الأربعين في أصول الدين - 9 | قراءة القرآن الكريم (2)

للاستماع إلى الدرس

الدرس التاسع للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . تكملة القسم الثاني: الأصل الخامس - قراءة القرآن

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

ظهر الأحد 23 صفر 1447هـ

كيف تستقبل القلوب نور القرآن.. يوضح الحبيب عمر بن حفيظ كيف تُوجِّه قلبك لنور القرآن فتشرق عليه أنوارُ المعرفة، وتسرِي الخشية حتى تظهر آثارُها، مع التحذير من لصوص الفهم: وسواس المخارج والوقوف عند ظاهر الحروف.

 

نص الدرس المكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يذكر الشّيخ الغزالي -عليه رحمة الله تعالى- إلى ذكر الأقسام العشرة، وما بيّنه في كتابه "جواهر القرآن"، وذكر فيه أنّ هناك أقساماً ستّة، تتفرّع إلى العشرة. 

القسم الأول: تعريف المدعو إليه؛ قال: لأنّ سر القرآن والباب مقصده الأقصى: دعوة العبد إلى الجبّار الأعلى، رب الآخر، وقال بأن انحصرت سور القرآن وآياته في ستّة أنواع:

ثلاثة هي السوابق وأصول مهمة، وثلاثة الروادف

وتوابع متممة، يقول: الثلاثة المهمة: 

الأول: تعريف المدعو إليه، وهو الله -جل جلاله-. 

والثاني: تعريف الصراط المستقيم الذي يجب ملازمته في السلوك إليه للوصول إليه -سبحانه وتعالى-. 

والثالث: تعريف الحال عند الوصول. 

فهذه الثلاثة مهمّة: تعريفنا على مولانا الذي دُعينا إليه بفضله على لسان رسوله محمد ﷺ. 

الثاني: تعريف المسلك الذي به نصل إلى الله -تبارك وتعالى-. 

ثم تعريف الحال عند الوصول كيف يكون؟

وثلاثة متممة لها: 

أولًا: تعريف أحوال المحبّين المدعوّين، وفيها لطائف صنع الله تعالى فيهم، وسر مقصوده: التشويق والترغيب. -طيب- 

ثانياً: حكاية أقوال الجاحِدين، والمعاندين، وكشف فضائحهم، وهذا مقصوده: الإفضَاح، والتحذير والتنفير، وفي جنابة الحقّ: الإيضاح، والتثبيت و التقدير. 

والثّالث: تعريف عمارة منازل الطريق وكيفيّة أخذ الزّاد والأُهبة والاستعداد.

 

هذه الأقسام إذا جمعتها الأقسام مع شعبها، قال: مقصُوده في سلك واحد، ألفيتها أي وجدتها عشرة أنواع: 

  1. ذكر الذات -وهذا في التعريف بالمدعو إليه -.
  2. ذكر الصّفات. 
  3. وذكر الأفعال. وهذا من الكبريت الأحمر سماها اليواقيت-.
  4. وذكر المعاد. 
  5. وذكر المرجع والآخرة.
  6. وذكر الصراط المستقيم يعني جانب: التزكية والتحلية.
  7. وذكر أحوال الأولياء. 
  8. وذكر أحوال المعاندين الأشقياء. 
  9. وذكر محاجّة الكفّار لأجل إقامة الحجّة.
  10. وذكر حدود الأحكام

 

فصارت هذه العشرة التي أشار إليها -عليه رحمة الله تعالى- في كلامه، وهي لُبّ مقصود القرآن الكريم.

بسم الله، نقرأ:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

 

الثاني: أن تتشوف في بعض الأوقات إلى أقصى درجات الفضل فيه؛ وذلك بأن تقرأه في الصلاة قائماً، خصوصاً في المسجد وبالليل؛ لأن القلب في الليل أصفى؛ لأنه أفرغ، فإنك وإن خلوت بالنهار فتردد الخلق وحركاتهم في أشغالهم تُحرك باطنك، وتشغلك عن تدبره، خصوصاً إن كنت تتوقع أن تُطلَب بشغل من الأشغال. 

وكيفما قرأته، ولو مضطجعاً من غير طهارة.. فلا يخلو عن الفضل؛ فإن الله تعالى أثنى على الجميع فقال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ..)[آل عمران:191]. 

 

ولكن ما ذكرناه فيه زيادة الفضل، فإن كنت من تجار طريق الآخرة فلا يسهل عليك ترك الفضل، وقد قال علي -رضي الله عنه-: "من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة.. كان له بكل حرف خمسون حسنة، ومن قرأ القرآن وهو قاعد في الصلاة.. كان له بكل حرف مئة حسنة، ومن قرأ القرآن في غير صلاة وهو على وضوء.. فخمس وعشرون حسنة، ومن قرأ القرآن على غير وضوء.. فعشر حسنات".

 

الثالث: في مقدار القراءة، وله ثلاث درجات: 

أدناها: أن يختم في الشهر مرة. 

وأقصاها: أن يختم في ثلاثة أيام.

قال ﷺ: "من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.. لم يفقهه".

وأعدلها: أن يختم في كل أسبوع مرة.

وأما الختم في كل يوم.. فغير مستحب، وإياك أن تتصرف بعقلك فتقول: ما كان خيراً ونافعاً، فكلما كان أكثر.. كان أنفع؛ فإنّ عقلك لا يهتدي إلى أسرار الأمور الإلهية، وإنما تتلقاها قوة النبوة. 

فعليك بالاتباع؛ فإن خواص الأمور لا تدرك بالقياس، أوَ ما ترى كيف نُدبت إلى الصلاة جميع النهار، ونُهيت عنها في أوقات معينة؛ أُمرت بتركها بعد الصبح وبعد العصر، وعند الطلوع وعند الغروب والزوال، وذلك ينتهي إلى قدر ثلث النهار؟! 

 

فكيف وأثرُ الفساد ظاهر على قياسك هذا؟! فإنه كقول القائل: الدواء نافع للمريض، فكلما كان أكثر.. فهو أنفع، وأنت تعلم أن كثرة الدواء ربما تقتل".

 

"الرابع: أن نتخلّى عن موانع الفهم وهي الأكنّة التّي تمنع من الفقه، قال الله -عز و جل-: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ) [الكهف:57]. 

 

وقال رسول الله ﷺ: "لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم.. لنظروا إلى ملكوت السماء". 

واعلم: أن معاني القرآن من جملة عالم ، وإنما حروفها من عالم الشهادة.

والأكنة التي يبتلى بها المتّقي المتعطش إلى الحق نوعان:

إمّا ما يبتلى به الضعيف الإيمان من حجاب الشك والجحود. 

أو ما يبتلى به المنهمك في الدنيا من حجاب الشهوات المستغرقة للقلب، فذلك جليٌّ لا يخفى كونه مانعاً من فهم لطائف القرآن واقتباس أنواره، وبهما حُجب أكثر الخلق.

 

وأمّا العُبّاد المتجرّدون لطريق الله تعالى.. فيُحجبون بنوعين آخرين:

أحدهما: الوسواس الصارف للقلب إلى التفكر في النيّة، وأنها كيف كانت في الابتداء؟ وهل بقيت الآن؟ وهل هو مخلص في الحال؟ هذا إن كان في الصلاة.

أو الوسواس الصارف للهمّ إلى تصحيح مخارج الحروف، والتشكك فيها، وإعادتها لأجل ذلك، وهذا يجري في الصلاة وغيرها. 

وكيف يطالع أسرار المَلَكوت، قلب مصروف إلى مطالعة الشفتين وكيفية إطباقهما، واللسان والحنك، وكيفية انسلال الهواء من اصطكاكهما؟! وهو معنى تقطيع الحروف وتصحيحها.

النوع الثاني: التقليد لظواهر معاني القرآن، والجمود عليها؛ وذلك حجاب عظيم عن الفهم، ولست أعني به التقليد الباطل؛ كتقليد المبتدع، بل التقليد الحق أيضاً؛ فإن الحق الذي كُلِّف الخلق اعتقاده له درجات، وله مبدأ ظاهر، وهو كالقشر في المثال، وله غور باطن، وهو كاللُّباب؛ قال رسول الله ﷺ: "إن للقرآن ظهراً وبطناً، وحدًّا ومُطَّلعًا".

فالجامد على الظاهر، الظانُّ أنه ليس وراءه مرقىً يُرتقى إليه.. كيف يتصور أن تنكشف له الأسرار؟! 

 

فقد كُلِّف الخلق مثلاً أن يعتقدوا أن الله تعالى يُرى، ولكن للرؤية ظاهر وسر؛ فمن اعتقد أن رؤية الله تعالى مناسبة للرؤية التي يَألفها الإنسان في هذا العالم.. كيف يتصور أن يطلع على سر قوله تعالى: "لَنْ تَرَانِي"؟! 

وكيف يفهم أن ذلك ممتنع في هذه الحياة الدنيا بهذه العين الموقوفة على ملاحظة الجهات والأقطار؟! 

وكيف يفهم قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) مع قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)؟! 

 

ويكفيك هذا المثال الواحد، فلسنا نكشف لك أكثر من هذا، ولسنا نقصد في هذه الفصول إلا التلويحات لمبادئ الأسرار؛ تشويقًا للمستعدين لها إليها".

 

-الله أكبر لا إله إلا الله-، الحمد لله المنعم ببسط موائد التقريب والتفهيم والتعليم والتشويق. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبسط بساط الفضل لأهل التصديق، ويلحق الصادق المتابع للصدقِ بمراتب كل صديق. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أوعى الخلائق فهماً لخطاب الخالق، وأعرفهم بالأسرار التي بثها في الخلائق. صلى الله وسلم وبارك وكرم على الحقيقة التي قبلت التجلي الأول من حضرة الرحمن، وأنزل الله عليه القرآن. صلى الله معه على آله المطهرين عن الأدران، وصحبه الغر الأعيان، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل العرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين في كل شأن وفي كل آن، وعلينا معهم وفيهم، إنه الكريم الرحيم الرحمن.

و بعدُ…

فيذكر لنا الشيخ -عليه رحمة الله- إزاحة الأسباب التي تمنع عن فهم الخطاب ربنا لنا ونداؤه إيانا، وبيانه لنا -سبحانه وتعالى- على لسان الحبيب ﷺ أسرار الوجود والخلق، وأسرار التكليف، وأسرار البعث، والرجعة إليه، وأسرار أفعاله وصفاته وأسمائه، وعظمة ذاته العلية -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

فذكر لنا في واجب الأسرار الباطنة أن نستشعر في أول القراءة أنّنا نقرأ، كلام مَنْ؟ إنه الإله الحقّ الخالق، مكوّن كل شيء، موجِد كل شيء. أنت تقرأ كلامه! ما هذه النعمة! جاءتك الرّسالة من مخلوق مثلك، يقولون له وزير ولا رئيس وزراء ولا ملك ولا سلطان تبتهج بها، ما هذا؟ من أين هذا الكلام جاء؟ رب الأرباب، مسبّب الأسباب، مكوّن الأكوان، خالق كل شيء، هذا الكلام منه جاء، وأنت مُمَكَّن من قراءته، بل ومُوجَّه إليك أيضاً. وبعدين جاء التوجيه بحمله من قِبَل أكرم خلقه وأعظمهم عنده وأحبهم إليه، وأوصله إليك على يد أحب واحد، وأعظم واحد، هو الخالق الواحد، ويجيب لك أكرم واحد في الخلائق يوصل لك هذه الرسالة. ما هذا التشريف؟ ما هذا التكريم؟ ما هذه المنّة الربّانية؟ 

الله يربطنا وإيّاكم بالقرآن ربطًا لا ينحل، يؤلف بيننا وبين الحرف منه والكلمة والآية والسورة ائتلافاً لا يفارقنا طرفة عين، يظهر سرّه في القلوب والعقول والأرواح، يا مجيب الداعي يا أكرم الأكرمين.

يقول: الثاني: "أن تقرأ متدبرًّا لمعانيه…" والتفهم للإشَارات والدلالات في القرآن. 

والثالث: "أن تجتني في تدبّرك ثمار المعرفة من أغصانها"، وهذا الذي ذكرنا بما ذكره في أصل كتاب (جواهر القرآن) "وتقتبِسها من أوطانها، فلا تطلب الترياق من حيث تطلب منه الجواهر، ولا الجواهر من حيث تطلب المسك والعود"؛ فهي مراتب في معرفة الحق، وأعظمها معرفة الذّات، معرفة الصّفات، معرفة الأفعال، ثم معرفة المقرّبين من الأنبياء والصدّيقين، ثم معرفة الكفّار والمُعاندين والجاحدين، ثم معرفة الطريق الذي يوصل إلى الله -تبارك وتعالى-، ثمّ معرفة الحال عند الوصول، وأحوال الخلائق جميعاً عند الميعاد وعند اللّقاء، وما يكون الحكم بينهم، وما يكون في شأن الآخرة وما إلى ذلك. -لا إله إلا الله-.

قال: فتطلب الآيات المتعلّقة "بصفاته تعالى وأفعاله.. فاقتبس منها معرفة الجلال والعظمة"

"وما يتعلّق بالإرشاد والصّراط المستقيم.. فاقتبس منه معرفة الرحمة والعطف والحكمة" 

"وما يتعلق بإهلاك الأعداء.. فاقتبس منه معرفة العزّة والاستغناء والقهر والتّجبّر".

"وما يتعلق بأحوال الأنبياء.. فاقتبس منه معرفة اللطف والنعم والفضل والكرم".  

كلها تعرّفات من الله إليك في كتابه، لا تبخل على نفسك بأخذ النصيب من هذا الزاد الذي لا يوجد في الأرض ولا في السماء، ولا في الدنيا ولا في الآخرة، أشرف منه ولا أطيب منه، ولا أجمل منه: معرفة الله! -جل جلاله-. 

  • جميع أنواع نعيم الجنّة مقدارها ومستواها على قدر المعرفة.
  • وجميع أنواع العذاب في النار قوّتها ومقدارها على قدر مستوى الجهالة بالله تعالى. 
  • فما الجنّة إلا معرفة الله، ولا النّار إلا الجهل بالله. 
  • ولا الجنّة إلا طاعة الله، ولا النّار إلا معصية الله -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

وهذا نتيجة المعرفة، وهذا نتيجة الجهل.

فيقول: في الرّابع: "أن نتخلّى عن موانع الفهم"، ما يمنعك من فهم خطاب هذا الإله العظيم الحق. ما الذي يحول بينك وبين فهم خطابه، ودلالات كلامه، ومعاني الإشارات والبيانات، في تنزيله -سبحانه وتعالى-؟ 

يقول: الذي يمنع من الفهم "الأكنّة التّي تمنع"  من أن تفقه وتدرك: (وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ) [الإسراء:46]. حتى جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند وعند ابن أبي شيبة أيضاً، يقول ﷺ: "لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم.. لنظروا إلى ملكوت السماء"، فهم يجتهدون أن لا تظهر الحقيقة، وهو أيضاً يجتهد أصناف المبطلين على ظهر الأرض، يخافون من أن تظهر الحقيقة، حتى هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم علميين وأهل اكتشافات، كثير من الاكتشافات مبيّنة تماماً صِدق الرسالة ودين الحق، فيخافون أن تظهر، يكتُمونها ما استطاعوا. 

إبليس وجنده في العالم يحبّون كتم الحقيقة، حتى لا تظهر، فيتَعلق النّاس بها، ويفلِتوا عنهم، الحقيقة إذا ظهرت، ارتبط صاحبها بها وتبعها. فهم يحبّون كتم الحقيقة، ولا حقيقة أعظم من أن الله -سبحانه وتعالى- أظهر كل شيء، وأن الله -سبحانه وتعالى- أول كل شيء، وأن الله -سبحانه وتعالى- موجد كل شيء وخالق كل شيء. فلو نظروا إلى ملكوت السماء لأدْركوا الحقيقة.

والمانع من النّظر كثافات الوساوس والإيرادات للظّنون، وللأَوهام وللتّخيّلات على القلب؛ فلذا يحرص الشّياطين على قلب كل إنسان مؤمن أن يملؤوه بالخيالات والوسوسات؛ لأنه إذا صفى ستنكشف له المَلَكوت،. حتى مُثّل ذلك للنبي ﷺ عند رجوعه من المعراج، ورأى شيئاً منتشراً في الهواء، فقال: "ما هذا؟"، قالوا له: "هذه الشياطين يحومون على قلوب بني آدم حتى لا ينظروا إلى ملكوت السماوات". قال: ولهذا لمّا أراد الله الخصوصية للمَخصوصين، قال في سيّدنا الخليل إبراهيم: (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام: 75].

"لولا أنّ الشّياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء". ويبينه الحديث الآخر لما شكوا إليه أننا نكون عندك فتُذكّرنا بالله، وتذكّرنا الجنة، والنار، كأننا نراها رأي العين، فإذا بنا نكون على مستوى في اليقين، والمعرفة إلى مستوى عين اليقين، وبعضهم وصل إلى حق اليقين من الصحابة -عليهم رضوان الله-. فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأهل والأولاد، ذهب عنا ما كنا نجد، قال: "لو أنكم تدومون على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات"، يعني سينكشف لكم عالم الغيب كلّه والمَلَكوت، الملائكة تصافحكم وأنتم تمشون في الطّريق، تشاهدُونهم كما تشاهدون بني آدم، "لو أنّكم تدومون على ما أنتم عليه عندي".، لهذا الوجود لعالم المَلَكوت ما يكون إلا باستدامة لضبط الباطن في الحضور مع الحق -جل جلاله-. والذي يكون بكثرة الذكر يظهر سر ما في الغيوب؛ بكثرة الذكر، ما هو نصف ساعة وربع ساعة، ساعة، ساعتين، يوم يومين، بكثرة الذكر، واستدامة الحضور مع الله -تبارك وتعالى-، ينكشف هذا الحجاب.

 يقول: "واعلم: أن معاني القرآن من جملة عالم المَلَكوت، وإنما حروفها من عالم الشهادة"، قال: عندنا القرآن معانٍ وحروف وألفاظ. 

  • الحروف المكتوبة في الأوراق، والألفاظ التي نلفظها بألسنتنا، هذه من عالم المُلْك، من عالم الحس، من عالم الظّاهر. 
  • لكن معاني القُرآن ليست من هذا العالم، معاني القرآن من عالم الغيب، من عالم الأمر، من عالم المَلَكوت، من عالم المعنى، ليست من عالم الحس ولا عالم الظاهر معانيه.

فأنت أمام ملك وملكوت، كله في القرآن، ألفاظه وكلماته ونطقك بها، وكتابتها في الحروف ونظرك لها، كله من عالم المُلْك، كله من عالم الحس، لكن وسطها معاني ليست من هذا العالم. (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ) [الشورى:52]، كما قال: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85].

 أنت بنفسك مُكوّن، جسدك هذا مُكوَّن من عالم الشّهادة، من عالم الحس، لكن روحك ليست من هذا العالم، لكنها محبوسة -مسكينة- ما تتصل بعالمها إلا إذا صفت معاملتك مع الخلاّق وأقمت كثائِف الأجسام على نطاقٍ ضيِّق لا يمنعها من الاتّصال بعالمها. 

وإذا كثَّرْت الكثائف عليها في العالم الجسماني ظلّت محبوسة، وإذا طال حبسها ترجع مسكينة مُستخدَمة في ضد ما هي له، وضد عالمِها، يُستخدَم مثل ما يُستخدَم ملِك في خدمة كلب أو في خدمة خنزير، يأتون بالمَلِك بالقوّة ويجعلونه خدام له.. وكذلك هذه الروح إذا كثرت الكثائف عليها وطالت، صارت خادماً للنفس والهوى -و العياذ بالله تبارك وتعالى-، وهي الشريفة المرفوعة التي كانت تضبط شأن النفس و تضبط الهوى؛ لكن.. بهذه الكثائف. 

ولهذا يقول: "أن معاني القرآن من جملة عالم المَلَكوت، -معاني القرآن- وإنما حروفها -حروف القرآن وحروف هذه المعاني- من عالم الشهادة".

"والأكنة التي يبتلى بها المتّقي المتعطش إلى الحق نوعان، -سمعت-.

يقول: "يبتلى بها المتّقي المتعطش إلى الحق"، يعني: هذا قد راحت عنه أكنّة كثيرة لكن باقي نوعان من الأكنّة، قال: أما النوعان الأولان فأمرهما واضح، كيف؟ 

"إمّا ما يبتلى به الضعيف الإيمان من حجاب الشك والجحود"،  فهذا أمر واضح، الشّاك والجاحد ما يمكن أن يفهم معاني القرآن ولا يصل إلى حقيقته ما دام في شكه، قال هذا أمر واضح. 

"أو المُنهمك في الدّنيا" قامت عليه حجاب الشّهوات" واستغرقت قلبه؛ هذا أيضاً أمره واضح، قال هذه حُجب وأكنّة واضحة يعرفها الكل. لكن وراء هذا، بعد التخلّص من الشك والجحود إلى اليقين، وبعد التخلي عن الالتفات إلى الدنيا والانهماك فيها بالإقبال على الحق، عاد باقي أكنّة وراء هذا؟ 

"تأتي للمتّقي المتعطّش إلى الحق"

المتّقي معناه: تخلّى عن جميع حجب الشّك والوسواس والجحود.

والمتعطّش إلى الحق: تخلّى عن كل التفات إلى الدنيا والاستغراق بها وما إلى ذلك. قال هذا أيضاً يتعرض لبعض أكنّة يتعرّف عليها.

قال: أما الاثنان الواضحان اللذان "بهما حُجِب أكثر الخلق"، أن المستغرق قلبه بشؤون الدنيا، يمنعه ذلك "من فهم لطائف القرآن واقتباس أنواره. وبهما حُجِب أكثر الخلق، وأمّا العُبّاد المتجرّدون لطريق الله تعالى.. فيُحجبون بنوعين آخرين":

قال: يعلم المتوجّه إلى الله والصّادق في الإقبال عليه أنّه لا بد من إخلاص القصد، وإخلاص النّيّة، وإفرادها لوجه الله، أمر معروف، وأحياناً ما يقدر عليه الشيطان لا بالحجاب الأوّل ولا بالحجاب الثّاني، فيجيء له وهو في هذه الحالة يقول له: "بس شوف الإخلاص هذا، أنت عاد ما أكملته"، ويوقّفه عنده، ويشغله بدقائق الإخلاص، وما يقدر يشغله بالكائنات ولا بالدنيا، ولا عنده جحود ولا شك، لكن ما يشغله بشيء من الغفلات ولا المعاصي، يقول له: "الإخلاص، الإخلاص"، يقول: "الحمد لله قد اكتمل"، وهو مقبل على الله؛ فبدل ما يتوجّه به، يقول له: "قف، قف محلك". 

مثل الذي صلُحت آلته للسير، ولكن يقول له: "لا لا تفقد ..عاد باقي تنظر". يقول: "طيب". الماكينة حق السيارة صالحة، الكفرات حقها صالحة، فيقول له: "لا لا، تفقد تفقد، شوف شوف شوف، عاد تشوف المكينة، انزل.،، انزل. بدل ما يمشي يجعله واقفاً عند السيارة، والوقت يعدّي. هذا مكر من عدو الله، مكر من الخبيث. 

يعرف.. هو عنده خبرة! ولا ما عنده خبرة؟ عندكم في الشركات إذا واحد عنده خبرة 40 سنة، تقولون 20 سنة، 10 سنوات خبرة. هذا عنده خبرة في بني آدم من أيام أبيك آدم، فوق الشيطنة التي عنده؛ معه خبرة؛ كيف؟ يعرف بني آدم، وكيف يمشون، وكيف يسيرون، وكيف يصلون إلى الله.

فيجيء لهؤلاء، ويقول لهم من هذه الطريقة، وحتى كثير منهم يتوجّه يتوجّه خير وعنده طاقة من الوعي والفهم، ولكن يوقفهم عند هذا. يقول له: الإخلاص والرياء والكبر والعجب.... يعني: اقعد هنا لا تمشي، الآلة صالحة للسير لكن لا تَسِير بها، خلِّها واقفة. وكان المفروض أن يمضي ويمشي بها حتى يصل إلى المقصود، فهذه خديعة من خدايع إبليس على المتوجّهين إلى الله -تبارك وتعالى-، يصرف وجهتهم فكرهم عن إدراك معاني خطاب الحق تعالى، والتفرّغ للاستغراق في شهود عظمته -جل جلاله-، يشغله بشيء ثاني وإن كان في صورة طاعة وصورة خير، لكنه لا يجعله يركّز على استحضار عظمة الحق -جل جلاله- والحضور معه. يقول له: خلِّك معي في شيء ثاني. وما يقدر يعرض له شيئاً من متاع الدنيا وزخرفها، ما يقبل منه. يقول له: بس خلِّك، تعالى. الإخلاص، الإخلاص، انتبه من الرياء. أنت ما شاء الله، قلبك قد صفا، البقية هذا انتبه منه، ما معنى انتبه؟ معنى انتبه يعني: توقف هنا لا تمشي، هذا المعنى. 

هذا نوع من أنواع صرف إبليس للعبّاد المتجرّدون لطريق الله، "الوسواس الصارف للقلب إلى التفكر في النيّة"، والإخلاص، وكيف كانت في الابتداء؟ وهل بقيت الآن؟ وهل هو مخلص للحال أم لا؟ إن كان في صلاة، وإن كان في طهور. ويجعله يقف عندها، ولا يتأمل معنى الركوع، ولا معنى السجود، ولا معنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الإخلاص:5] [يظل يفكر]: هل هو مخلص للحال؟ وبعدين؟ خلاص! 

علّمنا ﷺ إذا جاءك طارق من طوارق تخاف فيها الرياء، قل: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". المعنى: إرشاده يعني امشي لا تتوقف عند هذه النقطة، واستعذ بالله تعالى وهو يكفيك ذلك. ولكن العدو يتربص ويوقفك عندها حتى لا تمشي، يخاف أنك ترتقي، يخاف أنك تعتلي فيُوقفك هنا. كما يشغل بعضهم بالوسوسة ويوسوس له ويقعد في الطهارة مدة كذا كان يقدر يصلي فيها كذا وكذا ركعة، ويقرأ كذا وكذا آية، ويدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام؛ كلها تفوته في الوسوسة في الوضوء. يلعب عليه، يضحك عليه، ويذكره بشيء ثاني يشغله لا يُقبَل منه، يقول فقط: "طهارة، طهارة. أَحسِن، أَحسِن". وهو يضحك عليه، يخدعه من ورائه ومن ثم يقطعه، وكان يمكنه أن يتوضأ ويصلي عشر ركعات، ولكن العدو يشغله في أول الوضوء، فتفوته أداء السُنّة، ويفوته إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، وهو يعتقد نفسه في احتياطه وفي ورع وفي عبادة، خديعة من الشيطان، يخدع بها كثيراً من العُبّاد.

قال: "أو الوسواس الصارف للهمّ إلى تصحيح مخارج الحروف، والتشكك فيها. "بِسمِ اللهِ... بسم الله.. هذه أحسن. بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ...". حتى يغير بعضها، الحاصل أنّه.. لا أنت تعلمت مخارج الحروف، فما هو قصده؟ لا تتأمّل معنى القرآن، اقعد عند الحروف بس، كيف تخرجها وخلِّ المعنى بعيد منك هذا هو قصده، يضحك عليه. يقول لك: "أحسِن التلاوة"، وقصده لا تتفقه في المعاني خلّك مع الألفاظ فقط، خديعة يخدعه بها -خديعة-.

قال: "الوسواس الصارف للهمّ إلى تصحيح مخارج الحروف، والتشكك فيها، وإعادتها لأجل ذلك، وهذا يجري في الصلاة وغيرها"، فبدلاً من أن ينصرف للمعنى، قاعد في الحرف، نطقت به صواب وما هي بالصّواب، واقعد عنده، وما هذا إلا وسيلة لتعرف الحرف الذي بعده، ولا مقصود الترتيل إلا تتفهّم المعاني، أمّا أن تنحبس محلك ولا أنت داري ماذا قال الله تعالى.. ما هو هكذا الإقبال على الله؟ قال: هذا نوع من الأنواع التي يعترض بها الشيطان للمنع عن فهم كلام الله -تبارك تعالى- وخطابه.

وهذا الخطاب الذي يتحدث عنه الإمام الغزالي لا يتقيد بنفس القرآن؛ ولكن القرآن ومعانيه منتشرة في الوجود والكون كلّه، لأنه في كل وقت، الكائنات من حواليك بلسان حالها تدعوك إلى مكونها، والحق -تعالى- مبْرزها لك لِيدلّك عليه، كل الكائنات من حواليك. ففي كل وقت يمكن أن تفهم معناها وأن ترتقي، ولكن تأتي هذه الوساوس؛ ولكن أعظم ما تستفيد منه هذه المعاني هو كلام الله -جل جلاله وتعالى في علاه-.

يقول: وكيف يطالع أسرار المَلَكوت قلب مصروف إلى مطالعة الشفتين وكيفية إطباقهما، واللسان والحنك، وكيفية انسلال الهواء من اصطكاكهما؟!  اقعد هنا، تعلم مخارج الحروف وأتقنها وأعطها حقها، ولكن لا تقف عندها ولا تنحبس فيها، امضِ، فما مقصودها إلا أن تصل إلى المعنى، وهكذا.

لذا قال الحبيب أحمد بن حسن العطاس: إني رأيت ﷺ مرة وأمرني أن أقرأ. قال: "فقرأت وبالغت كما يفعل بعض النّاس، وقعدت في مخارج الحروف. قال: ثم أشار إليَّ لأسكت، فسكتت. قال: قرأ هو قراءة قريبة عادية، ما فيها هذا التمطيط حقي ولا فيها.. وخلاني اقرأ بعده ففهمت معاني لما يقرأ.. ونبهني على هذا أن لا أصرف فكري إلى الحروف وإلى كيفيّة تمطيتها، بل أنظر ماذا يقول الإله -سبحانه وتعالى-. ثم أكرمه الله بكثرة رؤيَاته ﷺ، وقد تلوت القرآن معه حتى أحرص أن أقلّده. لمّا أقرأ، كانت له نغمة مميّزة. الوادي عندنا كلهم في هذا الصوت وغيرهم ممن يرد الوادي يتعجب في قراءته وإحسانه. وهو قد قرأ القراءات العشر في مكة وكذا، لكن بعد اللقاءات وكثرة رؤيته ﷺ. يقول: إنّني أحاول أن أقلد نغمته، قد أجيء على نغمته أحياناً، فإذا جئت على نغمته أكاد أغيب عن إحساسي. هذا الاتّصال بالقرآن الكريم ومعارفه ومعانيه.

يقول هذا النوع الأول: يصرف به الشيطان الإنسان عن إدراك المعاني ويوقفه هنا: النية والإخلاص والنطق، كيف يكون تجويده أحسن؟ من شَأن أن يقف، واحد خديعة الثاني.

"والنوع الثاني: التقليد لظواهر معاني القرآن، والجمود عليها"، يعني: اعتقاده وتصوّره أن لا معنى لهذه الآيات إلّا فقط الذي ذكره الشيخ الفلاني، والذي ذكره المفسّر الفلاني وبس؛ -وأبو بس ذا فيها بسبسة-، القرآن أعظم من ذلك وأجلّ، ليس محلّ تطاول ممّن ليس بأهلٍ، فيقول في الكتاب برأيه فيهلك، وليس محلّ جمود وانقصار وانحصار، بل عطاء فيّاض لكلّ ذي قلب تمّ له الارتياض وتنقّى عن الشّوائب، فيأتي فيه معاني كثيرة ويُحصلها في القرآن، دلالات كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى.

قال: فإذا هو انحصر، حتى قال عند التقليد الصحيح؛ أمّا التقليد الباطل كتأويلات المبتدعة والمنحرفين في أسماء الله وصفاته وشيء من معاني القرآن، فهذا معروف أنّه حجاب؛ لا، لا، حتّى تقليد أهل الحقّ قال، أنت تقلد أهل الحق لكن تصوّرك واعتقادك الانحصار أنه لا يوجد شيء يمنعك من أن يأتيك شيء، ولو عرفت أنّه أكبر وأجلّ وأنّه يُخاطبك مُخاطبات تتعلّق بخاصتك وتتعلّق بشؤونك، وتتعلّق بالمعارف في إطلاقها، إذا لم تُقبٍل بهذا عليه لا تنكشف لك وتبقى جامد مع ما تلقِّيت. 

لهذا يقول: "التقليد لظواهر معاني القرآن، والجمود عليها؛ وذلك حجاب عظيم عن الفهم، ولست أعني به التقليد الباطل؛ كتقليد المبتدع، -هذا معروف أنّه يمنعك من فهم الحقيقةلا- بل التقليد الحق أيضاً؛" تقليد أهل الحقّ و أهل الهُدى يجب أن تعرف مكانتهم وتقليدهم صحيح، لكن لا تجمد على ذلك ولا تظنّ أنّ عطاء الله وفضله ومعاني كلامه منحصرة فيما أبدوه، بل الواحد منهم ما لم يبدِيه أحياناً يتجاوز ما أبداه من عنده من معاني القرآن التي وصل إليها، أحياناً يتجاوز بمرّات كثيرة، الذي لا يُظهره مما عرفه بالقرآن عنده فيه معانٍ أضعافًا قد تصل إلى العشرات ممّا أورده وبيّنه ولا يُبديه. 

إذن فالقرآن غير منحصر فيما أبداه لنا الصحابة والتابعون وتابعو التابعين -عليهم رضوان الله- من أهل التفسير. كما أنّه لا يجوز لنا أن نخرج عن أقوالهم ونقبل شيئاً مناقضا لأقوالهم، كذلك لا يجوز لك أن تعتقد أنّ العطاء الفياض في القرآن محصور فيما يصل ليفهمك من خلال هذه الأقوال. أقاويلهم حقّ يجب أن تعتقدها، ولكن لا تنحصر عندها، وتعلم أن كلام الله أوسع وأعظم، وستجد فيه مُخاطبة لحالك ولشأنك، ولما بينك وبينه ولسرّك فيما بينك تحصله وسط القرآن. لكن إذا ما رأيت لهذا وظنيت أنه فقط هذا الذي وصل إليك؛ وفهمُك أنه هو الغاية، بقيت محلك. وهذه خديعة أدقّ -دقيقة- يخدع بها عدو الله كثيراً من العباد، قلت لك: متّقٍ متعطش، عباد متجرّدون لطريق الله، ولكن يجلب لهم هذه الأكنة حتى لا يتّسعوا في فهم المعاني، حتى لا يترفعوا في فهم المعاني.

قال: "فإن الحق الذي كُلِّف الخلق اعتقاده له درجات، وله مبدأ ظاهر، وهو كالقشر في المثال، وله غور باطن، وهو كاللُّباب؛ قال رسول الله ﷺ: "إن للقرآن ظهراً وبطناً، وحدًّا ومُطَّلعًا". 

جاء في بعض الروايات لكل آية في القرآن لها:

  •  ظهر وبطن، يعني: معنى ظاهر ووسطها معنى عميق باطن. 
  • وحدّ في التّعريف. 
  • ومُطّلع ترقيك إليه؛ ترتفع إليه وترقيك إليه. 

لكل آية ظهر وبطن وحدّ ومُطّلع، فخذ نصيبك مما قُدِّر لك من ظهرها وبطنها وحدها ومُطّلعها.

 

قال: "فالجامد على الظاهر، الظانُّ أنه ليس وراءه مرقىً يُرتقى إليه.. كيف يتصور أن تنكشف له الأسرار؟!"، قال مثلا على سبيل المثال "فقد كُلِّف الخلق مثلاً أن يعتقدوا أن الله تعالى يُرى"، بالنّسبة لِمَا ذكره أهل السنة في كلامه ﷺ: "إنّكم سترون ربّكم"، وأنّ هذه الرؤية في الآخرة وفي الجنة، "ولكن للرؤية" هذه التي يتحدث عنها الحقّ تعالى ورسوله لها، "ظاهر وسر".

قال: فإذا كان واحد معتقد أنّه ما يعلم من معنى الرؤية إلّا رؤية هذا البصر الضّيّق المحصور الدّنياوي، فإنّ معنى الرّؤية عنده صورة في جهة من الجهات، قال هذه مشكلة. إذا الرؤية معناها عندك كذا، فما تفقه ما معنى رؤية الحقّ -تبارك وتعالى- في الآخرة؛ لأنّ هذه الرؤية ممتنعة أصلاً ومستحيلة؛ الرؤية هذه بالنسبة للحقّ ممتنعة ومستحيلة، ما يمكن لأنّ هذه رؤية مخلوقين لمخلوقين، رؤية أجسام لأجسام؛ والحق ورسوله يتحدثان عن رؤية المخلوق لعظمة الخالق، بعيد عن هذا المعنى، ليس جهة ولا صورة؛ ولهذا أنكر المعتزلة وغيرهم رؤية الحقّ لأنهم تصوّروا أنّه لا يمكن الرؤية إلّا من خلال جهة ومن خلال صورة؛ وهذه الرؤية إذا حَصَرْناها في هذا فهي مستحيلة حتّى في عقيدة أهل السنة كلهم، مستحيل أن يكون الله في جهة ولا أن يكون لله شيء من الأشكال ولا شيء من الصور، حاشا الله -جل جلاله-.

لكن تلك الرؤية المعنوية التي نحن نستعملها حتّى في حياتنا، نستعملها الرؤية لأشياء ليست صورا وليست في جهات. يقول: "رأيت عِلمه"، رأيته كيف يعني؟! طويل، عريض، أبيض، أخضر؛ هذا أمر معنوي. رأيت علمه، "رأيت كيف أسلوبه"؛ نستعمل الرؤية في كثير من الأشياء المعنوية عندنا. قال: رأيت ذكاءه، هيا يمين ولا يسار؟ فوق ولا تحت؟ ما تدخل الجهات في هذا، هذا أمر معنوي. 

فإذًا الرؤية تتناول أشياء غير هذا، بها جاءت النّصوص بالنّسبة لما بين الخلق والحق جلّ جلاله. التكوين الذي كوّنهم عليه في عالم الدنيا لا يَقْوَوْنَ به على الّتجلي المعنوي، الرؤية المعنوية البعيدة عن الجهات وعن الأشكال وعن الكيف، ما يقوون عليها في الدنيا بالنّسبة لربّهم، غاية رؤيتهم لأمور معنويات أخرى يصير يتصوّرونها ويتفهّمونها نعم، لكن بالنسبة للذّات العليّة الأمر أكبر من ذلك، لا الملائكة ولا غيرهم في العالم الأوّل يستطيعون هذا. 

يتجلى الحقّ بفضله في الآخرة ويكوّن الناس تكوينًا آخر ويجعل وظائف أبصارهم كمِثل وظائف البصائر في الدّنيا المعنوية، وظيفة العقل والبصيرة في الدنيا في تصوّرها لمعانٍ لا تُدرَك بالأبصار، كذلك يجعل الله الأبصار في الآخرة مثل هذه البصائر، حتّى أنّ البصر في الآخرة يشاهد هذا صلاة، هذا قراءة، هذا صدق، هذا كذب، هذا فجور، هذا إحسان... المعنويّات كلّها يشاهدها مثلما كان يُشاهد الصور في الدنيا، ومع ذلك كلّه فالحقّ أجلّ من أن يُشابه شيئاً من ذلك، ولكن تقريبه وإدناَؤه وتجلّيه إلى الخلق حتى يَمتلئوا بالشهود المعنوي من غير كيف ولا انحصار، سماه ﷺ رؤية وسمّاه نظر لوجه الله الكريم، وهو أعظم ممّا يُتجلّى به على العباد من النّعيم في دار الكرامة.

وهذا الذي لم يُؤته الله ويُقدِر عليه أحداً من خلقه في عالم الدّنيا قبل الآخرة إلا واحد سيدنا محمد ﷺ، فيما صحّ من روايات ليلة الإسراء والمعراج، فإنّه بنفسه، قُدُ قدام عينك سيدنا جبريل وقف عند سدرة المنتهى وما قدر يَطلع، والحبيب صعد صلى الله عليه وعلى صحبه وآله. 

إذًا هو في نفسه، في ذاته، خرج تلك الليلة حتى مَقدُورات الملائكة ما يقدرون عليه، أقْدَره الله عليه وآتاه إياها ومكّنه من هذه الرؤية. فروايات الإثبات للرؤية مقدّمة، لأن المُثبِت مُقدّم على النافي، ولأنه ربما يتصور بعض الناس من الرؤية شيئاً من الجسميّات والجهات نُفيت في بعض الروايات، هذا المراد بها. وأما الرؤية بهذا المعنى... 

 

يقول: هذا الذي ما يتصور من الرؤية إلا الرّؤية الظاهرة وما يعرف أنّ لها سرّا، "فمن اعتقد أن رؤية الله تعالى مناسبة للرؤية التي يَألفها الإنسان في هذا العالم... كيف يتصور أن يطلع على سر قوله تعالى: (لَنْ تَرَانِي)؟!"[الأعراف:143]، يقوله لسيدنا موسى عليه السلام، وهو من أعظم أهل النظر إلى وجه الله في الآخرة، وكيف يفهم أن ذلك ممتنع في هذه الحياة الدنيا بهذه العين الموقوفة على ملاحظة الجهات والأقطار؟! 

وكيف يفهم قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) [الأنعام:103]"، وهو يدرك الأبصار، لا تُدركه الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، هو يُدرك الأبصار، والرّؤية التي يتجلّى بها عليهم بتفضّل من سبحانه وتعالى، قُرب وإدناء ومعرفة خاصّة عبّر عنها بالرّؤية وعبّر عنها بالنظر. قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة:22-23]، اللّهمّ اجعلنا من أهل النّظر إلى وجهك الكريم. "مع قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)؟! 

 

قال: "ويكفيك هذا المثال الواحد"، ما عاد نطول الكلام، لأن هذه الأشياء تكفي فيها التّلويحات، وكثرة الكلام فيها ما يُفيد صاحبها تبيين إذا ما عنده استعداد للوِجهة.

 

قال المصنف رحمه الله- ورضي الله عنه وعنكم-: 

 

"الخامسُ: ألاَّ تقتصرَ على اقتباس الأنوار، بل تضيف إليه اقتباس الأحوال والآثار؛ وذلك ألّا تقرأ آية إلا أن تصير مُتّصفاً بصفتها، فيكون لك بحسب كلّ فهم حال ووَجْد:

فعند ذكر الرحمة ووعد المغفرة.. تستبْشر كأنّك تطير من الفرح. 

وعند ذِكر الغضب وشدّة العقاب.. تتضاءُل كأنّك تموت من الفزع. 

وعند ذكر الله تعالى وأسمائه وعظمته.. تتطَأطَأ وتتصَاغَر كأنك تنمحق من مشاهدة الجلال. 

وعند ذكر الكفار ما يستحيل عليه من ولد وصاحبة.. تنكسر وتغضّ صوتك كأنّك تنطمس من الحياء. 

وكذلك في كلّ صنف من الأصناف العشرة، وذلك أيضاً يطول.

وليَظهر أثر ذلك على جوارحك؛ من بكاء عند الحزن، وعرق جبين عند الحياء، واقشعرار جلد وارتعاد فَرَائِصَ عند الهيبة والإجلال، وانبساط في الأعضاء واللسان والصوت عند الاستبشار، وانقباضِ فيها عند الاستشعار.

 

فإذا فعلت ذلك.. اشترك في نيل حظّ القرآن جميع أجزائك، وفاضت آثار القرآن على عوالمك الثلاثة؛ أعني: عالم المَلَكوت، وعالم الجبروت، وعالم الشّهادة، واعلم أنّك مُركّب من العوالم الثلاثة، وفيك من كلّ عالم جزء. 

 

واعلم: أنّ محض أنوار المعرفة يَفيض من عالم المَلَكوت، ومُفيضه سرّ القلب؛ لأنّه أيضاً من المَلَكوت.

وأمّا آثارها؛ من الخشية والخوف والسّرور، والهَيْبَة وسائر الأحوال.. فإنّها تهبط من عالم الجبروت، ومَهْبَطها الصّدر الذي هو من عالم الجبروت، وهو عالم آخر من عوالِمك، كَنَّينا عنه بالصدر كما كَنَّيْنا عن الأول بالقلب؛ لأن عالم الجبروت بين عالم المَلَكوت وعالم الشهادة، كما أنّ الصدر بين القلب والجوارح. 

وأمّا البكاء والشّهقة والاقشعرار وارتعاد الفرائص.. فتنزل من عالم الشهادة، ومهبطها الجوارح؛ لأنها من عالم الشهادة".

 

يقول رحمة الله -تبارك وتعالى-: الخامسُ: من هذه الآداب والأسرار الباطنة المتعلّقة بالقرآن، "ألاَّ تقتصرَ على اقتباس الأنوار، بل تضيف إليه اقتباس الأحوال والآثار"؛ تأثّرك وحال صِلتك أنت بالقرآن وتَفاعلك مع القرآن وارتباطك الرّوحي والمعنوي بالقرآن الكريم. 

قال: "ألّا تقرأ آية إلا أن تصير مُتّصفاً بصفتها"، وتعلم من ذلك أنّه كان خلقه القرآن ﷺ، "فيكون لك بحسب كلّ فهم حال ووَجْد:

  • عندما تذكر أخبار "الرحمة ووعد المغفرة.. تستبْشر كأنّك تطير من الفرح"، تكون أنت مُتفاعل مُتحقّق بهذه الآيات التي تقرأها، وهذا ما يُشير إليه ما جاء في السنة أنه كان إذا مرّ بآية رحمة وقف وسأل الله الرّحمة، وإذا مرّ بآية عذاب حتى وإذا كان في خطبته لمّا يخطب وإذا ذكر الساعة احمرّ وجهه وارتفعت أوداجه وعلا صوته كأنّه مُنذر جيش يقول صبّحكم ومسّاكم. فهنا التّفاعل والارتباط والاتّصال القوي بالمعنى الذي تقرأه وما تقوله، فكذلك عند آيات القرآن.
  • قال: "وعند ذِكر الغضب وشدّة العقاب.. تتضاءُل كأنّك تموت من الفزع".  
  • وعند ذكر الله تعالى وأسمائه -وصفاته- وعظمته.. تتطَأطَأ وتتصَاغَر كأنك تنمحق من مشاهدة الجلال" والتعظيم.
  • وعند ذكر الكفار ما يستحيل عليه -أشياء تستحيل على الحق تعالى- من ولد وصاحبة.. تنكسر وتغضّ صوتك كأنّك تنطمس من الحياء.  ذكر ما يذكر الكفار من أشياء تستحيل على الحق تعالى، تنكسر وتغضّ صوتك حياءً. القارئ كان إذا قرأ قول الكفّار: 
    • (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) [البقرة:116] يخفض صوته، يستحي. 
    • (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا) [مريم:88]، يخفض صوته عن نمط تلاوته. 
    • (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) [المائدة:73]، يكون صوته أخفض من الأحيان، لأنّ كلامهم كلام بذيء وكلام ساقط ويحكيه الله تعالى عنهم، فيحمله الحياء من الله تعالى على خفض الصّوت كأنك تنطمس من الحياء. 

وبقية الأصناف العشرة التي قرأناها. 

قال: "وليَظهر أثر ذلك على جوارحك؛ من بكاء عند الحزن، وعرق جبين عند الحياء، واقشعرار جلد وارتعاد فَرَائِصَ عند الهيبة والإجلال، وانبساط في الأعضاء واللسان والصوت عند الاستبشار، وانقباضِ فيها عند الاستشعار" وما إلى ذلك.

قال: "فإذا فعلت ذلك.. اشترَك في نيل حظّ القرآن جميع أجزائك"، صار لقلبك حظّ وعقلك حظّ من القرآن، وعينك حظّ من القرآن، وأذنك حظ من القرآن، وأجزاء جسدك كلّها صارت مُتفاعلة مع القرآن ودلالات للقرآن. 

وقال: "وفاضت آثار القرآن على عوالمك الثلاثة؛ أعني: عالم المَلَكوت، وعالم الجبروت، وعالم الشّهادة". 

  • جسدك وصدرك وقلبك يوازي أو يقابل عالم الشهادة أو يكون محلّ عالم الشهادة الجسد. 
  • والصدر الذي هو مفتاح أو باب إلى القلب عالم الجبروت. 
  • والقلب عالم المَلَكوت،

هذه العوالم عندكم مركبة فيك. 

قال: "محض أنوار -أي: خالص- أنوار المعرفة يَفيض من عالم المَلَكوت، ومُفيضه سرّ القلب"؛ هناك محله؛ فأنوار المعرفة الخاصّة تتعلّق بهذا القلب، فالقلب محلّ المعرفة، الله أكبر! إذا انفُتح لك هذا الباب وراءه -عادُه- باطن القلب: الروح، وباطنها السر، لكن قبلها عالم الجبروت.

 

قال: "وأمّا آثارها؛ من الخشية والخوف والسّرور، والهَيْبَة وسائر الأحوال.. -آثار المعرفة- فإنها تهبط من عالم الجبروت، -الذي هو صدرك- ومَهْبَطها الصّدر الذي هو من عالم الجبروت، وهو عالم آخر من عوالِمك، كَنَّينا عنه بالصدر كما كَنَّيْنا عن الأول بالقلب؛ لأن عالم الجبروت بين عالم المَلَكوت وعالم الشهادة، كما أنّ الصدر بين القلب والجوارح.

يقول: "وأمّا البكاء والشّهقة والاقشعرار وارتعاد الفرائص.. فتنزل من عالم الشهادة، ومهبطها الجوارح"؛ هذا معلوم: 

  • فالبكاء والشهقة والاقْشعرار وارتعاد الفرائص هي اظهار على جسدك.
  • لكن آثار المعرفة من الخشية والخوف والسّرور هذا يظهر على صدرك في عالم الجبروت.
  • أمّا ذات المعرفة، ذات المعرفة والنّور ومحض المعرفة، فهذا ما له مَهبط إلا القلب، عالم المَلَكوت باطنك.

عالم القلب هذا إذا حُظي بهذه المعرفة تتّسع عنده المعارف، وكلما اتّسعت المعارف اتّسعت المحبّة، فيتحرّك من باطن القلب الرّوح، كلّه في عالم المَلَكوت هذا، القلب والروح والسّرّ. والرّوح محل المحبّة، كنوز المحبّة وأسرارها في الرّوح باطن القلب، وإذا أُكرمت بالمعرفة والمحبّة انفتح عندك عين الباطن فصِرت في شهود ومشاهدة، هذا محلّ السّرّ، السّرّ باطن الروح. 

  • فالقلب: محل المعرفة. 
  • والروح:  محل المحبة. 
  • والسر: محل المشاهدة. 

هذا كلّه في عالم المَلَكوت. 

  • لكن البداية من عالم المُلْك، من عالم الحسّ: قراءة وإقبال وهيئة حسنة واستحضار وتوجّه كامل يتعلّق بعالم الجبروت وعالم القلب؛ فتقرأ القرآن فتَصدُر وتنزّل وتُعطى وتُوهَب لك المعارف بواسطة القلب 
  • وآثارها من الخشية والخوف والسّرور والهيبة وما إلى ذلك تُعطاها ومحلّها عندك الصدر، عالم الجبروت
  • وما يحصل من آثار الدموع وقشعريرة البدن هذا من عالم المُلْك ويتأثّر به بدنك، يُصبّ على بدنك. هذا ينصب على البدن، وهذا ينصب على الصدر، وذاك ينصب على القلب

فمَحْض المعرفة في القلب، وآثارها في الصدر، والأمور الظاهرة متعلقة بالبدن من عالم المُلْك

 

قال المصنف -رحمه الله- ورضي الله عنه وعنكم: 

 

"وما أراك تفهم من القلب غير اللحم الصنوبري الشكل، و من الصدر غير العظام المحيطة به، فإنك لا تدرك من كل شي‌ء إلا غلافه و قشره، وما أبعدك عن درك الحقائق، فإن هذا يوجد للميت والبهائم، ولا تنزل عليه أنوار المعارف والعلوم ولا آثارها من الخشية والهيبة والسرور.

فإن أردت أن تستنشق شيئاً من روائح هذه الأسرار، -وما أراك تُريد، فقد أخذ الشيطان بمخنّقك بحبائل الشهوات- فعليك بباب التوحيد من أوّل كتاب التّوكّل من كتاب (إحياء علوم الدين)، إن أردته. 

واعلم: أن القرآن كالشمس، وفيضان أسرار المعرفة منه على القلب كَفَيَضان أنوار الشمس على الأرض.

وسريان آثار الخشية والخوف والهَيْبة وسائر الأحوال منه على الصّدر كسريان حرارة الشّمس في باطن الأرض تابعا لإشراق الأنوار، فإنّ الخشية أثر نور المعرفة، وإِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.

وانتشار الحركات والتغيرات إلى الجوارح من البكاء والعرق والاقشعرار والارتعاد منبعثا من آثار الخشية وسائر الأحوال، كحركةِ أجزاء الأرض بتصاعد الأبخرة والأدخنة منها بتصعيد حرارة الشمس. فالحركة تبع الحرارة، والحرارة تبع النّور، والنّور تبع وقوع المُحاذاة بين الأرض والشّمس. 

فاجتهد بأن تُحاذي بوجه قلبك شطر شمس القرآن وتستضيء بأنواره كذلك؛ فإن لم تُطِق ذلك.. فأَصغِ إلى النّداء الوارد من جانب الطّور الأيمن، فإن آنست من جوانبه نارًا.. فخذ منه قبساً واشعل منه سراجا، إن كان زيْتُك يكاد يضيء ولو لم تَمسسه نار، فإذا مسّته النّار..  انْبعث منه الضياء، ووجدت على النار هدى، وقام في حقّك مقام الشّمس المنتشرة الإشراق والضّياء".

 

يقول: انتبه أن تظن أنَّ قصدنا بالصدر هذه العظام المحيطة بالقلب، وأنّ القلب القطعة اللّحميّة الصنوبريّة الشكل. قال هذا موجود عند الحيوانات، وموجود حتى عند الميت،؛ ولا معارف تنزل ولا هيبة ولا أثر، ما هو هكذا، لا بد أن تعرف مقصودنا بالقلب ما هو؟ ومقصودنا بالصدر ما هو؟

قال:" فإن أردت أن تستنشق شيئاً من روائح هذه الأسرار"، إذا لم يخنقك الشيطان بحبائل الشهوات وصدقت عندك الرغبة، اقرأ "باب التوحيد من أول كتاب التوكل من كتاب (إحياء علوم الدين)"

 

"والقرآن" قال لك مثل "الشمس، وفيضان أسرار المعرفة منه على القلب -مثل- كَفَيَضان أنوار الشمس على الأرض، فتشاهد الشمس على سطح الأرض نورها منبسط. 

قال: "وسريان آثار الخشية والخوف والهَيْبة وسائر الأحوال منه على الصّدر مثل كسريان حرارة الشّمس في باطن الأرض تابعا لإشراق الأنوار" فيها.

 

يقول: "فإنّ الخشية أثر نور المعرفة، و(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)" [فاطر:28]، وانتشار الحركات والتغيرات إلى الجوارح من البكاء والعرق والاقشعرار والارتعاد…. وسائر الأحوال، كحركةِ أجزاء الأرض بتصاعد الأبخرة والأدخنة منها بتصعيد حرارة الشمس". 

 

إذًا قال هات وجِّه قلبك شطر جهة شمس القرآن؛ ليكون القلب أرضاً تُشرق عليه أنوار الشّمس؛ فإذا توجّه قلبك إلى مُواجهة شمس القرآن، سطع نور الشّمس على القلب كما يسطع نور الشمس على الأرض، نور الشمس الحسّيّة رأيتها كيف تسطع على الأرض؟ّ

 

أنت إذا وجّهت قلبك إلى شمس القرآن أشرقت أنوار الشمس على قلبك، "وتستضيء بأنواره". قال: "فإن لم تُطق ذلك".. كيف؟  

قال: عند توجهك نداء مما يُلقي الملائكة النّاصحون لك في خاطرك أن أقبل ولا تيأس، واصدُق وربّك يُعينك، الزم بابه خلاص اسمع هذا النّداء، "فاصغِ إلى النداء الآن من جانب الطور الأيمن"، وهو ما يخاطبك به الملائكة أو خواطر ربّانيّة أو ما يكون من طمأنينة النّفس يدعوك إلى أن لا تيأس ولا تُعرض ولا تبعد، وأن تُلازم الباب وأن تُقبل. 

"فإن آنست من جوانبه نارا" تجد حرارة الوجهة إلى الرّبّ والتعلق بما عنده، "فخُذ منه قَبَسًا"، إذا جئت جانب الطور الأيمن، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ)  [طه:10]، "أشعل منه سراجا إن كان زيْتُك" وما في وجهتك وما في باطنك متوجّها إلى الله تعالى، يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فإذا مسّته النار انبعث منه الضياء ووجدت على النّار هدى، (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)، "فقام في حقّك مقام الشمس المنتشرة الإشراق والضياء"، فيُوصلك إلى المقصود، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) [طه:10].

قال: وهذا من فضل الله لكلّ مؤمن، نداء الملائكة موكّلين به إذا أصغى إليهم هذا النّداء من جانب الطّور الأيمن. أمّا الجانب الأيسر فيقول لك: "آه، تعال إلى هنا"، يحاول يصدّك عن السبيل. فالقلب بين لمّة المُلْك و لمّة الشيطان، هذا من جانب الطور الأيمن وهذا من الجانب الأيسر. فإذا أصغيت للمنحطّ هذا، تنحطّ معه. لكن إذا أصغيت لهذا، فيُدلّك ألا تَيْأَس، وأقبل، ولا بدّ يُنيلك الله سبحانه وتعالى، ومنه مناهل.

فالله لا يحرمنا خير ما عنده بشرّ ما عندنا، اللّهمّ بالقرآن ومَن أنزلت عليه القرآن افتح علينا في القرآن فتحاً مُبيناً، واجعلنا من أصحابه، ومن أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصّته، ولا تحرمنا خير ما عندك لشرّ ما عندنا يا أرحم الرّاحمين.

 

بسرّ الفاتحة

 إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

25 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

18 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام