(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ (1) ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ (2) لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ (3) وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ (4))
نستمطر رحمة الرّحمن الرّحيم في أيّام هذا الشّهر الكريم، فتكون لنا غَدْوةٌ في بُكرة كل يوم، وغَدْوَةٌ في سبِيلِ الله أوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا فِيها، كما قال سيّدنا المصطفى رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم، المُخبِرعن الله تبارك وتعالى بحقائق الأمور، وما يترتّب عليها في الدنيا والآخرة.
ونسأل الرحمن الرحيم أن يصلي منه عنّا على حبيبه الكريم، وأن يسلّم منه عنّا على سيدنا ذي القدر العظيم، محمد بن عبد الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم وأن يشمل بتلك الصلوات والتسليمات آله أهل الطهارة وأصحابه الحائزين على البشارة، ومن مشى على منهاجهم ظاهراً وباطناً، ومن امتلأ قلبه بالمحبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ فعاش صادقًا مطمئنًا وعلى آبائه وإخوانه من المشرّفين بوحي الله من الأنبياء والمرسلين وآلهم وأصحابهم ومن تبعهم بالصدق إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وفي دائرة العمل بما دعانا إليه المصطفى ﷺ، شهدنا فريضة الصبح وجماعتها، واشتغلنا بأذكار الله ومصافحةِ بعضنا البعض، واجتمعنا مستمطرين رحمة الله مستنزلين لنفحاته -جلّ جلاله- متعرِّضين لها في مجلس علمٍ، نغدو به في سبيل ربنا، فنسأل الله أن يقبلنا، ويُعيد عوائد ذلك على أهل ديارنا وعلى أهل أقطارنا وعلى الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، فإنّ له من كريم النّظر ما إذا نظر به إلى داعٍ وراجٍ فقَبِل منه؛ عمَّ ذاك النّظر بما يفُوق جميع الفِكَر وفيه تحار شؤونًا واسعةً من الأحوال والأطوار، يندفع بها من الشرور والأشرار، ما لا يدخل تحت مقدار، ويُتَحصّل بها من الخيرات ما الله أهله -سبحانه وتعالى- وهو العزيز الغفار.
ولقد قال الله: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لو تزيَّلوا) [الفتح:25]، لو خرجوا من بين هؤلاء القوم وتميّزوا عنهم؛ (لَعَذَّبْنا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابًا ألِيمًا)، (لو تزيَّلوا لَعَذَّبْنا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابًا ألِيمًا) [الفتح:25]، ولكنَّ اللهَ أخّر العذاب ودفعهُ حتّى عن الكفّار؛ لأجل هؤلاء الأخيار: (رِِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) [الفتح:25]، والقلوبُ الصّافية الصّادقة مع الله في شرق الأرض ومغاربها من أتباع هذا النّبيّ المصطفى صلّى الله عليه وصحبه وسلّم، من خواصّ المؤمنين في ليالي هذا الشهر وأيامه هم السّبب القويّ الّذي يقيمه الله تعالى لدفع البلايا والرّزايا وكشفها عن الأمّة المحمديّة ولَولَاهُم بين الأَنَامِ لَدُكْدِكَتْ جبالٌ وأرضٌ لارتِكابِ الخطيئَة.
ولله نظرٌ في مجالس الذكر والعلم إذا قامت على وجه الإخلاص له، فإذا زُيِّنَت بالارتباط بسندٍ إلى حبيبه كانت أقرب أن يَنْزِلَ عليها الغيث الصيِّب، ويَنْهَالَ عليها من فيض فضل الله -تبارك وتعالى- العطاء الوافر الطيّب، وهو الكريم الّذي لا يُخيّب، فيحصل بسببها من صلاح أحوال الأمّة ما لا يمكن أن يُتمّ بعقد مؤتمراتٍ ولا اجتماعاتٍ ولا تجييش جيوشٍ ولا إلى غير ذلك من الأسباب، فتلك الأسبابُ في ميزان القويّ القادر الفعّال لِمَا يُريد، أقلّ وأضْعفُ من هذا السّبب الّذي أقامه سبحانه وتعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) [الفرقان:77]؛ (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143-144]،
فما كان هناك إلا التّسْبيح، فأيّ القُوى الّتي يمكن أن تَدْخُل إلى بطْن الحوت وتُغيث سيّدنا ذا النّون يونس بن متّى عليه الصلاة والسلام وسط بطن الحوت؟ أجُيُوشٌ تُجيّش؟! أم أسلحةٌ تُعدّ؟! أم إرسالاتٌ لشيءٍ من الحبالِ أو السّلوكِ أو غير ذلك؟! لكنْ سلاحُ التّسْبيح؛ (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143-144].
وهكذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيان هذه الحقيقة: "لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ"، "وإنَّ البلاءَ لينزل -من السماء- فيتلقَّاهُ الدُّعاءُ فَيتعالجان إلى يومِ القيامة"، أي يجلس محلّه ولا يصل إلى الأرض، بسبب الدعاءٍ، فهكذا إذا استقام ميزان المؤمن؛ عرف القيمة للمجالس التي يُقْصدُ بها وجهُ الله، ويُذْكَرُ فيها اسمه، ويُتَعَلَّمُ بها شرعه، وفيها شرعه ويُذكر أخبار كتابه وأخبار رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، فهي محطُّ العناية من قِبل الله وسبب دفع البلية ونشر الهداية. والله يجعل مجالسنا من خاص تلك المجالس ويجعل فيها من أسنى تلك العطايا النفائس، إنّه أرحم الرّاحمين.
ولقد مررنا على بعض أخبار المعوذتين الكريمتين، والفاتحة والمعوّذات، كل آية منها، بل كل كلمة، بل والله كل حرفٍ، لو انفتح باب إدراك معانيه، لانقضى العمر ولا أمكن أن نَسْتَقْصِيَهُ ولا أن نستَوْعبه، وعُمر نوح لا يكفيه؛ ولكنّ الله يعطي من يشاء ما يشاء، وإنّما هي مفاتيح للاتصال بآي الكتاب، من أخذها منَّا فظَفِرَ بحظٍّ في عمره، فُتحت له أبواباً في اتصاله القلبي بالقوْل الرباني والفيض الصّمداني، وعسى أن يفتح الله له باباً في فهم كتابه.
وانتهينا من تأمّل بعض المعاني من سورة الإخلاص؛ وهي سورة الأحد، وهي سورة الصمد، وهي سورة التوحيد، وهي سورة المُقَشْقِشَة، وكذلك تسمى سورة الكافرون وسورة الإخلاص؛ التي تُقشقش شؤون الكفر والرياء من القلب، حتى أن المواظِب عليها يُرْزق نور الإخلاص، سورة الإخلاص:
كما جاء أيضاً في الخبر:
فثلاث من (قل هو الله أحد) بختمة، وثلاث من الفاتحة بختمتين.
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1))، يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "لايقرأها أحد اثنتي عشرة مرة إلا بنى الله له قصراً في الجنة". وقال سيدنا عمر: "إذًا نكثر من القصور؟ قال: "اللهُ أكثرُ وأطيبُ". وجاء بقراءتها "عشر مرات بعد كل صلاة"، وأن ثلاثاً من جاء بهن يوم القيامة دخل الجنة من حيث يشاء، وزُوِّجَ من الحور العين ما شاء، من عفا عن قاتله وأدى دينًا خفيًا و قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، دُبر كل صلاة عشر مرات، فقال له سيدنا أبو بكر أو إحداهن يا رسول الله؟ قال: أو إحداهن - أتى بواحدة منها-، قال: أو إحداهن.
ثلاثٌ من جاءَ بِهِنَّ معَ إيمانٍ دخلَ الجنَّةَ من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شاءَ وزوِّجَ منَ الحورِ العينِ حيثُ شاءَ، من أدَّى دينًا خفيًّا وقرأَ في دبرِ كلِّ صلاةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص عشرَ مرَّاتٍ، وعفا عن قاتلِهِ، قالَ أبو بَكْرٍ أو إحداهنَّ يا رسولَ اللَّهِ قالَ أو إحداهنَّ"
جاء بالثلاث كلها حتى يستحق هذا العطاء ينزل من الجنة حيث يشاء، و يزوَّج من الحور العين، ما شاء، إذا جاء بالثلاث:
وقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، عشر مرات بعد كل صلاة، ورضي عن الصدِّيق لما قال لنبينا: أو إحداهن يا رسول الله؟ قال: أو إحداهن، إذا جاء يوم القيامة بواحدة منها؛ فُتحت له أبواب الجنة كلها، ونزل من الجنة حيث يشاء وزوّج من الحور العين ما شاء، إذا جاء بواحدة منها، وأيسرهن قراءة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) دبر كل صلاة "عشر مرات".
وقد جاء في رواية البخاري ومسلم وغيرهما، أنه ﷺ أرسل سرية وأَمَّرَ عليهم أميرًا فكان يصلِّي بهم، فإذا صلى بهم مغرباً أو عشاءً أو فجراً بعد الفاتحة وقراءة أي شيء من القرآن، يختم بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، في كل ركعة، فتعجبوا منه.. له قلب مولّع بالموصوف بها، فلما رجعوا من الغزوة أخبَروا النبي ﷺ فقال لهم: اسألوه، لِمَ يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: "إني أحبها لأنها صفة الرحمن"، فاخبروا النبي ﷺ بذلك، فقال: "أَخْبِرُوهُ أنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ"، الله يرزقنا محبة هذه السورة ويجعلنا محبوبين عنده.
وآخر كان يصلِّي بقوم في قباء، وكان إذا قرأ لا بّد من (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في كل ركعة، كذلك، فقالوا له: إما أن تقرأ لنا شيء من القرآن أو تكتفي بها، فقال: "إن أحببتم أن أُؤمكم فلابد أن أقرأها في كل ركعة وإلا انظروا لإمام غيري"، وما أحبوا أن يؤمهم غيره؛ لأنهم كانوا يرونه من أفضلهم، فجاء النبي إلى قباء فأخبروه الخبر، فقال: "يا فلان ما يمنعُك أنْ تفعلَ ما يأمرُك به أصحابُك؟" فقال: "يا رسول الله إني أحبها لأنها صفة الرحمن"، فقال: "حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ"، ما قال: سيدخلك الجنة، قال: أدخلك الجنة.
وبهذا يستوحي أهل الأذواق، أن جنة المعرفة بالله، يدخلها الداخلون وهم في الدنيا تدخل أرواحهم، فماذا تكون تلك الجنة إلا نتيجة من نتائجها وثمرة من ثمراتها، وعليه حَمل بعضهم حديث" "إني دخلتُ الجنة البارحة، فسمعتُ خشخشة نعليك ودُفَّ نعليك أمامي في الجنة"، يقول لسيدنا بلال: البارحة، وليس الأمر الذي سيقبل! البارحة.. فسأله فقال: أرجى عمل عملتُه يارسول الله أني ما أحدثتُ إلا توضأت، ولا توضأتُ إلا صلِّيت بذلك الوضوء ما كتب الله لي، فكأنه أقرّه ﷺ على هذه السببية في حيازة الدرجة العليّة، فصار البارحة كان بلال في الجنة!
"دَخلتُ الجنةَ البارِحةَ" يقول صلى الله عليه وآله وسلم. رُوحُ بلال هناك كانت في الجنة؛ ففيه إشارة إلى وصول أرواح العارفين إلى الجنة وهم في الدنيا، ومع ذلك يقول قائلهم: وقد عَلِقَ الأثر به من الجنة إني أخشى أن يكون هذا استدراج! -سبحان الله- أهل خشية، حتى يلقون ربهم، بالأدب معه، "حُبُّكَ إيَّاها أدْخَلَكَ الجَنَّةَ"، يقصد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وكان المشركون قالوا للنبي: "انسِبْ لنا ربَّك"! ما نسبُ ربَّك هذا؟ من ربك؟ فأنزل الله: (قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ (1) ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ (2) لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ (3) وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ (4))،
ويروى أن سيدنا عبد الله بن سلام سبق، بعد أن سَمِع أخبار النبي ﷺ إلى مكة في أيام الحج ولقيَ النبي ﷺ هناك وقال لقومه و جماعته إني ذاهب إلى مسجد إبراهيم الخليل وأُحدث عهدًا به، فتوجّه ومَرَّ على مكة، أيام مِنى فلقي النبي ﷺ بمِنى وحوله بعض الناس فرآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعرفهُ فقال: "أنت عبد الله بن سلام؟ قال: نعم، قال: ألا تجدني عندك في التوراة؟ فقال له: صِف ربك؟ فأنزل الله أو تلى عليه: (قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ (1) ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ (2))، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، واكتِم ذلك عني، ورجع كاتماً إسلامه حتى أظهره الله بعد هجرة النبي ﷺ
قبل أن يُظهر إسلامه قال: إن اليهود قوم بُهت يارسول الله، أي يبهتون، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فجمع جماعة من كبار اليهود وعلمائهم وخبأ سيدنا عبد الله بن سلام في جانب، فقال: يا معشر يهود إنكم تجدوني مكتوباً عندكم في التوراة ووصفي ونعتي، فقالوا: ما نعلم ذلك وأنكروا، قال: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: حَبْرُنا وابن حبرِنا، خَيْرُنَا وابنُ خَيْرِنَا، وعالمنا وابن عالمنا، قال: أرأيتم لو أسلم واتبعني؟ قالوا: أبداً ما يكون منه هذا، قال: اخرج ياعبد الله، فخرج قال: يا قوم إنكم تجدون هذا الوصف وهذا النعت مكتوباً عندنا في التوراة، فيما عهد إلينا موسى وبشَّرنا به، قالوا: هذا شرُّنا وابن شرِّنا وجاهلنا وابن جاهلنا؛ وغيَّروا الكلام، فقال: ألم أقل لك أنهم قوم بُهت يارسول الله".
وصحّ في الرواية عنه أنه قال: إنه لقيَ النبي أول ما هاجر إلى المدينة، فأول ما وقع نظري عليه، رأيت وجهه عرفت أنه وجهٌ ليس بوجه كذّاب، قال: وأول ماسمعته يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ" صلوات ربي وسلامه عليه، لما جاءت الأسئلة؛ صِفْ لنا ربك، وأنسِب لنا ربك، أنزل الله هذا التمجيد والتفريد والتوحيد
سورة التوحيد، والتفريد، والتمجيد، والتجريد، سورة التوحيد: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)):
وقال بعض أهل العلم والمعرفة قل هو الشأن والحال، (اللَّهُ أَحَدٌ)، الله مبتدأ وأحد خبر، أي هو الشأن والحال (اللَّهُ أَحَدٌ).
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)) بمعنى واحد؛ وإن كان الأحد بليغة وبديعة في إثبات شأن الأحدية، فشؤون الواحدية "واحد" يتم النظر فيها إلى الذات بصفاتها، ولكن عندما يستغرق النظر إلى الذات فقط، فهذا مظهر الأحدية، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)،
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1))، وفي الآية الأخرى يقول الله: (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) [البقرة:163]؛
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ ٱلصَّمَدُ (2))،
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1))، فمن ذلك "الجوفية" فهي من سمات الأجسام والمُْحدثات وهي مناقضة للصمدانية؛ ولذا فسّر بعضهم الصمد الذي لا جوف له؛ لأنه لا يلد ولا يولد إلا ذو الجوف، هذا: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3))، بل قال بعضهم: أن كلمات السورة تفسِّر بعضها:
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)) واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، لا تعدُّد ولا شريك، (الله الصَّمَدُ (2))، المقصودُ على الدوام في الحوائج والشدائد، السيد البالغ العظمة، السؤدد الباقي بعد خلقه الذي لا جوف له.
(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3))، فإن الوالدية والمولودية سمات الحوادث الجسمانية والحق تبارك وتعالى منزّه عن ذلك (لَمْ يَلِدْ)، مثل مريم بنت عمران التي تدّعون فيها ما تدَّعون، (وَلَمْ يُولَدْ)، مثل عيسى بن مريم الذي وُلِد، فمن تدّعون له الألوهية والذي عليه سمات الحدوث والجسمانية.
وهذا الله (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3))، منزّه عن هذه الأشياء التي أنتم تُقرُّون بها فيمَن تدّعون له الألوهية!! كمريم التي وُلدت وَوَلدت، و كعيسى وُلِد، ولكن ندعوكم الى ربٍّ لم يلد ولم يولد، منزّه عن هذه الحوادث الدّالة على التناقض مع الألوهية، فيها سمات البشرية والخَلْقية والجسمانية كما قال سبحانه وتعالى: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة:75].
ثم ذكر سِمة واحدة التي تُبعِد كل الذين يلعبون بها هؤلاء أهل الأوهام المتجاوزين الحد الضالِّين، يقول: (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة:75] ماذا ستقول؟ وأنتم تعلمون أن الحيوان الذي يأكل الطعام يحتاج إلى إخراجه أيضاً، فاستحوا على أنفسكم أن تَصِفوا الرب بهذه الصفات والإله بهذه الصفات، فاكتفى بقوله: (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة:75]، إذهبوا، فكروا، ابحثوا عن المسألة سواء؛ (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ) [الأنعام: 65].
(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))، وهذا راجع إلى التقديس المطلق، وهذا كلام الحق عن ذاته العليّة، فإنّ أكثر ما في القرآن أخبار أفعاله؛ السموات، الأرض، البحار، الملائكة، الجن، الإنس، الأنبياء، والمرسلين، والإنس والجن، أفعاله ثم هناك آيات في صفاته، ولكن إذا ذكر الذات، ما ذكر إلا التقديس المطلق لأن المعرفة فيها أضيق ما يكون، ولا علو ولا اتساع في المعرفة إلا من حيث التحقق بالعجز عن المعرفة، فأعرَفُ الخلق بالله، أعْلَمهم بالعجز عن معرفة الله، قال سيدنا أبوبكر الصديق: "لا يعرف الله إلا الله"؛ معرفة الإحاطة ما يمكن،
لايعرف ﷲَ إلا ﷲ فاتّئدوا *** والدين دينان إيمانٌ وإشراكُ
وللعقول حدودٌ لا تجاوزهــــا *** والعجزُ عن دَرَكِ الإدراك إدراكُ
ولذا قال: "فسبحان من لم يجعل السبيل إلى معرفته إلا بالاعتراف بالعجز عن معرفته" -لا إله إلا هو-.
فما أعجب السورة! وما فتحتْ لنا من باب التنزيه المطلق والتقديس التام لذي الجلال والإكرام: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))، تنزيه مطلق كامل، إذا قُمت بحقه أكرمك الحق من أسرار المعرفة بما لا يُمكن الإفصاح عنه ولا النطق به، بل هذه المعاني الدقيقة لا يزيد النطق بها؛ إلا غموضاً وإلا استصعاباً على الوعي والفهم، ولا طريق لإدراكها إلا :
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))، وكان بعض المقبورين في بعض القرى رُؤِي من كثير من صلحاء البلدة أنه كان في عذاب، وفي أحد الأيام وفي بعض الليالي رآه بعض أهل البلد وهو عليه حُلَّة من حُلَلِ أهل الجنة، قال: فلان، أنت نسمع عنك أنك في عذاب؟ قال: كنت في عذاب لكن أمس مرّ رجل صالح على المقبرة فقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فوهبها لأهل المقبرة، فواصلني من ثوابها رأس الواو من واواتها؛ فغفر الله لي فبدَّلني ونقلني للجنة والآن ما أنا في عذاب! بثواب رأس واوٍ من: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وقراءتها إحدى عشر مرة من خير ما يُقرأ عند المقابر ويوهب ثوابه لأهل القبور.
جعلنا الله من أهل الإخلاص، فتح لنا باب الفهم في كتابه واتباع سيد أحبابه. اللهم املأ قلوبنا بأنوار (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وتولّنا في جميع شؤوننا وأحوالنا يا من هو (الله الصمد)، وارزقنا كمال حقيقة التوحيد يا من (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)، وارزقنا شهودك الأسنى وشهود أحديتك العليّة بمرآة حبيبك خير البريّة يا من (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)،
شفّع فينا حبيبك محمدًا وعطّف علينا قلب حبيبك أحمد، وارزقنا به فهم ما أوحيْتَ إليه وأنزلْت عليه حتى تجعلنا مِن أحب أمته إليه ومن أكرمهم منزلة لديه، اللهم وحننّ روحه علينا، وأصلح لنا به ظاهرنا وباطننا، واكشف به الكروب عن أمته أجمعين، واجعلنا في الهداة المهتدين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي الأمين
اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
10 رَمضان 1435