء في الحديث النفس شابّة، يعني: متعلقة بهواها وشهواتها وغيرها، ولو اجتمعت ترقوة الإنسان من الكبر {...امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ...} وقليلٌ معهم، {...امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ...} هؤلاء: قد ماتت نفوسهم الأمارة، وقد عاشوا بنفوس مطمئنة راضية مرضية، وبلغوا الكمال الإنساني، إلا من امتحن الله قلبه للتقوى وقليل ماهم.
ولهذا قالوا: أن العين تزني بالنظر ولو في سكرات الموت، إلا {...الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ..} وأما عامة الناس النفس شابّةٌ، ولو اجتمعت ترقوتاه من أو تقابلت ترقوتاه من الكبر إلا من {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ …} وقليلٌ ما هم، دفع الله شر نفوسنا، وزكى نفوسنا، وطهرها ورفعنا إلى النفوس المطمئنة الراضية المرضية الكاملة، اللهم آمين.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} يا فوزهم لأدبهم مع رسول الله، {...لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}، {...لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }.
وذكر من فقَدَ الأدب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ …} وَفد جاؤوا من نجد، من بني تميم من نجد، وصلوا إليه صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: أنه وقت قيلولته، جاءوا من حوالي الحجرات يا محمد إخرج إلينا، يا محمد إخرج إلينا، يا محمد اخرج إلينا، فإنا جئناك، وعندنا خطيبنا، وعندنا شاعرنا، وإن مدحنا زين وذمَّنا شين -سيء-، أيقظوه صلى الله عليه وسلم فاستيقظ وخرج إليهم، وقال: كذبتم، بل ذاك الله مدحُه زين، وذمُّه شين، ما هو أنتم، الزِّين: من مدحه الرب -جل جلاله- والشين: -السيء- من ذمُّه الرب، ما هو بحقكم كلام ولا الشعر ولا بشيء مما عندكم، وخرج إليهم، وقالوا: عندنا خطيبنا، وقدَّموا خطيب لهم (أصقع)، قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: قم رُدْ عليه فقام تكلم، قدَّموا شاعرهم، قال لسيدنا حسان: أجِب عليه، فقام سيدنا حسان، وقالوا: إنه لمؤتى هذا، مصنوعٌ له، قام خطيبه فكان أحسن من خطيبنا، وقام شاعره فكان خيرًا من شاعرنا وأبيَنَ وأفصح لسان، فجاء بعض كبارهم وأسلموا، ومنهم جماعة من الذين أرسل إليهم صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة، فلما سمعوا بمجيئهم فرّوا، وتركوا أولادهم ونساءهم، فأخذوهم الصحابة وجاؤوا بهم إلى المدينة، فجاؤوا تجمعوا، وبعد ذلك عَرِفوا أنفسهم أن ترتيبهم ما هو سوا..؛ تركوا أولادهم ونساءهم، وجاءوا إلى المدينة يقولون: أخرج إلينا يا محمد، فإنا نفاديك في أولادنا، يَصيِّحون، ويرفِّعون أصواتهم، وأيقظوا النبي من نومه، وخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هؤلاء أولادنا عندك أخذهم أصحابك، قال: أترضون تجعلوا بيني وبينكم فلان؟ ، قالوا: نعم، قال: فأتُوا به، فأتَوا به، قال: يا رسول الله أرى أن تعطيهم نصفهم وتفادي النصف الآخر، قال: هو كذلك يقول الله: {...أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} ما عندهم عقل، ما عندهم إدراك، محل نبوة ورسالة، ومحل كرامة وشرف وديانة، وتجي ترفّع صوتك.
{أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ …} انتظروا في مكانهم في المسجد في المكان اللائق بهم حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم، كنت بتعطيهم إياهم كلهم بدون فداء، خير لهم في دنياهم وخير لهم في دينهم وإيمانهم وحالهم مع ربهم -جل جلاله-، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)} يعني: قل لهم يتوبوا من هذا الأسلوب حتى اغفر لهم {..وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)} هذا مُرتكز السورة، علّمنا الرب كيف نتعامل مع نبيه؟ ، وكيف تكون مشاهدنا أمام نبيه؟ ومشاعرنا وأحاسيسنا؟ ، فهذا الرحمن يتولى هذا البيان -جل جلاله- لِيَعْلَمَ أهل الإيمان معنى الإيمان وحقائق الإيمان، فلا والله ما آمن بالرحمن من استهان بسيد الأكوان، ولا من استخفَّ بما له من شأن، فهو الأكرم على الإله المنان، صلوات ربي وسلامه عليه.
ومن المعلوم: أن الإيمان نفسه أركانه مبنية على الاتصال بالأنبياء والرسل والكتب التي أُنزلت عليهم والتصديق بها والملائكة، وإلا ما يصحّ الإيمان، ما الإيمان؟ يقول: تؤمن بالله ويكفي! ، قال: اصبر، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لا يوجد إيمان من دون هذا! لابد من الإيمان بالملائكة والإيمان بالرسل والإيمان بالكتب التي نزلت عليهم، وسيدهم كلهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، آمنا به وصدقناه، اللهم ارزقنا كمال الأدب معه.
وبهذا جاءنا أحوال الصحابة، أن يرقُبهم كافر مدة ساعة واحدة فيرجع ويصفهم، يقول: وفدت على كسرى في ملكه، وعلى قيصر في ملكه، وعلى النجاشي في ملكه، فلا والله ما رأيت أحدًا يعظم أحدًا كما يعظم أصحاب محمدٍ محمدا، قال: ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كما يحب أصحاب محمدٍ محمد، يجلسون بين يديه كأن على رؤوسهم الطير، ما يُحدُّون النظر إليه تعظيمًا له، يقول بعض أصحابه: جالست رسول الله كذا كذا سنة، ولو طلبتم مني أن أصفه لكم لعجزت، لأني ما كنت أملأ عيني منه تعظيمًا له - صلى الله عليه وسلم-، يقول: وإذا أمرَ أمرًا ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وما أراهم يُسلِمونه، فأَروا رأيكم -حقكم- ، -صلى الله على سيدنا محمد-، بمجرد ما جاء ساعة يفاوض .. رأى الصحابة وحالتهم وهو يفاوض النبي في شأن دخوله إلى مكة وخروجه منها، ويكون وسيط بينه وبين قريش، فرأى الأمر وعرف حالة الصحابة هكذا رضي الله تعالى عنهم.
ولقد كان يمشي الماشي معه من أصحابه في الشمس فيحترز أن يضع رجله على ظله، وغلب سعة المشهد على بعضهم فاستنار قلبه حتى تغطى نور الشمس في منظره بنور رسول الله، قال: جعلت أحترزُ أن أضع رجلي على ظلِّه، كنت أمشي معه في الشمس، قال: فجعلت لا أرى له ظلَّا، ادوَّرْ أين ظله منشان-حتى- نبتعد منه، ما حصلت ظل، غاب الظل بالنسبة لهذا الصحابي لما امتلأ قلبه بالنور والتعظيم، شاهد قلبه نورًا غطى نور الشمس، فما عاد رأى ظلّ لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بينما غيرُه يرى ظل لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما عاد شاهد الظل للمصطفى صلوات ربي وسلامه عليه .
اللهم ارزقنا كمال الإيمان، اللهم حققنا بحقائق الإيمان، اللهم ارفعنا في مراتب الإيمان، وفِّر حظنا من هذا الخير في شهرنا هذا رمضان، واجعلنا من أهل الصدق والإخلاص والإيقان والإحسان، واقسم لنا بالنصيب الوافي من العرفان، وانظِمنا في سلك هذا المصطفى، واحشرنا في زمرته يا رب العالمين، وأرنا وجهه وهو راضٍ عنا، واجمعنا به وأنت راضٍ عنا في الدرجات العلا مع خيار الملأ برحمتك.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلِّم مبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة،،
12 رَمضان 1444