للاستماع إلى الدرس

الدرس الخامس للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: في العلوم الظاهرة (الأصل الأول: الصلاة)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

(لمشاهدة تكملة الدرس على اليوتيوب)

فجر السبت 22 صفر 1447هـ

يُشبّه في الدرس صلاتَك بهديّةٍ تُقدَّم لملكٍ عظيم: النيّة والإخلاص روحُها، والأركانُ أعضاؤها، والأذكارُ أسماعُها وأبصارُها، وحضورُ القلب بصيرتُها؛ فإذا غابت الروح أو نقصت الأعضاء فأنّى يُرتجى القَبول؟ ويبيّن طريق إقامتها لا مجرّد أدائها: المحافظة على الطهارة، ثم سنن الصلاة وأذكارُها وآدابُها، ثم معرفةُ المعاني وحضورُ القلب، إذ لكلِّ سنّةٍ سرٌّ وأثرٌ في تقريب القلب إلى الربّ.

 

نص الدرس المكتوب:

الحمدلله أكملنا القسم الأول من هذا الكتاب المبارك العظيم، وهو ما يُميِّز المؤمن فيما يجب عليه اعتقاده ويتميز به عن جميع الكافرين والزائغين والضالين والمبتدعين؛ ولكن هذا الاعتقاد لهم فيه درجات، من خرج عن هذا خرج عن دائرة السنة، وعن دائرة الإسلام في إنكار شيء من المعلوم من الدين بالضرورة في هذه الاعتقادات.

 

وأقل الدرجات فيها درجات الجزم، الجزم بأنها حق وأن الأمر هكذا، فهذا أقل الدرجات ويدخل صاحبها في عموم المؤمنين.

وله وراء ذلك قوة إيمان يصل به إلى ما يسمى علم اليقين، واليقين أشرف ما نزل من السماء إلى الأرض. 

وبعد ذلك، هذا في علم اليقين يستنشق روائح المعرفة، لأنه فرق بين قوة الاعتقاد وصدقه وبين المعرفة والذوق، فيستنشق روائح المعرفة من خلال علم اليقين حتى يقف على باب المعرفة الخاصة ويُزَجُّ به إلى عين اليقين. 

هناك عين اليقين، وأرباب المعرفة فيها وخواصهم يرتقون إلى رتبة حق اليقين، وهم الأنبياء وكُمَّل ورثتهم من الصدّيقين، فيتحول جميع هذا الاعتقاد المذكور عندهم إلى حق يقين. 

فالله يكرمنا وإياكم باليقين وعلم اليقين وعين اليقين ويلحقنا بأهل حق اليقين، ويوفر حظنا من الإيمان في كل شأن ويزيدنا إيماناً في كل آن، إنه أكرم الأكرمين.

 

الآن ننتقل إلى القسم الثاني، باسم الله اقرأ.

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتّصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

 

القسم الثاني في الأعمال الظاهرة وهي عشرة أصول.

الأصل الأول في الصلاة. 

 

 

"قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه:14].

وقال النبي ﷺ: "الصلاة عماد الدين". 

 فاعلم: أنَّكَ في صلاتك مناجٍ ربك، فانظر كيف تصلي، وحافظ فيها على ثلاثة أمور؛ لتكون من جملة المحافظين على الصلاة والمقيمين لها؛ فإن الله تعالى إنما يأمرُ بالإقامة؛ فيقول: (أَقِمِ الصَّلَاةَ)، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وليس يقول: صلِّ.

  ويثني على الحافظين على الصلاة؛ فيقول: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[الأنعام:92]. 

 

الأول: المحافظة على الطهارة؛ بأن تُسبغ الوضوء قبل الصلاة، وإسباغها: أن تأتي بجميع سننها وأذكارها المروية عند كل وظيفة منها، وتحتاط أيضاً في طهارة ثيابك، وطهارة بدنك، وطهارة الماء الذي تتوضأ به احتياطاً لا يفتح عليك باب الوسواس؛ فإن الشيطان يوسوس في الطهارة؛ ليُضيِّع أكثر أوقات العبادة.

   واعلم: أن المقصود من طهارة الثوب؛ وهو القشر الخارج، ثم من طهارة البدن؛ وهو القشر القريب.. طهارة القلب؛ وهو اللُّبُّ الباطن، وطهارة القلب عن نجاسات الأخلاق أهم الطهارات، كما سنذكره في القسم الثالث.

  لكن لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثيرٌ في إشراق نورها على القلب؛ فإنك إذا أسبغت الوضوء، واستشعرت نظافة ظاهرك.. صادفت في قلبك انشراحًا وصفاءً كنتَ لا تصادفه من قبل، وذلك لسرّ العلاقة التي بين عالم الشهادة وعالم الملكوت؛ فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة، والقلب من عالم الملكوت بأصل فطرته، وإنما هبوطه إلى عالم الشهادة كالغريب عن جبلته. 

  وكما تنحدر من معارف القلب آثارٌ إلى الجوارح.. فكذلك قد يرتفع من أحوال الجوارح أنوارٌ إلى القلب، ولذلك أُمِرَ بالصلاة مع أنها حركاتٌ للجوارح التي هي من عالم الشهادة، ولذلك جعلها رسول الله ﷺ في الدنيا ومن الدنيا؛ قال: "حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث…" الحديث.

   فلا تستبعد أن يفيض من طهارة الظاهر أثر على الباطن؛ ففي بدائع صنع الله تعالى أمورٌ أعجب من هذا؛ إذ قد عُرف بالتجربة: أنّ المجامِع في حال مباشرته لو أدمن النظر إلى بياضٍ مُشرق، أو حُمرةٍ قانية، حتى غلبت تلك الصورة على نفسِهِ.. مال لون المولود إلى ذلك اللون الذي غلبت عليه نفسُهُ، وأن الجنين أول ما يتحرك في البطن تميل صورته إلى الحسن، إن كانت الأم مشاهدة في تلك الحالة لصورة حسنة، بحيث غلبت تلك الصورة على نفسها. 

ولذلك أمر رسول الله ﷺ المباشِر عند مباشرته أن يحضر في قلبه إرادة صلاح المولود، ويدعو الله بذلك فيقول: "اللهم؛ جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا"؛ حتى يفيض الله سبحانه وتعالى مبادئ الصلاح على الروح التي يخلقها عند إلقاء البذر في محل الحرث بواسطة الصلاح الغالب على قلب الحارث؛ كما يفيض الله سبحانه النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الأجسام المحاذية للمرآة. 

  وهذا الآن يقرع باباً عظيمًا من معرفة عجائب صنع الله في الملك والملكوت، وإلى قريب منه يرجع سرُّ الشفاعة في الآخرة، فلنتجاوزه، فغرضنا الآن ذكر الأعمال دون المعارف".

 

الحمد لله، ابتدأ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في ذكر الأعمال الظاهرة ولها اتصالات بالباطن، وهي أساسيات للمؤمنين وللمسلمين في معاملتهم للحق تبارك وتعالى، وضبط جوارحهم وقوالبهم وأجسادهم وحسهم وظاهرهم؛ بما يقتضي صفاءً ونقاءً وضبطاً في الباطن، وذلك يقتضي قرباً من الحق ومعرفة به -سبحانه وتعالى-.

فابتدأ في الأصل الأول بالصلاة التي هي أعظم الأركان بعد الشهادتين، فما ذكر في القسم الأول المتعلق بمعنى الشهادتين، والآن ذكر أصل الصلاة التي هي أعظم الفرائض العملية في دين الله تعالى العملية. 

ومعلوم أن جميع ما فُرض علينا ووجب علينا كان ينزل بالأمر به عن الله -تعالى- جبرائيل إلى نبينا محمد ﷺ، لكن الصلاة حين أراد الله فرضها لم يجعل الواسطة فيها جبريل وأنزل فرضه، ولكن رفع عبده المصطفى محمد إلى السماوات العُلى وفوقها وإلى العرش، وهناك فرض عليه الصلوات مباشرة، وجاءنا بها من عند الله -سبحانه وتعالى- ميزة وخصوصية لهذا العمل العظيم؛ الذي هو باب الدخول إلى الحضرة والقرب الخاص من الحق -تبارك وتعالى- الصلاة.

 

ولم يزل منبهاً عليها، مذكراً بمهماتها وواجباتها ﷺ إلى حين وفاته، وكان يقول: "الصلاة، وما ملكت أيمانكم"، إذاً معاملتنا مع الحق بقوله: "الصلاة"، ومعاملتنا مع الخلق بقوله: "وما ملكت أيمانكم"، صلوات ربي وسلامه عليه.

 

يقول: قال الله تعالى:  في خطاب سيدنا موسى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه:14]،الله أكبر.

ليستقر في قلب المؤمن ذكر ربه فيكون غير غافل عنه، ولا منقطع بما يصادفه في الحياة من أقوال وأفعال وأفكار ومعاملات، فرتب هذه الصلوات الخمس ليكون ذاكراً.

(وُأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)، أي: لتتحقق بحقائق الذكر لي.

وبعد ذلك له معنى آخر: أقم الصلاة لتحظى بشرف ذكري لك. 

(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)، لتنال رتبة ومزية أن تكون مذكوراً عندي بالذكر الجميل الذي أذكر به من أحب. 

(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)، لتحوز وتنال منزلة ذكري إياك بالذكر الجميل. 

الحق يذكر من ذكره، ومن أعلى مراتب الذكر الصلاة التي هي قرة عين المصطفى ﷺ، وقرة عين ورثته على حسب إرثهم. 

فيها يذكر الله -تعالى- عبده في قيامه، في ركوعه، في سجوده، ذكراً جميلاً حسناً لائقًا بجود الله وكرمه، تعود منه العوائد وعظيم الفوائد على ذلك العبد المذكور للإله البر الشكور جل جلاله.

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)، فالمصدر في قوله: 

(لِذِكْرِي)، يُنسب إما إلى الفاعل أو إلى المفعول.

(لِذِكْرِي) لتقوم أنت بذكري وتتصل بي ولا تنقطع عني. (لِذِكْرِي) لتنال شرف ذكري لك ونظري إليك وتحنني عليك.

 

"وقال النبي ﷺ: "الصلاة عماد الدين". 

"فاعلم: أنَّكَ في صلاتك مناجٍ ربك، فانظر كيف تصلي"، ولذا كان زين العابدين علي بن الحسين -عليه رحمة الله-، كلما قام إلى الصلاة يرون تغير وجهه وتلوُّنه واصفراره، فيُسأل: ما الذي يعتريك عند القيام إلى الصلاة؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي؟ أتدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي؟ هيبة الحق الملك الأعظم الذي يُدخل إلى حضرته بواسطة الصلاة.

"مناجٍ ربك، فانظر كيف تصلي"

فذكر المحافظة على ثلاثة أمور، وربطها بقوله:

  • (عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المعارج:34].
  • وفي الآية الأخرى: (عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[المؤمنون:9].
  • وذكرها في عدة مواطن في القرآن الكريم، ومنها في سورة المؤمنون وفي سورة المعارج.
  • وهذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[الأنعام:92].

قال: تكون محافظاً على الصلاة إذا حافظت على ثلاثة أمور، إذا انتبهت لها وحافظت عليها فأنت من المحافظين على الصلاة.

يقول: فليس المراد من الصلاة مجرد هذه الحركات الجسدية، فإنما هي وسيلة لنيل المقصود من فرض الصلاة.

 ولهذا يقول إن الحق تبارك وتعالى ما قال: صلوا، وبس! بل قال:(أَقِمِ)، (أَقِمِ الصَّلَاةَ)، (وَأَقِيمُوا). فرق بين مجرد صلاة إقامة، الإقامة لها أداؤها على الوجه الأمثل واستكمال مهماتها وواجباتها إقامة.

ولهذا قال تكون محافظاً لها ومقيماً لها إذا حافظت على ثلاثة أمور، "لتكون من جملة المحافظين على الصلاة والمقيمين لها، فإن الله تعالى إنما يأمرُ بالإقامة فيقول: (أَقِمِ الصَّلَاةَ)، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وليس يقول: صلِّ"، ليست مجرد صلاة أقيموا وإقامة..

فهكذا جاءت الألفاظ في القرآن الكريم، فإقامتها أداؤها على الوجه الأتم. 

 قال: "ويثني على الحافظين على الصلاة؛ فيقول: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [الأنعام:92]"

 

فالمحافظة ثلاث أشياء: 

"الأول: المحافظة على الطهارة". 

"الوضوء مفتاح الصلاة"، صلح المفتاح ليحسن الفتح، تفتح باب الصلاة بالطهارة، والطهارة حسنة والطهارة كاملة، يعني تحسن الوضوء. 

هذا الذي سمعتم قول السيدة نفيسة -عليها رحمة الله- في عقلها وعلمها في ثنائها على سيدنا الشافعي عندما توفي، وحملوا جنازته إلى بيتها لتصلي عليه، صلت عليه وقالت: رحم الله محمد بن إدريس الشافعي، إنه كان يحسن الوضوء.

ولا ذكرت من أوصاف الشافعي في علمه ومجاهداته وزهده وعمله إلا هذا الوصف: إنه كان يحسن الوضوء. 

ومن كان يحسن الوضوء فيحسن الصلاة، ومن أحسن الوضوء وأحسن الصلاة، إيش يبقى من مقامات الإيمان ما يحسنه؟ من حسن الوضوءه وصلاته، بقية شؤون الإيمان كلها تحسُن عنده ويلحق بالمحسنين فاختارت الثناء بهذا الوصف: إنه كان يحسن الوضوء.

يقول: إذا أردت أن تكون محافظاً على الصلاة فأحسن الوضوء. 

هذه المحافظة الأولى "بأن تُسبغ الوضوء" بأن تُسبغ، ومعنى الإسباغ الإتمام والإكمال "تُسبغ الوضوء قبل الصلاة، وإسباغها: أن تأتي بجميع سننها وأذكارها المروية عند كل وظيفة منها" ولسنا بصدد ما يثبت من جهة السند في الأذكار أو الأدعية عند غسل الكفين، عند المضمضة، عند الاستنشاق، عند غسل الوجه، عند غسل اليدين. قالوا: قصدوا أن تكون حاضر القلب مع الرب، وأنه كما ترجم الإمام الترمذي وغيره من أهل السنن في الذكر عند الوضوء، أورد حديث: "كان ﷺ يذكر الله على كل أحيانه"، يذكر الله على كل أحيانه.

 

وهذه الأذكار أيضاً واردة في الوضوء، مما إسنادها غاب عن بعض كبار العلماء عندنا، وجود سند فيها وإن كان فيه ضعف يُعمل به في فضائل الأعمال. 

ولاحظوا على سيدنا الإمام النووي -رحمة الله- لما حذفها من المنهاج وكان ذكرها الإمام الرافعي في المحرر، وقال: حذفتها لأنه لم يصح فيها شيء ولم يرد. فلاحظوا على أنه وردت بعض الأسانيد وإن كان فيها ضعف. فالإمام النووي كما هو يقول -عليه رحمة الله تعالى-: في كثير من كتبه، وحتى مقدمة الأربعين النووية، يقول: قد اتفق الحفاظ على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. 

فلها إذًا أصل؛ ولكن القصد أن تكون حاضر القلب في الوضوء، فإنه يساعد على الحضور في الصلاة، أن تكون حاضر مع الله عند أدائك للوضوء. 

لذا جاءت فيها سنية استقبال القبلة، وسنية السواك، وسنية التسمية في أولها، والاستمرار في ذكر الله تبارك وتعالى.

قال: "وتحتاط أيضاً في طهارة ثيابك وطهارة بدنك"، طهارة عن الحدث وطهارة عن الخبث، طهارة عن النجاسة وطهارة عن الأحداث. 

"وطهارة الماء الذي تتوضأ به، احتياطاً لا يفتح عليك باب الوسواس" فليس المقصود إضاعة الوقت في الوسوسة، ولكن التحرز فقط عن الشبهات وعن حصول النجاسة في ثوب أو بدن أو ماء تتوضأ به. 

قال: "وطهارة الماء الذي تتوضأ به، احتياطاً لا يفتح عليك باب الوسواس، فإن الشيطان يوسوس في الطهارة ليُضيِّع أكثر أوقات العبادة.

 

إذا ما قدر يمنعك من الطهارة ومن الصلاة، فيحاول في الطهارة وفي الصلاة أن يقطعك عن سرها وعن حقيقتها، أو أقل شيء يضيع عليك وقت. 

فيقول: أنت في أثناء الطهارة في عبادة، يقوم يُشغلك بالوسوسة، الوسوسة لا حضور مع الله ولا عمل بالسنة. 

ويفل عليك ويقول: عِد ثاني مرة ما تصلح، عاد باقي، أعد ثاني مرة، اغسل ما وصل الماء إلى هنا، ويظل يشغل وقتك الطويل في الوسوسة، في مناجاة الولهان، الشياطين المشتغلين بالوسوسة في الوضوء يقال لهم الولهان، والمشتغلين بالوسوسة في الصلاة يقال لهم خِنْزَب.

الشياطين ما بين خِنْزَب والولهان، الولهان يتولى على الوضوء، على الطهارة، يوسوس عليهم من أجل أن يبعدوا عن الذكر، بدل ما يكون حاضر مع الله، يظل هو وهذا.. وهذا نجس، يظل معهم، ما عاد هو مع الله تعالى، ويظل هو، ما صلح، سواء، ناقص ناقص، ما جاء في عينك ماء.. عادك زيّد غرفة، ويظل هو يتخاطب، هو يتناجى، هو وإياه، بدل أن ينوي نية صحيحة ويحضر مع الله بيض وجهي بنورك ويمشى، قاعد هو يضيع عليه وقته أقل شيء، ويغفله عن الحضور مع الله تعالى.

للمتوضئين الشيطان يوسوس، يقال له الولهان يتولّى عليهم.

كما سمى ﷺ الشياطين الذين يوسوسون في الصلاة: "اذكر كذا، اذكر كذا"، خِنْزَب. 

فهؤلاء الخنازيب والولهانين، قاعدين يلعبون على المتوضئين وعلى المصلين. على المؤمن، فعلى المؤمن أن يرتفع عن الإلتفات إليهم.

 

يقول: "ليُضيِّع أكثر أوقات العبادة.

واعلم: أن المقصود من طهارة الثوب" والمراد كل ما يحمله المصلي ويتصل به فهو داخل في معنى الثوب فيكون طاهر، سواء كان سواك أو قلم أو جوال أو ساعة معه أو أي شيء، مذكرة يحملها، لا بد أن تكون طاهرة.

 فليس المراد بالثوب مجرد الخرقة، كل شيء يحمله المصلي معه أو يتصل به في الصلاة يكون طاهر.

"المقصود من طهارة الثوب؛ وهو القشر الخارج، ثم من طهارة البدن؛ وهو القشر القريب.." منك، المقصود من الطهارتين هذه بل من الثلاث الطهارات: 

  • طهارة عن الحدث. 
  • وطهارة الثوب. 
  • وطهارة البدن. 

 أن تصل "طهارة القلب؛ وهو اللُّبُّ الباطن، وطهارة القلب عن نجاسات الأخلاق أهم الطهارات كما سنذكره في القسم الثالث." "الأعمال الباطنة"، والآن نتكلم عن "الأعمال الظاهرة".

 

ولكن لا يبعد أن يكون للطهارة الظاهرة أيضاً تأثير في إشراق نورها على القلب.

قال: أنت تصادف لما تسبغ الوضوء وتستشعر نظافة ظاهرك وتكون عندك ثياب نظيفة، تصادف في قلبك انشراحاً وصفاءً، بخلاف لما تكون متسخاً ومتكدراً، يقل السرور في باطنك والانشراح، لماذا؟ 

قال: هذا من سر الربط بين عالم الملك والملكوت، عالم الظاهر والباطن، عالم الغيب وعالم الشهادة، لأن ربها واحد، رب العوالم واحد، وبينهما اتصال. 

قال ﷺ: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، فالرابطة قوية بين الجسد والقلب.

 

قال: "لكن لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثيرٌ في إشراق نورها على القلب، فإنك إذا أسبغت الوضوء، واستشعرت نظافة ظاهرك .. صادفت في قلبك انشراحاً وصفاءً و كنتَ لا تصادفه من قبل"

 كان يقول الإمام الشافعي: من نظَّف ثوبه قلَّ حزنه، أو ذهب حزنه، يذهب عنك الحزن بنظافة الثوب، وبهذا كان لطهارة الظاهر صلة بطهارة الباطن.

 

يقول: "سرّ العلاقة التي بين عالم الشهادة والغيب وعالم الملكوت؛ فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة، والقلب" الذي هو الروح  "من عالم الملكوت بأصل فطرته، وإنما هبوطه إلى عالم الشهادة من عالم الملكوت كالغريب عن جِبِلَّتِه." مثل الغريب عن موطنه ومكانه.

 

جسدك هذا كُوّن في عالم الدنيا في بطن أمك، وهو منحدر من أصل التكوين لجسد أبيك آدم من التراب، (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ)[السجدة:8]، هذا عالم حسي دنيوي. لكن أين الروح؟ 

الروح ما تكوَّنت من أثر الجسد في بطن أمك، نزلت من العالم الأعلى. 

ويخبرنا ﷺ أنه ليلة الإسراء والمعراج شاهد الأرواح التي لم تُخلق أجسادها بعد، لم تخرج إلى الدنيا بعد، نسم بني آدم عن يمينه وعن يساره. 

وإنه إذا التفت عن يمينه ضحك وإذا التفت عن يساره بكى. فلما سأل جبريل قال: هذه نسَمُ بنيه، أهل الجنة عن يمينه، فإذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته ضحك، وإذا نظر إلى من يدخل النار من ذريته بكى عليهم، فهذه في السماء.

فالروح الموجودة معك الآن في الجسد كانت في السماء فترة طويلة، مدة طويلة من بداية خلقها إلى أن تكوَّن جسدك في بطن أمك، فأُخرجت ونُفخت في هذا الجسد، فصار هذا الجسد قفص لهذه الروح وأُخذت فيه، فهو غريب عن هذا العالم، أصله عُلوي فسيح في مقام رفيع، ولكن ابتُلي واختُبر بالحبس في هذا الجسد. 

فصاحب هذا الجسد إن آمن بالله ورسله وعمل على تهذيب النفس، ساعد هذه الروح أن تستنشق روائح العالم الأعلى والعالم الذي كانت فيه قبل نزولها إلى هذا الجسد، والأُنس بالملائكة والحضور معهم ومشابهتهم في عباداتهم للرب إلى درجات يعلو لها المؤمن. 

وإن كبَّل هذه الروح بشؤون الكثافات الجسد والمادة والدنيا والغفلة عن الله تعبت الروح حتى ترجع،  تنهار قواها التي ترفع الهمم، وتبقى محبوسة في هذا الجسد إلى حبس قوي يمنعها عن استنشاق روائح العالم الأسنى الذي كانت فيه، وعن مشابهتهم ومرافقة الملائكة على وجه مخصوص، فتصير مرتع للشياطين والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، فيصير هذا ظالمًا لنفسه، ظلم نفسه. 

ظلمتِ وما إلا لنفسك يا فتى *** ظلمت وظلم النفس من أقبح الظُلم

نعم، عالم الأرواح خير من الجسم ***  وأعلى، ولا يخفى على كل ذي علم 

فما لك قد أفنيت عمرك جاهداً *** بخدمة هذا الجسم والهيكل الرسمي؟ 

 

والجسم أخدمه لما تشبع بالتغذية وبالرياضة، وبعدين مصيره إلى حفرة وأن يأكلك الدود والتراب وروَح. في عندك روح خدمتها تهيئك للدرجات العُلى والنعيم الباقي.

ولذا كان يقول الإمام أحمد بن علوان: من شغله تغذية جسده عن تغذية روحه، فإن طلب أجر فليطلبه من الحيتان والديدان، لأنه جهز جسده لها، نهاية الجسد تأكله الحيتان والديدان في القبر. 

قال: فهذا شغال لحسابها، مهيئ جسده ليحصل لها أكل. قال إذا يريد يطلب أجر يروح يطلبهم، لأنه مرَّ عمره شغال لها، تبعها، ما اشتغل بشيء يقربه إلى الرب -سبحانه وتعالى- يثيبه عليه.

نعم، عالم الأرواح خير من الجسم *** وأعلى، ولا يخفى على كل ذي فهم 

أو على كل ذي علم

فما لك قد أفنيت عمرك جاهداً *** بخدمة هذا الجسم والهيكل الرسمي؟

ظلمتِ وما إلا لنفسك يا فتى *** ظلمتِ، وظلم النفس من أقبح الظلم

تنبه هداك الله من نوم غفلة *** ولهوٍ، ولا تعمل على الشك والوهم

 

تحتاج في هذا الجسد إلى صحة له وتغذية مناسبة ليكون مركبًا حسنًا للروح؛ أما أن تنهمك في الجسد وخدمة الجسد نهائيًا وتغفل عن روحك، هذا ظلم.

 

يقول: هناك "العلاقة التي بين عالم الشهادة وعالم الملكوت؛ فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة، والقلب من عالم الملكوت بأصل فطرته، وإنما هبوطه إلى عالم الشهادة كالغريب عن جِبِلَّتِه."

ولهذا يخاطب الروح في بعض قصائده سيدنا الحداد يقول: 

يا أَيُّها الجَوهَرُ المَحصورُ في صَدَفٍ *** مَخلوقٍ غَرَضِ التَغييرِ وَالكَدَرِ

يا أَيُّها الروحُ هَل تَرضى مُجاوَرَةً *** عَلى الدَوامِ لِهَذا المَظلِمِ الكَدَرِ

وَأَينَ كُنتَ وَلا جِسمٍ تُساكِنُهُ *** أَلَستَ في حَضراتِ القُدسِ فَاِدَّكِرِ

تَأوي مَعَ المَلَأِ الأَعلى وَتَكرَعُ مِن *** حِياضِ أَنسَ كَما تَجني مِنَ الثَمَرِ

وَتَكرَعُ -تشرب-

حَتّى جَعَلَت بِأَمرِ اللَهِ في قَفَصِ *** لَيَبتَليكَ فَكُن مِن مِن خَيرِ مُختَبَرِ

يا أَيُّها الروحُ هَل تَرضى مُجاوَرَةً *** عَلى الدَوامِ لِهَذا المَظلِمِ الكَدَرِ؟

 

أنت شأنك عظيم وكبير؛ مهيأ للمعرفة والقربى، تقبل أن تنحبس في شهوات مثل الأنعام، وأضل من الأنعام  في هذه الماديات والحسيات، وين خصائصك ومزاياك؟!.

فقال: عندنا قلب وروح، من عالم الغيب، من عالم الملكوت، من العالم الأعلى، وعندنا جسد من تراب (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) [طه:55]، تراب. 

قال: "وكما تنحدر من معارف القلب آثارٌ إلى الجوارح" فتتنور وتنطلق في الأعمال الصالحة، كذلك من الجوارح إذا طهرت وتنقت أو عملت أعمالاً صالحة، تعود أنوار تزيد القلب نور، يرتفع من أعمال الجوارح أنوار إلى القلب "فكذلك قد يرتفع من أحوال الجوارح أنوارٌ إلى القلب." .

فالعلاقة بين القلب والقالب، بين الظاهر والباطن. 

قال: "ولذلك أُمِرَ بالصلاة مع أنها حركاتٌ للجوارح التي هي من عالم الشهادة، ولذلك جعلها رسول الله ﷺ في الدنيا ومن الدنيا؛ قال: "حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث…" الحديث."

والحديث كما حققه شارح الإحياء الزبيدي الحضرمي رحمة الله، لفظة "ثلاث" لا تصح من جهة السند، وإنما: "حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة"، إنما من حيث التأويل فالأمر فيه واسع. ومن غير شك أن الحركات؛ الحركات التي تكون مننا في الصلاة من عالم الدنيا، من عالم الحس هذا أمر واضح. ولكن حقائقها وروحها وما فيها هذا أمر ثانٍ ليس من الدنيا. 

وأما بالنسبة له ﷺ حتى حبُّ الطيب والنساء هو من الآخرة بالنسبة له، هو ما انساق معه ولا قام لأجل غرض طبيعي في النفس البشرية، ولكنه سيد أهل الحضور في الحضرة ﷺ.

ويقول: 

وليس حب الطيب والنكاح ***  إلا لجمع القلب والأرواح

ونسوةْ عون على الصلاح *** يروين عنه أكرم الأحوال

 

فبالنسبة له جميع ما يتناوله ويعمله ﷺ قربة إلى الله. 

إذا كان أتباعه وورثته ما يأكلون إلا قربةً، ولا يشربون إلا قربة، ولا ينامون إلا قربةً، يقول ابن مسعود: ارتجي في نومتي ما ارتجي في قومتي، فكيف بحاله ﷺ؟. 

وعلى هذا فحديث: "حُبب إلي من دنياكم"، أي: الأمر الذي تستعملونه وأنتم أو غالبكم للدنيا؛ لكن بالنسبة له مستعمل للآخرة ومستعمل لقربه من الرب.

يقول: "فلا تستبعد أن يفيض من طهارة الظاهر أثر على الباطن، ففي بدائع صنع الله أمور أعجب من هذا، إذ قد عُرف بالتجربة"، وهذا من العجائب الذي يتكلم عنها والآن يتحدثون عن بعضها أنها مبتكرات وأنها من العلم الحديث، علاقة الجنين وتكوينه بما تنظر الأم وبما تسمع وآثار ذلك على الأم، هم يرون أنها مكتشفة قريب، تحدث عنها الإمام الغزالي من قديم، العلاقة بين عالم الغيب والشهادة، ولهذا المناظر التي تراها الأم أيام تكوين الجنين في بطنها تؤثر عليه من جهة لونه ومن جهة شكله بقدرة الله وتأثيره بما قدّر في الأزل.

 

قال: "عُرف بالتجربة أن المجامِع في حال مباشرته لو أدمن النظر إلى بياض مشرق أو حمرة قانية حتى غلبت تلك الصورة على نفسه، مال لون المولود إلى ذلك اللون لغلبته على نفسه. وأن الجنين أول ما يتحرك في البطن تميل صورته إلى الحسن إن كانت الأم مشاهدة لمحاسن في تلك الحالة وصور حسنة بحيث غلبت تلك الصورة على نفسها".

ولهذا تجد، مباشرة لو أن الأم معلقة مثلاً بأخ قبله أو حتى بزوجها أو بأخ لها وكانت تنظر إليه كثير، لما يخرج الطفل يجيء قريب الشبه من ذاك الإبن أو من ذاك الأخ إن كانت تنظر إليه كثيراً أيام تكوين الجنين في بطنها (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ)[آل عمران:6]، لكن جعل هذا بحكمته وقدرته أسباب مؤثرة، وهو المؤثر وحده سبحانه وتعالى، والأسباب ومسبباتها كلها تحت قبضته وتحت تأثيره جل جلاله وإرادته سبحانه وتعالى.

 

وهكذا يقول: "ولذلك أمر ﷺ المباشِر عند مباشرته أن يحضر في قلبه إرادة صلاح المولود، ويدعو الله:"اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا"". ويسمي الله تعالى حتى لا يتمكن عدو الله تعالى من مشاركتهم. حتى يفيض الله سبحانه وتعالى مبادئ الصلاح على الروح التي يخلقها عند إلقاء البذر في محل الحرث بواسطة الصلاح الغالب على قلب الحارث؛ كما يفيض الله سبحانه النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الأجسام المحاذية للمرآة." 

نعم، هل ترى السراج هنا أو الشمس لما تشرق من هنا؟ تظهر نرى الشمس هناك، الشمس هي من الجهة هذه لكن نراها في هذه الجهة بسبب المرآة القائمة فيها. نرى السراج هذا الذي عندكم هنا، نرى نوره في الجدار ذاك الثاني بانعكاس الضوء من هنا إلى هنا؛ فكذلك تأتي هذه العجائب والانعكاسات والإشراقات بالوسائط.

يقول: فالمرآة قد تقابل الشمس وتكون منها أشعة، أشعة ما في المرآة؟ أشعة من الشمس، شمسية، توجه إلى الجهة الثانية حتى تؤثر على عين الثاني الذي ليس مقابل الشمس، مقابل المرآة التي قابلت الشمس من وجه؛ فهو من الوجه الذي قابل المرآة أثر فيه كأنه رأى الشمس، الشمس ماهي وسط المرآة، وأين المرآة من الشمس؟ لكن لما قابلتها وظهر نورها فيها، فأثرت، ومشت خصوصيات للشمس في مرآة صغيرة كما هذه أثرت تأثيرات تشبه تأثير نفس عين الشمس هذه، سبحان المكون.

يقول: "وهذا الآن يقرع باباً عظيماً من معرفة عجائب صنع الله في الملك والملكوت، وإلى قريب منه يرجع سرُّ الشفاعة في الآخرة، -ولكن- فلنتجاوزه، فغرضنا الآن ذكر الأعمال دون المعارف". ما نحن بصدد هذه الدقائق والحقائق.

 

وقال المؤلف -رحمه الله- ورضي الله عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: 

 

"وقد أشممناك شيئاً يسيراً من روائح أسرار الطهارة الظاهرة ؛ فإن كنتَ لا تُصادِفُ بعد الطهارة وإسباغ الوضوء شيئاً مِنَ الصَّفاءِ الذي وصفناه .. فاعلم أنَّ الدَّرَنَ الذي عرض على قلبكَ مِنْ كدورات شهَواتِ الدُّنيا وشواغلها اقتضى كَلالَ حسن القلب ؛ فصار لا يُحِسُّ باللطائف والأشياء الخفية اللطيفة ، ولم يبق في قُوَّتِه

إلا إدراك الجليَّاتِ إن بقي ؛ فاشتغل بجلاء قلبك وتصفيته ، فذلك أوجب عليكَ مِنْ كُلِّ ما أنتَ فيه".

 

يقول: صفاء ونقاء الظاهر تحس له بأثر في الباطن. سماع الكلام الطيب كذلك؛ سماع القرآن كذلك؛ فإن وجدت تأخراً في باطنك؛ تسمع الكلام الطيب ما تهتز له، تسمع القرآن ما تتأثر به، تصفي باطنك وما تحس بأثر، تصفي ظاهرك وجسدك ما تحس بأثر في الباطن، قال: هذا سببه "الذي عرض على قلبكَ مِنْ كدورات شهَواتِ الدُّنيا وشواغلها -التي تكالبت عليها وأمسكت بها- اقتضى كَلالَ حسن القلب  -كَلَّ حسُّهُ القلبي وإدراكه- فصار لا يُحِسُّ باللطائف والأشياء الخفية اللطيفة -لأنه ما بقي في قوته- ..إلا إدراك الجليَّاتِ.." فقط من شدة ما طرأ عليه من الكدورات وران التعلق بالفانيات.

قال: "فاشتغل بجلاء قلبك وتصفيته"، وتحس الأثر. 

  • صفِّ القلب وسيظهر لك الأثر.
  • إذا طهّرت الظاهر سيظهر لك الأثر.
  • إذا سمعت الكلام الطيب سيظهر لك الأثر. 
  • إذا سمعت القرآن وتنزيله يؤثر. 
  • ما يمنع وجود هذا الأثر إلا كدورة فيك حائلة بينك وبين هذا الإدراك.
  • فصفِّ القلب وتشوف الأثر يظهر على طول.

 

 

وقال المؤلف -رحمه الله- ورضي الله عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: 

 

 

"المحافظة الثانية: أن تحافظ على سنن الصلاة وأعمالها الظاهرة وأذكارها وتسبيحاتها، حتى تأتي فيها بجميع السنن والآداب والهيئات كما جمعناها في كتاب (بداية الهداية)؛ فإن لكل واحد منها سرًّا، وله تأثير في القلب، كما نبهنا عليه في تأثير الطهارة، بل ذلك أشد وأبلغ، وشرح ذلك يطول. 

وأنت إذا أتيت بذلك انتفعت به وبأسراره، كما ينتفع شارب الدواء بشربه وإن لم يعرف طبائع أخلاطه ووجوه مناسبته لمرضه.

 

واعلم على الجملة؛ أن للصلاة صورة صوّرها رب الأرباب كما صوّر الحيوان مثلاً، فروحها النية والإخلاص وحضور القلب، وبدنها الأعمال، وأعضاؤها الأصلية: الأركان، وأعضاؤها الكمالية: الأبعاض. 

فالإخلاص والنية فيها يجري مجرى الروح.

والقيام والقعود يجريان مجرى البدن، والركوع والسجود يجريان مجرى الرأس واليد والرجل. 

وإكمال الركوع والسجود بالطمأنينة وتحسين الهيئة يجري مجرى حُسن الأعضاء وحُسن أشكالها وألوانها. 

والأذكار والتسبيحات المودعة فيها تجري مجرى آلات الحس المودعة في الرأس والأعضاء كالعين والأذن وغيرهما. ومعرفة معاني الأذكار وحضور القلب عندها يجري مجرى قوة الحس المودعة في آلات الحس، كقوة البصر وقوة السمع والشم والذوق في معادنها.

 

واعلم: أن تقرُّبك بالصلاة كتقرُّب بعض خدم السلطان بإهداء وصيفة إلى السلطان. 

واعلم: أن فَقْدَ النية والإخلاص من الصلاة كفَقْدِ الروح من الوصيفة، والمهدي للجيفة الميتة مستهزئ بالسلطان فيستحق سفك الدم. وفَقْدُ الركوع والسجود يجري مجرى فَقْدِ الأعضاء. 

وفَقْدُ الأذكار يجري مجرى فَقْدِ العينين من الوصيفة وجدع الأنف والأذنين. وعدم حضور القلب وغفلته عن معرفة معاني القراءة والأذكار كفَقْدِ البصر والسمع مع بقاء جِرْم الحدقة والأذن. ولا يخفى عليك أن من أهدى وصيفة بهذه الصفة كيف يكون حاله عند السلطان!!".

 

هذه المحافظة الثانية، تكلم على المحافظة على الطهارة، والله يوفقنا وإياكم لإقامتها في بقية أعمارنا ويوفق لذلك أهلنا وأولادنا. 

 

بعد المحافظة على الطهارة، قال: "أن تحافظ على سنن الصلاة وأعمالها الظاهرة وأذكارها وتسبيحاتها"، تأتي بسنن الصلاة كما شُرحت في مثل (بداية الهداية) وغيرها. "فإن لكل واحد منها سرًّا، وله تأثير في القلب"، وقربة إلى الرب -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

قال: "وأنت إذا أتيت بذلك انتفعت به وبأسراره" فكأن الصلاة صورة صوّرها رب الأرباب كما صوّر الحيوان؛ أمر معنوي، صورة معنوية يشبهها لك بالصورة الحسية؛ لكي تفقه معنى حُسن الصورة المعنوية من خلال معرفتك بالصورة الحسية، فهذه قريبة إلى ذهنك وعقلك تعرفه.  

مثّل لك الصلاة قال: "صورة صوّرها رب الأرباب كما صوّر الحيوان مثلا -فلها روح - فروحها النية والإخلاص وحضور القلب، -ولها بدن وجسد- وبدنها الأعمال، وأعضاؤها الأصلية: الأركان، وأعضاؤها الكمالية: الأبعاض"، والسنن.

قال: "فالإخلاص والنية فيها يجري مجرى الروح، والقيام والقعود -والأعمال الظاهرة- يجريان مجرى البدن، والركوع والسجود يجريان مجرى الرأس واليد والرجل، وإكمال الركوع والسجود بالطمأنينة وتحسين الهيئة يجري مجرى حُسن الأعضاء وحُسن أشكالها وألوانها" 

"والأذكار والتسبيحات المودعة فيها تجري مجرى آلات الحس المودعة في الرأس والأعضاء كالعين والأذن وغيرهما. -معرفتك- لمعاني الأذكار وحضور القلب عندها يجري مجرى قوة الحس  المودعة .. كقوة البصر وقوة السمع والشم والذوق في معادنها"، إذن، هذا مثال لشأن الصلاة، روحها وبدنها.

 

قال: " تقرُّبك إلى الله بالصلاة -صلينا اليوم الصبح قُربة إلى الحق تبارك وتعالى، يُشبه في عالم الحس- كتقرُّب بعض -الناس- إلى السلطان أو إلى أمير، ماذا بيقدم له؟ يقدم  له جارية وصيفة، يقدمها له تقربًا إليه من أجل أن يفرح به، من أجل أن ينال المنزلة عنده؛ فالجارية هذه:

  • إما أن تكون صحيحة وقويمة وأعضاؤها كاملة، فهي محل لأن يرضى الأمير بها وأن يكافئك عليها. 
  • وقد تكون مقطعة الأيدي، أو مفقوءة العين، أو مقطعةِ الأذنين، أو لا تسمع أو عمياء. وقد تكون ميتة، ماشي روح أصلًا؛ تجيب جيفة وتقدمها، 

إيش بتحصّل من السلطان؟ تستهزأ بي، تجيب هذه الجيفة!  قال: كذلك الصلاة تقدمها لحضرة الرب تعالى، قد تكون منزوعة الروح ميتة؛ وقد تكون فيها ناقصة من الأعضاء؛ وقد تكون كاملة.

يقول: "فَقْدَ النية والإخلاص من الصلاة كفَقْدِ الروح من الوصيفة، والمُهدي للجيفة الميتة مستهزئ بالسلطان"،  يقول: هاتوا لي هذا! من هو هذا الذي جاء بهذه الهدية؟ هاتوه لهنا! قد يتعرض لقطع الرقبة، لا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول: "وفَقْدُ الركوع والسجود يجري مجرى فَقْدِ الأعضاء"،  قدم له وصيفة مقطعة اليدين، مقطعة الرجلين. "وفَقْدُ الأذكار يجري مجرى فَقْدِ العينين من الوصيفة وجدع الأنف والأذنين. وعدم حضور القلب… قال: "كفَقْدِ البصر والسمع مع بقاء جِرْم الحدقة والأذن.."، لكن ما تشوف، ما تبصر، ما تسمع، الأذن موجودة لكن ما تسمع؛ ومن أهدى وصيفة بهذه الصفة كيف يكون حاله عند السلطان؟ فالله يعفو عنا ويسامحنا ويقبل منا.

فالله يعفو عنا ويسامحنا ويقبل منا، ولهذا أُمرنا عند السلام من الصلاة أن نستغفر لما كان من تقصير؛ حتى يتجاوز الحق ويقبل بفضله. تقول: أستغفر الله، أستغفر الله. أنت خرجت من الصلاة هل عملت ذنباً حتى تستغفر؟ والتقصير الذي يصحبك في الصلاة تستغفر الله منه حتى يتجاوز عنك ويقبل. ومن فضل الله أنه في صلاة الجماعة، ينظر الله للإمام، فإن وجد في قلبه خيراً قَبِلَهُ والمأمومين كلهم، وإلا فينظر للصف الأول، ثم الصف الثاني، ثم الصف الثالث، فإن وجد في قلب أحدٍ منهم خيراً، قَبِلَ الجمع بسببه. ولهذا قالوا: لو كنا صلينا جماعة ثم قُبِلْنَا بسبب واحدٍ في الصف الثالث أو الصف الرابع، فالإمام الحقيقي هو ذاك، وهذا الذي في المحراب صورة، لأن الله قبلنا بسبب ذلك، فهو إمامنا حقاً في الحقيقة. 

ومع ذلك جاءنا في الأخبار أنه إذا لم يجد فيهم شيئاً، نظر إلى جمعهم من أجله، وجمّع هذا حضر في الركوع، وهذا في السجود، وهذا في القيام، وهذا في الجلوس، يجَمَّعَ الصلاةً مفرّقةً منهم، ثم يجعلها لهم كلها كاملة؛ وهذا من أعظم فوائد الجماعة وأتم فضله من الخير.

ولهذا قالوا لم يرد عنه ﷺ ولا أحد من الخلفاء الراشدين أنهم صلّى صلاة واحدة من الفرائض منفرد قط، ما يصلون إلا في الجماعة، فالله يقبلنا على ما فينا، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)؛ سيدنا إبراهيم لما أمره الله ببناء الكعبة اهتم بالقبول(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ)[البقرة:127].

 فالله يقبل منا جميع صلواتنا ودعواتنا ويوفقنا لما فيه الخير.

 

وقال رضي الله عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

"واعلم أن قول الفقيه في الصلاة الناقصة أبعاضها وسننها: إنها صحيحة.. كقول الطبيب في الوصيفة المقطوعة أطرافها: إنها حية وليست بميتة. 

 

فإن كان ذلك كافياً في التقرب بها إلى السلطان ونيل الكرامة منه..  فاعلم: أن الصلاة الناقصة صالحة للتقرب بها إلى الله سبحانه ونيل الكرامة منه.

وإن أوشك أن يُرَدَّ ذلك على المُهْدِي ويُزْجَرَ.. فلا يَبْعُد مثلُ ذلك في الصلاة الناقصة؛ فإنها قد تُرَدُّ على المصلي كالخِرقة الخَلِقة كما ورد في الخبر.

واعلم: أن أصل الصلاة التعظيم والاحترام، وإهمال آداب الصلاة يناقض التعظيم والإحترام".

 

نعم، أشار إلى الحديث الذي ذكرهُ هنا عندكم عن الطيالسي والطبراني والبيهقي في الشُّعَب، يقول: "إذا أتم ركوعها وسجودها، عرجت الصلاة بيضاءَ مُسْفِرة، تفتح لها أبواب السماء وتقول: حفظك الله كما حفظتني" -وإذا كانت الصلاة ناقصة- "إذا لم يتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها، قالت الصلاة: ضيّعك الله كما ضيعتني". ثمّ صُعِد بها إلى السماء وعليها ظلمة، فغُلِّقَت دونها أبواب السماء، -فلا يُسمح لها-، فتُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوب الخَلِقُ، فيُضرب بها وجهُ صاحبها -والعياذ بالله تعالى- وتقول: "ضيّعك الله كما ضيعتني".

 

حتى لما سُئل بعض العارفين عن أحوال الناس في شدائد ومصائب وقعت عليهم، قال: ما بهم إلا دعوة الصلاة. قال: وما دعوة الصلاة؟ قال:  الذي لا يحافظ عليها، تدعي عليه، تقول: "ضيّعك الله"، دعت عليهم وضاعوا، فضيعهم الله، ضيعّ أحوالهم وشؤونهم لأنهم ضيعوا الصلاة. قال: بهم دعوة الصلاة. وتقول لمن حافظ عليها: حفظك الله كما حفظتني.

 

وقال رضي الله عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

"المحافظة الثالثة: أن تحافظ على روح الصلاة؛ وهو الإخلاص وحضور القلب في جملة الصلاة، واتصاف القلب في الحال بمعانيها.

فلا تسجد ولا تركع إلا وقلبك خاشع متواضع على موافقة ظاهرك؛ فإن المراد من الصلاة خضوع القلب لا خضوع البدن.

ولا تقل "الله أكبر" وفي قلبك شيء أكبر من الله تعالى.

ولا تقل "وجهت وجهي.." إلا وقلبك متوجهٌ بكل وجه إلى الله تعالى، ومعرضٌ عن غيره. 

ولا تقل "الحمد لله" إلا وقلبك طافح بشكر نعمه عليك، فرحاً بها مستبشرا.

ولا تقل "وإياك نستعين" إلا وأنت مستشعرٌ ضعفك وعجزك، وأنه ليس إليك ولا إلى غيرك من الأمر شيء. وكذلك في جميع الأذكار والأعمال، وشرح ذلك يطول، وقد شرحناه في كتاب "الإحياء".

فجاهد نفسك في أن ترُدّ قلبك إلى الصلاة حتى لا تغفل من أولها إلى آخرها؛ فإنه لا يُكتب للرجل من صلاته إلا ما عَقَلَ منها.

فإن تعذّر عليك الإحضار -وما أُراكَ إلا كذلك- فانظر: فإن كان قدر الغفلة مقدار ركعتين، فلا تُعِدِ الصلاة، ولكن افهم أن النوافل جوابر الفرائض، فتنفل بمقدار يحضر فيها قلبك في مقدار ركعتين. فكلما زادت الغفلة.. زد في النوافل حتى يحضر قلبك؛ مثلاً: في عشر ركعات بمقدار أربع ركعات، وهو قدر فرضك، فمن رحمة الله سبحانه عليك أن قَبِلَ منك جبران الفرائض بالنوافل.

فهذه هي أصول المحافظة على الصلاة".

 

جعلنا الله واياكم من المحافظين على الصلاة، والمحافظة على الطهارة، والمحافظة على الأعمال والسنن في الصلاة، والمحافظة على حضور القلب، في الصلاة ثلاث محافظات تكون بها من الذين (عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[المعارج:34]

 اللهم اجعلنا منهم،  اللهم اجعلنا منهم، اجعل أهالينا منهم،

 واجعل أولادنا منهم أجمعين. وزدنا منك زيادة، وأسعدنا بأعلى السعادة في الغيب والشهادة. وحققنا بحق هذه الصلاة وركوعها وسجودها وخشوعها وخضوعها، واجعلنا عندك من خواص أهلها المقيمين لها المحافظين عليها على الوجه الذي يرضيك، واجعلها قرة عين لنا، وأذقنا حلاوتها، وانظمنا في سلك خواص أهلها في خير ولطف وعافية. 

بسرّ الفاتحة

 إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة


الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

 

تاريخ النشر الهجري

23 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

16 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام