(339)
(535)
(364)
الدرس الثالث للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . مواصلة شرح القسم الأول: في جمل العلوم وأصولها (الأصل التاسع: في اليوم الآخر)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الخميس 20 صفر 1447هـ
مشاهد تُوقِظ القلب.. تعرّف على مراحل اليوم الآخر (يوم القيامة): النفخة، البعث، الحشر، الصحف والميزان، ثم الصراط والشفاعة.. يوضح الحبيب عمر بن حفيظ معاني الإيمان باليوم الآخر، في تصويرٌ بديع للاستعداد ليومٍ لا ينفع فيه إلا صدقُ الإيمان، يبعث على اليقين والعمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتّصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الأصل التاسع
في اليوم الآخر
"وأنَّه يُفرّقُ بالموت بين الأرواح والأجساد، ثم يُعيدها إليها عند الحشر والنُّشور، فيُبعثر ما في القبور، ويُحصّل ما في الصدور، فيرى كل مكلَّف ما عمله من خير أو شر محضرًا، ويُصادف دقيق ذلك وجليله مسطرًا، في كتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ويَعرف كل واحد مقدار عمله خيره وشرّه بمعيار صادقٍ يُعبر عنه بالميزان، وإن كان لا يساوي ميزان الأعمال ميزان الأجسام الثقال، كما لا يساوي الأصطرلاب الذي هو ميزان المواقيت، والمسطرة التي هي ميزان المقادير، والعروض الذي هو ميزان الأشعار.. سائر الموازين.
ثم يُحاسبهم على أفعالهم وأقوالهم، وسرائرهم وضمائرهم، ونياتهم وعقائدهم، مما أبدوه وأخفوه؛ فإنَّهم يتفاوتون فيه؛ إلى مناقش في الحساب، وإلى مسامح فيه، وإلى مَنْ يدخل الجنَّة بغير حساب.
وأنَّهُم يُساقون إلى الصراط؛ وهو جسر ممدود بين منازل الأشقياء والسُّعداء، أحدُّ مِنَ السَّيفِ، وأدقُ مِنَ الشَّعَرِ، يَخِفُ عليه من استوى في الدُّنيا على الصراط المستقيم الذي يوازيه في الخفاء والدقة، ويتعثرُ بِهِ مَنْ عدل عن سواء السبيل المستقيم، إلا مَنْ عُفِيَ عنه بحكم الكرم والجود.
وأنَّهُم عند ذلك يُسألونَ؛ فَيَسْأَلُ مَنْ شَاءَ مِنَ الأنبياء عن تبليغ الرسالة، ومَنْ شَاءَ مِنَ الكُفَّارِ عن تكذيب المرسلين، ومَنْ شَاءَ مِنَ المُبتدِعَةِ عَنِ السُّنَّةِ، وَمَنْ شَاءَ مِنَ المسلمين عن أعمالهم؛ فيَسأَلُ الصادقين عن صِدقهم، والمنافقين عن نفاقهم.
ثمَّ يُساق السُعداء إلى الرحمن وفدًا، والمجرمون إلى جهنم وردًا، ثم يأمر بإخراج الموحدينَ مِنَ النَّارِ بعد الانتقام، حتَّى لا يبقى في النَّارِ مَنْ في قلبه مثقال ذَرَّةٍ مِنَ الإيمان، ويَخْرُجُ بعضهم قبل تمام العقوبة والإنتقام بشفاعة الأنبياء والعلماء والشهداء، ومَنْ له رتبة الشفاعة.
ثم يستقرّ أهل السعادة في الجنَّةِ مُنعمين أبد الآبدين، مُمتَّعِينَ بالنظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
ويستقرّ أهل الشقاوة في النَّارِ مُردَّدين تحت أنواع العذاب، مُبعدين عن النظر بالحجاب إلى وجه الله ذي الجلال والإكرام".
عزَّ وجلّ -جل جلاله-
الحمد لله مكرمنا بنور الإيمان به، وبما أرسل به رُسُله وأنبيائه، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لا نَحصُر ولا نَعُدّ إفضاله وآلاءه وإنعامَهُ علينا في جميع الشؤون. نَشهد أنّ عبدَه المصطفى محمد رسوله إلى جميع الخلائق بالهُدى ودِين الحقّ، صلّى الله وسلم وبارَك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عِباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم.
في هذا الأصل التاسع يذكُر اليوم الآخِر، سُمّي اليوم الآخِر: لأنه لا ليل بعده؛ أي: هذا النّظام الذي جعله الله في هذا العالم من الليل والنهار وتَوَاليه على أكثر بِقاع الأرض في خلال اليوم والليلة، يتغير هذا النّظام وينتهي بانكساف الشمس والقمر (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) [القيامة: 7-9] ويتحول الحال، فلا بقاء لشيء من هذا الترتيب الموجود الآن، ولهذا سُمِّى باليوم الآخِر، لا ليل بعده، ولكن ما بعده إلا عَرَصات القيامة، ثم الخلود في الجنّة أو في النار، جعلنا الله مِنْ أهل جنّاته.
الإيمان باليوم الآخِر أحدُ أركان الإيمان الستّة، كما هو معلوم. وعلِمنا عن الحقّ تبارك وتعالى على لسان رسوله أنّه ما مِنْ جسد نَفَخ فيه الرّوح إلا ويُفرَّق بين ذلك الجسد والرّوح،
ولا يبقى حتى قابِضُ الأرواح بأمر الله تعالى سيّدنا عَزرائيل عليه السلام، تُقبَض رُوحه وتُفارِق جسده، بعد أن يميت الله على يده عامّة الخلائق، ثم آخِرهم يَتمّ خروج أرواحهِم من أجسادهِم بالنّفْخة؛ بالنّفْخة في الصُّوْر (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ) [الزمر: 68].
ونافِخ الصُّوْر كذلك سيدنا إسرافيل -عليه السلام- بعد نفْخِهِ الصُّوْر أيضا تُقبَض روحه، وقد وَرَد في ذلك آثار في ترتيب قَبْض الأرواح بين الملائكة الأربعة، آخر من تُقبَض أرواحهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعَزرائيل عليهم السلام. فيُفرَّق بيننا بالموت -بين الأرواح والأجساد-، فما من جسد كُوِّن ونُفِخَت فيه الروح إلا والله -تعالى- قبل يوم القيامة مفرِّقٌ بين ذلك الجسد والروح.
ومن أواخر أيضا مَن يُفرَّق بين روحه وجسده عدوّ الله إبليس، الذي طلَب الإنْظار إلى يوم يبعثون؛ أراد النّجاة من الصَّعقة، فقال الله -سبحانه وتعالى-: (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)[الحجر:37-38]. وقت الصّعقة بنُخَرِّج روحك، ما تبقى إلى يوم البَعث، ولكن تَخرُج روحك أولاً، ثم تُبعَث مثل مَن يُبعث. فما أَنظَرَه إلى يوم يبعثون؛ ولكن أَنظَرَه إلى يوم الوقت المعلوم، يعني: إلى وقت النّفخ في الصُّوْر، فتُقبَض روحه كما تُقبَض أرواح غيره، ثم تُعادُ لأجل البَعث بقدرته تعالى.
قال: "وأنَّه يُفرِّق بالموت بين الأرواح والأجساد، ثم يعيدها إليها"، كما قال -جل جلاله-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)[الزمر:68].
"ثم يُعيدها إليها عند الحشر والنُّشور"، فكان " بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ -مقدار- أرْبَعُونَ"، لم يدرِ الراوي المراد بالأربعين يوم أو الشهر أو السَّنة، ثم تأتي النفخة الأخرى فيَردّ الله تعالى رُوح إسرافيل إلى جسده، فيقوم، فيقول: انفخ بأمري في الصُّور كما نَفَختَ أولاً، فينفخ، فتطير الأرواح من الصُّوْر، وأن الله تعالى يجمع هذه الأرواح، سواءً للملائكة أو بَني آدم أو للجان أو لبقية الحيوانات كلها، عند النفخة تجتمعُ في الصُّور، لكل واحد منها ثَقْب تَحِلُّ فيه، أعداد هائلة سبحان الله! ملايين… مليارات المليارات.. المليارات.. من الأرواح، كلهُّا كل واحد له مكان في الصُّوْر؛ هذا القَرْن العظيم الذي لا يَعْلَم قَدْر عِظَمه إلا الله.
فإذا نَفَخ بأمر الله إسرافيل النّفخة الثانية، طارت الأرواح، كل واحد خرج من ثَقبه مباشرة، بين الاتصال المعنوي الغيبي وبين الجسد الذي كُوِّن فيه، أو كُوِّن له، ما الجسد الذي كُوِّن له؟
فَعَجْبُ الذَّنَب الذي هو آخر العمود الفقري مثل حبّة الذُّرة صغير، هذا لا يُهضَم ولا يُؤكَل، مهما أُكِل لا يُهضَم، ولا يُمحَق، ولا يحترق، ويبقى. فيبقى من جُملَة هذا الجسد عَجْبُ الذَّنَب، الجسم يبلى غير عَجْب الذَّنَبِ. قال ﷺ: "ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ"، وما بين النفخة الأولى والثانية يُنزِلُ الله سبحانه وتعالى ماءً مِن السماء يُشْبه المَني، فيغوص في الأرض إلى تُخُومها، حتى لا يُصادِف عَجْبَ ذَنَبٍ لشيء مِن الحيوانات إلا أعاد الله الجسد كما كان عليه آخِر ما فارَق الدنيا، فيعود على هيئته التي فارَق عليها الحياة أول مَرّة، كل جسد يعود كذلك. فإذا بالأرض ملآنَة بالأجساد، وفي البقعة الواحدة آلاف يَخرُجون منها، ومِن القبر الواحد قد يَخرج المئات والآلاف من القبر الواحد، والأجساد مطروحة، بمجرد ما يَنفَخ في الصُّوْر تطير الروح مباشرة إلى نَفْس جسدها.
جاءكم أمثلة في عالم الحياة الدنيا، شؤون الريموتات هذه وشؤون الشرائح، ويقذفون بالقذيفة تُتَابع الشريحة حقّها في أيّ محل ولا تقصد إلا هي ولا تُصيب إلا فيها، وكذلك هذه الأرواح إذا طارت، كل واحدة تَعرِفُ الجسد حقّها مباشرة إلى الجَسد الذي كانت عاشت فيه، أو في مثله قبل موتها، على الهيئة التي مات عليها، يُكَوَّن الجسد على الهيئة التي مات عليها. فبسرعة تَصِل الأرواح إلى الأجساد، وينتشر الناس كأنهم جرادٌ منتشر، (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) كما قال -جل جلاله-.
قال: "يعيدها إليها عند الحشر-وهوالجمع- ،والنشور" الإخراج والإقامة من القبور، فالنُّشور: انتشارهم وقيامهم من القبور، والحشر: تجَمّعهم في المكان. وقد بُدِّلت هذه الأرض بغير الأرض وامتدت، ويصير مُرتَكز الحشر للإنس والجنّ والحيوانات بيت المَقْدِس وما حواليه، يكون مَركِز الاجتماع، فيُساق الناس إليها، وتمتلئ بعد ذلك الأرض ملأى مليارات المليارات مِن خَلْق الله تبارك وتعالى (لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مريم: 94-95] كما قال -جل جلاله-.
"فيُبَعثَرُ مافي القبور"، فيُخرج كل جسدٍ صار عَجْبُ ذَنَبِه في أي بقعة من بقاع الأرض، فيُبَعثَر إلى أيّ مدىً كان في الأرض، مع مرور القرون ترتفع الأرض، فيكون بعض عَجْب الذَنَب لبعض الأُمَم المتقدمة تحت الأرض بسبعين ذراع، مائة ذراع، مائتي ذراع، فيصل إليها الماء، وترجع كما كانت، وتُحشَر. يقول أبو العَلا المعري:
صاحِ هذه قبورنا تملؤ الرَّحْبَ *** فأين القبور من عَهْد عادِ؟
خَفِّف الوَطء: امشِ شوي شوي بتواضع وأدب
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ *** الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
أجساد بعد أجساد بعد أجساد، عادت إلى التراب. يقول أظنّ التراب الذي تمشي فيه أديم أجساد كانت مثلك قبلك، عائشة في الحياة الدنيا، فأنت خَفِّف الوَطْء، خلِّ كَبْرَك وخلِّ غَطرَسَتك وخلِّ غرورك.
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ *** الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
لا إله إلا الله، (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) [طه:55].
"يُبَعثَر مافي القبور" يُبَعثِر سبحانه بإذنه ما في القبور (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ)[الإنفطار: 4]، "ويُحصِّل مافي الصدور" التحصيل جَمْعُه وإبرازه، فكل ما حَوَتُه صدور هؤلاء المُكلفين من أيام تكليفهم على حَسَب ما يريده الله تعالى يبرُز، يتجَمّع كل الذي كان في صدرك ويظهَر ويبرُز، تحصيل؛ يُحصَّل تحصيل كما تَرى- تحصيلات عندهم في وقت الحسابات، وفي الجَرْد الذي يقومون به، ما الذي زاد؟ وما الذي نَقَص؟ يُحصَّل ما في الصدور مما انطوت عليه الصدور من نيات، ومقاصد، ووِجهات، وإرادات، كله يُحصَّل، يعني: يُجمَّع ويُبرَز ويُظهر.
سَتَرنا الله بسَتره الجميل، وعامَلنا بفضله الجزيل.
قال: "ويَحصِّل مافي الصّدور، فيرى كلُّ مكلّفٍ ما عَمِلَه"، يرى، تتعدّى الرؤية الحسّيّات إلى المعنويات، وإذا بنا مُركَّبة فينا أبصار هي مثل البصائر، تُشاهد المعنويات كما تُشاهد الحسّيّات، في عالم الدنيا تشوف النظّارات تُقرّب بعيد، وتبْعد قريب، وبعضها عندهم نظارات تخرِق الثياب والأجساد، بعضها تخرِق بعض الجدار في الدنيا. لكن أعظم من ذلك (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق: 22]، تركيبتنا عند البَعث تتحول الأبصار، أبصار مثل البصائر، فُتشاهد المعنويات، تشاهد الصّلاة، والصّوم، والزكاة، والحج، والصّدق، والكَذِب، والأمانة، والخيانة، والكِبْر، والتواضع، كله يُرى ويُشاهَد بِصُوَرِه، القبائح قبيحة الصّوَر، والجميلة جميلة الصّوَر، من جميع الحسنات، وجميع الخيرات، من التواضع، والإخلاص، والصدق، صُوَر جميلة، وروائح حَسَنة طيبة. وكل ما كان قبيح من كِبر، من عُجُب، من غرور، من حَسَد، من سوء ظن، من خيانة، يبرز بصورته القبيحة، ورائحته الكريهة كذلك. فالمعنويات تتحول إلى حسيات (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا)[آل عمران:30].
قال: "فيُبَعثَرُ مافي القبور، ويَحصِّل مافي الصّدور، فيرى كلُّ مكلّفٍ ما عَمِلَه".
يقول سبحانه وتعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا)[الزلزلة:1-5].
ويقول في سورة العاديات: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ)[العاديات:1-11].
ويُحشَر الناس (لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ..) يرى كل واحد ما عمل (..فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، هكذا جاءنا في العموم؛ ومِن غير شك أنّ فيه أيضاً ما جاء في الاستثناءات:
ولكن هذا على وجه العموم هو الذي يحصُل في القيامة.
ومهما بلطفه ورأفته سَتر عبدًا من عباده بستره الجميل؛ فهو الأعلم بالعبد وبما فيه ما يخفى عليه شيء. ولذا يقول بعض العارفين وهو يتذكر عَظَمة الحقّ تعالى والوقوف بين يديه وأنه هو الأحقّ أن يُستَحيَى منه، فكان يقول: واخجلتاه وإن عَفَوت!، قال حتى ولو سامَحتَ وعَفَوْتَ وأنت مطَّلِع على معايبي وأنا ُأقابلك كيف؟ كيف أُقابلك وأنت الإله الرّب؟ ولكن هكذا اقتضى فضله وإحسانه سبحانه وتعالى، حتى يبدل السيئات إلى حسنات بالفضل، له الحمد.
اللهم لا تَدَع لنا سيئة إلا بدّلتها بفضلك إلى حسنة تامة مُوصِلة، يا أرحم الراحمين.
قال: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:30]، "فيرى كل مكلَّف ما عمله من خير أو شر محضرًا، ويُصادف دقيق ذلك وجليله مسطرًا، في كتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها". (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[الكهف:49]. يقول سيدنا ابن عباس: مثل ابتسامة صغيرة، حركة، لَفْتَة، حركة إصبع، كلها قُدَّامك، بأي نِيَّة، وبأي مَقْصَد، وبأي مراد، قُدَّامك. حركاتك وسكناتك، صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها. فما يَسَعُنا إلا عفو ربنا، وتجاوزه عنا، وستره الجميل، وأن يعاملنا بفضله.
قال: "ويَعرف كل واحد مقدار عمله خيره وشرّه"، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) يطّلعون عليها ويشاهدون، هذا عملك. (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)[الإسراء:13-14].
والكتابة فيها تتحول في بيانها ووضوحها إلى ما يسمُّونه في الدنيا صوت وصورة، من دون تَدَخُّل ذكاء اصطناعي ولا شيء من الخربطات حقّهم، إلا الحقيقة نفسها، نفس الحقيقة التي كانت هي وحدها، ذاك يوم الحقائق وانكشافها، ما عاد فيه هناك لا خداع، ولا كذب ولا شيء.
والذين كانوا يكذِبون في الدنيا يحاولون الكذب، يريدون الكذب على الله -سبحانه وتعالى- في البَعث، كما ذكر -سبحانه وتعالى- في سورة المجادلة قال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة: 18-19].
استحوذ يعني: أنساهم ذكر الله، وإشارة إلى أنه ما يتأتى ذكر الله مع استحواذ الشيطان، واحد من الاثنين، تَذْكر الله ما يقدر الشيطان يستحوذ عليك، لكن نسيانك لربك وغفلتك وإعراضك عنه يمكن أن يستحوذ الشيطان. أما مع وجود ذكر الله، ما يقدر يستحوذ، مهما كان بقوته وجنوده كلهم، وقلبك ذاكر لهذا الإله العظيم، الذي بيده ملكوت كل شيء، (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)[هود:56] وأنت تذكره ما يقدر عليك، لا إبليس ولا غير إبليس، إذا كنت ذاكراً له بالتعظيم والمحبة والولاء. فما أسعد حال الذاكرين! اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
قال: "يعرِف كل واحد مقدار عمله، خيره وشره، بمعيار صادق يُعبّر عنه بالميزان"، ولكن هذا الميزان لا تحسبه مثل الموازين التي في الدنيا، هي الموازين التي عندك في الدنيا تختلف في دقتها، ليس ميزان الذهب عندنا مثل ميزان الحديد ولا ميزان الحطب، ميزان الذهب دقيق أدقّ منه، وواحد أدقّ، وواحد أدقّ، إلى الموازين التي يستعملها أصحاب الفَلَك في تعيين ارتفاعات الأجرام السماوية، والوقت، والاسطرلاب، وموازين يعرفون بها حصول الزوال، وبعد الزوال، دقّة. قال: خلَّك من ذي الدِّقات كلها، في دِقَّة قدَّامك هناك، يجيب لك كل حركة، وكل سكون، وكل طرفة عين، وكل إرادة، وكل نية، قدامك بدِقّة قوية، تشوف ما الذي عملتَ أنت؟ لا إله إلا الله!. (لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ).
يقول: "وإن كان لا يساوي ميزان الأعمال ميزان الأجسام الثقال، كما لا يساوي الأصطرلاب الذي هو ميزان المواقيت، والمسطرة التي هي ميزان المقادير، والعروض الذي هو ميزان الأشعار"، مثلًا الشِّعر موزون، وزن إيش؟ قال: كم كيلو؟ ماشي كيلو!، هذا وزن دقيق في الألفاظ، ذي الكلمة تزيد على شطر البيت، وتنقص عن شطر البيت، موازين، خذ لك من الدِّقة ذي كلها! وراءها دِقَّة أكبر، تُعرَض فيها الأعمال عليك. لا إله إلا الله!.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:49].
قال تعالى: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)[الزمر:68-70]، أقامها -سبحانه وتعالى- حُجَج على عِبَادِه، وهو أعلم وأدرى بهم وبما عملوا من أنفسهم، -جل جلاله-.
قال: "ثُمَّ يُحاسِبُهم على أفعالِهم وأقوالِهم وسرائرِهم وضمائرِهم، ونيَّاتِهم وعقائدِهِم، ممَّا أبدَوه وأخفَوه -وأظهروه وستروه-، فإنَّهم يتفاوتون فيهِ، إلى مُناقَشٍ في الحساب، -ومن نوقش الحساب عُذِّب-، وإلى مُسامحٍ فيه، وإلى من يدخلُ الجنَّة بغير حساب" اللّهم ألحِقنا بهم واجعلنا منّهم، وفيهِم قال ﷺ: " من هذه الأمة سبعون ألفاً يدخلون الجنَّة بغير حساب، فاستزدت ربي فزادني، مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً، وثلاثَ حثَياتٍ من حثَياتِ ربي".
كان كثير من الأولياء إذا ذكروا الحديث يقولون: السبعون ألفاً؛ الصحابة أكثر من سبعين ألفاً وحدهم، ومع كل واحد من السبعين سبعين، شيء عظيم. ولكن أين نصل؟ لكن أملنا ورجاؤنا في الحثَيات. يقول: "ثلاث حثَيات من حثَيات ربي"، يعني: دُفَع.. دُفَع كبيرة، أعداد ما تدخُلها لا سبعين ألفاً ولا مئة ألف ولا مليون، دَفْعة من ربكم، قالوا: "ثلاث حثيات من حثيات ربي". كانوا يقولون: رجاؤنا وأملنا في الحثيات هذه، يُدخِلنا الله فيها ويُدخلنا الجنَّة بغير حساب، "وثلاث حثَيات من حثيَات ربي". اللهم صلِّ عليه وعلى آله، كم فكر في مستقبلنا الكبير!، وكم بكى في اللّيالي!، وكم قال: "استزدتُ ربي فزادني"وعَمِل وعَمِل، وأَوحَي إليه: "إنّا سنُرضيك في أُمتِك ولن نسوءك فيهم". صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، لا إله إلّا الله.
قال: "وأنَّهم يُساقون إلى الصِّراط"، وذلك بعد الحشر وعند الحشر أيضاً، فيهم من يُحشر ويؤتى له بالنجائب ويُرفَع إلى ظلِّ العرش ويساق، ومنهم من يُحشر في الظُلمَة ولا يدري أين يذهب إلّا يسمع الصوت، إلى هنا إلى هنا (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ۖ..) وكل واحد يمشي وراء الصوت إلى مكان الاجتماع، (..وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[طه:108].
بعد هذا الموقف الأول جماعات في ظلِّ العرش، وجماعات تحت ضوء الشمس التي ذهب ضوؤها وبقيت حرارتها، فبينهم وبينها مقدار المِيل، ويسيل العرق حتى يغوص في الأرض سبعين ذراعاً، ويُلجِم هذا إلى كعبيه، وهذا إلى رُكْبتيه، وهذا إلى سُرّتِه وحِقْوِيه وهذا إلى تُرقوتِه، وهذا إلى فيه، وهذا ينْغَطِس كلّه في هذا العرق والسائل، شِدّة شديدة حتى يتمنون النُقلة منها ولو إلى النار؛ كحال آدم عندما يشّتد عليه حال وما يحسب الحال الثاني يكون أَشد، ولكن في تلك الحالة يتمنَون أن يُنقلوا ولو إلى النار، ولو دخلوا النار لرأوها أشد، ولكن هكذا حال الإنسان لما يشتد عليه حال يقول: إلى أي مكان خُذنا، بَعِدّنا من هذا فقط، وما يستشعر ما وراءه.
وحينئذٍ يبقى من يستطيع الحركة والفكر في ذاك الموقف فيتوجه إلى الله لينقلهم من هذا الحال الذي هم فيه، فيتوجهون بالشُفعَة لديه فيقصدون الأب آدم عليه السلام، ويعتذر ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيري، يذهبون إلى نوح ونوح كذلك يقول، ويذهبون إلى إبراهيم وإبراهيم كذلك يقول، ويذهبون إلى موسى، وموسى كذلك يقول، ويذهبوا إلى عيسى، وعيسى كذلك يقول، يذهبوا إلى محمد ﷺ، فيجيئوني فأقول: "أنا لها، أنا لها، وأسجد لربي، فيقال لي:يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمَع لقولك، وسَلْ تُعطَى، واشفع تُشَفَّع". فهذا المقام المحمود يَحمدُه فيه البَرُّ والفاجِر، والشفاعة هذه تصل جميع أهل الموقف، جميع أهل الموقف، ومنهم الكافر ومنهم المؤمن. وكلهم ينتقلون من هذه الحالة، وترتفع الشمس إلى الأرض المستوية التي هي أرض الحساب، أرض الحساب التي يكون فيها إلقاء الكتب، ومنهم من يستلمها بيمينه ومنهم بشماله، ويكون فيها أيضاً الميزان، وضع الميزان، ويكون فيها العرض على الله -تبارك وتعالى-، ثم يكون فيها الصّراط الذي يُنصَب،
فهذه أبرز الأشياء التي تكون في أرض الحساب، أربعة أشياء:
لا إله إلا الله، (وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات:24]
قال: "يُساقون إلى الصراط، وهو جسرٌ ممدودٌ بين منازل الأشقياء والسعداء، أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشَّعَر، يَخِفُّ عليه مَن استوى في الدنيا على الصراط المستقيم" -اهدنا الصراط المستقيم.
الصراط المستقيم في الدنيا دقيق؛ فهو في معناه أدق من الشعرة، لأنه إرادة وخطر تحولك من جانب إلى جانب ثانٍ؛ فهو صراط دقيق:
قال "يَخِفُّ عليه -فيمر ويمشي- من استوى في الدنيا على الصراط المستقيم الذي يوازيه في الخفاءِ والدِّقَّة، ويتعثر" -ويقول إبليس: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ ) [الأعراف: 16-17] فيا رب ثبتّنا على الحقِّ والهُدى، ثبتّنا على الصِّراط المستقيم- "ويتعثَّرُ به من عدلَ عن سواء السبيل المستقيم -أيام كان في الدنيا-، إلا من عُفيَ عنه بِحُكْم الكرم والجُود".
يا كريم يا جواد، اعفُ عنا بكرمك وجودك، وثبتنا عند المرور على الصِّراط حتى نمر مع الأوائل أسْرَعَ من لمحِ البصَر.
فيمرُّ النبيّ محمد ﷺ ومعه مجموعة، ويمرُّ في تَبعيّتِه بعد ذلك كُمَّلْ ورثتُه، ومع كل واحدٍ منهم مجموعات، تمرّ المساجد والمتعلّقون بها من الذي كان يتردد على المسجد دائمًا وصلاته، يدخُل في المسجد الذي كان يدْخُله في الدنيا، تمر بهم على الصِّراط، الكعبة المشرَّفة ويتعلّق بها الآلاف ممن كان يُعظِّمونها ويطوفون بها، تَمُر زُمَرْ، وكذلك يمرون، يمرون، فأول زُمْرة أسرع من لَمْحِ البصَر، ثم تأتي طائفة يمرون كالبرْق الخاطِف، يعني: في هذه المدة يقطعون الصِّراط كلُّه إلى الجانب الثاني، وهو ممدودٌ على مَتْنِ جهنم، لإنه يُؤتَى بجهنم، أعاذنا الله وأجارنا منها، فتُقبِل متوهجة وهي مشتاقة للفَجرة والكفرة، أصحابها الذي سمّاهُم الله أصحاب النار، حتى تتفلَّت من أيدي الزبانية، فتُنادَى أن تعود إلى أيدي الزبانية، وتطوف بأهل الموقِف من الجوانب كلّها، ثم يوضع الصِّراط على متْنِها، وراء الصِّراط بعدين الحوض والجنَّة. فيؤمر العباد بالمرور على الصِّراط، فهذه تمر الطائفة الأولى، والطائفة الثانية، والطائفة الثالثة مثل الريح المُرسلة، ومنهم من يمر مُشبّه بالجواد السريع، ومنهم من يمر يجري جريان الآدمي، ومنهم من يمشي، ومنهم من يحبو، يعني: ثِقَل سيئاتُه ما مكنه من القيام وما عنده ما ينهض به من الإيمان والعمل الصالح، فما هو إلا يحبو. وكيف يقْدِر يحبو على صراط مسافته ثلاثة آلاف عام؟ كيف يحبو عليه؟! فيسقُط والعياذ بالله -تبارك وتعالى- في نارِ جهنّم، وهكذا.
قال: "يتعثّر به مَن عدلَ عن سواء السبيل، إلا من عُفيَ عنه بحُكم الكرَم والجود، وأنهم عند ذلك يُسألون"، -فالسؤال أيضاً في الموقف قَبِل لأمّة محمد ﷺ، فإذا مرّ ﷺ ومرّ صُلحاءُ أمته ممن لا يُلقى في النار، أُمِر بالأنبياء، فيأتي سيدنا إبراهيم ويمرّ بأُمّتِه، يأتي سيدنا موسى ويمرُّ بأُمته مع النبيّ هارون، ويأتي سيدنا عيسى ويأتي سيدنا نوح، وكذلك بقية الأنبياء أُمة بعد أُمة يمرّون على الصِّراط، ولكن تُحبَس الأمم كلها حتى تمرّ أمة محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم. قال: يَسأل من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة، ومن شاء من الكفار عن تكذيب المُرسَلين، يقول جل جلاله: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ )[الأعراف:3-7]. قال: يَسأل من شاء من المُرسَلين عن تبليغ الرسالة، وتُكذِّب الأمم بتبليغ أنبيائها، وهم بلغوهم حتى سيدنا نوح، تسعمائة وخمسين عاماً وهو يبلغهم، فيقولون: يا ربنا، عبدك نوح هذا ما بلغنا، ها؟! ولو بلغنا كيف ما نؤمن بك؟ لماذا نتشبث بالأصنام سواع ويغوث ويعوق ونسرا؟ كلها ما تنفع! لكن نوح ما بلغّنا، وهم يضْرِبونه كانوا، وإذا بلّغهم يستغشون ثيابهم ويضعون أصابعهم في آذانهم، وينكرون أنه بلغهم. ما ادري كيف الآدمي حتى في القيامة، يريد يمشّي المُغالطات، وما تمشي المُغالطات، فيقول للأنبياء: ألم تُبلِّغ؟ يقولوا: يارب أنتَ تعلم بلغتهم وقلت لهم وعملو وقالوا كذا، يقول من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد، فيُؤتى بالخيار منا خيار هذه الأمة فيكونون الشهداء، فيقول: هذا نوح وقومه، هل بلغهم؟، فيقولون: نعم يا رب، نشهد أنّه بلّغهم، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يُذكِّرهم وهم يعملون كذا وكذا. فيقولون: يا رب، هؤلاء جاءوا من بعدنا، كيف عرفوا أنه بلغهم؟ فيقول الله: كيف عرفتم؟ فيقولون: يا ربنا، أرسلت إلينا رسولك محمد، وأنْزَلت عليه في وحيّك أنه بلغهم، فنحن نشهد بشهادتك (لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[البقرة:143]؟ فيشهدون لجميع الأنبياء بالبلاغ، فتقوم الحُجة، يقول الله: وأنتم يا أمة محمد، من يشهد لكم؟ فيقولون: نبينا، فيُؤتى بالحبيب الأعظم ﷺ فيشهد لهم ويُزكّيهم، فتُزكّي الملائكة شهادته، فيقول الله: وأنا أُزكّي شهادتكم وأنا أعلم بهم، تقوم الحُجّة على هؤلاء الذين يُنكِرون تبليغ الرسل وهم بلّغوهم، فترى طبيعة بني آدم هذا، مع أنه قد مرّوا على البرزخ ورأوا الشدائد، ويرجعون ثاني مرة هل في شي طريقة يتْخلّصون، تخلّصوا كيف؟ لا إله إلا الله.
يقول "فيُسأل من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرّسالة، ومن شاء من الكفَّار عن تكذيب المرسَلين، ومن شاء من المُبتدِعة عن السُّنَّة، ومن شاء من المسلمين عن أعمالهِم؛ فيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ -وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ -جلّ جلالُه-، ثم يساق السعداء إلى الرحمن وفداً، والمجرمون إلى جهنم وِرداً" لقوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا )[مريم:85-86] والحشر: يُؤتى لهم بالنجائب يركبون عليها، وهؤلاء إما يُسحبون على وجوههِم إلا على أقدامهم، يُساقون سَوقاً. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا) هؤلاء ورد وهؤلاء وفد، الوفد لهم الإكرام، وهؤلاء الوِرد لهم الإهانة والعذاب، "ثم يأمر بإخراج الموحّدين من النار بعد الانتقام، حتى لا يَبقى في النار من في قلبه مثقال ذَرّة من الإيمان، ويخرُج بعضهم قبل تمام العقوبة والانتقام -التي قُدرت له بشفاعة-، بشفاعة الأنبياء والعلماء والشهداء ومن له رتبة الشفاعة" عند الله من المقربين والمحبوبين له -سبحانه وتعالى-، فإنه على قَدْر إيمانهم ومنْزلتِهم عنده تكون الشفاعة، فمنهم من لا يكون له جاه يُشفَّع به غيره، ومنهم من يكن يُشفَّع في نفسه، ومنهم من يُشفَّع في واحد، ومنهم من يُشفَّع في اثنين، ومنهم من يُشفّع في ثلاثة، ومنهم من يُشفَّع في عشرة، ومنهم من يُشفَّع في مئة، على حسب وجهتهم عند الله -تبارك وتعالى-، حتى قال ﷺ: "يَشْفَعُ الشهيدُ في سبعينَ من أهلِ بيتِه كلهم قد وجبت له النار"، أي استحقوا دخول النار، فيُشفّع فيهم هذا الشهيد فلا يدخلون النار.
فالشفاعات إذًا درجات:
أنواع الشّفاعات التي يشفعون بها الشُّفعاء عند الله -سبحانه وتعالى-، ولمّا حَرَم من مات على الكفر من أي شفاعة، قال: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48] ولا هم يصيحون في النار: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء:100-101] يعني: ما صادقنا ووالينا أحد من أهل الوجاهة عند الله فتقع لنا الشّفاعة اليوم، كُنّا نستهزئ بهم ونتكبر عليهم، واليوم ما عاد حد لنا يشفع، الصداقات بينهم خبيث مع خبيث، وساقط مع ساقط، ما حد له شفاعة منهم (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ). والصداقات التي عندهم؟ صديق خبيث مع خبيث ماذا ينفع صداقته؟ يقول: لو صادقت واحداً من هؤلاء الذين لهم عند الله مكانة، لوقع لي اليوم شفاعة، لكنني -والعياذ بالله- عادىٰ أولياء الله وعادى الصالحين، وبعد ذلك تكبّر، واليوم عاد أصدقائه كلهم في حطب لجهنم، كيف يصلح-يعمل-؟ فيتمنون أن لهم صداقة مع أحد من الصالحين من أجل أن يشفع لهم، "فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ".
يقول: "ثم يستقر أهل السعادة في الجنَّة منعَّمين أبد الآبدين، -اللهم اجعلنا منهم- ممَّتعين بالنظر إلى وجه الله -سبحانه وتعالى- أعلى نعيم الجنة، ويَستقرَّ أهل الشقاوة في النار مُردَّدين تحت أنواع العذاب، مُبعدين عن النظر بالحجاب إلى وجه الله ذي الجلال والإكرام". وذلك بعد إخراج من في قلبه ولو مثقال ذرة من إيمان من النار، فيخرجون بالشّفاعة، وأعظم الخلق شفاعة عبد الله ورسوله محمد ﷺ، ثم الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء على حسب مراتبهم عند الله -تبارك وتعالى-، قال ﷺ في سيدنا أويس القرني: "إذا كان يوم القيامة، قيل له: قف فاشفع، فيشفع في عدد كربيعة ومُضَر" هذه ألوف، أكبر قبائل العرب، ألوف منهم قبيلة ربيعة وقبيلة مُضَر، هذا واحد يُشفّع في هؤلاء كلهم، وجاهته عند الله كبيرة، يُشفَّع في عدد كربيعة ومضر.
ثم بعد إخراج من يخرج من النار، وآخرهم هذا جُهينة الذي ذكره ﷺ يخرج من النار، فهل اسمه جهينة أو من قبيلة جهينة؟ وقد يكون اسمه جهينة ومن قبيلة جهينة، آخر من يخرج من النار، حتى يقول أهل الجنة: "عند جُهينة الخبر اليقين"، يأتيهم وفود كل ساعة حد يخرج من النار يدخلون الجنة إلى آخر واحد هذا، هذا آخر واحد جهينة، بعد الشِّدة لِما في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان مات عليها بعد العذاب المقدَّر سبعة ألف عام والعياذ بالله تعالى، يسأل الرب يقول: يا رب أسألك مسألة لا أسألك غيرها، يقول: لعلك إذا أعطيتكَ إياها تَسألُني غيرها، يقول: لا، عليَّ العهود والمواثيق، ما هذا؟ قال: أخرِجْني من النار؛ فيخرجه الله من النار، فيبقى يشاهد النور ويقول: الحمد لله الذي نجاني منها، ويبقى يشاهدها، يمكث ما شاء الله أن يمكث، يقول: يا رب، أسألك مسألة لا أسألك غيرها، يقول: ويحك يابن آدام ! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟! يقول: عاد هذه يا رب ولا أسألك غيرها، يقول: وما هي؟ يقول: اصْرِف وجهي عن النار، آذاني قشيبها ولهيبها، ما عدت أريد أن أتذكرها ولا ما فيها، اصرف وجهي عنها، يقول: لَعلّي إذا أعطيتُكَ تسألني غيرها؟ يقول: لا، هذا آخر مسألة، وعليَّ العهود والمواثيق، لا أسألك غيرها، لا أسألك، فيأمُر الله بتحويل إلى مقابلة الجنة، يشوف العجائب الآن، يصبر شوية يصبر، بعدين يقول: يا رب، أسألك مسألة، قال: ويحك يا ابن آدم، ما أغْدرَك! أما عاهدتني ألا تسألني غيرها؟ يقول: هذه ولا أسألك غيرها، قال: قرّبْني من الجنة. قال: قرّبني. فيعطيه الله إيّاها، إذا قُرِّب زاد شَوقه، يشمُّها ريحها يوجد من مسافة خمسمائة عام تُشم الروائح الزكّية لجنّة الله -تبارك وتعالى-، يقول: لو أن حورية من الجنّة وقعت على الأرض في المشرق، لوُجِد طِيبُ ريحُها من المغرب، يعني: الكرة الأرضية تتعمَم كلها بطِيب الواحد من أهل الجنة، لا إله إلا الله، لا يوجد عِطر مثله هذا في الدنيا، يُعطِر لك الدول كلها في وقت واحد -سبحان الله-، يزداد شَوقه الآن: يا رب! مالك يا ابن آدم؟ بسألك مسألة، ويحك ما أغدرك! أما عاهدتني ألا تسألني غيرها؟ يقول: لا أكون أشقى خلقك بعدك. اجعلني عند الباب، يقول: أما ترضى أن يكون لك في الجنّة مثل مُلك مَلِك من ملوك الأرض؟ نعم يا رب، يقول: ترضى أن يكون لك في الجنّة مثل الدنيا عشر مرات؟ نعم يارب، ادخل فإن لك فيها مثل الدنيا عشر مرات، يقول: يارب تهزأ بي وأنت الملك؟ والجنة ملآنة وقد دخلو الناس وأنا منين؟ قال: ادخل، فإن لك في الجنة.. بعدما يمُرّ ويَغتسِل بنهر الحياة ويعود جسده إلى مثل أجساد أهل الجنة، ويبيض، ويدخل الجنة، فيعطى مثل الدنيا عشر مرات، وهذا أقلُّهم مَنزِلة في الجنة، ولكن ليس في الجنّة قليل، أدناهم منزلة.
بعدها، يُصوِّر الله الموت في صورة كبْش، ويُرفَع بين الجنة والنار، ينظُر إليه أهل الجنة وأهل النار، وهم يشاهدونه ويقول لهم ما هذا؟ أتعرفونه؟، يقولون: نعم يا ربنا، هذا الموت. أهل النار يفْرحون يقولون: عسى أن يأتينا، يريدون أن يموتوا، وينْزعِج أهل الجنة، يقول الله يا يحيى: خذ المُدية واذبح، فيذبحه، فيمُرّ المُنادي ينادي: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، يا أهل النار خلودًا فلا موت. هذه ساعة ذبح الموت التي كان بعض العارفين في بكائه يقول: ما خشيت يقول: أخشى أن تأتي هذه الساعة وأنا في الدار الثانية هناك، هذا الذي يُحزِنه، بعدها خلاص، ما فيه طمع، ما عاد يطمع أحد من أهل النار أن يخرُج منها، كما تستَقرّ الطمأنينة عند أهل الجنة: خلودًا فلا موت.
اجعلنا اللهم من أهل جنتك، لا نؤخر الوقت عليكم. المرتبون للقراءة يقرؤون بعد المغرب إن شاء الله. نحن تأخرنا عليكم في الصلاة، فسامحونا، سامحنا الله وإياكم، وعفا الله عنا وعنكم، وجمعنا وإياكم على الخيرات، فأدخلنا الجنة داخلين إليها بغير حساب.
يا رب، بحثياتك التي وعدت بها نبيك عبدك المصطفى محمداً، أدخلنا فيها وفي أهلنا، ولا تُخلِّف عنا أحداً منا، لا من رجالنا ولا من نسائنا ولا من شبابنا ولا من كبارنا ولا من أهلينا ولا من أولادنا. اللهم أدخلنا جنتك بغير حساب، اللهم أدخلنا جنتك بغير حساب. آتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، ونسألك المرافقة لحبيبك نبيِّك محمد وأهل بيته وصحابته وأهل حضرته أجمعين.
اللهم لا تباعد بيننا وبينهم ولا تفرّق بيننا وبينهم. اللهم اجعلنا منهم ومعهم وفيهم، وأوردنا موارد الكرامة في يوم القيامة، وآتنا الدرجات العلى من الجنة. نسألك الدرجات العلى من الجنة، نسألك الفردوس الأعلى من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا فضيحة ولا عقاب، يا حي يا قيوم، يا كريم يا تواب يا وهاب، يا من يعطي بغير حساب، لا يتعاظمه شيء، ولا يعجز عن شيء، ولا يثقله شيء، يا من بيده ملكوت كل شيء. اللهم يا رب كل شيء، بقدرتك على كل شيء وعلمك بكل شيء، اغفر لنا كل شيء، وأصلح لنا كل شيء، ولا تسألنا عن شيء، ولا تعذبنا على شيء، وآتنا جنتك بغير حساب مع المقربين في عليين.
بسرِّ الفاتحة
إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
21 صفَر 1447