الأربعين في أصول الدين - 7 | تكملة الصيام، والحج

للاستماع إلى الدرس

الدرس السابع للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . تكملة القسم الثاني: في العلوم الظاهرة (الثالث: الصيام ، الرابع: الحج)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

مساء السبت 22 صفر 1447هـ

ثلاثُ درجاتٍ للصيام… وبدايةُ أسرارِ الحج: يشرح كيف يرتقي الصائم من مجرّد كفِّ المفطِّرات إلى حفظِ الجوارح، ثم إلى جمعيّةِ القلب. ويتحدث عن الحج: معنى الإحرام والتلبية، آداب الرفيق والزّاد الحلال، وتعظيمُ الحرم والبيت. ويلفت إلى مقاصد الطواف، مشهدُ عرفة ومنى، مع لمحات تربوية في التواضع والخدمة؛ لتتحول رحلة الحج إلى تزكيةِ قلبٍ وهجرةٍ إلى الله.

 

نص الدرس المكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

 

"واعلم: أنَّ الصَّومَ بالإضافة إلى مقداره.. على ثلاث درجات، وبالإضافة إلى أسراره.. على ثلاث درجات.

أما درجات مقداره:

فأقلها: الاقتصار على شهر رمضان.

وأعلاها: صوم داوود عليه السَّلامُ؛ وهو أن تصوم يوماً وتفطر يوماً؛ ففي الخبر الصحيح: أنَّ ذلك أفضلُ مِنْ صومِ الدَّهرِ، وأنَّه أفضل الصيام".

وسِرُّهُ: أَنَّ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ.. صارَ الصِّيَامُ لَهُ عادةً؛ فلا يُحِسُّ بوقعه في نفسه بالانكسارَ، وفي قلبِهِ بالصفاء، وفي شهواته بالضعف؛ فإنَّ النَّفْسَ إنَّما تتأثرُ بما يَرِدُ عليها، لا بما مَرَنَتْ عليه، فلا يَبعُد هذا؛ فإنَّ الأطباء أيضاً ينهون عن اعتياد شرب الدواء، وقالوا: مَنْ تعوَّدَ ذلك.. لم ينتفع به إذا مرض؛ إذ يألفه مزاجه، فلا يتأثرُ بِهِ.

واعلم: أنَّ طب القلوب قريبٌ مِنْ طب الأبدان، وهوَ سِرُّ قولِهِ ﷺ لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- لمَّا كَانَ يسألُهُ عنِ الصَّومِ، فقال: "صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً" فَقَالَ: أُطِيقُ أفضلَ مِنْ ذلك، فقال: "لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ".

ولذلك لما قيل لرسولِ اللهِ ﷺ: إِنَّ فلاناً صام الدهر.. قال:  "لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ"، كما قالَتْ عائشة -رضي الله عنها- لرجل كان يقرأ القرآنَ بهَذرَمَةٍ: "إِنَّ هذا ما قرأ القرآن ولا سكت".

وأما الدرجة المتوسطة.. فهو أن تصوم ثلث الدهر؛ ومهما صمت الاثنين والخميس، وأضفت إليهما شهر رمضان.. فقد صمتَ مِنَ السَّنة أربعة أشهر وأربعة أيام، وهي زيادة على الثلث، لكن لا بدَّ أن ينكسر يومٌ مِنْ أَيَّامِ التشريق، فترجع الزيادة إلى ثلاثةِ أَيَّامٍ، ويُتصوَّرُ أن ينكسر في العيدين يومان، فتكون ثلاثةَ أَيَّامٍ، فترجع الزيادة إلى يوم واحد، فتأمل حسابه تعرفه.

 

فلا ينبغي أن ينقص مِنْ هذا القدر صومُكَ؛ فإِنَّهُ خفيف على النَّفس، وثوابه جزيل.

 

وأما درجات أسراره.. فثلاث:

أدناها: أن يقتصر على الكفّ عن المفطرات، ولا يكف جوارحه عنِ المَكارِهِ؛ وذلك صوم العموم، وهو قناعتهم بالاسم.

الثانية: أن تضيف إليه كف الجوارح؛ فتحفظ اللسان عن الغيبة، والعين عنِ النَّظرِ بالريبة، وكذا سائر الأعضاء؛ وذلك صوم الخصوص.

الثالثة: أن تضيف إليه صيانة القلب عن الفكر والوسواس، وتجعله مقصوراً على ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك صوم خصوص الخصوص، وهو الكمال.

ثم للصيام خاتمة بها يكمل؛ وهو أن يفطر على طعام حلال لا على شبهة، وألا يستكثر من أكل الحلال بحيث يتدارك ما فاته ضحوة، فيكون قد جمع بين أكلتين دفعةً واحدةً؛ فتثقل معدته، وتقوى شهوتُهُ، ويَبطُلُ سِرُّ الصَّوم وفائدته، ويفضي إلى التكاسل عن التهجد، وربَّما لم يستيقظ قبل الصبح، وكلُّ ذلك خُسران، وربَّما لا توازيه فائدة الصوم."

 

 

الحمد لله مبين الطريق لكل طالب للسير إليه -سبحانه وتعالى- على الصدق والتحقيق، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو ولي التوفيق، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، خير داعٍ إليه ودالٍ عليه، وأكرم مبين للسبيل الموصل إليه. أدم اللهم صلواتك على السراج المنير البشير النذير، عبدك الطهر سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه من سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين .

فيبين لنا الشيخ عليه رحمة الله تعالى في هذا الأصل الثالث في الصيام، الصوم بالنسبة إلى المقدار كم؟ وبالنسبة إلى سر الصوم -الكيفية-، فيبين ما يتعلق بالكم وما يتعلق بالكيف في الصوم. 

  • وقال إنه يتعلق -بالكم- بالمقدار: ثلاث درجات،. 
  • وأنه أيضاً فيما يتعلق بسر الصوم والكيف فيه ثلاث درجات. 

 يقول: "أما درجات مقداره: 

"فأقلها: الاقتصار على شهر رمضان" وهذا فرض على كل مسلم قادر على الصوم، ولا أقل من ذلك، فصوم شهر في السنة. 

"وأعلاها: صوم داوود عليه السَّلامُ؛ وهو أن تصوم يوماً وتفطر يوماً"؛ فهذه الدرجة العليا وتلك الصغرى، وبينهما الوسطى، وأن يصوم نحو ثلث الدهر.

 

تكلّم على الدرجة العليا، وأنه يفوق الصيام يوم وفطر يوم صوم الدهر والاستمرار في الصوم، قال: ذلك راجع إلى أسرار تتعلق أيضاً بالصوم، لأنه عند اعتياد الصوم تصير نفسه مرنة عليه، فيصير سهلاً عليها. الفطر يوم وصوم يوم أشق على النفس، فيضعف التأثير عند الاستمرار بالإلف والعادة؛ فلا يحصل به الانكسار، ولا يشاهد أو يحس بأثر الصفاء في باطنه من خلال هذا الصوم، بل يصير كالأمر المألوف له؛ ولهذا أنواع النعم، قالوا عن آفتها الإلف، بمعنى إذا صارت مألوفة وخرج الإنسان عن استشعار مقاصدها وما فيها، ضعفت آثارها فيه، فصارت آفة أي نعمة. 

من هنا كان أيضاً ابتعاد كثير من أقارب الأنبياء وأهل بلدهم عنهم لما ألفوهم، وحرمان كثير من أهل الديار الولي الذي يكون بينهم -بركة الولي الذي يكون بينهم- يألفونه وهم معاه صباحاً ومساءً فيظلوا كما هم وما يحسون بشيء. حتى الكفار قالوا: (وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) [الفرقان:7]، والرسل كلهم بعثوا على هذا الحال.

فوجود هذا الإلف مؤثر في إبعاد سر النعمة وبركة النعمة وإدراك خيرها؛ لهذا يحتاج مع هذا الإلف أن لا يغيب ذهن المؤمن وباله عن سر ما هو فيه مما يألفه من الطاعة والعبادات. فمثل هذا الصوم، يصير صوم يوم وفطر يوم أعظم وأكثر أثراً؛ لأنه لا يألف الاستمرار في الأكل ولا الاستمرار في الصوم، فيكون في يوم بعد يوم، فيحدث فيه أثر أكثر في انكساره وفي التأثير على صفاء قلبه.

قال: حتى إن "الأطباء -في الأجسام- أيضاً ينهون عن اعتياد شرب الدواء،" وإذا اعتاد شرب الدواء فأصابته العلة التي هذا دواؤها لا يؤثر فيه لأن الجسم ألفه، ويحتاج شيئاً ثانياً وتعب حتى يحصلوا الدواء له، لأن هذا الدواء الذي يداوىٰ به صار مألوفاً له. 

 

قال: "وطب القلوب قريب من طب الأبدان"، فيه مشابهة. قولِهِ ﷺ لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- لمَّا كَانَ يسألُهُ عنِ الصَّومِ، فقال: "صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً" فَقَالَ: أُطِيقُ أفضلَ مِنْ ذلك، فقال: "لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ" ما شيء أفضل من هذا، 

  • فأفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. 
  • ومن أوسط الصيام وأعجبه فيما يتعلق بالدرجة الوسطى: صيام الخليل إبراهيم عليه السلام، كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فقال ﷺ: "أفطر الدهر وصام الدهر". صام الدهر لأنه كل يوم بعشرة أيام، ثلاثة أيام شهر كامل، وأفطر أكثر أيام الشهر، فقال صام الدهر وأفطر الدهر سيدنا الخليل. وجاء عنه في الحديث: "وصوم حسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر"، وقال: "إن صيام ثلاثة أيام من كل شهر تنفي وحر الصدر"، أي: غشه وغله.

يقول: لما قيل لرسولِ اللهِ ﷺ : إِنَّ فلاناً صام الدهر . . قال: "لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ"، أي: لا حقق سر الصوم ولا أنه كأنه مفطراً، بل هو في صورة الصوم.

"وقالَتْ عائشة -رضي الله عنها- لرجل كان يقرأ القرآنَ بهَذرَمَةٍ: إِنَّ هذا ما قرأ القرآن ولا سكت"، ما قرأ فأحسن القراءة وتأمل، ولا أنه ساكت، لسانه تتحرك بالقرآن ولكنه ما هو حول تدبر القرآن ولا معناه، فكأنه ما قرأ وهو قرأ؛  بلسانه قرأ، قالت: "ما قرأ القرآن ولا سكت".

 

"وأما الدرجة المتوسطة" هذه، قال: "أن تصوم ثلث الدهر"؛ تقريباً، إذا صمت كل اثنين وخميس وأضفت إليهم شهر رمضان، فقد صمتَ مِنَ السَّنة أربعة أشهر وأربعة أيام، وهي زيادة على الثلث"، قال: "لكن لا بدَّ أن ينكسر يومٌ مِنْ أَيَّامِ التشريق، -واحد-  فترجع الزيادة إلى ثلاثة أيام، ويُتصوَّرُ.. -لأن اليوم الثالث عشر من ذي الحجة حرام صومه؛ من الأيام البيض، فينقص يوم. وقالوا: "ويُتصوَّرُ أن ينكسر في العيدين يومان"، -أيضاً يومان فيما يصادف الإثنين والخميس، فتكون ثلاثة أيام- فتكون ثلاثةَ أَيَّامٍ، فترجع الزيادة إلى يوم واحد -على الثلث- فتأمل حسابه تعرفه"، تأمل الحسبة وتعرفها بالتقدير. 

فلا ينبغي أن ينقص من هذا القدر صومك، فإنه خفيف على النفس وثوابه جزيل. ومن كان انتبه لصوم رمضان وصام ستاً من شوال، وانتبه لصيام ثلاثة أيام في كل شهر وصوم يوم التاسع من ذي الحجة وصوم يوم عاشوراء، فيوشك أن يكون ممن يُدعى من باب الريان في يوم القيامة، الذي لا يدخله إلا الصائمون؛ يُدعى من باب الريان المخصص للمكثرين من الصيام. 

فإذا صام ستاً من شوال بعد رمضان، وصام ثلاثة أيام من كل شهر، وانتبه من عاشوراء وتاسوعاء، ويوم التاسع من ذي الحجة، فيوشك أن يكون ممن يُدعى من باب الريان يوم القيامة.

قال: "فلا ينبغي أن ينقص مِنْ هذا القدر صومُكَ؛ فإِنَّهُ خفيف على النَّفس، وثوابه جزيل" وكثير من الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ واصلوا الصوم وسردوا الصوم.

 

وقال: "وأما درجات أسراره .. فثلاث :

  • الدرجة الأولى: صوم العوام، أن يقتصر على الكفّ عن المفطرات الحسية، ولا يكف جوارحه عنِ المَكارِهِ ؛ وذلك صوم العموم، وهو قناعتهم بالاسم"، قنعوا بالاسم من الصوم وما دروا بحقيقة الصوم، فهذا أقل درجاته من حيث سر الصوم. 
  • الثانية :أن تضيف إليه كف الجوارح ؛ فتحفظ اللسان عن الغيبة ، والعين عنِ النَّظرِ بالريبة ، -وجميع أعضائه عن الذنوب والمعاصي، وذلك  صوم الخصوص"، والنقص عنه حذر منه ﷺ بقوله: 
    • "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". 
    • ويقول: "الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، إني صائم". 
    • "الصيامُ جُنةٌ ، ما لم يخرِقْها" "، قيل: بم يخرقها يا رسول الله؟ قال: "بكذب أو غيبة". 
    • ويروى: "خمس يفطرن الصائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة"، فهذه تذهب أجر الصوم. 
    • ويقول ﷺ: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". 

فبهذا لا يقصّر المؤمن عن أن يحفظ خلال الصوم من الفجر إلى المغرب جوارحه كلها عن جميع الذنوب، وهذا يساعده على أن يستمر على ذلك في الليل. فإذا انقضت له تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً وليلة وهو كذلك، تدرب على أن يكون بعيداً عن المعاصي في باقي العام. فكان من مقاصد الصيام الوصول إلى هذه الدرجة من التقوى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". فإذا كفَّ عن الحرمات من الفجر للمغرب، واستطاع أن يواصل بعد المغرب ويكف إلى الفجر، فإذا مر ثاني يوم، ثالث يوم، تسعة وعشرين يوماً، ثلاثين يوماً، خلاص تدريب كامل معه يكفيه لأن يدخل على باقي السنة بهذه الشحنة التي لقيها في هذا الشهر، ويستمر على البعد عن الذنوب والمعاصي فيبلغ درجة التقوى، وهو سر الصوم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].

  • قال: والثالثة: هذا صوم الخصوص. والثالث "أن تضيف" -له مع الكف عن المفطرات وكف الجوارح عن الذنوب- "صيانة القلب عن الفكر والوسواس" -وعن الالتفات إلى غير الله، وتجعل قلبك- "مقصوراً على ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ"؛ -لا تلتفت إلى ما سواه في خلال الوقت كله- "وذلك صوم خصوص الخصوص ، وهو الكمال".

 

إذا لم يكنْ في السمعِ منِّي تصاونٌ ***‏وفي بصري غضٌ وفي منطقي صمتُ

 

‏فحظّي إذن من صومي الجوعُ والظما ***‏وإن قلتُ إنّي صمتُ يومًا فما صمتُ

 

فإنما "الصِّيامُ جُنَّةٌ من النَّارِ ، كَجُنَّةِ أحدِكمْ من القِتالِ"، جنة وحصن حصين من النار. هذا أما صوم خصوص الخصوص، فهذا الذي يسمونه: الجمعية على الله تعالى، وهذا حال الواصلين إلى الله تعالى، ليس في الصوم فقط، في طول أوقاتهم في ليلهم ونهارهم عاكفين بقلوبهم على حضرة ربهم -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، حتى قال قائلهم:

 

ولو خطرت لي في سواك إرادة *** على خاطري يوماً قضيت بردّتي

ويقول الشيخ ابن الفارض:

وَقْفَاً عليِه مَحَبتِّي ولِمِحنتي *** بأَقَلّ مِن تَلَفي به لا أشتَفي

وإن اكتفى غَيري بطَيفِ خيالِه *** فأنا الّذي بوِصالِهِ لا أكتَفي

 

وهكذا. يقول ﷺ: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ". فيبقون عاكفين على باب الرب جلّ جلاله، مستغرقين بذكره ليلهم ونهارهم، "سبق المفردون" يقول ﷺ.

ثم قال: "للصيام خاتمة بها يكمل" -بها الصوم-، "وهو أن يفطر على طعام حلال لا على شبهة". يظل مبتعداً عن الأكل طول اليوم، يجيء وقت الفطر يجيء بشبهة! أنت تركت المباح الحلال من أجله في النهار، فتجيء بشبهة عند الفطر؟ "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً". يقول: إذا صمت فانظر على ماذا تفطر وعند من تفطر؟ "أن يفطر على طعام حلال لا على شبهة. وقال: لا يستكثر من أكل الحلال" في الليل أيضاً، فلا يكون الذي نقص من الأكل في النهار معوّض في الليل، وإلا أثر الصوم كله روح. إنما أثر الصوم من أجل تنكسر ومن أجل تضيق مجاري الشيطان. كل الذي خلفه في النهار عوضه في الليل وربما زاد، فيذهب سر الصوم ومقصوده. "بحيث يتدارك ما فاته ضحوةً"، فيكون قد جمع بين أكلتين دفعة واحدة، فيكون أثرها أكثر على ثقل معدته وقوة شهوته، "ويَبطُلُ سِرُّ الصَّوم وفائدته، ويفضي إلى التكاسل عن التهجد، وربَّما لم يستيقظ قبل الصبح، وكلُّ ذلك خُسران، وربَّما لا توازيه فائدة الصوم"، فيكون في الصوم على مثل هذا الحال. حققنا الله بحقائق الصلاة والصيام والزكاة على الوجه الذي يرضاه، وكل ما شرع لنا من العبادات حققنا الله بحقائقها وجعلنا من خواص أهلها. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 

وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

الأصل الرابع

 

في الحج

 

"قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) .

وقال ﷺ: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ.. فَلْيَمُتْ إِنْ  شَاءَ يَهُودِيَّاً، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيّاً".

وقالَ ﷺ: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ …" الحديث .

وللحج أعمال ظاهرة، ذكرناها في كتاب (الإحياء)، ونُنَبِّهُكَ الآن على آداب دقيقة، وأسرار باطنة.

 

أما الآداب فسبعة:

الأول: أن يرتاد للطريق رفيقاً صالحاً ونفقة طيبة حلالاً، فالزاد الحلال ينور القلب والرفيق الصالح يذكر الخير ويزجر عن الشر.

الثاني: أن يخلي يده عن مال التجارة كي لا يتشعب فكره وينقسم خاطره ولا يصفو لزيارته قصده.

الثالث: أن يوسع في طريقه الطعام، ويطيب الكلام مع الرفقاء والمكارين.

الرابع: أن يترك الرفث والجدال والتحدث بالفضول وأمور الدنيا، بل يقصر لسانه بعد مهمات حاجته على الذكر والفكر وتلاوة القرآن.

الخامس: أن يركب زاملة دون المحمل، ويكون رث الهيئة، أشعث أغبر، غير متزين، بل على هيئة المساكين حتى لا يكتب في زمرة المترفين.

السادس: أن ينزل عن الدابة أحياناً ترفيهاً للدابة وتطيباً لقلب المكاري وتخفيفاً للأعضاء بالتحريك، ولا يحمل الدابة ما لا تطيق بل يرفق بها ما أمكن.

السابع: أن يكون طيب النفس بما أنفق من نفقة وبما أصابه من تعب وخسران، وأن يرى ذلك من آثار قبول الحج، فيحتسب الثواب عليه إن شاء الله".

 

 

يقول: "الأصل الرابع في الحج".

معناه: القصد.

وشرعاً: قصد البيت الحرام لأجل النسك. 

الحج أحد أركان الإسلام الخمسة كما هو معلوم، وكان فرضه في السنة السادسة من الهجرة أو في السابعة، وقيل بعد ذلك. وفي السنة السادسة حصل صلح الحديبية، فتمكن المسلمون أن يدخلوا، فقيل إن الفرض في السنة السادسة، وقيل قبلها، ولكن هذا أصح الأقوال وأشُهرها أنه في السنة السادسة من الهجرة فُرض الحج. في السابعة ذهب ﷺ للعمرة قضاءً عن العمرة التي ردوه عنها، وعاد ولم يحج في تلك السنة. في السنة الثامنة ذهب لفتح مكة ولم يحج في تلك السنة بل عاد في شهر شوال أو أوائل ذي القعدة للمدينة المنورة، وأمر عتاّب بن أسيد أن يحج بالناس. في السنة التاسعة أرسل سيدنا أبا بكر ليحج بالناس، وأرسل معه سيدنا علي ألحقه به ليتلو على الناس أوائل سورة براءة، ولحقه ووصل في الطريق في منزل نزلوا فيه وقت قامت صلاة الفجر، قاموا للصلاة فسمع الرغاء سيدنا أبو بكر -الناقة عرفها- وقف، قال هذه ناقة رسول الله. أقاموا الصلاة يريد أن يحرم، لما سمع الرغاء عرفها قال هذه ناقة رسول الله. أجاء رسول الله؟ قالوا: لا، ولكن أرسل علياً. أنتظره حتى جاء، قال: أُرسلك أميراً؟ قال: لا. أتؤمنا؟ قال: لا، أُرسلت مبلغاً، وتبقى أنت الأمير. فصلى خلفه ومضوا. في السنة العاشرة حج بنفسه وكانت حجة الوداع.

 

وفي الخبر أن ما من نبي إلا وقد حج بيت الله هذا، وأن أبانا آدم عليه السلام لما حج قابلته الملائكة ويقولون: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. فيكون أول من بنى البيت الملائكة، وكانوا يحجون قبل أن يخلق آدم. ثم لما هبط أبونا آدم أمر بالحج فحج، وبقية الأنبياء من بعده كذلك. ومضت القرون عليه وتكسر وتخرب من السيول التي مرت حتى بقي فقط أكمة في المكان، بوّأها الله لإبراهيم لما جاء وأُمر أن يعيد بناء البيت، فأعاد بناءه. (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) [الحج:26] 

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة:127]

(وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125] . ثم لم يزل كذلك حتى تصدّع أيضاً من أثر سيول ومن أثر حريق نار، جاءت تبخر البيت بعض النساء وطارت شرارة وصدعت البيت، حتى تهيبوا -مع أنهم في الجاهلية والنبي صلى الله عليه وسلم كان في الخامسة والثلاثين من عمره- تهيبوا أن يهدموا البيت. ومع أنهم جمّعوا أموالاً، والأموال التي جمعوها اشترطوا فيها ألا يكون فيها ربا ولا يكون فيها سرقة ولا يكون فيها نهب، وهم في جاهلية، سنبني بيت الله بها. جمعوا المال وهابوا، فقال لهم أحدهم: أنتم تريدون عمارته أم تريدون تخريبه؟ قالوا: نريد عمارته. قال: دعوني. فأخذ وضرب بعض البيت وخرج بعض الحجر. قالوا: انتظروا ثلاثة أيام، إن أصابه شيء خلاص، وإن لم يصبه شيء فقد رضي ربنا. لم يصبه شيء، فهدموا البيت وأعادوا بناءه. قصر بهم بعض النفقة، فنقصوه نحو ستة أذرع من جهة الحجر، نقصوها وبنوا، ثم رفعوا الباب فوق وجعلوه باباً واحداً، كان له بابان وكلاهما ملتصق بالأرض، من أجل أن يدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا رفعوا باب الكعبة وتركوا واحداً فقط. مقابله في الجهة الثانية ما يسمى "الردم"، ردموه. 

 

فيها هذه السنة لما أكملوا بناء البيت ما بقي إلا وضع الحجر الأسود، حصل التنازع بينهم، وكل قبيلة تقول شيخنا الذي يضع الحجر الأسود، حتى كثرت الفوضى وهمّوا يتقاتلوا، حتى أحضر بعضهم دماً يضعون أيديهم فيه إشارة إلى أننا سنتقاتل. فعقلاؤهم قالوا: كيف نكف هذه الفتنة؟ جمعهم وقالوا: اصبروا، نجعل الأمر لأول داخل من الباب، أول من يدخل من باب بني شيبة هو الذي يحكم. قالوا: خلاص. فهدأت المسألة، فإذا به ﷺ يدخل فلما أقبل؛ قالوا: هذا الأمين، كلنا نرضى به؛ فجاء قال: ماذا؟ قالوا: متنازعون على الحجر بسرعة بدون أن يفكر ولا يطول، نزّل رداءه الشريف، وضع الحجر فيه، قال: كل رئيس قبيلة هاتوا. قالوا: احملوا، كل واحد بطرف. كلهم حملوا، كان ممكن يعطي عمه أبا طالب، فيبقى في النفوس شيء. قال: ضعوه في هذا، وجعل رؤساء القبائل كلهم يحملون. قال: هاتوه إلى محله. جاؤوا به، فأخذه بيده الكريمة ووضعه في المكان وانتهت المشكلة، حتى تعجبوا كيف حل المشكلة بسرعة بدون أن يفكر ولا شيء، وجعل الأطراف كلها راضية.

 

وهو في الخامسة والثلاثين سنة، بعدها حُبّب إليه الخلاء، كان يستوحش من الناس ويحب الخلوة مع الله تعالى، كان يتردد إلى غار حراء. وذي السنة التي ولدت فيها ابنته فاطمة عليها السلام، صار يتردد إلى غار حراء إلى أن جاءه الوحي فيه، و قد أكمل الأربعين. وبقي على حاله هذا إلى أن جاءت الجرأة بعد ذلك، أيام ابن الزبير والحجاج -والعياذ بالله- ورموه بالمنجنيق وكسروه، وعبد الله بن الزبير أقامه على قواعد إبراهيم، لأنه سمع قول النبي للسيدة عائشة: "لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لجددت هذا البيت -البناء- وبنيته على قواعد إبراهيم، وجعلت له بابين ملتصقين بالأرض، وأدخلت ما نقصته قريش منه" فرده سيدنا عبد الله بن الزبير على ذلك العهد. ولما دخلوا بعد ذلك وقتلوه، هدموه حتى لا يكون أثر لعبد الله بن الزبير، وردوه على قواعد قريش، ما بنته قريش في المرة الأخيرة. فبقي هذا المبنى إلى الآن، ما بقي إلا ما يكون من تجديده وإدخال شيء وإخراج شيء. وإنما هو رمز، وإنما روح هذا البيت أسرار صلة بالرب -جلّ جلاله-. على هيئته أيضاً وعلى شكل بيت فوق السماء السابعة، بيته المعمور، يطوف به الملائكة ويصلون فيه، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، كل يوم سبعون ألفاً غير الذين دخلوا من قبل. وهو فوق الكعبة فوق السماء السابعة، وهذا في الأرض تخفيفاً لأشواق المؤمنين إلى ربهم، جعل لهم هذا الرمز، فصورته حجر بناء؛ ولكن حقيقته صلة بالحق -سبحانه وتعالى-، شعار من شعائر الحق -جلّ جلاله-. حتى قال إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح به عباده. 

 

وهكذا كانت تلك الأسرار للحج الشريف، وفي الحديث: "وقال ﷺ: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ" -يعني متساهلاً، مستخفاً بأمر الفريضة فيكون ذلك سبباً لزيغ قلبه عن الملة وموته على غير الإسلام، "فَلْيَمُتْ إِنْ  شَاءَ يَهُودِيَّاً، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيّاً"، إذا تمكن واستطاع. 

قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آل عمران:97]، وفي قراءة (حِجّ البيت) بكسر الحاء، وفي قراة (حَجّ البيت) بفتح الحاء والمعنى واحد، حَجُّ البيت: أي: قصده، حِجُّ البيت: قصده. (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)

ويقول: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً".

 

قال: وللحج أعمال ظاهرة، ذكرناها في كتاب (الإحياء)، ونُنَبِّهُكَ الآن على آداب دقيقة، وأسرار باطنة.

 

 أما الآداب فسبعة:

الأول: "أن يرتاد للطريق رفيقاً صالحاً ونفقة طيبة حلالاً"، لذا كان أفضل الحجات حجته صلى الله عليه وسلم ومن معه، لهذا في سنة العشرة أعلن للناس أنه يريد الحج، وتحرك الناس من كثير من الأماكن ليحجوا مع رسول الله، حتى بقي من لم يتمكن من الحج معه في حسرة، حتى لما رجع سألوه: شيء نبلغ به ثواب الحج معك؛ ما قدرنا؟ قال: "عمرة في رمضان كحجة معي". فوجود الرفيق الصالح مهم، فيكون مع جماعة إذا كان فيها أهل علم وأهل صلاح فهذا أتم وأقوم؛ وتكون النفقة طيبة حلال؛ "فالزاد الحلال ينور القلب والرفيق الصالح يذكر الخير ويزجر عن الشر"، ويكون عون، ويكون أيضًا تستفتيهم فيما تحتاج إليه من فتوى في أعمال الحج وما يتعلق بأحكامه؛ وأحكام الصلاة إلى غير ذلك. ولهذا يقولون: الرفيق قبل الطريق؛ اختيار الرفقة الصالحة والمال الحلال. في الخبر: "إذا حج من مال حرام ونفقة حرام ثم لبّى، ناداه الملك: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام، ارجع مأزورًا غير مأجور". فإذا لبّى وهو قد حج من مال طيب حلال ونفقة حلال فقال: "لبيك اللهم لبيك"، قال له الملك: "لبيك وسعديك، مالك حلال ونفقتك حلال وزادك حلال، ارجع مأجورًا غير مأزور". 

ولذا لما أراد أن يُلبّي سيدنا علي يزين العابدين أُغمي عليه، لما أفاق سألوه: ما لك؟ قال: خفت أن يُقال لي: لا لبيك ولا سعديك -لا إله إلا الله-. وفي الخبر أنه إذا لبّى المؤمن، لبّى بتلبيته من بين يديه من الملائكة والشجر والحجر إلى مُنقطع الأرض، يلبون بتلبية المؤمن. وسُنَّ للرجال أن تكون تلبيتهم برفع الصوت؛ قال جبريل للرسول ﷺ: "مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية". قال: فلم نزل نرفع أصواتنا حتى بحّت حلوقنا" وللنساء الإسرار بها. واشترط بعض الأئمة الإحرام بالحج أن يقترن بالتلبية، فينوِي مقترنًا بالتلبية، وجمهور الفقهاء على أنه لا يلزم الاقتران بالتلبية، فينبغي أن يُقرن الإحرام بالتلبية خروجًا من الخلاف، ومع الرفقة الصالحة والمال الحلال. 

 

الثاني: قال: إذا كان غير مضطر إلى كسب مال، فينبغي أن لا يتعرض لكسب "مال التجارة" ولا غيرها،"كي لا يتشعب فكره وينقسم خاطره ولا يصفو لزيارته قصده"، مع أنه بالنسبة للمحتاجين نهاهم الله تعالى على أن يمدوا أيديهم للناس ويعتمدوا على الناس وأن يتكسبوا: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"[البقرة:198] . ولكن غير المحتاج لهذا معه زاده الكافي ينبغي أن لا يشتغل بالتجارة ولا بشيء آخر يشغله عن مقاصد الحج، ويُفرّغ قصده للزيارة ولأداء الفرائض والقُربة إلى الحق -جل جلاله-.

الثالث: "أن يوسع في طريقه الطعام، ويطيب الكلام مع الرفقاء والمكارين" الذين استأجر منهم -قديماً: الدواب- والآن: السيارات والطائرات والسفن. فإن من بِر الحج (بِر الحج) لين الكلام وإطعام الطعام. ما هو الحج المبرور؟ هذا كمال بر الحج.

الحج المبرور: 

  • الذي جمع الإخلاص لوجه الله.
  • وكون النفقة من حلال.
  • وأن لا يُقارب معصية صغيرة ولا كبيرة من حين الإحرام إلى وقت التحلل. فمن فعل ذلك فحجه مبرور، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. 
  • وتمام بر الحج إطعام الطعام ولين الكلام، الخلق الطيب مع الرفقاء وإطعام من حواليه والصدقة عليهم وهكذا.

 

كان سيدنا عبد الله بن المبارك -عليه رحمة الله- يُرتب عمره: سنة للحج، وسنة للعلم، وسنة للجهاد. ويصلح الدورة حقه هكذا سنة يفرغها للعلم، وسنة للجهاد، وسنة للحج -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-. وقد أخذ عنه إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، والد الإمام البخاري، تلقى عن عبد الله بن المبارك وتأثر به، حتى كان يقول إسماعيل بن إبراهيم؛ يقول: إني أرجو أن لم يداخل تجارتي هذه درهم من شُبهة فضلًا عن الحرام. درهم شُبهه ما دخل التجارة حقه ولهذا  جاب الولد محمد بن إسماعيل البخاري. 

عبد الله بن المبارك إذا كان سنة الحج ينظر إلى عدد من أهل العلم والصلاح ومن الفقراء، يقول لهم: هاتوا ما عندكم، وما تيسر لكم قليل أو كثير، بنجمعه وبنحج مرة فكلٌ يجيب شيئ فيحطه له في كيسه، يقول: هذا حق فلان أو فلان  يجمعها؛ ثم ينفق عليهم من عنده حتى يمضي بهم إلى المدينة؛ وبعدين يقول: ماذا تحتاجون من طُرَف المدينة؟ يقول لكل واحد: ما تحتاج من طُرَف المدينة هدايا لأهلك؟ يروح يشتريها لهم. ويجون إلى مكة ويقضون الحج؛ يقول: ايش تحتاج لأهلك من طُرَف مكة؟ فيشتريها لهم، ويرجع بهم. إذا رجع قبل أن يصل؛ يبعث ناس يصلحون ديارهم هناك إذا تحتاج ترميم وتزيين من شان يجون وديارهم مصلحه، وكان الناس في قرون مرت على الأمة يودعون أهل كل مدينة حجاجهم ويستقبلونهم إذا جاءوا، إظهار للشعار وخروج معهم، فيخرجون يتلقّونهم؛ خرجوا يتلقّونهم بعدما يصلِون بيوتهم، يحصلونها مصلحة مُهيأة؛ يقولون: من لي صلح البيت؟ قد رسّل ابن المبارك، بعدين يجمعهم يوم لي حج هو وإياهم؛ فيأتون إلى مكان نُزهه ويتغدا وإياهم، يجيب الأكياس حقهم ويعطي كل واحد حقه، كل واحد يُرد إليه كما هو، خلاص هو يتولى نفقتهم كلهم -عليه رضوان الله تعالى-.

 

وقال: في سنة من سني حجه؛ أعد كيس ملآن بالدراهم والدنانير من أجل الحج على عادته، فمر بامرأة على مزبلة تقطّع من ميتة! قال: يا هذه، هذا ميتة، ما يجوز أكل الميتة؛ قالت: مُر في طريقك، قال: كيف أمُرفي طريقي؟ ما يجوز لكم. كيف تأكلين؟ قالت: أُحلت لنا الميتة؛ ها؟ قالت: أنا أرملة ومعي بنات ونساء في البيت هناك ، خفت عليهم الموت من الجوع، بأعطيهم اللي يسد رمقهم؛ قال: الآن حرُم عليك؛ خلاص هذا الكيس اللي عندي والفرس اللي عليه هو لكِ؛ الآن حرام عليكِ اتركيه، قامت تبِعها بالفرس ورمى الكيس، ربط الفرس عندها ورجع. وقال: أنا السنة هذه استخرت ما أذهب إلى الحج خلاص ماشي حج، وذهب أصحاب المدينة حقه إلى الحج من حج منهم على عادتهم وهو جلس؛ فلما رجعوا خرج يستقبلهم مع المُستقبلين. فجعل كلما هنأ واحد من الحجاج قال له: أنت كذلك حج مبرور، قال: أنا ما حجيت! قال: ها؟ رأيناك هناك الثاني، قال له كذلك، سكت ساكت ومتعجبا! رجع إلى البيت رقد؛ فرأى الحبيب ﷺ؛ قال: يا عبد الله، أعجبت من تهنئة الحجاج لك! قال: يا رسول الله، أنا ما حجيت، وكل واحد من اللي حجوا يقول لي: أنا رأيتك في عرفة، في منى، عند الكعبة! قال: "أتدري ما فعلت مع تلك الشريفة؟ تلك المرأة كانت شريفة. وضعت لها كل ما عندك من تفقه!". قال: نعم؛ قال: بلغني ذلك وسألت الله أن يحُج  على صورتك ملَك في كل عام إلى يوم القيامة، يكون لك ثواب حجة، راح الإشكال من عنده؛ وإذا به ذا وطول السنين هذه من حياته إلى اليوم كم قرون عدّت، لأنه صرف المال في محل رضيه الله منه وقبله منه، فصار ما عاده حجة واحدة ذحين؛ وله حجات كثيرة وعلى طول السنين وحج ملَك وحج الملك ما يكون إلا مبرور معصوم ملَك؛ ويكون له مثل ثوابه. فسبحان الله الموفق والمعطي، لا إله إلا هو.

وكان يقول هو في تجارته: لولا فلان وفلان - يذكر بعض الأكابر من الصلحاء وأهل العلم - يقول: لولاهم ما اشتغلت بالتجارة. أنا ما أشتغل في التجارة إلا من شأن هؤلاء، يعني: ينفق عليهم ويساعد طلبتهم ويساعد أمورهم. قال: لولا هؤلاء ما لي حاجة في التجارة أصلًا. وكان هكذا، سنة في الجهاد؛ وسنة في العلم  وفي الجهاد يخرج معه جماعة يخرجون، نفقتك؟ هاتها. بعدين إذا رجعوا، أحيان يزيّد يحط له فوق الكيس حقه من عنده، يرده له،  يقول له: قلت: هذه نفقتك؛  قال: لا، قال: بس هي زائد على ما أعطيت؛ قال: المجاهد ربي يبارك له في عمله ويوفيه، لأنه داري أنه فقير، هم من الفقراء يخرجون معه للغزو ويرجعون. 

ورتبوا حياتهم على هذا، عليهم رضوان لله تبارك وتعالى. أدركوا سر الحياة ومقصودها ومرادها، وايش المرَد! وايش المعاد!   ورتبوا أنفسهم، تهيؤوا للقائه، تهيؤوا للقائه، فهنيئًا لهم بربهم -جل جلاله-، هنيئًا لهم بالذي وفقهم والذي أكرمهم. قال: "يوسع في طريقه الطعام، وطيب الكلام مع الرفقاء والمُكارين"

 

الرابع: أن يترك الرفث والجدال، "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ" [البقرة:197] ويترك "التحدث بالفضول وأمور الدنيا، بل يقصر لسانه"، حجاج ويظلون كلامهم في السياسة! ولا في الرياضة! سبحوا؛ هللوا؛ احمدوا؛ اذكروا الله؛ اقرأوا القرآن؛ هم طول الطريق! حتى في مكة يتكلمون! لا حول ولا قوة إلا بالله! جئتم تدرون قصدتم من! وجئتم إلى عند من؟ وينبغي أن يبتعد عن فضول الكلام وما لا يعنيه وهكذا. 

بعض الصالحات كانت مع جماعة يريدون الحج، كلما قِربوا تقول: أين؟ أين؟ أين بيت ربي؟  قالوا: بنصل مكة وترين بيت ربك حتى أقبلوا: أين بيت ربي؟ قالوا لها: الحين.. لما أقبلوا، كان في القرون هذيك الناس حوالي الكعبة يخلون بيوتهم تحت الكعبة، ما أحد منهم يعلو على الكعبة؛ البيوت الي كانت حوالي الحرم كانوا يخلونها تحت الكعبة، فتُرى الكعبة من بعيد؛ فوصلوا ورأوها، قالوا: هذاك بيت ربي. أقبلت، أقبلت بقوة حتى جاءت إلى عند الكعبة وألصقت صدرها وماتت، شوق إلى ربها، هذا بيت ربك يجيئون بالشوق والتعظيم وكان نادر ما يصل أي حاج من المسلمين خصوصًا لأول مرة فيقع نظره على الكعبة إلا وتذرف عيونه، رجال ونساء، كان كلهم بهذه الصورة، يجيئون معظمين؛ قاصدين رب البيت؛ ويقولون: ما أحد يجيء يقصد البيت من شأن البيت، أنت لما تروح بيت واحد قصدك البيت ولا رب البيت! ما بغيت بالبيت! تبغى رب البيت. وهذا كذلك المقصود هو: الرب -جل جلاله- هذا رمز.

طلسم سر الذات رمزاً بها اهتدى *** إليها رجال الحق من كل ناظرِ

ومن هٰهنا جذب القلوب وميلها *** ومنه مطار الروح من كل طائرِ

الحبيب ﷺ بعد طوافه جاء إلى الملتزم بين الحجر والباب، وألصق صدره الشريف ورفع يديه يبكي، ثم بعد دعاؤه التفت سيدنا عمر وراءه؛ قال: "يا عمر، ها هنا تسكب العبرات، ها هنا تسكب العبرات". -الله لا إله إلا الله- قال سيدنا الإمام الحداد لما وصل مكة:

 

وصلنا إلى الحي الذي دونه المُنى *** فلله رب الحمد والشكر والثناء

وزرنا عروس الحي وسط خبائها *** مسربلة بالحسن والنور والسنا

-عروس الحي يُشير للكعبة-

وشاهدت الأرواح منا شعائرًا *** معظمة قد ضمها البيت والفِنا

مقامٌ وحجرٌ والشَّراب وإنه *** لكوثر دار الخلد في عالم الفَنا

وطفنا بها مستأنسين بقربها *** وتقبيل خال الخد يا سعد من دنا

خال الخد: أي الحجر الأسود 

(والآن قصُر على الناس هذا) 

 وشاهدت الأرواح منا شعائراً… بعضهم حتى في الطواف يتشوّف القصور والمباني الطويلة، هذا بيت الرب، تنظر لبيت من؟ تعال هنا وذا من آخر علامات الساعة يتطاولون في البنيان، ذا جنب الكعبة مباشرة بيت ربهم وتطاولوا عليه؛ فينبغي أن يكون التعظيم للبيت ورب البيت، لأنه هو المقصود -جل جلاله وتعالى في علاه-

 

الخامس: "أن يركب زاملة دون المحمل"، الزاملة: هذه الي يركّبون المتاع فيها، وفي أخرى يخصصونها -هذا أيام الجمال- يخصصونها بالرُكّاب، ما فيها يكون فيها زاد ويصلحون محمل فوق ظهرها يركب عليها؛ ويكون فيه شيء من الرفاهية؛ قال: ما دمت تقدر بحج من دون رفاهية، دعك من الرفاهية وامش في الزامل. قال: حج ﷺ وكانت راحلته زاملته، هي زاملته لي فيها الزاد حقه  ركب عليها ﷺ وعلى قطيفة لا تساوي أربعة دراهم؛ في رحْل رث؛ قال: "اللهم اجعله حجًا لا رياء فيه ولا سُمعة". ﷺ؛ الله يعيد حقائق العبادات للمؤمنين والمؤمنات. 

قال: "ويكون رث الهيئة، أشعث أغبر، غير متزين، بل على هيئة المساكين حتى لا يكتب في زمرة المترفين". "الحاج أشعث أغبر"، يقول عليه الصلاة والسلام.

 

وإذا كان الركوب على الدواب..

السادس: "أن ينزل عن الدابة أحياناً ترفيهاً -فيه تخفيف- للدابة وتطيباً لقلب -المالك حقها، المُؤجر- المكاري -الذي كراها عليك- "وتخفيفاً للأعضاء بالتحريك، ولا يحمل الدابة ما لا تطيق بل يرفق بها ما أمكن".

 

قال: 

السابع: "أن يكون طيب النفس بما أنفق من نفقة وبما أصابه من تعب" ومشقة، "وخسران" لأن ذلك كله ربح، "وأن يرى ذلك من آثار قبول الحج" فيحتسب الثواب عليه.

لذا قال بعضهم: إنه جئت عند حلاق في الحج، قال: قلت له: بكم تحلق لي؟ قال: ما مشارطة في أعمال الحج يا هذا! قال: والله صحيح كلامك انا نسيت  قال: جلست، قال لي: استقبل القبلة؛ قال: وهذه الثانية، استقبل القبلة؛ فناولته رأسي الأيسر؛ قال: لا؛ الأيمن أول. قال: وثالث واحدة تعلمتها من الحلاق.

ورد بعض العلماء الكبار قالوا: نجيب لك مُطوّف؟ قال: ما يحتاج مُطوّف أنا أعرف أركان الحج؛ نسي أول ما دخل قام يركع، جاء له واحد من الأطفال حق مكة: "يا شيخ، تحية البيت الطواف، ما شي ركوع قبل؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال شوف كيف أنا يوم قلت ما أحتاج.. هاتوا مُطوّف يطوّف بنا أنا يوم تكبرت وقلت ما أحتاج مُطوّف.. أنا أقرر المسألة هذه تحية البيت الطواف، وأعلمها الطلاب كلهم؛ يوم وصلت هنا راحت من ذهني وبالي -لا إله إلا الله-.

وهكذا كتب وصية الإمام الحداد لواحد ذاهب إلى الحج؛ قال له: واعلم أن لله في بباطنك بيتًا، -هذاك بيت منصوب- واعلم أن لله بباطنك بيتًا وهو: القلب، وقد أُمر إبراهيم علمك وإسماعيل عقلك أن يُطهراه، كما أمر إبراهيم وإسماعيل أن يُطهّرا البيت للطائفين والعاكفين، قال: وقد أُمِر إبراهيم وإسماعيل، عقلك وعلمك، أن يطهراه للطائفين حولهم من الواردات والملائكة والروحانيين لي يطوفون بالقلب؛ قال: فصلح قلبك، وأُمره بتعظيم البيت وتعظيم الحرمات، وأن لا يسيء الظن بأحد ممن هنالك، وأن تكون همته إلى الله تعالى. 

وذكر له قصة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه لقي الأمير في الكعبة، قال له: سالم؛ ألك حاجة؟ قال: أستحيي أن أسأل غيره وأنا في بيته. أنا في بيته وأسأل غيره، أستحى الأمير وسكت لما خرجوا من المسجد، قال: الآن قد صرنا خارج المسجد، فهل لك حاجة؛ نقضيها لك؟ قال له: أتعني من حاجات الدنيا أم من حاجات الآخرة؟ حاجات الآخرة ما لي قدرة عليها! قال: أما الدنيا، أنا لم أسألها ممن يملكها، فأسألها من غير مالكها؟ قال: الي يملكها ما سألتها منه، بأسأل واحداً لا يملكها؟ رضي الله عنه. 

وذكر له قصة رجل آخر من العارفين، قال: أقبل إلى الحج فرش له سجادة وكان مستقبل الكعبة يصلي؛ وخرج واحد رجل صالح آخر معه دراهم وكان يريد أن يوقعها في موقع، تفرس فوجد هذا الرجل المصلي، فصب الدراهم فوق السجادة حقه؛ لما سلم قال يا هذا: هذه ساعة صفاء مع الله اشتريناها ببذل كذا وكذا، بتكدر علي بحقك هذه الدراهم؟ قال : نفض السجادة ومشى. فما رأيت أعز منه حين ولّى ولا أذل مني حين بقيت ألتقط الدراهم؛ قال: جلست ألتقط دراهمي من بعده. 

يقول له: هناك وجه وجهك إليه، واسأله هو وحده، ولا تعلق قلبك بغيره، واستحي عند بيته تلتفت إلى غيره -جل جلاله- ويكون طيب النفس بما أنفق.

 

وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

أسرار الحج

 

"وأما أسراره فكثيرة، نرمز إلى فنين:

أحدهما: أنه وضع بدلاً عن الرهبانية التي كانت في الملل، كما ورد به الخبر، فجعل الله سبحانه الحج رهبانية لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فشرف البيت العتيق وأضافهُ إلى نفسه، ونصبه مقصداً لعباده، وجعل ما حواليه حرماً لبيته تفخيماً لأمره، وجعل عرفات كالميدان على فناء حرمه.

وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك ليقصده الزوار من كل فج عميق، شعثاً غبراً، متواضعين لرب البيت جل وعلا، خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته، مع الاعتراف بتنزهه عن أن يكتنفه بيت أو يحويه مكان، ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم. 

ولذلك وظف عليهم أعمالاً غريبة لا تناسب الطبع والعقل، ليكون إقدامهم عليها بحكم محض العبودية وامتثال الأمر من غير معاونة باعث آخر. وهذا سر عظيم في الاستعباد، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لبيك بحجة حقاً، تعبداً ورقاً".

 

الفن الثاني: أن هذا السفر وضع على مثال سفر الآخرة، فليتذكر المريد بكل عمل من أعماله أمراً من أمور الآخرة موازياً له، فإن فيه تذكرة للمتذكر وعبرة للمستبصر. 

فتذكر من أول سفرك عند وداعك أهلك ..وداع الأهل في سكرات الموت. 

ومن مفارقة الوطن.. الخروج من الدنيا. 

ومن ركوب الجمل.. ركوب الجنازة. 

ومن الالتفاف في أثواب الإحرام، الالتفاف في أثواب الكفن. 

ومن دخول البادية إلى الميقات.. ما بين الخروج من الدنيا إلى ميقات القيامة. 

ومن هول قطاع الطريق.. سؤال منكر ونكير. 

ومن سباع البوادي.. عقارب القبر وديدانه. 

ومن انفرادك عن أهلك وأقاربك.. وحشة القبر ووحدته.

ومن التلبية.. إجابة نداء داعي الله عز وجل عند البعث. 

وكذلك في سائر الأعمال، فإن في كل عمل سراً وتحته رمزاً، يتنبه له كل عبد بقدر استعداده للتنبه بصفاء قلبه وقصر همته على مهمات الدين".

 

قال: له "أسراره فكثيرة"، وفر الله حظنا منها.  قال: ترجع إلى فنّيْن وضع بدلاً عن الرهبانية التي كانت في الملل،  السابقة عند النصارى وغيرهم، فجعل الله سبحانه -لنا رهبانيتنا الجهاد، والتكبير على كل شرف في- الحج فهو رهبانية لأمة محمد ﷺ شرف الله البيت العتيق وأضافه إلى نفسه -تعظيمًا وتشريفًا- وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده -وتحريم قطع- وشجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك ليقصده الزوار من كل فج عميق، شعثاً غبراً، متواضعين لرب البيت جل وعلا، خضوعاً لجلاله -الله أكبر- واستكانة لعزته، مع الاعتراف بتنزهه عن أن يكتنفه بيت -جل جلاله- ليس كمثله شيء؛ ولا يحل في شيء؛ 

 

"ولذلك وظف عليهم أعمالاً غريبة لا تناسب الطبع والعقل"، يعني: العقل غير المنور، العقل المنور يعرف أسراره؛ يقول لك: طوف بالبيت، يدرج يدرج ما هذا؟ بين الصفا والمروة؛ روح وارجع؛ روح وارجع؛ ما هذا! وروح اقعد في عرفة، وتعال إلى هنا اقعد في مزدلفة، وتعال إلى منى وضع حجر هنا! ما هو هذا؟ هذا العبودية، تحقيق للعبودية للرب -جل جلاله- ويتحقق لك امتثال أمره -سبحانه وتعالى- قال: "وهذا سر عظيم في الاستعباد، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لبيك بحجة حقاً، تعبداً ورقاً"، اللهم صل عليه وعلى آله. 

ثم قال: "أن هذا السفر وضع على مثال سفر الآخرة"، تتذكر به أعمال الآخرة. 

"عند وداعك أهلك ..وداع الأهل -من تعرفهم- في سكرات الموت". 

 ومن مفارقة الوطن.. تتذكر الخروج من الدنيا. 

ركوبك على الجمل المركوب: تتذكر أنك تُركّب على الجنازة.

ومن الالتفاف في أثواب الإحرام، مثل الالتفاف في أثواب الكفن. 

ومن دخول البادية إلى الميقات.. -وما بين المشي إلى الوصول هناك كما بين الموت إلى وقت القيامة- ما بين الخروج من الدنيا إلى ميقات القيامة. 

ومن هول قطاع الطريق..والأسئلة في الطريق والتفتيش سؤال منكر ونكير. 

والمشاكل في الطريق تتذكر من سباع البوادي.. عقارب القبر وديدانه. 

ومن انفرادك عن أهلك وأقاربك.. وحشة القبر ووحدته.

ومن التلبية.. إجابة نداء داعي الله عز وجل عند البعث،  "يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ"[طه: 108].

بين الصفا والمروة؛ تتذكر ترددك بين كفتي الحسنات والسيئات يوم القيامة، "وكذلك في سائر الأعمال، فإن في كل عمل سراً وتحته رمزاً".

جعلنا الله في المقبولين، وقَبِلَ الحجاج والمعتمرين، وأشركنا ببركات دعائهم وحجهم وعمرتهم، وجعلنا من المقيمين لأمر شريعته على الوجه الأرضى له والأحب إليه  في لطف وعافية.

 بسر الفاتحة إلى حضرة النبيﷺ.

 

 

وأما قال: كل ما نازلك من التعب في الحج، تذكر أنه علامة القبول، فلا تقلق. 

بعضهم خرجوا من مكة ومعهم محمل على شقين، هذا في شق وذاك في شق. وبعدين صادف أن العود دق في رأس الذي في المحمل جنبه، قال: آه! مالك؟ دق. قال: علامة القبول. بعدين دقه ثاني مرة. قال: علامة القبول. ثالث مرة، قال: اسمع، بغينا قبولاً بلا علامة! كل ساعة تكسر رأسي وتقول لي علامة! قال: بغينا قبول بلا علامة. 

الله يجعلنا من المقبولين في لطف وعافية. ربنا تقبل منا في لطف وعافية، تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. 

تاريخ النشر الهجري

24 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

17 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام