(373)
(535)
(606)
الدرس الرابع للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . مواصلة شرح القسم الأول: في جمل العلوم وأصولها (الأصل العاشر: النبوة، وخاتمة في كتب العقيدة)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
(لمشاهدة جزء من الدرس : خاتمة في العقيدة)
فجر الجمعة 21 صفر 1447هـ
يوضح معنى النبوّة ووظيفة الوحي وحُجّية السنّة، ثم عالَم الملائكة: الحَفَظة والكتَبة، منكر ونكير، حملة العرش، خزنة الجنة والنار، والبيت المعمور، ويبيّن دلائل المعجزة والفرق عن الكرامة والسِّحر، ويعرّف بصفات الأنبياء والرسل وأُولي العزم، وخصوصية خاتمهم ﷺ وعموم رسالته.
وفي الخاتمة يحرِّر «ترجمة العقيدة» التي ينبغي أن يعرفها كل مسلم، ويؤكّد غرسها بالتدرّج (حفظ - فهم - اعتقاد ويقين) منذ الصغر، وأنّ النجاة تحصل بالجزم الصحيح، أمّا تمام السعادة فبقدر معرفة الأدلة ثم الترقّي لمعرفة الأسرار وثمراتها.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتّصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الأصل العاشر
في النبوة
"وأنَّه خلق الملائكة، وبعث الأنبياء، وأَيَّدَهُم بالمعجزات.
وأنَّ الملائكة كلهم عباده، لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسِرون، بل يُسبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ.
وأنَّ الأنبياء رسلُهُ إلى خلقِهِ، وينتهي إليهم وحيه بواسطة الملائكة، فينطقون عن وحيٍ يُوحَى، لا عن الهوى.
وأَنَّهُ بعثَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ القُرَشِيَّ محمَّدًا ﷺ برسالته إلى كافّة العرب والعجم، والجن والإنس، فنسخ بشرعه الشرائعَ إِلَّا ما قرَّرَهُ، وفضَّلَهُ على سائر الأنبياء، وجعلَه سَيِّدَ البشر، ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد؛ وهو قولُ: (لا إله إلَّا الله)، ما لم تقترن بها شهادة الرَّسولِ؛ وهو قولُكَ: (محمَّدٌ رسول الله).
وألزم الخَلْقَ تصديقه في جميع ما أخبر عنه في أمر الدُّنيا والآخرة، وألزمَهُمُ اتِّباعَهُ والاقتداء به، فقالَ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ)[الحشر:7].
فلم يُغادر ﷺ شيئًا يُقربهم إلى الله تعالى.. إِلَّا أَمْرَهُم بِهِ ودلَّهُم على سبيله، ولا شيئاً يُقرِّبُهُم إلى النَّارِ ويُبْعِدُهُم عن الله تعالى.. إلا نهاهم عنه وعرَّفَهُم طريقَه؛ لأنَّ ذلك أمورٌ لا يُرْشِدُ إليها مُجرَّدُ العقل والذكاء، بل هي أسرار يُكاشف بها مِنْ حظيرة القدس قلوب الأنبياء.
فالحمدُ لله على ما أرشد وهدى، وأظهر مِنْ أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والصَّلاةُ على محمِّدٍ المصطفى، خاتم الأنبياء، وعلى آله وأصحابه، وسلَّمَ كثيرًا".
الحمدلله على توفيقه وتأييده وتسديده، لا إله إلا هو وحده لاشريك له، يمدَّ باللطف والإحسان والعلم عبيده، أرسل إلينا عبده المصطفى محمد، خير خلقه وأجل رسله، وأعظم من دعانا إلى تفريده وتوحيده وتمجيده -جل جلاله-، صلِّ اللهم وسلم على عبدك المختار سيدنا محمد نور الأنوار وسرّ الأسرار، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن على منهجهم سار، وعلى أنبيائك ورسلك، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرحمين
أما بعد،
فهذا هو الأصل العاشر الأخير في القسم الأول من قسم المعارف، الأصل العاشر في النبوة، والنبوة والرسالة يشترك فيها الملائكة والمُنَبَّؤون المرسلون من الناس، قال -جل جلاله- (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75].
والملائكة: أجسام لطيفة نورانية، خلقهم الله من نور؛ لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون، ولا يتناكحون، (لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
فالمَلَك: اسم لهذا الصنف من الخلق الذي خلقه الله تعالى، وهم أكثر خلق الله عددا، وأصنافهم كثيرة ولا يحصيهم إلا الله -سبحانه وتعالى-.
الملائكة الذين منهم حملة العرش وهم أربعة، ويضاف لهم يوم القيامة أربعة (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة:17].
ومن حوله كما ذكرهم الله فقال (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) [غافر:7].
وهكذا ملائكة الحُجُب، وملائكة سدرة المنتهى، وملائكة البيت المعمور، والبيت المعمور.
البيت المعمور: بناء بناه الله فوق السماء السابعة يدخل إليه كل يوم سبعون ألف ملك؛ يصلون فيه ثم لا يرجعون إليه إلى يوم القيامة، فيدخل في اليوم الثاني سبعون ألف غيرهم وهكذا. وقد دخله ﷺ ليلة الإسراء والمعراج، وصلى فيه بِملائكةٍ وأنبياء وأرواحٍ حضرت معه كما تشير الروايات إلى ذلك.
وملائكة السماوات السبع وما بينها، وملائكة الفضاء والهواء، وملائكة الأرض، والملائكة المترددة بين السماء والأرض، والملائكة السيَّاحة الذين يلتمسون حِلَقَ الذكر، وأصناف من الملائكة في البر والبحار، ومنهم الحفظة "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ باللَّيلِ وملائكةٌ بالنَّهارِ"، قال تعالى (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ)[الرعد:11]، (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) يعني: ملائكة يتعاقبون ويحفظونه من أمر الله، قال (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، وقال: أي: بأمر الله سبحانه وتعالى، وقال: (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً)[الأنعام:61]، ويجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة العصر وفي صلاة الفجر.
ومنهم العشرة الذين أُمِرنا بمعرفتهم على تفصيل:
وعند النفخه الأولى تطير الأرواح كلها الى الصور؛ فتُستجلب جميعها الى الصور، وكل روح في الثَّقبةِ التي أُعدت لها هذه السعادة وهذه الشقاوة من جميع الخلائق، وتتجمع كلها في ثقوب ذالك الصور، فيأتي النفخة الثانية فتفرُّ منه وتطير كل إلى الجسد الذي كان عاش في مثله في الدنيا، ويعودون كما كانوا، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ) [الأنبياء:104] يقول -جل جلاله-.
هؤلاء العشرة الذين جاؤوا بالتفصيل؛ وآمنا بجميع ملائكته الله تعالى الذين لا يحصي عددهم إلا الله.
قال: "خلق الملائكة، وبعث الأنبياء، وأَيَّدَهُم بالمعجزات. وأنَّ الملائكة كلهم عباده". (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:26-28]، عليهم سلام الله أجمعين.
"وأنَّ الملائكة كلهم عباده، لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسِرون، -أي: لا ينقطعون ولا يملون ولا يفترون- بل يُسبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ"، فالسآمة والملل والفتور مخلوق في مثل الإنس والجن والحيوانات وليس للملائكة من هذا الوصف شيء، فلا سآمة ولا ملل عندهم، وفيهم أصناف:
فإذا نُفِخَ النفخة الثانية جاؤوا إلى القيامة وَوَردوها يقولون: سبحانك يا ربِّ ما عرفناك حق معرفتك، ولا عبدناك حق عبادتك. -لااله الاهو-، فهذا شأن الملائكة وجوب الإيمان بهم.
وقال: "وأنَّ الأنبياء" عبارة عن أناسٍ رجالٍ أحرارٍ من خيارِ القبائل والمجتمعات، اختارهم الحق -سبحانه وتعالى- لا دناءة لأبِ أحدٍ منهم، ولا خَنَن لأمِّ أحدٍ منهم؛ بل يصطفيهم الله -تعالى- من آباء ذوي شرف وكرامة، وأمهاتهم كذلك طاهرات نقيات، يوحي الله تعالى إليه بالشرع؛ فيكون نبيًّا ويُؤمَر بتبليغه؛ فيكون رسولًا.
يذكر في بعض الأحاديث أن الأنبياء مئة ألف وأربعة وعشرون ألف، وأن الرسل منهم ثلاثمائة وبضعة عشر والصحيح عدم حصرهم لقول الله تعالى (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)[غافر:78]، فآمنا بهم جميعا على الإجمال.
إنما ذكر الله في القرآن أسماء خمسة وعشرين من الرسل، فوجب معرفة أسمائهم والإيمان بهم تفصيلاً، أي: بأن فلان الذي يسمى كذا من الأنبياء؛ أولهم آدم وآخرهم في البعث سيدنا محمد الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وفي صفحة في القرآن في سورة الأنعام ذكر الله تعالى اسم ثمانية عشر (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[الأنعام83-87]، هؤلاء ثمانية عشر، ويبقى فوقهم سبعة كمال الخمسة والعشرين: سيدنا آدم عليه السلام، وسيدنا شيث بن آدم، وسيدنا صالح، وسيدنا هود، وسيدنا محمد ﷺ وعلى آله؛ هؤلاء الذين لم يذكروا في هذه الآيات ذُكِروا في الآيات الأُخَر.
الأنبياء كلهم يجب لهم من الصفات: الصدق، والأمانة، والتبليغ، والفطانة.
والأمانة: عدم مقارفتهمْ للمحرّم ولا للمكروهِ ولا لخلاف الأولى.
والفطانة: قوة عقولهم وذكائهم ورجحان معارفهم لإقامة الحجة وإلزام الخصم بالدليل، عليهم صلوات الله وتسليماته.
قال: "وأنَّ الأنبياء رسلُهُ إلى خلقِهِ، وينتهي إليهم وحيه بواسطة الملائكة"، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) "فينطقون عن وحي يُوحَى -من قِبَلِ الخلّاق- لا عن الهوى".
لهذا لا يمكن قط.. قط.. قط.. قط.. قط أن يُخترَع بفكر أحدهم منهج خير مما جاء به الأنبياء، أبداً أبداً، مستحيل؛ فإن الأنبياء ما يتكلمون بهوًى ولا بفكرِهم البشري، ولكن بوحيٍ من الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عدداً، -جل جلال- فلا يصلح للخلائق المكلفين في كل زمان إلا ما بُعث به الأنبياء، وإلا ما جاء به الأنبياء، فهو رشادهم وهداهم وصلاح معاشهم ومعادهم في منهج الرحمن الذي خلق كل شيء.
وأفضل هؤلاء المرسلين أولو العزم منهم؛ وهم خمسة:
هؤلاء الخمسة ذكروا في آيتين من القرآن الكريم في سورة الشورى وفي سورة الأحزاب ذُكِر أسماء هؤلاء النّبيين من أولي العزم، وأشار إليهم في سورة الأحقاف: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف:35] أي: الصبر والقوة والتحمل للمشاق، صلوات الله وسلامه عليهم.
فأفضلهُم سيدنا المصطفى محمد، ثم سيدنا الخليل إبراهيم، ثم سيدنا الكليم موسى، ثم سيدنا عيسى بن مريم، ثم سيدنا نوح عليهم السلام، ثم بقية الأنبياء والرسل. والرسل من الأنبياء أفضل من الأنبياء الذين ليسوا برسل. فنؤمن بهم أجمعين.
وخُتموا بالحبيب الأمين، "وأَنَّهُ بعثَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ" صلوات الله وسلامه عليه كما وصفه بذلك القرآن. "القرشي" نسبة إلى قريش، أبناء فهر بن كنانة يسمون قريشيين، أبناء فهر يسمون قريشيّون ومن فوقهم كنانيون، وفيهم جاء الحديث أيضاً في صحيح الإمام مسلم: "إن الله اصطفى خلقه فاصطفى منهم بني آدم، ثم اصطفى بني آدم فاصطفى منهم العرب، ثم اصطفى العرب فاصطفى منهم قريشاً، ثم اصطفى قريشاً فاصطفى منهم بني هاشم، ثم اصطفاني من بني هاشم"، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
"محمَّدًا ﷺ" سمّاه بذلك، ثم أُلهم جده أن يسميه بإشارة من أمه التي رأت في رؤيا أن اسمه محمداً، ولم يكن الاسم مشهوراً ولا معروفاً بين الناس. وحتى جاء وقت بعثته، وكثر حديث علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن هذه سنة ولادة خاتم النبيين وأن اسمه محمد، فنحو خمسة عشر جاءهم أبناء فسموهم محمد في نفس السنة، ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، ما هو إلا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
بعثه "برسالته إلى كافّة العرب والعجم"؛ وهذا من أعظم خصوصياته، جميع الأنبياء من آدم إلى عيسى يُبعث النبي منهم إلى قوم مخصوصين، إلا سيد المرسلين فبُعث "إلى العرب والعجم" وكل أبيض وأسود وأحمر وأصفر، من "والإنس والجن" إلى أن تقوم الساعة، فهو مبعوث إلى الجميع صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله. "كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة"، وفي رواية: "إلى الخلق كافة". ﷺ.
قال: "برسالته إلى كافّة العرب والعجم، والجن والإنس، فنسخ بشرعه الشرائعَ إِلَّا ما قرَّرَهُ" ما قرره: وهو ما لم ينسخه أو يأت بغيره أو بمقابله، فشرائع السابقين شريعة لنا إلا ما نُسِخَ على لسان رسول الله ﷺ. فشريعته نسخ لجميع ما قبلها: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ )[المائدة:48]
"فنسخ بشرعه الشرائعَ إِلَّا ما قرَّرَهُ وفضَّلَهُ على سائر الأنبياء، -بل والملائكة والبشر والجن وجميع الكائنات- وجعلَه سَيِّدَ البشر، -وسيد الخلائق- ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد؛ وهو قولُ: (لا إله إلَّا الله)، ما لم تقترن بها شهادة الرَّسولِ؛ وهو قولُكَ: (محمَّدٌ رسول الله)". فبالإجماعِ من الصحابة ومن بعدهم:
فلا تنفع دعوى شهادة "لا إله إلا الله" مع التكذيب بمحمد بن عبد الله ﷺ، ولا يكون مسلماً حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال: "وألزم الخلق تصديقه" وقال عنه: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ"، "في جميع ما أخبر عنه في أمر الدُّنيا والآخرة، وألزمَهُمُ اتِّباعَهُ والاقتداء به، فقالَ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواۚ)[الحشر:7]".
فجعله -سبحانه وتعالى- في هذه المكانة من عنده والمنزلة لديه -سبحانه وتعالى- حتى عبّر عنها لما سُئل عن الحج: "أكل عام؟"، قال: "لا، ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم"، لكان الأمر في شدة عليكم بكلامه ﷺ. وكما عبر عنه بقوله لما بيّن أنه لا يجزئ في الأضحية إلا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، أردت أن أسبق الناس إلى نحر الدم اليوم فذبحت قبل الصلاة. فقال: "شاة لحم". فقال له: يا رسول الله، عندي عناق صغيرة ما وصلت لجذعة ولكنها خير عندي من شاتي لحم، أفيجزئ عني ذبحها؟ قال: "تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك"؛ فهذه الصلاحية التي أعطاه الله إياها، -مشّاها له ﷺ- ما هذه المكانة؟! فهو نائب؛ وهو مكان الاختيار من الإله سبحانه وتعالى، فمنزلته أكبر مما تتصور العقول، عبد محبوب لدى الرب محبة تميز بها عن أهل السماء وأهل الأرض ﷺ.
فالحمد لله جعلنا من أمته الله يحشرنا في زمرته.
قال: "فلم يُغادر ﷺ شيئًا يُقربهم إلى الله تعالى.. إِلَّا أَمْرَهُم بِهِ ودلَّهُم على سبيله"، من خلال ما بيّن ومن خلال ما حَفِظَ من بيانه على مدى الأزمان -الذي حُفظ من بيانه- والقرآن كله محفوظ، ومحفوظ من السنة ما يبيِّن لنا القرآن، وما يكفينا لما يتجدد ويحدث في الأزمان إلى أن تقوم الساعة؛ بيانٌ كافٍ منهُ شافٍ، فحَفظ القرآن وحَفظ البيان للقرآن، وما تحتاجه الأمة من الأوامر والنواهي بفضل الله تعالى، وهي من عظيم خصوصيات هذه الأمة.
الأنبياء السابقين بعد مرور الأوقات المحدودة من وفاتهم يبدأ التغيير في الدين، والتبديل والمخالفة وتحريف الكتب التي أنزلت عليهم، ولا يستقرون عليه؛ ولكن عندنا كتاب محفوظ بعين الله وسند موثّق إلى رسول الله ﷺ، محفوظة به السنة باقية إلى آخر الزمان- اللهم لك الحمد شكراً-.
يقول: "ولا شيئاً يُقرِّبُهُم إلى النَّارِ ويُبْعِدُهُم عن الله تعالى.. إلا نهاهم عنه وعرَّفَهُم طريقَه؛ لأنَّ ذلك أمورٌ لا يُرْشِدُ إليها مُجرَّدُ العقل والذكاء"، ما يقربنا إلى الله وما يرضي ربنا عنا ما نستكشفه بعقولنا، ولكن بوحي الله تعالى وتعاليم أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم.
"وعرَّفَهُم طريقَه؛ لأنَّ ذلك أمورٌ لا يُرْشِدُ إليها مُجرَّدُ العقل والذكاء بل هي أسرار يُكاشف بها مِنْ حظيرة القدس قلوب الأنبياء. فالحمدُ لله على ما أرشد وهدى، وأظهر مِنْ أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والصَّلاةُ على محمِّدٍ المصطفى"، الذي ولد بمكة في عام الفيل، وبعد تمام الأربعين -مُضىِ نحو ستة أشهر على كمال الأربعين- بدأ الوحي بنزول القرآن في غار حراء (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [سورة العلق:1] ومكث بمكة ثلاثة عشر عاماً ثم هاجر إلى المدينة وأقام عشر سنوات فتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ﷺ. وقد أكمل الله به بهذا الدين.
وما مضى حتى أقام الدين ***وصار سهلاً واضحاً مبيناً
فلم تخف أمته فتونا بل *** عُصموا في الجمع عن ضلال
"لا تجتمع أمتي على ضلالة"
والخلفاء بعده والعترة *** بهم مع القرآن مستمرة
ملته محفوظة من فترة *** على الهدى داباً بلا انفصال
وصحبه فيهم لهم نجوم *** منهم عليهم فاضت العلوم
كلٌ لهم مقدرٌ مقسوم *** من باطن أو ظاهر أو حال
"فالحمدُ لله على ما أرشد وهدى، وأظهر مِنْ أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والصَّلاةُ على محمِّدٍ المصطفى، خاتم الأنبياء، وعلى آله وأصحابه، وسلَّمَ كثيرًا".
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المؤلف رحمه الله ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
خاتمة
في التنبيه على الكتب التي تطلب منها حقيقة هذه العقيدة
"اعلم: أنّ ما ذكرناه هو الحاصل من علوم القرآن؛ أعني: جُمل ما يتعلق منها بالله واليوم الآخر، وهي ترجمة العقيدة التي لا بد أن ينطوي عليها قلب كل مسلم، (فمن اعتقد جميع ذلك موقنًا.. كان من أهل الحق وعصابة أهل السنة، وفارق رهط الضلال وحزب البدعة، فنسأل الله تعالى كمال اليقين، والثبات في الدين، لنا ولكافةِ المسلمين، إنه أرحم الراحمين.
اعلم: أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة في وجه التدريج والإرشاد، وترتيب درجات الاعتقاد.. ينبغي أن يقدّم إلى الصبي في أول نشوئه ليحفظه حفظاً، ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئاً شيئاً. فابتداؤه الحفظ ثم الفهم، ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به؛ وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان، فمن فضل الله سبحانه على قلب الإنسان شرحه في أول نشوئه للإيمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان. وقد شرحنا ذلك في كتاب (قواعد العقائد) من (كتاب إحياء علوم الدين)؛ بمعنى: أنه يعتقده ويصدِّق به تصديقًا جزمًا.
ووراء هذه العقيدة رتبتان:
إحداهما: معرفة أدلة هذه العقيدة الظاهرة من غير غوص على أسرارها.
والثانية: معرفة أسرارها، ولُبابِ معانيها، وحقيقة ظواهرها.
والرُّتبتان جميعًا ليستا واجبتين على جميع العوامِ؛ أعني: أنّ نجاتهم في الآخرة غير موقوفة عليهما، ولا فوزهم موقوف عليهما، وإنما الموقوف عليهما كمال السعادة، وأعني بالنّجاة: الخلاصَ من العذاب، وأعني بالفوز: الحصول على أصل النعيم، وأعني بالسعادة: نيل غايات النعيم.
فالسلطان إذا استولى على بلدة وفتحها عنوة وقهراً؛ فالذي لم يقتله ولم يعذبه.. فهو ناجٍ وإن أخرجه من البلدة، والذي لم يعذبه ومع ذلك مكّنه من المُقام في بلده مع أهله وأسباب معيشته.. فهو مع النجاة فائزٌ، والذي خلع عليه، وأشركه في ملكه، واستخلفه في مملكته وإمارته.. فهو مع النجاة والفوز سعيدٌ، ثم زيادات درجات السعادة لا تنحصر.
واعلم: أنّ الخلق في الآخرة ينقسمون إلى هذه الأصناف؛ بل إلى أصناف أكثر من هذه، وقد شرحنا من ذلك ما أمكن شرحه في (كتاب التوبة) من كتب (الإحياء)، فاطلبه منه.
أمّا الرُّتبة الأولى من الرتبتين؛ وهي معرفة أدلة ظاهر هذه العقيدة.. فقد أودعناها (الرسالة القدسية) في قدر عشرين ورقة، وهي أحد فصول (كتاب قواعد العقائد) من كتاب (الإحياء).
وأما أدلتها مع زيادة تحقيق، وزيادة تأنق في إيراد الأسئلة والإشكالات.. فقد أودعناها كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) في مقدار مئة ورقة، وهو كتاب مفرد برأسه، يحوي لبُاب علم المتكلمين، ولكنه أبلغ في التحقيق وأقرب إلى قرع أبواب المعرفة من الكلام الرسمي الذي يصادف في كتب المتكلمين.
وكل ذلك يرجع إلى الاعتقاد لا إلى المعرفة؛ فإن المتكلم لا يفارق العامي في كونه عارفاً وكون العامي معتقداً، بل هو أيضاً معتقدٌ عرف مع أعتقاده أدلة الاعتقاد؛ ليؤكد الاعتقاد ويسمِّرهُ، ويحرسه عن تشويش المبتدعة، لا ليحل عقدة الاعتقاد إلى انشراح المعرفة.
فإن أردت أن تستنشق شيئاً من روائح المعرفة.. صادفت منها مقداراً يسيراً مبثوثاً في (كتاب الصبر والشكر) و(كتاب المحبة) وباب التوحيد من أول (كتاب التوكل)، وجملة ذلك من كتب (الإحياء)، وتصادف منها قدراً صالحاً يُعرِّفك كيفية قرع باب المعرفة في كتاب (المقصد الأسنى في شرح معاني الأسماء الحسنى)، لا سيّما في الأسماء المشتقة من الأفعال.
وإن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة من غير مجمجة ولا مراقبة .. فلا تصادفهُ إِلَّا في بعض كتبنا المضنونِ بها على غيرِ أهلها، وإِيَّاكَ أن تغتر وتُحدِّثَ نفسك بأهليتها، وتشرئب لطلبه، فتَسْتَهْدِفَ للمشافهة بصريح الرَّد".
الله أكبر.
عليه رحمة الله -تبارك وتعالى-، يبين أن هذه العقيدة التي عرضها علينا في هذه الوصول العشرة، وهي المحتوية على ما أُمرنا بالإيمان به على لسان الله تعالى ورسوله ﷺ، وكيف نحصلها؟ وما درجاتنا في تحصيلها؟
يقول: جميع "ما ذكرناه هو الحاصل من علوم القرآن، أعني: -يقصد- جمل ما يتعلق منها بالله واليوم الآخر، ترجمة العقيدة التي لا بد أن ينطوي عليه قلب كل مسلم"، فهي ترجمة الشهادتين والإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى.
قال: هذه "ترجمة العقيدة التي لا بد أن ينطوي عليها قلب كل مسلم، فمن اعتقد جميع ذلك موقناً -رزقنا الله كمال اليقين- كان من أهل الحق وعصابة أهل السنة، وفارق رهط الضلال وحزب البدعة"، فلا كفر ولا بدعة إذا عرف هذه العقيدة واعتَقدها وانطوى عليها باله وباطنه. وإنما ابتدأ بالاعتقاد لأن صحة الأعمال وقبولها عند الله مرتب على الاعتقاد، وارتفاع الحجب عن القلب بأنواع الكثائف والظلمات لا يتم مع عقيدة باطلة. ومع العقيدة الباطلة لا تنكشف الحجب عن القلب، ويبقى حاجز بين القلب وبين إدراك الحقيقة حتى يزول هذا الستر وهذا الحجاب الذي يحجبه عن إدراك الحقيقة.
يقول: "فنسأل الله تعالى كمال اليقين والثبات في الدين لنا ولكافة المسلمين إنه أرحم الراحمين"، ويخص بالتثبيت الكامل أهالينا وأولادنا وذرارينا ومن في بيوتنا وقراباتنا، -اللهم آمين-.
يقول: "اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة في وجه التدريج والإرشاد وترتيب درجاتها، ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشأته ليحفظه حفظاً". فإن من السنة أن نُسمِع الصبي عندنا عندما يخرج من بطن أمه اسم الله واسم رسوله بالأذان، ثم لما يبدأ ينطق ويتكلم ينبغي أن نعلمه اسم الله، واسم محمد، ليكون متدرب اللسان على النطق باسم ربه، باسم رسوله.
وكنا نشهد الشياب والأمهات لما يربون أولادهم، فمن أول ما يتعلمون تقول له: الله، الله، الله. فما يلاعبون أولادهم إلا بهذا الاسم، وينشئونهم حتى يتعود الصبي أول ما ينطق باسم ربه -سبحانه وتعالى-. ثم القاء هذه العقائد، كان هذا دأب المسلمين في عامة المناطق، من أولادهم الصغار يحفظونهم هذه العقائد الواردة عن الله ورسوله، فيحفظونها، ولما يكبر يتعلمون معناها بما يتسع لهم، لكن يكون ضميرهم قد انشرح بها من صغرهم.
فلهذا في المتأخرين انتشر مثل عقيدة العوام للشيخ المرزوقي من علماء مصر من أهل البيت، فكانوا يحفظونها للأطفال وهم صغار.
أبدأ باسم الله والرحمنِ وبالرحيم دائم .. في أربع سنين، خمس سنين، وهم يهجون بها.
أبدأ باسم الله والرحمنِ ** وبالرحيم دائم الإحسانِ
فالحمد لله القديمِ الأولِ ** الآخرِ الباقي بلا تحولِ
ثم الصلاة والسلام سرمداً ** على النبي خير من قد وحّدا
وآله وصحبه ومن تبع ** سبيل دين الحق غير مبتدعِ
وبعد فاعلم بوجوب المعرفةِ ** من واجبٍ لله عشرين صفةً
فالله موجودٌ قديمٌ باقِ*** ……
يجيب صفات الله، وبعدين الأنبياء، وبعدين الملائكة، وبعدين سيرة النبي ﷺ. فيحفظونها من الصغر، ولما يبدأو يكبرون، يتفتح معناها لهم شيئاً فشيئاً. ولكن هذا في المدة الأخيرة انقطع، صار الذي يُنشر في الأجهزة وفي اللهو هو الذي يسيطر على أطفالنا، ويمشون وراءه، لا اعتقادات صحيحة ولا قيم صالحة؛ وتخبط في فكره. البذرة ما هي لحقائق الإيمان واليقين، ما هي البذرة عنده مسكين، مشغول الذهن بهذه الألعاب، وما يعرف كيف يقوي أو يبني على عقيدة صحيحة. فالله ينظر إلينا وإلى أولادنا ويحميهم من شر الزمان وفتنه.
قال: "ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشأته ليحفظه حفظاً، ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئاً شيئاً. فابتداءً الحفظ، ثم الفهم، ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به، وذلك مما يحصل للصبي بغير برهان"، ما يحتاج الصبي لأن الله تعالى فطر الناس عليه (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [سورة الروم:30]، قابلين لهذا الإيمان من الصغر. تقول له لا إله إلا الله، ربي خالقنا وخالق كل شيء، خلاص يأخذها مُسلِم بها موقن من دون دليل ومن دون ما يحتاج الى شيء. فالفطرة نفسها متناسبة مع هذه الحقيقة.
قال: "من فضل الله تعالى على قلب الإنسان أن شرحه في أول نشوئه للإيمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان. وقد شرحنا ذلك في كتاب (قواعد العقائد )من كتاب( إحياء علوم الدين)". واستخلص منه الشيخ الرملي منظومة سماها رياضة الصبيان؛ كانوا يحفظونها عندنا ابن سبع سنين، ثمان سنين، يحفظونها رياضة الصبيان، منظومة عجيبة وفيها ما يتعلق بالإيمان والآداب والأخلاق، ويتربون عليها.
"بمعنى: أنه يعتقده ويصدق به تصديقاً جزمًا"، يجزم به. وهذا الجزم هو المفروض الذي لا يقبل الإيمان بدونه لأي أحد، يجزم بهذا الحق أنه هو كذلك، لكن وراء هذا الجزم بعد ذلك رتب.
يقول: "وراء هذه العقيدة رتبتان:
قال هاتان: "الرتبتان جميعاً ليستا واجبتين على جميع العوام".
يعني: تحصل النجاة من النار ودخول الجنة بمجرد الجزم بهذا الاعتقاد، وإن لم يعرف الأدلة. الذي يعرف الأدلة يستطيع أن يبين أحسن وأكثر، ولكن الذي يعرف أسرارها ولُباب معانيها شأنه أكبر، ووراء ذلك النزول إلى عين اليقين، وفوقه حق اليقين، وهذه رتب للمقربين والصديقين والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ممن سبقت له السابقة من خواص المؤمنين.
لكن النجاة مترتبة على الجزم بالاعتقاد الأول، وإذا جزم بهذه العقيدة فهو ناج من النار، بس الرتب تختلف بعد ذلك.
يقول: "أعني أن نجاتهم في الآخرة غير موقوفة" على الرتبتين الثانيتين، معرفة الأدلة ولا معرفة الأسرار ولُباب المعاني. "ولا فوزهم موقوف عليهما"، يعني: بدخول الجنة "وإنما الموقوف عليهما كمال السعادة"، لكن أكثر أهل الجنة البُلُه وعليون للكبار أولي الألباب. وعليون لأولي الألباب. ألحقنا الله بهم بلطفه وكرمه. قال: "إنما الموقوف عليهما -على الرتبتين- كمال السعادة".
قال: "أعني بالنجاة: الخلاص من العذاب"، والجحيم والشدائد والأهوال، و"بالفوز: الحصول على أصل النعيم"، دخول الجنة -تمام- هذا نجاة وهذا فوز. والسعادة، فهذا ارتقاء الدرجات العلا في الجنة، يطلع على فوق، الى عليين ومزيد والفردوس. هذا السعادة فوق الفوز سعادة، وضرب لنا مثال. قال: "أعني بالسعادة: نيل غاية النعيم. فالسلطان -إذا فرضنا أن أي ثورة قامت أو دولة جاءت- واستولت على بلدة، وفتحتها عنوة قهراً"، فالناس الذين في البلدة التي دخلها هذا السلطان ما بين معذب وما بين ناجٍ وما بين فائز وما بين سعيد، يضرب المثال حتى نعرف أنه قدامنا في الآخرة درجات ما الناس يستوون فيها. (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ ) [العمران:163].
قال: "فالذي دخل السلطان إلى البلدة لم يقتله ولم يعذبه"، هذا ناجٍ، لا حبسه ولا زرّزره ولا عذبه، خلاه في حاله. هذا "ناجٍ، وإن أخرجه من البلدة، -ناجٍ-. والذي لم يعذبه مع ذلك، قال له: تفضل محلك، آمن مطمئن. هذا فائز. هذا "فائز" سَلِم من العذاب ومُكِّن أن يبقى في مكانه وبين أهله وأولاده في ملكه دون إزعاج، إذاً هذا فائز فوق الناجي. الثاني حتى بس لا عذبه ولا قتله، قال له: إبعد من هنا، فقط أخرج. هذاك ناجي ما هو فائز. لكن هذا ناجي وفائز. فائز، قال له تفضل محلك، تفضل بيتك قدامك واكلك وعملك امشي في طريقك؛ ولكن بعضهم فوق هذا، والذي خلع عليه وقربه قال له: تعال هذه الوظيفة لك مكانه عندنا وقم بكذا. هذا فوق النجاة، قده سعيداً. حصل السعادة، ما هو مجرد اقعد محلك، تعال فنعطيك وخلع عليه الخلع، وهم درجات بعد ذلك. قال: " والذي خلع عليه وأشركه في ملكه واستخلفه في مملكته وإمارته فهو مع النجاة والفوز سعيد. ثم زيادات درجات السعادة لا تنحصر". واحد خلّاه جنبه، واحد خلّاه في القصر للجلي، وواحد خلّاه في دائرة المملكة، وواحد خلّاه على الدواب والحيوانات، وواحد خلّاه على المزارع، وواحد خلّاه على أولاده، فرق بين هذا وهذا وهم درجات، كلهم سعداء، لكن ذا أسعد من هذا. وهكذا الدرجات في الآخرة.
قال: "واعلم أن الخلق في الآخرة ينقسمون إلى هذه الأصناف بل إلى أصناف أكثر من هذه". قال تعالى: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ..) -يعني في الدنيا- (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)[ الإسراء:21]. إنما جعل لنا هذه النماذج لتستفيد عقولنا ومداركنا معاني الدرجات في الآخرة والفوارق بين الناس هناك.
ومنهم السعداء، الذين يرتقون فوق الجنة في الدرجات العلا. ونجد في دعاؤه ﷺ:
ولكن فوق الفراديس كلها درجة واحدة لواحد فقط، اسمها الوسيلة؟ هذه لا نبي ولا ملك فيها إلا محمد بن عبد الله. "فاسألوا الله لي فإنها درجة لا تنبغي إلا لعبد وأرجو أن أكون أنا هو" يقول ﷺ. هي حقه الوسيلة.
لكن نحن لما نتذكر منزلته عند الله هذا ونقول: "آتِ محمداً الوسيلة"، ترتقي درجاتنا وننال شفاعته، "من سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي". أما هي! فهي له من قبل ما تخلق أنت، سألته ولا ما سألته اسكت ساكت. هي حقه أصلاً قبل ما تخلق أنت وأبوك وجدك. هي حقه ﷺ، قده مكتوبه له. ولكن لما تسأله إياها أنت، يتنمى عندك الإيمان واليقين وتحصل فوائد وربح أن يشفع لك، وأن تقترب منه لما تتذكر مكانته عند الرب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فشرع لنا بعد كل أذان أن نصلي عليه ونسأل له الوسيلة. ووعدنا أن من فعل ذلك يشفع له ﷺ، في أي رتبة أنت كنت يشفع لك، ولو كنت من كبار الصديقين من أمته يشفع لك، يشفع لك في اتساع جاهك، يشفع لك في اتساع شفاعتك، يشفع لك في ارتفاع درجاتك في الجنة؛ فالكل يدخل في شفاعته ﷺ. هذا صاحب الفضيلة والوسيلة والدرجة العالية الرفيعة والمقام المحمود ﷺ.
قال: "وقد شرحنا من ذلك ما أمكن شرحه في كتاب (التوبة) -درجات الناس في الآخرة-، من كتب إحياء علوم الدين، فاطلبه منه".
يقول: "أما الرتبة الأولى من الرتبتين، وهي معرفة أدلة ظاهر هذه العقيدة، فقد أودعناها الرسالة القدسية". الرسالة القدسية كتبها في بيت المقدس؛ عند رجوعه ترك التدريس في أعلى مدرسة في ذاك العصر النظامية في بغداد، ما كان أرفع منها بين المسلمين، أشهر واحدة على الإطلاق، فيها كبار العلماء وعنده ثلاثمئة طلاب من كبار علماء الأرض في ذيك الأيام، تركهم وخرج منها.
واعتذر للأمير أنه يريد الحج، وخرج منها إلى الشام وأقام عشر سنين في دمشق وجاء بيت المقدس، وألف الرسالة القدسية هذه في بيت المقدس، لذا سماها قدسية لأنه ألفها في القدس، وهي رسالة قدسية. وهي من جملة ما في قواعد العقائد من إحياء علوم الدين، ذكرها هذه الرسالة. قال: هذه فيها أدلة ظاهرة، "قدر عشرين ورقة، وهي أحد فصول كتاب قواعد العقائد من كتاب (الإحياء). وأما أدلتها مع زيادة تحقيق وزيادة تأنق في إيراد الأسئلة والإشكالات أودعناها كتاباً آخر سماها (الاقتصاد في الاعتقاد)"، موجود الكتاب مطبوع، "في مقدار مائة ورقة، وهو كتاب مفرد برأسه يحوي لباب علم المتكلمين، ولكنه أبلغ في التحقيق وأقرب إلى قرع أبواب المعرفة من الكلام الرسمي"، يعني: الذي تواتر عليه علماء الكلام -علماء التوحيد- يرجعوا يقفون عند فلسفة ومجرد أدلة ظاهرية، قال أنا قربته من سر المعرفة الخاصة، يعني أودعت مع هذه الأدلة تحريك لباطن الإنسان ليغوص على معرفة حقائق هذه العقائد وما إليه في كتابه هذا "الاقتصاد في الاعتقاد".
قال: "أقرب إلى قرع أبواب المعرفة من الكلام الرسمي الذي يصادف في كتب المتكلمين، وكل ذلك يرجع إلى الاعتقاد لا إلى المعرفة -قال هذا الاعتقاد بس هو المعرفة وراء ذلك- فإن المتكلم، -يعني: صاحب علم الأدلة من علوم التوحيد، لا يفارق العامي في كونه عارفاً وكون العامي معتقد، بل أيضا معتقدٌ، عرف مع اعتقاده أدلة الاعتقاد" ولم ينته إلى رتبة المعرفة بالله، يعني المعرفة الخاصة أما المعرفة العامة حتى العوام حتى عوام المسلمين كل من يشهد أن لا إله إلا الله عرف الله، ولكن المعرفة الضعيفة يقابلها أيضاً محبة عنده ضعيفة على قدر هذه المعرفة، ومن عرف أكثر أحب أقوى وأكثر. ولكن المعرفة الخاصة قال لا هي عند العوام ولا هي عند علماء التوحيد الذين يرسمون الأدلة ويقيمون عليها، أنت معتقد مثله مثل العامي، الفرق بينك وبينه أنت عندك قدرة على إيراد الأدلة وهو ما يعرف يورِد الأدلة فقط؛ الاعتقاد هو واحد بينك وبينه، المعرفة الخاصة عندكم ما وصلتم عندها بعد، لها طريقة الله أكبر.
قد "يرجع إلى الاعتقاد لا إلى المعرفة" فالمتكلم المتوسع في علوم التوحيد وعلم الكلام لا يفارق العامي في الاعتقاد، هو الاعتقاد هو العامي، بل بعض العوام أبعد عن الشكوك، يكون عنده أثبت وأرسخ.
قال سيدنا الفخر الرازي: "اللهم إيمان كإيمان العجائز"، إيمان العجائز قوي راسخ ما يقبل الشك أبداً، قالوا: مرة كان يمشي ويمشي أمامه ناس يقولون: وسعوا الطريق ومرت عجوز قالت: من هذا؟ قالوا: هذا الإمام الفخر الرازي، قالت لهم: الفخر الرازي إيش خصوصيته؟ قالوا: يقيم على وجود الله ألف دليل. فقالت له: هو يقيم على وجود الله ألف دليل، وهل يحتاج وجود الله إلى دليل؟ هو الذي يحتاج وجوده إلى دليل، أما الله تعالى كل يعرفه كل شيء دليل على وجود الله، وبلغوه خبرها، قال: اللهم إيمان كإيمان العجائز، قالت له: هل ننتظر حتى هو يقيم الأدلة، كل شيء يدلنا على ربنا ووجوده وإحاطته بنا ننتظر فخر الرازي يقول دليل، كل شيء يدل على وجود الله -جل جلاله-، فهو أظهر من أن يقيم الدليل عليه ذاك أو ذاك.
قال: "بل هو أيضاً معتقدٌ عرف مع أعتقاده أدلة الاعتقاد؛ ليؤكد الاعتقاد ويسمِّرهُ، -يعني: يثبته كما توثق الشيء بالمسمار- ويحرسه عن تشويش المبتدعة، لا ليحل عقدة الاعتقاد إلى انشراح المعرفة"، ما ارتفع إلى ذاك أبدًا، طيب قال: وبعدين …أين… المعرفة هذه؟
قال: "فإن أردت أن تستنشق شيئاً من روائح المعرفة.. ، صادفت منها مقداراً يسيراً مبثوثاً في (كتاب الصبر والشكر) من كتب إحياء علوم الدين، الصبر والشكر قال: تحس الرائحة، تحس رائحة المعرفة وتُروَح، بس تشمها وإن الرائحة هذه قال مقدار يسير، ما تشوف المعرفة كلها بتغيب وتطلع مكان ثاني، قال: تشم شوية من المعرفة، "مقداراً يسيراً مبثوثاً في (كتاب الصبر والشكر) و(كتاب المحبة)" من كتب المنجيات من إحياء علوم الدين قال: فيه ريح ، ريح من المعرفة تشمه، "وباب التوحيد من أول (كتاب التوكل)"من المنجيات عنده، قال: فيه شم، تشم المعرفة الله الله. وجملة ذلك من كتب (الإحياء)، وتصادف منها قدراً صالحاً يُعرِّفك كيفية قرع باب المعرفة"، مع الشم يعرفك كيف تطرق الباب.
يقول الشاعر:
ليس من نُوِّه بالوصل لدي *** كالذي سِيق به حتى وصل
لا وللواصل عندي كالذي *** طرق الباب وللدار دخل
لا وللداخل عندي كالذي *** أجلسوه عندهم في المستهل
لا وللجالس عندي كالذي *** ساررُوه فهو للسرِّ محل
درجات عند الله، بالأول تشم المعرفة وبعدين قال يعرفك كيف تطرق الباب حقها ، -تجي-، عسى الله يدخلك مع العارفين. العارفون به كلهم نور وكلهم حضور وكلهم أدب وكلهم عبودية للرب من رأسهم إلى قدمهم. أعز شيء عندهم الله ما يصبرون عن ذكر الله والالتجاء إليه في حسهم ومعناهم وظاهرهم وباطنهم، مقتضى المعرفة شأنها عظيم.
قال سيدنا الإمام العيدروس: إن خواص الخلق المؤمنون، -والمؤمنون خاصة من جملة بني آدم- وخواص المؤمنين العلماء، وخواص العلماء العارفون، وفي العارفين -بعدين- خواص، من أهل الرضا فوقهم إلى الأنبياء، هم درجات عند الله.
يا رب وفر حظنا من الإيمان واليقين، اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، كما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، كما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه.
يقول: "وتصادف منها قدراً صالحاً يُعرِّفك كيفية قرع باب المعرفة في كتاب (المقصد الأسنى في شرح معاني الأسماء الحسنى)"، وكذلك كتابه الآخر اسمه (مشكاة الأنوار)، شرح فيه معاني قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..)[النور:35] وإلى آخر الآية، هذا توقفك على الباب، يقول لك: شوف الباب قدامك اقرع عسى يفتح لك، وإذا أحسنت قرع الباب، الكريم لا بد يفتح، قريب أو بعيد، إذا أنت صدقت يفتح، من دق باب كريم فتح.
يقول: "لا سيّما في الأسماء المشتقة من الأفعال"، مثل الكريم والرحيم والمعطي والمانع وما إلى ذلك. "وإن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة من غير مجمجة.."؛ -كلام ما له معنى وما يفهم معناه؛ "ولا مراقبة.. فلا تصادفه إلا في بعض كتب المضمون بها على غير أهلها، وإيّاك أن تغترَّ وتحدث نفسك بأهليّتها، وتشرئبَّ لطلبه، فتستهدف للمشافهة بصريح الرَّد".
هذا وقفنا عنده، الله الله..
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، ووفر حظنا من هذه العطايا الكبيرة، هذه التي لا يعطيها إلا الخواص إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب وهذه خصوصيات الدين، يعطيها من يحبهم من بين أهل الدين.
قال المصنف -رحمه الله- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
إلَّا أن تجمع ثلاث خصال:
"إحداها: الاستقلال في العلوم الظاهرة، ونيل رتبة الإمامة فيها.
والثاني: انقلاع القلب عن الدنيا بالكُلية، بعد محوِ الأخلاق الذميمة كلها منه -كما سيأتي في أصول الأخلاق الذميمة- حتى لا يبقى فيك تعطش إلا إلى الحق، ولا اهتمام إلا به، ولا شغل إلا فيه، ولا تعريج إلا عليه.
والثالثة: أن يكون قد أتيحت لك السعادة في أصل الفطرة؛ بقريحة صافية، وفطنة بليغة، لا تكل عن درك غوامض العلوم ومشكلاتها، على سبيل البديهة والمبادرة؛ فإن البليد إذا أتعب خاطره وأكَدَّ نفسه.. ربما أدرك بعض الغوامض، أيضاً ولكن يدرك منها شيئاً يسيراً في مدة طويلة.
فلن يصلح لاقتباس أنوار المعرفة الحقيقية.. إلا قلب صافٍ كأنه مرآة مجلوَّة، وإنما يصير كذلك بقوة الفطرة وصحة القصد، ثم بإزالة كُدورات الدنيا عن وجهه؛ فإنه الرّين والطبع الذي به يمنع الله القلوب عن معرفته، فإِنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ".
يا من يحول بين المرء وقلبه انظر إلى قلوبنا وصفها ونقها وطهرها حتى تجتلي حقائق المعرفة بك يا الله ثم المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة.
إذا أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة قال ذكرنا بعض شؤونها في مثل هذه الكتب اللي أشار إليها ولكن هذه ما كل من قرأها عرفها، وإذا لم يكن من أهلها يدعيها ويتصور عنها تصورات فاسدة وباطلة ولا هو حول الحقيقة من قريب ولا من بعيد، زادته كدورة فوق الذي هو فيه، دعاوي وبلاوي وتصورات فاسدة وبعُد أكثر ويظن نفسه عرف؛ وربما تبجح وقال يصلح لهذا وللاستفادة من مثل هذه الكتب من اجتمعت فيه ثلاث خصال:
الأولى: أنه عنده قوة اطلاع "في العلوم الظاهرة، ونيل رتبة الإمامة فيها"، والاطلاع على العلوم الظاهرة هذه من فقه وحديث وتفسير وأصول وتمكن منها؛ واحد.
الثانية: أكرم بتصفية القلب، "انقلاع القلب عن الدنيا -ومحبتها- بالكُلية"، لا مالها ولا جاهها ولا منزلتها ولا حكمها ولا سلطانها، ماعاد بقي به رغبة لشيء من هذا ولا التفات إليه "بعد محوِ الأخلاق الذميمة كلها منه -من القلب- -كما سيأتي في أصول الأخلاق الذميمة- في الكتاب هذا حتى لا يبقى فيك تعطش إلا إلى الحق، ولا اهتمام إلا به، ولا شغل إلا فيه، ولا تعريج إلا عليه"، قصدك واحد، مرادك واحد، فكرك في واحد، وجهتك إلى واحد، وأنت واحد لواحد، إذا كان قصدك كذا ممكن الآن
ومع الاثنين هذا الثالث: أنـت أُكرِمت بوعي وذكاء وفطرة وعقل قوي، قد يكون عندك هذا التوجه لكن مداركك صغيرة، يصعب عليك الغوص في الدقائق والمعاني، خلاص كل عند حده يقف، لكن أعطاك الله فطرة صافية وعقل قوي ومدارك وذهن واسع، مع الأوليين هذا أنت تستفيد من مثل هذا الكلام، وتستطيع أن تقف منه على حقيقة. لا إله إلا الله.
وهذه الثلاثة التي ذكرها، يتيسر إذا أُكرم بها إنسان بصدق الوجهة إلى الحق تعالى، وتمام التزكية على يد شيخٍ بسنده إلى الحبيب ﷺ؛ ربما تدارك أشياء كثيرة وانقطعت عنه مسافات بعيدة إذا أُكرم بذلك.
يقول: "أن يكون قد أتيحت لك السعادة في أصل الفطرة؛ بقريحة صافية، وفطنة بليغة، لا تكِل عن درك غوامض العلوم ومشكلاتها، على سبيل البديهة والمبادرة؛ فإن البليد إذا أتعب خاطره وأكَدَّ نفسه.. ربما أدرك بعض الغوامض، أيضاً ولكن يدرك منها شيئاً يسيراً في مدة طويلة"، ما ينتهي إلى البحور الزاخرة في المعرفة هذه "فلن يصلح لاقتباس أنوار المعرفة الحقيقية.. إلا قلب صافٍ كأنه مرآة مجلوَّة"، هذه أدركها بعض الصحابة وهو في سبعة عشر سنة، وشهد له ﷺ بذلك، الله لا إله إلا الله، حارثة كيف أصبحت يا حارثة؟ لقيه النبي مرة في الصباح، قال: "كيف أصبحت يا حارثة؟" بعد ما سلم عليه قال: أصبحت مؤمناً بالله حقاً، فالتفت له وقال له: "إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك" قال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومدرها -التراب والذهب سوا- وأصبحت كأني أرى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون فيها، وأسمع أهل النار يتعاوون فيها. قال له: "عبد نوّر الله قلبه عرفت، عرفت فالزم". عبد نور الله قلبه عرفت فالزم ، مع ذلك ما اكتفى بهذا، قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني الشهادة في سبيله. قال: "اللهم ارزق حارثة الشهادة في سبيلك". بعدها خرجوا في غزوة بدر كان منهم، وخرج في غزوة بدر وهو في هذا السن، سبعة عشر أو ثمانية عشر سنة، وجاءه سهم من المشركين وقتِل، كان أحد الأربعة عشر الذين استشهدوا في بدر -قصة رجوعهم في رواه البخاري في صحيحه- لما رجع ﷺ تعرضت له أم حارثة، قالت له: يا رسول الله أين ابني؟ ما كان عندها أحد من الأولاد إلا هو، لا ابن ولا بنت، ولد في ثمانية عشر سنة. قال: احتسبيه عند الله، قُتل في سبيل الله. قالت: يا رسول الله، أخبرني أين ابني؟ قال: احتسبيه عند الله قالت أخبرني أين ابنب إنك تعلم منزلة حارثة مني، وأنه ليس لي ولد غيره، فأخبرني أين ابني؟ إن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك فلترينّ ما أصنع. فقال: "ويحكِ يا أم حارثة، إنها جنان كثيرة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى"، "إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى".
فالعارف هذا انظر أين طلع وفي هذا السن. سبحان الله ، عجائب الصحابة هؤلاء لما أشرق النور قوي عليهم قطعوا المسافات بسرعة. كان يتعجب بعض العارفين يقول إن الأولياء يقولون إن الاجتماع بالنبي ﷺ في اليقظة لمن يجيء بعده في الدنيا ما يتم إلا بعد قطع مئة ألف مقام ومئة ألف مقام من مقامات الولاية. قال: الصحابي من أول إسلامه يحصِّل له هذا، يجتمع بالنبي يقظة قدامه ويشوفه ويشاهده، وهو صبي صغير وهو في هذا المقام قدامه رسول الله وهو مؤمن به يسمع منه كلامه. و يجيء من بعدهم ما يحصلها إلا بعد كم؟ لكن هؤلاء انقطعت لهم المسافة بسرعة، المربي حقهم قوي، منزلته عند الله عظيمة. لكن ضيع هذه الفرصة من أنكر ومن جحد ومن نافق ومن ألحد، مساكين. والذين آمنوا به ارتفعوا رِفعة ما بعدها رِفعة. (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً)[الحديد:10]، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وجمعنا بهم في دار الكرامة.
يقول: "وإنما يصير كذلك بقوة الفطرة وصحة القصد، ثم بإزالة كُدورات الدنيا عن وجهه"، وهذا يترتب على التربية وعلى الاتصال بالمربين والمزكيين، "فإنه الرّين والطبع الذي به يمنع الله القلوب عن معرفته، فإِنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ"، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا.
وانتهينا من القسم الأول، ننتقل معنا إلى القسم الثاني في الأعمال الظاهرة، فإذا ثبتت هذه العقيدة فنستطيع من الأعمال الظاهرة أن نجني ثماراً كثيرة وكبيرة ونؤديها على وجهها. ثبتنا الله ورزقنا الاستقامة، آمين اللهم آمين.
سؤال:
ظهر في زماننا وسط الشباب دعوة إلى الإلحاد، وبعضهم يجهرون بذلك؟
يرْثون ومساكين تعرضوا، فالحق أظهر من كل شيء، ولكن أوقعتهم هذه الانقطاعات والبعد عن التربية الحسنة وعن الاتصال بالسند الكريم أوقعهم في هذه التأثرات. فالتعامل معهم بالحرص على بيان الحقيقة لهم، والرثاء لهم في هذا الحال الذي هم فيه، والرجاء من الله تعالى رجوعهم إلى طريق الحق، واستعمال الوسائل التي يمكن أن يتوصل بها إلى إخراجهم من هذه الظلمات. فبعضهم يأثر فيه حسن المعاملة، وحسن الخلق واحتواؤه، وبعضهم قد يؤثر فيه الإعراض عنه وتركه.
وعلى كل حال لا يمكن إقرارهم على شيء من ذلك؛ ولكن أقل ما يكون أن نقول لهم إنك أخطأت الطريق واختلطت عليك الأمور، و الدلائل واضحة، و يمكنك أن تعتبر؛ لا يقوم على شيء كلامهم من حجة ولا من برهان من قريب ولا من بعيد.
وعلى كل حال علينا أن نبذل الوسعة ليخرجهم الله من الظلمات إلى النور، والأمر أمر الله من قبل ومن بعد.
اللهم احفظ علينا الإيمان والدين، وما قضيت علينا من شيء فاحفظ علينا فيه العقل والدين، برحمتك يا أرحم الراحمين. بالتوفيق والبركة والقبول والصلاح والفوز والنجاح والسعادة في الدارين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة.
21 صفَر 1447