(339)
(535)
(364)
الدرس الثامن للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . تكملة القسم الثاني: في العلوم الظاهرة (الأصل الخامس: تلاوة القرآن)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
فجر الأحد 23 صفر 1447هـ
مفاتيح عملية تُحوِّل قراءة القرآن إلى صِلة حقيقية بالله.. كيف تستعيد التلاوةُ بهاءها؛ هيئة القراءة، وأوقاتُ الفضل، ومقدار للختمة، ثم يكشف سرَّ الأثر: تعظيمُ المتكلِّم، وتدبُّرُ آيةٍ يُغني عن ختمتين، وقلبٌ مُطهَّر يعود به القرآن شفيعًا وصاحبًا ونورًا في البيوت..
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
"قال رسول الله ﷺ: "أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن".
وقال ﷺ: "لو كان القرآن في إهاب.. ما مسَّته النار".
وقال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: "ما من شفيع أفضل منزلة عند الله يوم القيامة من القرآن، لا نبي ولا ملك ولا غيره".
وقال ﷺ: "يقول الله -عز وجل-: من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي.. أعطيته أفضل ثواب الشاكرين".
واعلم: أنّ لقراءة القرآن آداباً ظاهرة، وأسراراً باطنة.
أما الآداب الظاهرة.. فثلاثةٌ:
الأول: أن تقرأه باحترام وتعظيم هيئةً، وأن تُلزم الحرمة قلبك، وتلزم هيئتها ظاهرك، ولا تَلزم الحرمة قلبك ما لم تُلزم هيئة الحرمة ظاهرك، وقد عرفت كيفية علاقة القلب بالجوارح، ووجه ارتفاع الأنوار منها إليه.
وهيئة الحرمة: أن تجلس وأنت على الطهارة ساكنًا مطرقًا، مستقبل القبلة، غير متكئ ولا متربع ولا نائم، كما تجلس بين يدي المقرئ، وتقرأه بترتيل وتفخيم، وتؤديه حرفاً حرفاً من غير هَذْرمة، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لَأَنْ أقرأ (إِذَا زُلْزِلَتِ) و(الْقَارِعَةُ) أتدبرهما، أحبُّ إلي من أن أقرأ "البقرة" و"آل عمران" هَذْرمة".
الثاني: أن تتشوف في بعض الأوقات إلى أقصى درجات الفضل فيه؛ وذلك بأن تقرأه في الصلاة قائماً، خصوصاً في المسجد وبالليل؛ لأن القلب في الليل أصفى؛ لأنه أفرغ، فإنك وإن خلوت بالنهار فتردد الخلق وحركاتهم في أشغالهم تُحرك باطنك، وتشغلك عن تدبره، خصوصاً إن كنت تتوقع أن تُطلَب بشغل من الأشغال.
وكيفما قرأته، ولو مضطجعاً من غير طهارة.. فلا يخلو عن الفضل؛ فإن الله تعالى أثنى على الجميع فقال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ..)[آل عمران:191].
ولكن ما ذكرناه فيه زيادة الفضل، فإن كنت من تجار طريق الآخرة فلا يسهل عليك ترك الفضل، وقد قال علي -رضي الله عنه-: "من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة.. كان له بكل حرف خمسون حسنة، ومن قرأ القرآن وهو قاعد في الصلاة.. كان له بكل حرف مئة حسنة، ومن قرأ القرآن في غير صلاة وهو على وضوء.. فخمس وعشرون حسنة، ومن قرأ القرآن على غير وضوء.. فعشر حسنات".
الثالث: في مقدار القراءة، وله ثلاث درجات:
أدناها: أن يختم في الشهر مرة.
وأقصاها: أن يختم في ثلاثة أيام.
قال ﷺ: "من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.. لم يفقهه".
وأعدلها: أن يختم في كل أسبوع مرة.
وأما الختم في كل يوم.. فغير مستحب، وإياك أن تتصرف بعقلك فتقول: ما كان خيراً ونافعاً، فكلما كان أكثر.. كان أنفع؛ فإنّ عقلك لا يهتدي إلى أسرار الأمور الإلهية، وإنما تتلقاها قوة النبوة.
فعليك بالاتباع؛ فإن خواص الأمور لا تدرك بالقياس، أوَ ما ترى كيف نُدبت إلى الصلاة جميع النهار، ونُهيت عنها في أوقات معينة؛ أُمرت بتركها بعد الصبح وبعد العصر، وعند الطلوع وعند الغروب والزوال، وذلك ينتهي إلى قدر ثلث النهار؟!
فكيف وأثرُ الفساد ظاهر على قياسك هذا؟! فإنه كقول القائل: الدواء نافع للمريض، فكلما كان أكثر.. فهو أنفع، وأنت تعلم أن كثرة الدواء ربما تقتل".
ما شاء الله. لقوة الرب.
الحمد لله مكرمنا بكتابه وبيانه على لسان سيد أحبابه، ومادِّ حبل الاتصال به بواسطة تدبّره وقراءته وتأمله والعناية به، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس كذاته ذات، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي بعظم الأخلاق وصَفه، صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه واتبعه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله واقتدى به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل قرب الله وأحبابه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر لنا الشيخ -عليه رحمة الله- الأصل الخامس في قراءة القرآن، وذلك أن على كل مؤمن صلة بكتاب الله تعالى، هي ترجمة صلته بالله، وترجمة الصلة بالله تُستجلى في صلتنا بكتابه وصلتنا برسوله محمد ﷺ وشعائر دينه. فالقرآن من أعظم ما تكرّمَ الله به علينا وخصّنا به من بين بقية الأمم، وكل الأمم على ألسنِ الأنبياء قبلنا نزل عليهم كلام الله، ولكنّ هذا الكلام خُصَّ بخصائص، وجُعِلَ مهيمناً على الكتب قبله، وتولّى حفظه وتكفّل بحفظه -سبحانه وتعالى- عن أن يُبدّل أو عن أن يُغيّر، ومرّت القرون بفضل الله -تبارك وتعالى- وهو متواتر أخذه وتلقيه، حتى في كيفياته المتعددة في مدوداته، وفي القراءات الواردة فيه، وفي كيفية النطق بها وإمالة وغير ذلك، كلّها وردت بالأسانيد المتواترة عمّن أُنزل عليه القرآن صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فنعمة الله علينا بالقرآن عظيمة، رزقنا الله شكرها، وشكرها أن نعظم هذا الكتاب، وأن يكون لنا نصيب من تلاوته في كل يوم وفي كل ليلة.
وأؤردَ لنا حديث: "أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن"، وهكذا ذكر رواية الإمام البيهقي له في الشُّعَب: "أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن"؛ لأنه خطاب الرحمن -جلّ جلاله-، ورسائل جاءتنا من رفيع الدرجات ذي العرش الذي يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده -جل جلاله وتعالى في علاه-.
ولما قالوا لبعض الصالحين وكان في عزلة: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش!؟ وأنا إن أردت أن أكلم الله كلمته، وإن أردت أن يكلمني كلمني! قالوا له: كيف ذلك؟ قال: إذا أردت أن أكلمه قمت إلى الصلاة، وإذا أردت أن يكلمني قرأت القرآن، أقرأ القرآن فيكلمني ربي، وهكذا.
جاء بعضهم إلى عند شيخ شيوخنا الحبيب علي بن عبد الله بن شهاب الدين، وقال: أليس عندكم ضيق وهم؟ قال: ما عندي ضيق وعندي كتاب الله، وعندي ترجمته في كلام العارفين، من أين يجيئنا الضيق؟ ما هناك ضيق، من لم يعرف القرآن روح يسأله: شو عنده ضيق وما عنده ضيق؟ من اتصل بالقرآن من أين يجيء له الهم والحزن وهو يقرأ كلام الله -جل جلاله وتعالى في علاه-؟
قال ﷺ -كما جاء في رواية الإمام أحمد في المسند-: "لو كان القرآن في إهاب -الإهاب: الجلد- ما مسّته النار"، إشارة إلى أن الذي يحفظ القرآن ويقوم بحقه لا تمس النار جلده، لا تمس النار جلده ولا شعره ولا بشره ولا دمه ولا لحمه؛ لأنها (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)[الهمزة:7] -أجارنا الله منها- تحرق الجلد واللحم والعظم، وتصدع الفؤاد، تطّلع على الأفئدة، يصل لهبها إلى داخل الفؤاد -والعياذ بالله- وتصدعه وتحرقه -اللهم أجرنا من النار- مع أنه يُغلَّظ جلود الكفار في النار: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) [النساء:56]، لأنه جعل الله مركز الإحساس في بدن الإنسان وجود هذا الجلد، فهو الذي يحس بالألم أكثر، وحتى ورد في الخبر أن: "غِلَظَ جلد الكافر مسيرة ثلاث"، لا إله إلا الله، وهذا كلّه تحرقه النار في الوقت الذي تحرق الجلد تخلُص إلى اللحم والعظم وإلى الفؤاد، وتصدعه ثم يعود مرة أخرى وهكذا -اللهم أجرنا من النار-، "لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار".
وقال ﷺ: "ما من شفيع أفضل منزلة عند الله يوم القيامة من القرآن، لا نبي ولا ملك ولا غيره"، "اقرأوا القرآن" في الحديث الآخر يقول: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه"،
فأصحاب القرآن هم:
فأصحاب القرآن:
اللهم اجعلنا من أصحاب القرآن واجعلنا من أهل القرآن.
يقول ﷺ: "إن الوتر حق، فأوتروا يا أهل القرآن"، "إن الله وتر يحب الوتر، فمن لم يوتر فليس منَا"،" "فأوتروا يا أهل القرآن"، يعني من أكرمكم الله بهذا الكتاب العزيز، اجعلوا لكم من الشوق إلى الله تعالى ما تقيمون به صلاة الوتر في كل ليلة فنعم الشفيع القرآن، وإن من أعظم ما يشفع في الإنسان يوم القيامة من الأعمال الصالحة القرآن والصيام..
قال: فيُشفّعان فيه. ولكن يقول القرآن: منعته النوم بالليل، يعني: جعل لي وقتاً من أوقات الليل، الناس ينامون وهو يقرأ القرآن. "منعته النوم بالليل"، ويقول الصوم: "منعته الأكل والشرب بالنهار فيشفعان فيه"، يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه.
ولما مرّ بعض الأخيار على مقبرة من مقابر المسلمين فقرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" ثلاثاً، ودعا الله أن يرسل ثوابها إليهم، فكان له بعض الأقارب في المقبرة، رآه فقال له: كيف حالك؟ قال: غُفِر لي، قد كنت في عذاب. قال: بماذا؟ قال: مرّ علينا رجل صالح أمس إلى المقبرة وقرأ الإخلاص ثلاثاً، ودعا الله يرسل ثوابها إلينا، فوصلني ثواب رأس واوٍ من أحد الواوات منها، فغفر لي، قال: رحمني بذلك وغفر لي، ثواب رأس واو، ما هو واو كامل، لأنه موزع لهم، فحصل له رأس الواو، فكان سبباً للمغفرة له. لا إله إلا الله.
وهكذا، يقول ناقلاً عنه ﷺ فيما جاء في رواية الترمذي، "يقول الله -عز وجل-: من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي.. أعطيته أفضل ثواب الشاكرين"، وفي لفظ: "أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين"، وفي لفظ: "من شغله ذكري -ومن أعظم الذكر قراءة القرآن- عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". يعني: إذا استغرق وقته بالتأمل في كلام الله، أو استغرق وقته بالذكر، فقصر عنه بعض الدعاء، قال: فكل ما يدعوني الناس به أعطي هذا أفضل لأنه مشغول بي، وما شغله عن دعائي وعن مسألتي وطلب ما عندي إلا القرآن أو الذكر، فيعطيه ما يعطي السائلين والداعين، ويزيده سبحانه وتعالى: "أعطيته أفضل ثواب الشاكرين"، في لفظ: "أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
أواعلم: "أن لقراءة القرآن آداباً ظاهرة، وأسراراً باطنة"، فبذلك تعلم وجوب الاتصال بالقرآن على كل مؤمن، ذكراً وأنثى، وهكذا كانت بيوتهم ومنازلهم متصلة بالقرآن، في الحديث: "البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض". فكانت البيوت عامرة بالقرآن، والمساجد عامرة بالقرآن، بل كانت مدارسهم ومجالسهم وأسواقهم عامرة بالقرآن، فانظر كيف غفل المؤمنون عن القرآن، وصار بعض البيوت ما يقرأ فيها القرآن ثلاثة أيام وأربع وأسبوع وشهر، ما أحد فيها يقرأ القرآن من الغفلة، ويدخلون فيمن شكى منهم رسول الله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30].
وأنواع من هجر القرآن ظهرت في واقع الأمة -كشف الله هذه الغمة عن الأمة- ومن إهماله وإهمال تلاوته وإهمال العمل بما فيه، والغفلة عنه وعدم الالتفات إليه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
فوجب أن نتصل بالقرآن، ونترقّى في مراقي تلاوته من خلال هذه الآداب الظاهرة والأسرار الباطنة. فآدابه الظاهرة قال: فعدّ منها ثلاثة -أي: يلخص منها ثلاثة- وهي كثيرة:
الأول: "أن تقرأه باحترام وتعظيم هيئةً، وأن تُلزم الحرمة قلبك، وتلزم هيئتها -هيئة التعظيم وهيئة الحرمة ظاهرك -وذلك لأنه- لا تلزم الحرمة والتعظيم قلبك ما لم تلزم هيئة الحرمة ظاهرك". إذا كنت تتناول القرآن باليد اليسرى، وتتناوله وأنت مضطجع، وتقرأه من دون تعظيم وإجلال، ما يصل التعظيم إلى قلبك.
ومن هنا كانت سنة القيام للقرآن إذا نُوِّلت القرآن، فكانوا يقومون، وكان عكرمة لما أُكرم بالإيمان واليقين، إذا تناول القرآن أخذه ويقول: "كلام ربي، كلام ربي"، ويضعه على وجهه حتى يُغشى عليه، ويقول: "كلام ربي، كلام ربي" -جل جلاله- (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
فيكون لك نصيب من التلاوة في الصلاة -كما سيأتي- ونصيب من التلاوة وأنت مستقبل القبلة، وجالس إما على هيئة التشهد، إما متورِّكاً وإما مفترشاً، وهذا أفضل من التربع، والعمل أيضًا على التربّع عند كثير من أهل العلم والصلاح لم يروا في ذلك بأساً، وإنما كثير منهم رأوا أنه غير لائق بالأدب، فكانوا عند تلاوة القرآن وبين يدي المشايخ ما يتربّعون؛ ولكن كثير من أرباب العلم والصلاح اختاروا أن يكون التربّع من جملة الهيئات التي يُقرأ بها القرآن، والتي أيضاً يُجلس عليها بين يدي الشيوخ.
قال: "تقرأه باحترام وتعظيم"، وقد عرفت كيفية علاقة القلب بالجوارح، وارتفاع الأنوار منها إليه، فإذا صدر بنور القلب عمل صالح في الجارحة، بحسن ذلك العمل تعود عوائد من نوره أيضاً على القلب فيزداد إشراق نور القلب.
قال: "وهيئة الحرمة"، ما هي الهيئة والكيفية التي تكون فيها على التعظيم والحرمة للقرآن الكريم؟ "أن تجلس وأنت على الطهارة ساكنًا مطرقًا، مستقبل القبلة، غير متكئ ولا متربع ولا نائم، كما تجلس بين يدي المقرئ، وتقرأه بترتيل وتفخيم، وتؤديه حرفاً حرفاً من غير هَذْرمة".
"وواحد قال لابن عباس: إني سريع في القرآن، أهذرِمُ القرآن هذْرمَة، فقال له سيدنا ابن عباس -رحمه الله- : "أنا أقرأ (إِذَا زُلْزِلَتِ) و(الْقَارِعَةُ) أتدبرهما، أحبّ إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران هذرمة"، أطول السور في القرآن البقرة وآل عمران، بالهذرمة أحسن لي أقرأ (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) و(الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) ولكن بتدبّر وتفهّم أحسن، ولا أقرأ سورة طويلة بالهذرمة، حتى أكون واعياً لما قال ربي -جل جلاله-، فهذه أول الآداب الظاهرة.
الثاني: "أن تتشوّف في بعض الأوقات إلى أقصى درجات الفضل فيه، وذلك بأن تقرأه في الصلاة قائماً، خصوصاً في المسجد وبالليل"، وفي صلاة القيام والتهجد، يقول:
ويُذكر للاعتبار أن بعض الأبناء الأذكياء كان يرسله والده ليتعلم، فوصل القرآن ووصل إلى سورة المزمل، فأعطاه المعلم نصفها الأول، رجع إلى عند أبيه يقول: يا أبي، من المزمّل؟ قال: رسول الله ﷺ، قال: الله يقول له (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) [المزمل:2]، قال: نعم. قال: أنا أشوفك أنت وأمي ما تقومون! قال: يا ولدي، ذاك رسول الله، من يكون مثل الرسول؟ فسكت الولد. وفي اليوم الثاني ذهب إلى المعلم، كمّل له السورة، ومرّ على قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمّل:20]، فرجع قال: يا أبي، ما هو النبي وحده، قال الله يقول: (وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) قال: أولئك الصحابة يا ولدي، صحابة، من بايكون مثل الصحابة؟ قال: إذاً ما يكون فيك خير. قال: إذا ما اتبعت النبي ولا الصحابة، تتبع من عادك؟ لا اقتديت بالنبي ولا اقتديت بالصحابة! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! كلامك حق، من الليلة أنا معك، ما أترك القيام بالليل، ورتّب مع نفسه قم وأنا معك، قال: أنت عادك صغير. قال: وإن كنت صغيراً، أنا شفت أمي لما توقد كل يوم تطبخ لنا، تحط حطب صغير تحت الكبير، قلت لها: ليش؟ قالت: تشتعل النار في الصغير أول، فأنا لا تخلوني، قوموني معكم، وإلا بأحاجّك عند الله يوم القيامة، قال: والله خلاص، وصار البيت كلهم يقومون بعد ذلك من بركة هذا الولد، وبركة قراءة القرآن.
فقراءته في القيام في الصلاة من أفضل ما يكون، وبالليل يقول: لأن القلب في الليل أصفى، لأنه أفرغ؛ لإنك وإن خلوت بالنهار، فتردد الخلق حواليك، تردد الخلق وحركاتهم وأشغالهم تحرك باطنك، وتشغلك عن تدبرك، خصوصاً إن كنت تتوقع أن تُطلَب لشغل من الأشغال التي يمر عليك فلان، يتصل بك فلان، يعمل لك فلان... وكيفما قرأته تُثاب ولو مضطجعاً، ولو من غير طهارة، نعم، لا يخلو عن الفضل، وأن الله أثنى على الجميع يقول: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ) [آل عمران:191]، في أحوالهم كلها. ولكن يكون لك أوقات تطلب فيها الأفضل والأجلّ، ويكون لك نصيب من تلاوة القرآن وأنت قاعد مستقبل القبلة على سكينة، وعلى وقار، وعلى تعظيم، ويكون لك أوقات تقرأ القرآن وأنت قائم في الصلاة.
ولكن ما ذكرناه فيه زيادة الفضل، فإن كنت من تجار طريق الآخرة فلا يسهل عليك ترك الفضل، وذكر حديث سيدنا علي، وقد ورد من عدة روايات، وهو موقوف وفي حكم المرفوع، وجاء في بعض الروايات مرفوعاً عنه ﷺ: "من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة فله بكل حرف مائة حسنة".
فالعشر الحسنات هذه لمن قرأه على غير طهارة، حفظًا، يقرأ القرآن حفظ وهو غير متوضئ، فله بكل حرف عشر حسنات. "لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف". فإذا قال من الفاتحة مثلاً (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، فهذا لو كان في خارج الصلاة من غير وضوء فيحصل بالكلمتين هذه ثمانين حسنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، يعني: كل حرف عشر، عندما قال: "الحمد لله" يحصل ثمانين حسنة. لكن إذا كان على وضوء يتضاعف بكل حرف خمس وعشرون حسنة، فيحصل بدل الثمانين مائتي وكم حسنة على قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ).
فإذا كان في الصلاة لكنه من قعود في نفل وهو قاعد في الصلاة، فله بكل حرف خمسين حسنة، قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ) قد يحصل أربعمائة حسنة (رَبِّ) يحصّل فوقها ثلاث مائة فوق الثمانين وهكذا، بكل حرف خمسين. فإذا كان في السلام من قيام فله بكل حرف مائة حسنة، كل حسنة لها أجر وثواب لا يزول أبدي. والحسنات كسب المؤمن في الدنيا، هذه الحسنات التي بها رفعة الدرجات.
يقول: "من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة.. كان له بكل حرف مائة حسنة، ومن قرأ القرآن وهو قاعد في الصلاة.. كان له بكل حرف خمسون حسنة، ومن قرأ القرآن في غير صلاة وهو على وضوء.. فخمس وعشرون حسنة، ومن قرأ القرآن على غير وضوء.. فعشر حسنات". اللهم لك الحمد والشكر ولك المنة والفضل.
الثالث ":مقدار القراءة أيضاً له ثلاث درجات":
أدناها: "أن يختم في الشهر مرة واحدة" وهذا أقله، ولا ينبغي أن يقصر المؤمن عنه. وإذا قد من الكسالى فلا أقل من نصف جزء في كل يوم إذا لم يكن جزء. "فأدناها: أن يختم في الشهر مرة".
وأقصاها -أعظمها-: أن يختم في ثلاثة أيام، فيقرأ في اليوم عشرة أجزاء."من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.. لم يفقهه". هذا لعموم الناس، عموم المؤمنين. وما جاء عن بعض الصحابة وبعض التابعين وبعض الأخيار قراءة أكثر من مصحف في اليوم، فذلك راجع إلى استيعابهم وقدرتهم على التدبر والتأمل. وأما عامة المؤمنين فما يفقهونه في أقل من ثلاث، فأكثر ما يمكن أن يقرأه بتدبر في اليوم عشرة أجزاء، ثلث القرآن.
"وأعدلها: أن يختم في كل أسبوع مرة" وعليه أكثر الصحابة وكثير من صلحاء الأمة أن يختم في كل أسبوع مرة. وكانوا كثيراً ما يفتتحونه في ليلة الجمعة ويختمونه في يوم الخميس، من الصحابة ومن بعدهم كثير من صلحاء الأمة وخيارها، حتى رتبوا بعضهم هذا في مساجدهم، يقرؤون القرآن في كل أسبوع ويختمونه صباح كل خميس ويفتتحونه ليلة الجمعة، فيقرؤون كل يوم سُبعاً من القرآن. ورأينا من الذين تأثروا بهذا من بعض العامة الذين لا يقرؤون ولا يكتبون يحضرون معهم الحزب حتى حفظوا القرآن من حزب لهم في المساجد أول الليل وآخر الليل يأتون يستمعون، فحفظوا. ورأينا منهم حُفَّاظاً كانوا يقرؤون معنا وهو أُمِّي، ما يقرأ ولا يكتب، لكن حفظ القرآن من خلال مواظبته على الحزب القرآني وتلاوته في كل يوم وليلة. الله، لا إله إلا الله.
قال: "الختم في كل يوم.. فغير مستحب، لعامة المؤمنين. وإياك أن تتصرف بعقلك فتقول: ما كان خيراً ونافعاً، فكلما كان أكثر.. كان أنفع"؛ على غير بصيرة، وإنما أهل البصيرة نعم، فأهل البصيرة يتدبر ويفهم في الوقت اليسير ما لا يقوم مع غيره في وقت طويل. وقد جاء عن سيدنا عثمان أنه قد يفتتح القرآن في ركعة فيختمه قبل أن يركع، وهذا نادر. لكن عامتهم لا، عامتهم قال: تتلقى أسرار التعليم والإرشاد والتربية عن النبوة وعن ورثتها بتعظيم وتسليم.
وقال: وإذا واحد قال إن الدواء مفيد نافع، فنكثر منه، كيف تكثر منه؟ إذا كثرت منه سيضرّك بعد ذلك، إنما بقدر الحاجة تتناوله. فما هو كثرة كل شيء ينفع؛ وإنما الذي ورد في الكثرة في القرآن في عدد من الآيات الذكر.
الذكر هذا فُتح بابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41-42]، (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) [الأحزاب:35]، هذا وأنت قائم وأنت قاعد وأنت تمشي وأنت متوضئ وأنت على غير وضوء، وأنت جنب وأنت غير جنب، ما تُمنع منه -الذكر-، فاجعل قلبك متصل بالله تعالى. وأنواع العبادات تحتاج لها من وقت لآخر، لا إله إلا الله.
وهكذا.. من الأمر الخارج أيضاً عن المعتاد وعن المألوف، واحد من أهل الصلاح أيضاً شكى بعض المرض عنده عند بعض الأطباء، فأعطاه قارورة فيها الدواء قال: هذا قوي، عندما يجيء هذا الألم، قطرة واحدة أشرب، قطرة واحدة لا تزيد عليها. قال: كأنه غلبه الحال لما جاءه الوجع وشربها كلها. بعد مدة حصل الوجع عنده شيء ثاني. قال: أين قارورتك؟ قال: شربتها. قال: شربتها كلها؟! شربتها كلها ولم تمُت! أذهب من عندي، ماعاد تحتاج الطب الذي عندي، أنت في الطب عندنا قدك ميت. ما دمت بهذه الصورة، خلاص ما عاد أعالجك. أذهب أنت وعالج نفسك بنفسك ما دمت بهذه الحالة. وهذا أيضا أمر خارج عن المعتاد والمألوف.
فهذا مقدار القراءة، فهي ثلاثة آداب ظاهرة تتعلق بالتعظيم والقراءة في الصلاة، ثم مقدار القراءة.
وقال المصنف -رحمه الله- ورضي الله عنه وعنكم:
"وأما الأسرار الباطنة.. فخمسة:
الأول: أن تستشعر في أول قرائتك عظمة الكلام باستشعار عظمة المتكلم؛ فتُحضر في قلبك العرش والكرسي، والسموات والأرض وما بينهما؛ من الجن والإنس، والحيوانات والنباتات.
وتتذكر أن الخالق لجميعها واحد، وأن الكل في قبضته وقدرته، مترددون بين فضله ورحمته.
وأنك تريد أن تقرأ كلامه، وتنظر به إلى صفة ذاته، وتطالع جمال علمه وحكمته، وتعلم أنه كما لا يمس ظاهر المصحف إلا المطهرون لظواهرهم، وهو محجوب عن غيرهم.. فكذلك حقيقة معناه وباطنه، محجوب عن باطن القلب، إلا إذا كان مطهراً من كل رجس وخبث من خبائث الباطن.
وبمثل هذا التعظيم كان عكرمة -رضي الله عنه- إذا نشر المصحف.. ربما غشي عليه ويقول: "هذا كلام ربي، هذا كلام ربي".
واعلم أنه لولا أن أنوار كلامه العزيز وعظمته غشّيت بكسوة الحروف.. لما أطاقت القوة البشرية سماعه؛ لعظمته وسلطانه وسبحات نوره، ولولا تثبيت الله عز وجل لموسى -عليه السلام- لما أطاق سماعه مجرداً عن كسوة الحروف والأصوات، كما لم يطق الجبل مباديَ تجليه حتى صار دكَّا.
"الثاني: أن تقرأ متدبراً لمعانيه إن كنت من أهله، وكل ما جرى به لسانك في غفلة فأعده، ولا تعُدُّهُ من عملك؛ لأن الترتيل في الظاهر للتمكن من التدبر، قال علي -رضي الله عنه-: "لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها".
وإيّاك أن تصير مشغوفاً بعدِّ الختمات على نفسك، فلَأَنْ تردد آية واحدة ليلةً تتدبرها.. خير لك من ختمتين؛ فقرأ رسول الله ﷺ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) فرددها عشرين مرة.
وقال أبو ذر -رضي الله عنه-: "قام رسول الله ﷺ بنا ليلة، فقام بآية يرددها؛ (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة:118].
وقام تميم الداري ليلةً بقوله سبحانه: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)[الجاثية:21].
وقام سعيد بن جبير ليلةً بقوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)[يس:59]".
يقول: الأسرار الباطنة.. فخمسة:
الأول: "أن تستشعر في أول قرائتك"، عندما تريد أن تقرأ القرآن في أي مرة؟ وفي أي مكان؟ وفي أي وقت؟ تستشعر عظمة الكلام من أين؟ من عظمة المتكلم، هو الجبار الأعلى سبحانه وتعالى.
قال: "فتُحضر في قلبك العرش والكرسي، والسموات والأرض وما بينهما؛ من الجن والإنس، والحيوانات والنباتات".
"وتتذكر" أن هذه كلها لها خالق واحد، من هو؟ هذا صاحب الكلام الذي ستقرأ كلامه، "وأن الكل في قبضته وقدرته مترددون بين فضله ورحمته. وأنك تريد أن تقرأ كلامه" كلام رب السماوات والأرض رب العرش العظيم. "وتنظر به إلى صفة ذاته" -سبحانه وتعالى- "وتطالع جمال علمه وحكمته" من خلال هذا الكلام العظيم. فتتيقن "أنه كما لا يمس ظاهر المصحف" إلا طاهر، فكذلك باطن المعاني للقرآن وأسراره ما يمسها إلا طاهر -طاهر الباطن-.
قال: "كما أنه لا يمس ظاهر المصحف إلا المطهِّرون لظواهرهم" -عن النجاسة وعن الحدث- "وهو محجوب عن غيرهم، كذلك حقيقة معناه وباطنه محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان مطهَّراً من كل رجس وخبث من خبائث الباطن"، فطهر قلبك للقرآن.
قال سيدنا عثمان: لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله.
قال: "وبمثل هذا التعظيم كان سيدنا عكرمة -رضي الله عنه- إذا نشر المصحف.. ربما غشي عليه ويقول: "هذا كلام ربي، هذا كلام ربي" وهذا ولد أبي جهل، لكنه كان من أهل الإيمان، من الذين أسلموا متأخراً ولكن حسن إسلامه وقوي إيمانه ويقينه -عليه رحمة الله-. وهو من الذين فروا من مكة لما دخلها ﷺ في عام الفتح وذهب حتى كان يفكر يرمي بنفسه في البحر. وجاءت أخته إلى عند النبي ﷺ تقول: إن أخي فر وهرب، وإذا جاءك مسلماً تقبله؟ قال: نعم. -ولد أبي جهل، فرعون هذه الأمة-. قالت: يا رسول الله، إنه عازم يرمي نفسه في الماء ويغرق. قال: قولي له يأتي. قالت: أعطني علامة من عندك. أعطاها عمامة له. فلحقته قبل أن يرمي بنفسه، لحقته -على جدة- ورجعته إلى عنده، قالت: هذه علامة من رسول الله. قال لأصحابه من عنده: "إن عكرمة سيأتيكم راغباً في الله ورسوله، فلا تذكروا أباه أمامه بسوء". لا أحد يذكر أبوه أمامه، خلق الإسلام، مع أنه فرعون هذه الأمة؛ والمؤذي للنبي ﷺ -أبو جهل-. قال: لا تذكرون أبوه بسوء أمامه. فجاء وأقبل على النبي ﷺ وآمن وقوي إيمانه وحسن إسلامه، فكان بهذه الحالة مع القرآن، وكان مع المجاهدين في سبيل الله.
قال: "لولا أن أنوار كلامه العزيز وعظمته غشّيت بكسوة الحروف.."،
قال: وإلا "لما أطاقت القوة البشرية سماعه؛ لعظمته" قال: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21]. لكن هيأ الله له قلب محمد ﷺ، ثم يسره بلسانه: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا) [مريم:97].
(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ) [الدخان:58-59].
أقدرنا الله على أن ننطق بكلامه، لكن وراء كسوة هذه الحروف وبعد نطق رسول الله ﷺ به، وإلا لما أطقنا ذلك ولما قدرنا عليه، "لعظمته وسلطانه وسبحات نوره، ولولا تثبيت الله عز وجل لسيدنا موسى -عليه السلام- لما أطاق سماعه -كلام ربه من دون- كسوة من حروف وأصوات"، سماع كلام ربنا القديم -جلّ جلاله- من دون حرف ومن دون صوت، لا بالعبرية ولا بالعربية ولا بشيء من اللغات، لكن ثبته الله تعالى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) [النساء:164] .
"كما لم يطق الجبل مبادئ تجليه حتى صار دكَّا". ولما قال لربه: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)، سيدنا موسى قال له: (قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)[الأعراف:143]، ولكن الحمد لله يسر لنا هذا القرآن ويسر لنا تلاوته، فلله الحمد. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:17]. اللهم اجعلنا من المدَّكرين.
قال: الثاني: "أن تقرأ متدبراً لمعانيه إن كنت من أهله، وكل ما جرى به لسانك في غفلة فأعده، ولا تعُدُّهُ من عملك؛ -ليس شيء رجعه- لأن الترتيل في الظاهر للتمكن من التدبر"، هذا مقصود الترتيل، أن تتدبر المعاني.
قال -سيدنا- علي -رضي الله عنه-: "لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها".
قال: "وإيّاك أن تصير مشغوفاً بعدِّ الختمات فقط، -تقول: قرأت كذا كذا كذا- فلَأَنْ تردد آية واحدة ليلةً كاملة تتدبرها.. خير لك من ختمتين؛ فقرأ رسول الله ﷺ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) فرددها عشرين مرة".
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)، (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ). ومعنى الاسم، واسم الجلالة، والرحمن، والرحيم، وما يترتب عليها. وإذا قلت: (بِسْمِ اللَّهِ)، فأعلم أن كل شيء قائم باسمه، محوط بعلمه -جلّ جلاله-.
"وقال أبو ذر -رضي الله عنه-: "قام رسول الله ﷺ بنا ليلة، فقام بآية يرددها؛ (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) -قول سيدنا عيسى في أمته (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)" في هذه الآية رددها مرة عليه الصلاة والسلام في الليل. وذكر ايضاً آية الخليل إبراهيم في قوله: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [ابراهيم:36] فأخذ يكرر الآيتين هذه ويبكي حتى كثر بكاؤه. فأوحى الله إلى جبريل: يا جبريل، اذهب إلى عبدي محمد وقل له ما يبكيك وأنا أعلم، قل له: يقول لك ربك ما يبكيك. فاستأذن وجاء إلى النبي ﷺ، فدخل عليه وقال له: إن ربي أرسلني إليك ويقول لك ما يبكيك وهو أعلم. قال له: يا جبريل، مررت على آية قول عيسى في أمته: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة:118]. وذكرت قول إبراهيم في أمته: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [ابراهيم:36]، فذكرت أمتي وحالهم من بعدي وحالهم في القيامة ما يكون، فهذا الذي أبكاني. فرجع جبريل يقول: يا رب أنت أعلم بما قال عبدك محمد. قال: ذكر قول عيسى في أمته وقول إبراهيم في أمته، وذكر أمته وما يكون حالهم من بعده وما يكون حالهم في القيامة. قال له: ارجع إليه وقل له يقول ربك: إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك فيهم. إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك فيهم. وجاء بالبشارة من الحق تعالى.
فكم فتح الله لنا من أبواب على يد هذا النبي الكريم، الحمد لله الذي جعلنا من أمته، الله لا يخلفنا عنه ولا يقطعنا عنه ولا يباعد بيننا وبينه حتى يحشرنا في زمرته ويدخلنا في دائرته ويجعلنا من أهل مرافقته. آمين.
قال: وقام تميم الداري ليلةً بقوله سبحانه: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يكررها، يكررها، يكررها إلى الفجر.
وقام سعيد بن جبير ليلةً بقوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) وخاف فأخذ يكررها إلى الفجر.
وقام في بعض قوماته الإمام محمد بن الحسن جمل الليل ومر على قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [مريم:96] فتذوق الوُدَّ وأخذ يكررها (وُدًّا) (وُدًّا) ساعة، ساعتين، ثلاثة، أربعة، إلى أن طلع الفجر وهو يكرر: (وُدًّا). لا إله إلا الله.
وقال المصنف -رضي الله عنه وعنكم- إلى أن قال:
"ولعل الأليق بك ما قاله بعض العارفين إذ قال: (لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد).
وذلك بحسب درجات التدبر، فإن القلب في بعض الأوقات لا يحتمل التدبر الطويل، فليكن للتدبر الطويل ختمة خاصة.
الثالث: أن تجتني في تدبرك ثمار المعرفة من أغصانها، وتقتبسها من أوطانها، ولا تطلب الترياق من حيث تطلب منه الجواهر، ولا الجواهر من حيث يطلب منه المسك والعود؛ فإن لكل ثمرة غصناً، ولكل جوهر معدنًا، وإنما يتيسر لك هذا بأن تعرف الأصناف العشرة التي حصرنا فيها أقسام القرآن، فهي عشرة معادن.
فما يتعلق من القرآن بالله تعالى، وبصفاته وأفعاله.. فاقتبس منه معرفة الجلال والعظمة.
وما يتعلق بالإرشاد إلى الطريق المستقيم.. فاقتبس منه معرفة الرحمة والعطف والحكمة.
وما يتعلق بإهلاك الأعداء.. فاقتبس منه معرفة العزة والاستغناء والقهر والتجبر.
وما يتعلق بأحوال الأنبياء.. فاقتبس منه معرفة اللطف والنعمة والفضل والكرم.
وكذلك في كل صنف ما يليق به، فلا تنظرن إليه بعين واحدة، وشرح ذلك يطول".
وهكذا نعم، عليه رضوان الله. يقول: "الأليق بك" أنك إذا رتبت على نفسك ختمة في الشهر أو ختمة في الأسبوع، اجعل لك ختمة تتأمل فيها أكثر وتأخذ لك فيها وقتاً. وذكر "بعض العارفين قال: لي ختمة في كل جمعة، -يعني كل اسبوع- ولي ختمة -ثانية- في الشهر أتأمل فيها أكثر وما أختمها إلا في الشهر. قال: وفي ختمة ثالثة في كل سنة ما أكملها إلا في سنة -بقوة التدبر والتأمل-. قال: ولي ختمة لي فيها ثلاثين سنة، عادنا ما أكملتها. حتى سُئل: أين وصلت فيها؟ قال: عند قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل:90] بقيت فيها أيام. قال: مررت على العدل فأقمت العدل على جوارحي وعلى أعضائي وفي أموري وفي أسرتي. بعد ذلك، قال: قلت من العدل أخرج نصف ما عندي من مال ومُلك لله تعالى. قال: فأخرجت النصف، وبقيت أياماً في العدل ومعناه أكملته، قال ثم قرأت بعدها: (وَالْإِحْسَانِ). قال: جبت النصف الثاني وأخرجته من مالي، ذاك عدل وهذا إحسان. وأخذت أقيم الإحسان في أعضائي، وأقيم الإحسان في أسرتي، وأقيم الإحسان في أعمالي، ولي أيام في الإحسان (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ).
وهكذا يمشي على كلمة وكلمة ويتأمل ما فيها من معانيها العظيمة.
قال: "الثالث من آداب في أسرار القرآن:
"أن تجتني في تدبرك ثمار المعرفة من أغصانها، وتقتبسها من أوطانها"، وممكن نرى في الدرس الآتي الذي ذكره في الجواهر، لأن هذا من الكتاب مأخوذ من كتابه (جواهر القرآن). فنستعرض الأصناف العشرة التي ذكرها، فهو الذي سمى بعضها( جواهر)، وسمى بعضها (المسك والعود)، وسمى بعضها (الكبريت)، وسمى بعضها بحسب المناسبة في المعاني.
قال: "فما يتعلق من القرآن بالله تعالى، وبصفاته وأفعاله.. يقتبس منه معرفة الجلال والعظمة".
"وما يتعلق بالإرشاد إلى الطريق المستقيم.. يقتبس منه معرفة الرحمة والعطف والحكمة".
"وما يتعلق -ما ذكر الله- من إهلاك الأعداء والفاجرين والمعاندين والكفار، يُقتبس منه معرفة العزة والاستغناء والقهر والتجبر". أي: معرفة ذوق وتحقق.
"وما يتعلق بأحوال الأنبياء.. يقتبس منه معرفة اللطف والنعمة والفضل والكرم".
وهكذا "في كل صنف ما يليق به"، فليس كله على حال واحد ولا على معنى واحد.
وبهذا كان ﷺ إذا مر بآية رحمة وقف فسأل الله الرحمة، وإذا مر بآية عذاب وقف واستعاذ بالله من العذاب. وكذلك تختلف نغمة القارئ عندما يقرأ شيئاً من أوصاف الرحمة أو شيئاً من أوصاف العذاب.
وكذلك يقولون: خير القراء من إذا سمعت قراءته علمت أنه يخشى الله، أنه يخاف الله -سبحانه وتعالى- من خلال القرآن. حتى إذا مروا بأقاويل بعض الكفار في التجرؤ على الله تعالى، يخفضون بها أصواتهم، حياءً من الله -تبارك وتعالى-.
اللهم اربطنا بالقرآن ربطاً لا ينحل، ألف بيننا وبين السورة منه والآية والكلمة والحرف، واجعل لنا في كل ذلك ارتقاءً في فهم معانيه، والرقي في مراقيه، والعمل بما فيه. اجعلنا عندك من خواص أهليه، بالقرآن الذي أنزلته عليه، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
24 صفَر 1447