(339)
(535)
(364)
الدرس السادس للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: في العلوم الظاهرة (الأصل الثاني: الزكاة والصدقة - الثالث: الصيام)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر السبت 22 صفر 1447هـ
يوضح كيف تتحوّل الزكاةُ والصدقةُ من إخراجِ مال إلى تزكية قلب.. يبيّن درجات المنفقين، سر صدقة السِّر، 5 آدابٍ تحفظ القَبول، مع قصص عن سخاء السلف، ثم يكشف سر الصيام؛ عبادة خفيّة "فإنه لي وأنا أجزي به" تُضيِّق مجاري الشيطان وتفتح أبواب الجنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبِسَندكم المتّصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الأصل الثاني
في الزكاة والصدقة
"قال الله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:261].
وقال رسولُ اللهِ ﷺ: "هَلَكَ الْأَكْثَرُونَ، إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا".
فاعلم: أنَّ إنفاق المال في الخيرات أحد أركان الدِّينِ، وإِنَّما سرّ التكليف به بعد ما يرتبط بهِ مِنْ مصالح البلاد والعباد، وسد الخَلَّاتِ والفاقات.. وأنَّ المال محبوبُ الخَلْقِ، وهم مأمورون بحب الله، ويَدَّعون الحبَّ بنفس الإيمانِ، فَجُعِلَ بذل المال معيارًا لحبّهم، وامتحانًا لصِدقهم في دعواهم؛ فإنَّ المحبوبات كلها تُبذل لأجل المحبوب الأغلب حبُّه على القلب، فانقسم الخَلْقُ فيه إلى ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: الأقوياء؛ وهم الذين أنفقوا جميع ما ملكوا، ولم يدّخروا لأنفسهم شيئًا، فهؤلاء صدقوا ما عاهدوا الله عليهِ مِنَ الحبّ، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه-؛ إذ جاء بمالِهِ كلّهِ، فقال له رسولُ اللهِ ﷺ: "مَاذَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟" فقال : الله ورسوله، وقال لعمر -رضي الله عنهُ-: "مَاذَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قال: مثلَهُ؛ أي: مثل ما أتيتُ بهِ ، فقال ﷺ : "بَيْنَكُمَا مِثْلُ مَا بَيْنَ كَلِمَتَيْكُمَا".
الطبقة الثانيةُ: المُتوسّطونَ؛ وهم الذين لم يقدروا على إخلاء اليد عن المالِ دَفعةً واحدةً، ولكن أمسكوه لا للتنعّم، بل للإنفاق عند ظهور محتاج إليه، فهم يقنعون في حق أنفسهم بما يُقويهم على العبادةِ، وإذا عَرَضَ محتاج.. بادروا إلى سد خُلَّتِهِ وحاجتِهِ، ولم يقتصروا على قدر الواجب مِنَ الزَّكَاةِ، وإِنَّما غَرضُهُمُ الأظهر في الإمساك ترصد الحاجات.
الطبقة الثالثة: الضعفاء؛ وهمُ المُقتصرون على أداء الزَّكَاةِ الواجبة، فلا يزيدون عليها، ولا ينقصون منها.
فهذه درجاتهم، وبذل كلّ واحدٍ على مقدار حبه لله، وما أراكَ تَقدِرُ على الدرجة الأولى والثانية، ولكن اجتهد حتَّى تجاوز الدرجة الثالثة إلى أواخر طبقات المقتصدين المتوسطين ، فتزيد على الواجب ولو شيئًا يسيرًا ؛ فإنَّ الاكتفاء بمُجرَّدِ الواجب حد البخلاء، قال الله سبحانه وتعالى: (إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) [محمد:37]، أي: يستقصي عليكم فتبخلوا.
فاجتهد ألا ينقضي عليك يوم إلا وتتصدَّقُ بشيء وراء الواجب ولو بكِسرة خبز، فترتفع بذلك عن درجة البخلاء.
فإن لم تملك شيئًا.. فليست الصدقة كلها في المال، لكن كلمة طيبةٌ، وشفاعة ومعونة في حاجة، وعيادة مريض، وتشييع جنازة، وفي الجملة: أن تبذل شيئاً ممَّا تَقدِرُ عليه؛ مِنْ جاه ونفس وكلام لتطييب قلب مسلم، فيُكتَبَ جميع ذلك لك صدقة".
الحمدلله مُكرِمنا بالتبيّن في معاني ما أنزل على عبده المصطفى المؤتمن، وصلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه ومن تابعه وسار في سبيله أقوم السنن، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين أعلى القنن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وابتدأ في الأعمال الظاهرة يذكر الأصل الثاني في الزكاة، بعد أن طاف بنا في الأصل الأول وهو ما يتعلق بالزكاة والمحافظة عليها من الثلاث وجوه:
أكرمنا الله بالمحافظة على الصلوات.
ويتكلم في هذا الأصل عن الزكاة والصدقة:
قال تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) [البقرة:261]؛ الحبة إذا جاءت سبع سنابل، بكل سنبلة مئة، صارت سبعمائة؛ جاء من الحبة سبعمائة، وكذلك حسنات المجاهد في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة؛ كل حسنة بسبعمائة، ومن نعمة الله علينا أنَّه إذا صحَّت النية في خروجنا لطلب العلم -مثل اجتماعنا هذا-، مَنْ صَحَّت منَّا نيته فهو في سبيل الله؛ الشاهد ما روى الإمام الترمذي في سننه: "من خرجَ في طلبِ العلمِ فهوَ في سبيلِ اللَّهِ حتَّى يرجعَ"، فيكون في أيامه كلها كالمجاهد في سبيل الله تتضاعف حسناته؛ الركعة بسبعمائة، والتسبيحة بسبعمائة، والآية بسبعمائة، والدرهم بسبعمائة، وكله بدل عشر تكون سبعمائة، تتضاعف إلى سبعمائة ضعف.
يقول: "وقال رسولُ اللهِ ﷺ: "هَلَكَ الْأَكْثَرُونَ،" يعني: من أرباب الأموال في الدنيا "إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا"." يعني أنفقه في أوجه الخير، أشار عن يمينه ويساره وأمامه وقال بالمال هكذا وهكذا وهكذا.
قال: "فاعلم: أنَّ إنفاق المال في الخيرات أحد أركان الدِّينِ،" أحد القُربات إلى الله تعالى من حاجة مسلم، بل ولو حيوان، ومن مصالح عامة للمسلمين إلى غير ذلك من أوجه الخير.
قال: "سر التكليف به بعد ما يرتبط بهِ مِنْ مصالح البلاد والعباد،" يترتب عليهم مصالح كثيرة للعباد في البلاد، حتى أنَّ الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء، وسدّ الخلات والفاقات، مع هذا ففيه سرٌ؛ وهو أنَّ الله حبب المال إلى النفوس، فالنفوس بطبيعتها تحب المال وملكه (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20] و "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابْتَغَى إليه ثانٍ، ولو كان عنده ثانٍ لابْتَغَى إليهما ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ"، فلمَّا جُعِلَ المال محبوبًا، ثم أنه تعرف إليهم سبحانه وتعالى وطلب منهم أن يحبوه، فلا يكون ترجمة للمحبة ولا دليل وبرهان إلا إنفاق المحبوب للنفس، بل وإنفاق النفس نفسها له ومن أجله (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم) [التوبة:111].
قال: "هم مأمورون بحب الله، ويَدَّعون الحبَّ بنفس الإيمانِ، فَجُعِلَ بذل المال معياراً" مقياسًا وميزانًا "لحبّهم، وامتحاناً لصدقهم في دعواهم؛ فإنَّ المحبوبات كلها تُبذل لأجل المحبوب الأغلب حبُّه" ما كان حبُّه أغلب فمن أجله تبذل بقية المحبوبات.
قال: "فانقسم الخَلْقُ" فيما يتعلق بالمال في حبهم لله تعالى على ثلاث درجات:
"الطبقة الأولى: الأقوياء؛ وهم الذين أنفقوا جميع ما ملكوا، ولم يدخروا لأنفسهم شيئاً،" كحال سيدنا أبي بكر الصديق -عليه رضوان الله تعالى-، وفيه نزل قوله تعالى لما ذكر النار: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ) [الليل:17-21] وذكر الواقعة التي حدثت في غزوة تبوك؛ ودعاهم إلى تجهيز جيش العسرة، فكلٌّ أحضر شيئًا، وأحضر سيدنا عثمان كثيرًا من المال، حتى قلَّب ﷺ بيده الدراهم التي جاءت من قبل عثمان حوالي ثمانين ألفًا، قلَّبها بيده قال: "ما ضَرَّ عثمانَ ما فَعَلَ بعدَ اليَومِ"، ثم جاء سيدنا عمر وجاء سيدنا أبو بكر، قال لسيدنا عمر: "ماذا تركت لأهلك وولدك؟" قال: نصف وتركت لهم النصف، جاء سيدنا أبو بكر قال: "مَاذَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟" فقال: الله ورسوله،"، أبقيت لهم الله ورسوله، ما تركت لأهلك وولدك؟ قال: الله ورسوله، ما ترك شيء أتى به كله.
كان قد أخذ ماله كذلك في أيام مكة وأنفقه، كان عنده ستة دكاكين في التجارة، فاضطر إلى إقفالها واحدًا بعد الثاني، ثم ما بقي من المال حمله معه في الهجرة وأخذه، وما عاد بقي شيء لأهله؛ تقول سيدتنا أسماء: لمَّا عَلِم بخروج ابنه، والده قبل إسلامه مع النبي ﷺ، جاء إلى عندهم قال: ما أظن أبا بكر إلا فجعكم بنفسه وماله -يعرف مسلك ولده-، قال: أظن ما بيخلي لكم؛ نفسه قد راح وحتى ماله لن يترك لكم شيئًا، وكان منزعجًا بحكم طبيعة النفس البشرية، فقالت سيدتنا أسماء: جئت إلى الكيس في البقعة التي كان يضع سيدنا أبو بكر فيها دراهمه -كان رف عندهم في البيت يضع فيه دراهمه-، قالت: فملأت الكيس حجر ووضعته وقلت له: ترك لنا؛ -وكان جدها أعمى- فجاءت بيده عليه، فقال: بس، ما دام ترك لكم هذا فلا بأس، وهو ما ترك لهم شيئًا؛ لكن ترك لهم عناية الله ورسوله، وما خيبهم الله، ولا أحد منهم مات جوع.
ومشى مع النبي ﷺ، وفي غزوة تبوك كان فعل هكذا، فجاء في رواية أبي نعيم في "الحلية" أول الحديث عندكم كما في التعليق في أبي داود والترمذي لكن "بَيْنَكُمَا مِثْلُ مَا بَيْنَ كَلِمَتَيْكُمَا" هذا في رواية أبي نعيم في الحلية، الفرق بين سيدنا أبو بكر وعمر؛ يقول: فأنفق ماله كله.
وهكذا قال الحبيب محمد بن صالح بن عبدالله العطاس، وقد على عادتهم الزرع من ثمر الطعام الذي يجعلونه قوتًا لعامهم، يجمعونه من الثمر أو البُر قوتًا للعام، فجاء له أخوه، وكان يشرف على المال، وبعد ذلك جاءه داعٍ لسفر، فقال: يا أخي تعال انظر هذا المال، لم نخرج زكاته بعد وأنا مسافر فأخرج الزكاة، وعجّل بها حتى لا نتأخر على إخراج الزكاة.
قال له: مرحبا، وتركه وسافر.
فلمَّا سافر أخوه نادى هذا في الجامع، قال: من كان محتاجًا من الفقراء وأهل الزكاة فعندنا زكاة تفضلوا، فجاءوا، فتح المكان وقال: خذوا، فأخذوا جميع ما في المخزن، ولم يبقَ ولا حبة، أخذوا جميع مافي المخزن وذهبوا، بعد مدة وصل أخوه.
قال: أخرجت الزكاة؟
قال: أخرجناها الحمد لله.
جاء شال المفتاح وخرج فلم يحصل شيئًا.
قال: ها، أين المال؟
قال: ألم تقل لي أخرج الزكاة؟
قال: زكاة كم؟ على مذهب من هذه الزكاة؟
قال: على مذهب أبي بكر الصديق.
قال: خلاص، أنا المجدوب يوم استأمنتك على المال وتركتك له، ربِّي سيعوضنا، نحن في السنة ذي من أين بتجيب لنا شيئًا نتقوت به؟ وأنا الذي تركتك للمال وأنت ما أنت حق مال، فكانت هكذا نفوسهم وسخاؤهم ودرجاتهم.
قال: "الطبقة الثانيةُ: المُتوسّطونَ؛" وهم عامة المؤمنين أو خواص منهم، والأولون خواص الخواص، ما أخلوا اليد عن المال دفعة واحدة، ولكن يمسكونه لا للترفه ولا للتكبر ولا للمفاخرة، بل لينفقوه عند ظهور الحاجة في أنفسهم، في قرابتهم، في جيرانهم، في حاجة عامة للمسلمين ينفقون، ويقنعون في حاجة أنفسهم بما يقويهم على العبادة ويتوسطون (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
"إذا عَرَضَ محتاج.. بادروا إلى سد خُلَّتِهِ وحاجتِهِ، ولم يقتصروا على قدر الواجب مِنَ الزَّكَاةِ، وإِنَّما غَرضُهُمُ الأظهر -الأقوى- في الإمساك ترصد الحاجات." وإنفاقها في أماكنها، وهؤلاء على درجة عالية، ويقول ﷺ : "ثلاثٌ من كنَّ فيهِ فقد وُقِيَ شُّحَّ نفسه: من أدَّى الزكاةَ، وقرَى الضَّيفَ، وأعطى في النَّائبِة"، "من أدَّى الزكاةَ، وقرَى الضَّيفَ، وأعطى في النَّائبِة" يكون ممن خرج عن شح نفسه (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
قال: "الطبقة الثالثة: الضعفاء؛" هؤلاء البخلاء "وهمُ المُقتصرون على أداء الزَّكَاةِ الواجبة، فلا يزيدون عليها، ولا ينقصون منها.
فهذه درجاتهم،" وأمَّا من دون ذلك فهو خروج عن أركان الإسلام وعن أداء الواجب.
قال: "وبذل كلّ واحدٍ على مقدار حبه الله،"، قال: "وما أراكَ تَقدِرُ على الدرجة الأولى والثانية، ولكن اجتهد حتَّى تجاوز الدرجة الثالثة إلى أواخر طبقات المقتصدين المتوسطين ، فتزيد على الواجب ولو شيئاً يسيراً؛ فإنَّ الاكتفاء بمُجرَّدِ الواجب حد البخلاء، قال الله سبحانه وتعالى:" (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) [محمد:36] "(إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد:37]، أي: يستقصي عليكم فتبخلوا ."
وتقولون لماذا؟ لماذا؟ إلا قليل (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) [النساء:66]، قال سيدنا رسول الله ﷺ أنَّ ابن مسعود من القليل، قال: "أنت من القليل"، قال: فما أحب لي بكلمة رسول الله حمر النعم.
قال: "فاجتهد ألا ينقضي عليك يوم إلا وتتصدَّقُ بشيء وراء الواجب ولو بكسرة خبز، فترتفع بذلك عن درجة البخلاء." وهكذا، وإن تيسر أن تكون في أول النهار فأفضل، في الخبر: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة"، إذا رأى أمامه الصدقة فإن البلاء لا يصيبه في ذلك اليوم، "فإن البلاء لا يتخطى الصدقة"، فيخرج ولو بكسرة خبز، ولو أي شيء يخرجه في اليوم، وإذا كان مبكرًا فهو أكثر.
"فإن لم تملك شيئًا .." فهناك أوجه للصدقة أخرى غير المال: الكلمة الطيبة، تشفع لأحد في حاجة، تعاون أحدًا في حاجة، تعود مريضًا، تشيع جنازة، تتكلم كلامًا طيبًا تطيب به قلب مسلم، تبذل شيئًا مما تقدر عليه من جاه ونفس وكلام لتطييب قلب مسلم، يكتب جميع ذلك صدقة؛ كما دل على ذلك الحديث الشريف.
زكَّى الله نفوسنا، وقد سميت زكاة؛ لأن فيها تطهير وتنمية، فالزكاة بمعنى النمو وبمعنى التطهير، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس:9] طهرها ونقاها، وتأتي أيضًا بمعنى: النمو؛ زكا الزرع أي: نما، فهي سبب لنمو المال وسبب لتطهير النفس عن الشح، ففيها الطهارة وفيها التنمية.
وكان لبعض المتأخرين عندنا من أهل العلم إذا ضاقت ذات يده وما عنده شيء، يتديّن ويتصدق، يتديّن، فتُقبل عليه الخيرات، تأتي له الخيرات، وجعل هذا عادة إذا ضاقت أموره يذهب فيتدين ويتصدق، فما يدري إلا والخير جاءه من هنا ومن هنا (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39] -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
قال المؤلف -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم الصالحين في الدارين آمين:
"وحافظ في زكاتك وصدقتك على خمسة أمور:
الأول: الإسرار، فإن في الخبر أن "صدقة السر تطفئ غضب الرب". والذي يتصدق بيمينه بحيث لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.. أحد السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله". وقد قال الله تعالى: (وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ).وبذلك تتخلص من الرياء؛ فإنه غالب على النفس وهو مهلك، ينقلب في القلب -إذا وضع الإنسان في قبره- في صورة حية تؤلمه إيلام الحية، والبخل ينقلب في صورة عقرب.
والمقصود من الإنفاق: الخلاص من رذيلة البخل، فإن امتزج به الرياء كان كأنه جعل العقرب غذاء للحية، فيخلص من العقرب ولكنه زاد في قوة الحية، إذ كل صفة من الصفات المهلكة في القلب إنما غذاؤها وقوتها في إجابتها إلى مقتضاها.
الثاني: أن تحذر من المنّ، وحقيقته: أن ترى نفسك محسنًا إلى الفقير متفضلًا عليه.
وعلامته: أن تتوقع منه شكرًا، أو تستنكر تقصيره في حقك، وموالاته عدوك، استنكارًا يزيد على ما كان قبل الصدقة، فذلك يدل على أنك رأيت لنفسك عليه فضلًا.
وعلاجه: أن تعرف أنه المحسن إليك بقبول حق الله تعالى منك، فإن من أسرار الزكاة تطهير القلب، وتزكيته عن رذيلة البخل، وخبث الشح، ولذلك كانت الزكاة طُهرة، إذ بها حصلت الطهارة، فكأنها إزالة نجاسة، ولذلك ترفّع رسول الله ﷺ وأهل بيته عن أخذ الزكاة وقال عليه السلام: "إنها أوساخ أموال الناس".
فإذا أخذ الفقير منك ما هو طُهرة لك؛ فله الفضل عليك. أرأيت لو أن فصّادًا فصدك مجانًا وأخرج من باطنك الدم الذي تخشى ضرره في الحياة الدنيا، أكان الفضل لك أم له؟ فالذي يخرج من باطنك رذيلة البخل وضررها في الحياة الأخرى أولى بأن تراه متفضلًا.
الثالث: أن تخرجه من أطيب أموالك وأجودها. قال الله تعالى: "وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ"[النحل:62]، وقال: "وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ" [البقرة:267] الآية. وقال ﷺ: "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب"، يعني الحلال. فإن المقصود من هذا إظهار درجة الحب، والإنسان يؤثر للمحبوب الأعلى الأنفس دون الأخس.
الرابع: أن تعطيها بوجه طلق مستبشر، وأنت بها فرحان غير مستكره. قال رسول الله ﷺ: "سبق درهم مئة ألف درهم"، وإنما أراد به: ما يعطيه عن بشاشة وطيب نفس من أنفس ماله وأجوده، فذلك أفضل من مئة ألف مع الكراهة.
الخامس: أن تتخير لصدقتك محلًا تزكو به الصدقة، وهو المتقي العالم، الذي يستعين بها على طاعة الله عز وجل وتقواه، أو الصالح المعيل ذو الرحم.
فإن لم تجتمع هذه الأوصاف فتزكو الصدقة بأحدها أيضًا. ورعاية الصلاح أصل الأمور، فإن الدنيا لم تخلق إلا بُلْغَةً للعباد وزادًا لهم إلى المعاد، فلْتُصرف إلى المسافرين إليه، المتخذين هذه الدار منزلًا من منازل الطريق. قال رسول الله ﷺ: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي"، وقال ﷺ: "أطعموا طعامكم الأتقياء، وأولوا معروفكم المؤمنين".
يقول: وعندك خمسة أمور ينبغي أن تحافظ عليها في الزكاة وفي الصدقة، تتم لك بها وتكون من المحافظين على الزكاة كالمحافظين على الصلاة.
"الأول: الإسرار،" بأن تحب أن تسر بها وألا تظهر ولا يفشو خبرها، "أن "صدقة السر تطفئ غضب الرب"" كما قال ﷺ، والحديث أيضًا نسبه عندكم إلى الإمام الترمذي من حديث سيدنا أنس يقول: "صدقة السر تطفئ غضب الرب" بشارة إلى مكانتها عند الله واستجلابها لرضوانِه سبحانه وتعالى.
قال: "والذي يتصدق بيمينه بحيث لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.. "..أحد السبعة الذين يظلهم الله -في ظل عرشه- يوم لا ظل إلا ظله". وقد قال الله تعالى:" (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) "(وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)." ولا يترجح الإظهار إلا في نادر من الأحوال لمن أمَّل الاقتداء وأمِن الرياء؛ من أمَّل الإقتداء؛ يقتدوا به الناس وبسبب إخراجه يخرج الناس الكثير من الصدقة لمَّا يرونه يتصدق، فيظهرها من أجل أن يتبعوه ويتصدقوا، وأمِن الرياء، فإذا أمَّل الاقتداء وأمِن الرياء فيكون إظهارها أفضل، وإلا فالستر هو الأفضل (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [البقرة:271].
قال: "وبذلك تتخلص من الرياء؛ فإنه غالب على النفس وهو مهلك،" يتحول رياء الإنسان في الصدقة وغيرها إلى حيّة تؤلمه في الآخرة وفي قبره وفي القيامة.
قال: "والبخل ينقلب في صورة عقرب." والبخل عن إخراج الصدقات المسنونة عقرب يلسعه، أمَّا البخل عن الواجب أيضًا يتحول، يطوِّق عنقه حيَّات كما جاء في الحديث، والشاهد قول الله تعالى فيمن يبخلون: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:180]، تُطَوق أعناقهم تلتوي أعلى رقبته الحية وتكلمه وتقول له: أنا مالك وكنزك الفلاني، ثم لا تزال تلسعه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
قال: فالذي تخلّص من البخل بإخراج المال ولكنه راءى به، كمن غذَّى الحية بالعقرب، قد خلص من العقرب لكن أمامه الحية أشد من العقرب؛ فبسبب الرياء في المال، تجد النتيجة عليه صعبة في المجازاة بقصد الخلق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
يقول: "عن الرياء؛ فإنه غالب على النفس وهو مهلك، ينقلب في القلب -إذا وضع الإنسان في قبره- في صورة حية تؤلمه إيلام الحية، والبخل ينقلب في صورة عقرب.
والمقصود من الإنفاق: الخلاص من رذيلة البخل، فإن امتزج به الرياء كان كأنه جعل العقرب غذاء للحية، فيخلص من العقرب ولكنه زاد في قوة الحية" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
يقول أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السر حتى تُوفي علي بن الحسين؛ كان علي بن الحسين يكفي مئة بيت أو مئتين بيت نفقة كاملة من الفقراء، ولا يدرون من ينفق عليهم.
بنفسه يسري في الليل ويحمل الطعام على ظهره، ويأمر فقط مواليه ومماليكه، يقول لهم: حمِّلوها فوقي،
يقول له: أنا أحمل عنك.
فيقول: لا، أأنت تحمل عني ذنوبي يوم القيامة؟
يقول: لا.
يقول: إذًا اقعد محلك.
وهو يسري ويدور على البيوت، وجعل له جدولًا بحيث أنَّه لا ينتهي أهل هذا البيت من الطعام الذي جاء به لهم إلا وجاء بالمرة الثانية ووضعه لهم، فيصبحون في الفجر يحصِّلون الطعام عند الباب ويدخلونه ويكفيهم، لا ينقضي إلا وقد عاد ثاني مرة، فما يدرون من ينفق عليهم حتى توفي، فانقطع ذلك، وكان على ظهره محل الحمول؛ سواد في ظهره مما يحمل في الليل، ومعه ألف ركعة وقرآن يتلوه ومعه أذكار ويدور على البيوت يخرج الصدقة.
فلمَّا توفي، ظهر سُؤّال كثير في المدينة، أهل المدينة يقولون: من أين جاءوا هؤلاء؟ ليس لدينا سائلين بهذه الصورة في المدينة؟ أهم غرباء؟ قالوا: لا يوجد غرباء هم نفسهم كانوا هنا،
قالوا: كنا نجد النفقة وما ندري ممن، فعرفوا أنَّها من علي زين العابدين -عليه رحمة الله تعالى-.
وهكذا يبالغون في قصد وجه الله تبارك وتعالى، "صدقةُ السرِّ تطفئُ غضبَ الربِّ"، ويرون الفضل للمسكين الذي كان سبب حمل زادهم إلى الدار الآخرة.
وهكذا يقول أحد أصحابنا: كان عند الحبيب عبد القادر السقاف -عليه رحمة الله- في جدة في وقت الضحى، جاء واحد من أهل الأموال معه كيس حامله فيه مليون ريال سعودي، ودخل وقال: تفضلوا بقبول هذا يا حبيب، وخرج.
فلمَّا خرج قال: شوفوا السائق فلان -سائق سيارتهم-، قل له: يجهز السيارة.
جهّز السيارة، وقال له: احمل الكيس، وحمله، ودخل وضعه عند رجليه، ودار على بيوت يعرفها هناك في جدة، قال: كلمَّا وصل عند بيت يقول: انظر الشقة الفلانية في الدّور الفلاني هناك أيتام، يأخذ دفعة ويقول: ناوِلهم إياها، في عمارة ثانية يقول: في الدور الفلاني شايب، وجاء في محل ثاني يقول: انظر في الشقة الفلانية في الدّور الفلاني أرامل -لكن ما يفتحن لأحد هنّ نساء- ضعوه عند الباب، تحت الباب فيه مدخل أدخِل هذا من تحت الباب.
قال: دار بنا في جدة من مكان لمكان إلى بعد الظهر، أذّن الظهر ونحن ندور، نحن وإياه رجع إلى البيت للصلاة والغداء. قال: هل بقي شيء في الكيس؟
قال: لا.
قال: هاته، حمله وقال بيده هكذا -حرَّك الحبيب يديه-، قال: اللهم اشهد، اللهم اشهد.
ودخل، صلى وجابوا له الغداء، ذاك اليوم الغداء لا فيه لخم -سمك مجفف- حق الحضارم ولا خصار -لا سمك ولا لحم-، وقعد يتغدا -عليه رضوان الله-.
يقول: كنت عنده يوم بلغه خبر قالوا إنَّ الشيخ محمد متولي الشعراوي سُرِقت عليه من مسكنه ثلاثون ألف جنيه، الجنيه المصري ذاك اليوم كان سعره لا بأس مرتفع، قال: لمَّا حدّثه الحبيب عبد القادر تغيّر وجهه، فظننّا أنَّه زعلان كيف يروح المال على الشيخ، أخرج مذكرة من جيبه وحمل السماعة يتصل بالشيخ، كلّمه وقال: بلغنا أنَّه حصل عندكم حادث، سُرق عليكم مال.
قال الشيخ: هذا المال جاء به بعض المتصدّقين للفقراء في القرية، وكنا سنُرسله في اليوم الثاني.
قال سُرَّ عن الحبيب عبد القادر واستنار وجهه، وقال: الحمد لله يا شيخ محمد، ما خيّب الله ظنّنا فيك، قالوا لي سُرقِت ثلاثين ألفًا من الشعراوي، قلت: كيف يبيت الشعراوي وعنده ثلاثين ألف، ما يبغى ثلاثين ألفًا يخلِّيها؟ لكن الحمد لله هي ليست لك، قال: لا، للفقراء، الحمدلله.
نحن ظنَّنا أنَّه زعل لمَّا سُرق المال، وإذا به زعل كيف يبيت عند الشيخ مثل هذا المبلغ وسط بيته، لماذا وماذا يريد به؟ قال: الحمد لله ما خيّب الله ظننا فيك يا شيخ محمد.
قال: جاءت أمانة وكنا سنوصلها للقرية للفقراء، عدا أحد في الليل وسرقها، فهكذا نظرتهم، آثار محبتهم لله أثَّرت عليهم في نظرهم إلى الأشياء.
"قال: الثاني، يحذر من المنّ، -لا يَمُّن بالصدقة على أحد- بأن ترى نفسك محسنًا للفقير. قال: علامته أن تتوقع منه شكرًا، -وأنه يحترمك ويقوم لك ويقدمك، لم؟ لأنك أعطيته، وأنه يواليك ولا يقف مع عدوك، وتستنكر أن يحصل منه ذلك- استنكارًا يزيد على ما كان قبل الصدقة".
قال: هذا دليل على أنك منّان بالصدقة. والمنانون بالصدقة تُحبَط أعمالهم، بل يتعرضون بكثرة المنّ أن (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران:77].
"قال: فتعرف أنه المحسن إليك بقبول حق الله تعالى". فكان إذا وقف سائل على بيوت بعض العارفين في القرون الأولى يقول: أهلًا بمن جاءني يحمل زادي إلى الآخرة مجانًا، قال: جئت تحمل زادي مجانًا للدار الآخرة؟ تفضل، مرحبًا بك، فيرى الفضل له.
"قال: فهو المحسن إليك بقبول حق الله تعالى منك، فإن من أسرار الزكاة تطهير القلب وتزكيته عن رذيلة البخل وخَبَث الشح، فكانت الزكاة طُهرة، فكأنها إزالة نجاسة. ولذلك ترفع سيدنا محمد ﷺ وأهل بيته عن أخذ الزكاة، وقال: "إنها أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد". فإذا أخذ الفقير ما هو طُهرة لك، فله الفضل عليك". كمثل فصّاد فصدك مجانًا، أخرج من بدنك الدم الذي تخشى ضرره، الدم الزائد عن الحاجة يضر جسدك ويضر صحتك، فالفضل لك أم له؟ ما طلب منك أجرة ولا شي، أخرج منك المادة التي يضر قلبك وتقطعك عن ربك بسبب أخذه للزكاة، فالفضلُ له. فاشهد الفضل للآخذ، وهناك خطر كبير في المنّ بالصدقة، كأنه رأى نفسه مالك مع الله الملك، الملك إلا أنت ومالك إلا ملك له، فإذا وفقك للصدقة، ضاعف خيره عليك ونعيمه عليك، فتحتاج أن تتواضع أكثر وتشكر أكثر. فإذا رأيت الفضل لك، فكأنك جعلت نفسك مالك معه، وأنت لست بشيء (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [المائدة :120]. أنت ومُلكك ملك لله تبارك وتعالى.
فإذا وفقك للصدقة، فالمنّ له جل جلاله وتعالى في علاه.
"ثم الثالثة: تخرجه من أطيب المال، تختار الأحسن. قال الله عن الكفار: "وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ". وقال: "وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ" [البقرة :267]". ولما قدّم ابنا آدم القربان، قصّ الله علينا نبأهما في القرآن الكريم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا" [المائدة :27]"، فهابيل قدم أحسن ما عنده وأغلى ما عنده، وراح قابيل جاب أردأ ما عنده من الطعام وقدمه، "فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ" [المائدة:27]. كما ذكر الله لنا قصتهما، فإن المقصود، (إنّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا)، إن المقصود أن يظهر درجة المحبة، والإنسان يُؤثر الأحبّ إليه، الأنفس والأحسن. قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر:9].
"الرابع: أن تعطي بوجه طلق مستبشر"، فرحان غير مستكره، فهذا يعظم به الثواب. "سبق درهم مئة ألف درهم". قال: ما يعطى عن بشاشة وطيب نفس وإخلاص لله تعالى من أنفس المال وأجوده يزيد على مئة ألف مع الكراهة ومع الاستثقال". ولكن يعطيها طيّبة بها نفسه، حتى جاء في عدد من الروايات: "وأدى الزكاة طيبةً بها نفسه"، فرحان بالإنفاق في سبيل الله والإخراج. فكذلك الصدقة، تُخرجها وأنت طيب النفس بها، وتتعلم ذلك قد يكون النفوس جُبِلت على الشُّح، ولكن السخاء بالتَّسَخّي، تتسخى حتى تصير سخيّ.
"الخامس: تتخير لصدقتك محلًا تزكو به الزكاة، مثل المتقي العالم الذي يستعين بها على طاعة الله عز وجل، أو الصالح المُعيل ذو الرّحم"، أو الأشد حاجة، أو أشد كربة، فيعظم بذلك الثواب والأجر. وفي الحديث أن "الذي سقى الكلب في وقت العطش غفر الله له بسقي الكلب". ولكن إذا اجتمعت الحاجة مع الصلاح والتقوى، ومن يصرفها في طاعة الله تعالى، يعظم الخير ويعظم الأجر.
وهكذا، يروى أن أحد الملوك كان يقال له الحبّوذي، أخرَج ليلة وهو في الحَرم صدقات كثيرة، وخطر على باله يقول: ما أظن أن أحدًا الليلة تصدق بصدقة أعظم من الصّدقات التي أخرجتُها لله تعالى. وخطر عليه هذا الخاطر وهو يطوف بالكعبة، فأراد الله أن ينبّهه -عناية من الله تعالى- حتى لا يغتر ولا يمنّ، فسمع هاتفًا يقول: فلان بن فلان باكزبور -في قرية من قرى حضرموت- تصدق الليلة بصدقة أفضل عند الله من صدقاتك. سمع الهاتف، وعزم بعدما أكمل الحج وخرج إلى حضرموت، وجاء إلى بلدة الهجرين التي فيها باكزبور. سأل عنه قالوا باكزبور رجل فقير، قال: أنا أريد عنده، فجاء إليه، وجده يعمل بخوص النخل يصلّح به الحصير ويبيعه. فجاء له في الليل، ومعه قُرص خبز، قَسمه نصفين، أعطاه نصفه، وفنجان قهوة، هذا الذي عنده. عرض عليه مال رفض، قال: تبيعنا ثواب الصدقة التي تصدقتَ بها الليلة الفلانية؟ بما تريد. ضحك الشيخ وقال: الهاتف الذي سمعته عند الكعبة أنا سمعته أيضًا، ولا أبيعك ثواب الصدقة. قال: قل لي ما هي الصدقة؟ قال: مثل هذا، شفت؟ ذاك الليل ورد إلى البلد رجل بينه وبين الله حال، وما أحد ينتبه له، أخذته فجئت به إلى البيت وأعطيته مثل هذه الكِسرة التي أعطيتك، ولكنها تضاعفت عند الله، ولا أبيعك ثواب صدقتي لكن أنتَ تعرَّض، تعرض ربما تقع صدقتك في يد أحد مثل هذا الرجل، وربي يرفع لك الثواب. فبنى هذا الملك عددًا من البيوت في عدد من المدن وجعلها للغرباء، وقال: لعل ليلة يأتي أحد مثل هذا الرجل فتضاعف بسببه الصدقة هذه المضاعفات الكثيرة، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء) [البقرة:261].
وقد نقل الإمام السيوطي في "بغية المسترشدين" درجات مضاعفة الصدقة من عشرة إلى سبعين إلى سبعمائة ألف ضعف، وذكر أن ثواب الصدقة خمس أنواع:
ومنها أيضًا صدقة كانت سببًا لهداية أحد، أو عفاف أحد تتضاعف به الصدقة.
وذكر النبيّ ﷺ فيما صحّ في الحديث قصة الرجل الصالح من بني إسرائيل الذي أراد صدقة السرّ، فجمع له بعض المال وخرج في ظُلمة الليل، فوجد شخصًا يمشي فرمى له بالمال، فأصبح أهل المدينة يتحدّثون: "تُصُدِّق البارحة على سارق". واحد جاء يسري في الليل وهو يسرق، لكن الرجل رمى له المال، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ نيتي غير صالحة ووقع المال في يد سارق، وقال لا حول ولا قوة إلا بالله.
فرجع وجمع مالًا ثانيًا واجتهد في إصلاح نيته، وخرج في ظلمة الليل ورأى شخصًا فرمى له بالمال، فأصبح أهل المدينة يتحدثون: "تُصُدِّق البارحة على بغي" -زانية-؛ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا لستُ مخلصًا ولا صادقًا وقع في يد هذه؟
فجمّع المال مرة ثالثة وخرج في الليل ورأى شخصًا في الظلمة فرمى له المال، فإذا به ثري من أثرياء البلد. أصبح الناس يتحدثون: "تُصُدِّق البارحة على غني". فقال: "الحمدلله على سارق وبغي وغني". فأوحى الله إلى نبيهم في ذاك الزمان: قل لفلان بن فلان إن الله قَبِل صدقتك، وأنّ السارق تاب بعد صدقتك، فلك ثواب توبته أعظم من ثواب الصدقة. وأن البَغِي تابت بعدما أعطيتها، فلك ثواب عظيم. وأن الغنيّ اعتبَر فصار يتصدق، ما كان يتصدّق، وكل صدقاته لك مثل ثوابها. بسبب إخلاصه لوجه الله، ما راحت الصدقة. ظاهرها مشكلة، ولكن داخلها فضل من الله تعالى، اختار له ما ينمو به الثواب وما يتضاعف له الأج، سبحانه وتعالى وهكذا معاملته لكل صادق معه، يتخيّر له ربك أحسن الأشياء من وراء العقل، فتجيء أموره صالحة على حسب صدقه مع الله تعالى.
قال: "تتخير لصدقتك محلًا تزكو بها الصدقة،… فإن لم تجتمع هذه الأوصاف، تزكو الصدقة بآحادها أيضا"؛ مجرد أنه معيل لأسرة كبيرة، أو أنه من ذوي الأرحام أو ما ذكره السيوطي مما استخرجه من الأحاديث،
"ورعاية الصلاح أصلُ الأمور"، يُقال (لا يأكل طعامك إلا تقيّ ولا تأكل إلا طعام تقيّ). "فإن الدنيا لم تُخلق إلا بلوغًا للعباد وزادًا لهم للمعاد، تُصرف إلى المسافرين إليه سبحانه وتعالى، متخذين هذه الدار منزلة من منازل الطريق، (لا يأكل طعامك إلا تقيّ ولا تأكل إلا طعام تقيّ) رواه أبو داود والترمذي. قال ﷺ (أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين"، أي ترتفع لكم الدرجة ويعظم الثواب.
قال المؤلف -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم الصالحين في الدارين آمين:
الأصل الثالث
في الصيام
"قال رسول الله ﷺ: "يقول الله سبحانه: "كل حسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به".
وقال ﷺ: "لكل شيء باب، وباب العبادة الصوم".
وإنما كان الصوم مخصوصًا بهذه الخواص لأمرين:
أحدهما: أنه يرجع إلى كفٍّ؛ وهو عمل سرّي، لا يطّلع عليه غير الله تعالى، لا كالصلاة والزكاة وغيرهما.
والثاني: أنه قهرٌ لعدو الله تعالى؛ فإن الشيطان هو العدوّ، ولن يقوى العدو إلا بواسطة الشهوات، والجُوع يكسر جميع الشهوات التي هي آلة الشيطان؛ فلذلك قال رسول الله ﷺ: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيّقوا مجاريه بالجوع".وهو سرّ قوله ﷺ: "إذا دخل رمضان.. فُتحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النيران، وصُفدت الشياطين، ونادى منادٍ: يا باغي الخير؛ هلمّ، ويا باغي الشر؛ أقصر".
قال الأسل الثالث في الصيام، رزقنا الله صيام الفرض في رمضان ووفقنا للصيام في الليالي والأيام.
"قال: كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، قال ربنا: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به". قال: لا تحسبوه لا بعشرة ولا بعشرين ولا بمئة ولا بسبعمائة، أنا أجازي بنفسي على هذا الصوم. فيا فوز من قَبل الله منه الصوم. وقال ﷺ: "لكل شيء باب وباب العبادة الصوم"، رواه ابن مبارك في الزُّهد.
الصوم مخصوص بهذه الخواص لماذا؟ "فإنه لي"، لأنه يرجع إلى كفّ، وهو ترك المفطرات، والكفّ أمر سرّ بينك وبين الله تعالى لا يطلع الخَلْق عليه، فلذا عظم شأن الصوم، وكان فيه نسبته إلى الله إضافة تشريف. "فإنه لي وأنا أجزي به" مع أن كلّ الأعمال لله تُعمل جميع العبادات؛ ولكن راجع أمره إلى سرّ وهو الكفّ، وكذلك فيه قهرٌ لعدو الله، لأنه فيه غَلبة إرادة المؤمن على شهواته. وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وتضيق مجاريه بالجوع، فهو إذًا عُدّة كبيرة لنجاح المؤمن في جهاده وقهر عدوّه الذي يصدّه عن سبيل الله تبارك وتعالى.
قال؛ "والجُوع يكسر جميع الشهوات التي هي آلة الشيطان"، فلذلك "قال رسول الله ﷺ: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيّقوا مجاريه بالجوع"
وبذلك خُصّ رمضان الذي فُرض فيه الصيام بخصائص كبيرة:
"ونادى منادٍ كل ليلة من ليالي رمضان: "يا باغي الخير -هلمّ، أقبل، فالبساط بُسط والباب فُتح والخيرات كثيرة- ويا باغي الشر أقصِر"، فهذا وقت الإنابة والتوبة، ولا تصر على غفلتك فتهلك -والعياذ بالله تعالى-.
بارك الله لنا ولكم في الأيام والأشهر، ورزقنا اغتنامها، وبلغنا رمضان وأعاننا على الصيام والقيام، وحفظنا من الآثام. والله أعلم.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
نسألك بحق محمد إلا ما غفرت لنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا واستر لنا عيوبنا، وزدنا علما، وزدنا معرفة، وزدنا إنابة، وزدنا توفيقا، نوِّر لنا قلوبنا وصفّها وطهّرها عن الشّح وجميع الشوائب، وارفعنا إلى عليّ المراتب وأنظمنا في سلك عبادك الأطايب، وزدنا من فضلك ما أنت أهله.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة.
24 صفَر 1447