(339)
(535)
(364)
الدرس السابع والعشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: الأصل السابع: حب الدنيا
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الأحد 1 ربيع الأول 1447هـ
يوضح الحبيب عمر بن حفيظ معنى الدنيا وحدودها، وكيف تُصبح وسيلةً للنجاة أو سببًا للهلاك، تعريف بالدنيا الظاهرة ومقابلها الدنيا الباطنة التي يجمعها الهوى وما يتولّد عنه من مهلكات؛ ويبيّن معنى أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك..
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسَندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الأصل السابع
في حبّ الدّنيا
"اعلمْ: أنَّ حبَّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ، وليسَ الدُّنيا عبارةً عنِ المالِ والجاهِ فقطْ، بل هما حظَّانِ مِنْ حظوظِ الدُّنيا، وشُعبتانِ مِنْ شُعَبِها، وشُعَبُ الدُّنيا كثيرةٌ.
ودنياكَ عبارةٌ عن حالتِكَ قبلَ الموتِ، وآخرتُكَ عبارةٌ عن حالتِكَ بعدَ الموتِ، وكلُّ ما لكَ فيهِ حظُّ قبلَ الموتِ.. فهوَ مِنْ دنياكَ، إلَّا العلمَ والمعرفةَ والحُرِّيَّةَ، وما يبقىٰ معَكَ بعدَ الموتِ، فإنَّها أيضاً لذيذةٌ عندَ أهلِ البصائرِ، ولكنَّها ليسَتْ مِنَ الدُّنيا وإن كانَتْ في الدُّنيا.
ولهذهِ الحظوظِ الدُّنيويةِ تعاونٌ وتعلُّقٌ بكَ، وتعلُّقٌ بما فيهِ الحظُّ، وتعلُّقٌ بأعمالِكَ المُتعلِّقةِ بإصلاحِها؛ فهيَ ترجعُ إلىٰ أعيانٍ موجودةٍ، وإلى حظِكَ منها، وإلى شغلِكَ في إصلاحِها .
أمَّا الأعيانُ: فهيَ الأرضُ وما عليها؛ قالَ اللهُ تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
ومطلوبُ الآدميّ مِنَ الأرضِ: إمَّا عينُها فللمَسكنِ والمَحرثِ، وإمَّا نباتُها فللتَّداوي والاقتياتِ، وإمَّا معادنُها فللنُّقودِ والأواني والآلاتِ، وإمَّا حيواناتُها فللمَركبِ والمَأْكلِ، وإمَّا الآدميونَ منها فللمَنكحِ والاستسخارِ، وقد جمعَ اللهُ سبحانَهُ ذلكَ في قولِهِ: (زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِين..) الآيةَ .
وأمَّا حظُكَ منها: فقد عبَّرَ القرآنُ الكريمُ عنهُ بالهوىٰ؛ فقالَ: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ)، وقالَ مُفصِّلاً لهُ: (أَنَّمَا الْحَيَوَةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهُوُ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَٱلْأَوْلَٰدِ ) الآيةَ .
وذلكَ يندرجُ فيهِ جميعُ المُهلِكاتِ الباطنةِ؛ مِنَ الكِبْرِ والغِلِ، والحسدِ والسُّمعةِ، والرِّياءِ والنِّفاقِ، والتَّفاخرِ والتَّكاثرِ، وحبِّ الدُّنيا وحبِّ الثَّناءِ؛ وهيَ الدُّنيا الباطنةُ، وإنَّما الأعيانُ هيَ الدُّنيا الظَّاهرةُ.
وأمَّا شغلُكَ في إصلاحِها: فهيَ جملةُ الحِرَفِ والصِّناعاتِ التي الخَلْقُ مشغولونَ بها، وقد نَسُوا فيها أنفسَهُم ومبدأَهُم ومَعادَهُم؛ لاستغراقِهِم باشتغالِهِم بها، وإنَّما شاغلُهُمُ العلاقةُ؛ فإنَّ علاقةَ القلبِ بحبِّ حظوظِها، وعلاقةَ البدنِ بشغلِ إصلاحِها.
فهذهِ هيَ حقيقةُ الدُّنيا التي حبُّها رأسُ كلِّ خطيئةٍ، وإنمَّا خُلِقَتْ للتَّزوُّدِ منها إلى الآخرةِ، ولكنْ كثرةُ أشغالِها وفنونُ شهَواتِها أنسَتِ الحمقىٰ سفرَهُم ومَقصِدَهُم، فقصَروا عليها همَّتَهُم، وكانوا كالحاجِّ في الباديةِ، يشتغلُ بتعهُّدِ النَّاقةِ وعَلْفِها وتسمينِها، فيتخلَّفُ عنِ الرُّفقةِ حتَّىٰ يفوتَهُ الحجُّ، وتُهلِكَهُ سِباعُ الباديةِ".
الحمد لله الذي جعل اختباره للعقل من المكلّفين في هذه الدّنيا بالدّنيا وما فيها، وجعلها مع كونها اختبارًا وابتلاءً، محلًا لعمارة الحياة الآخرة، والبَاقية الدَّائمة. فافتَتَن بها أكثر الخلائق، ونجا من نجا بقدرة الإله الخالق وعنايته، جعلنا الله وإيَّاكم من النّاجين الفائزين بقربه ورضوانه مع خواصّ عباده الصّالحين أهل الحقائق.
لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. أرسل إلينا خاتم النبوّة والرّسالة، وبيّن أحسن البيان، ودلّ أحسن الدلالة، صلى اللهم وسلم وبارك وكرّم على عبدك المختار سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
يذكر الشيخ في هذا الأصل ما يحصل من تعلّقات القلب بشؤون هذه الدنيا التّي عرّفها "بأنّها حالتِكَ قبلَ الموتِ، والآخرة: أحوالك وشؤُونك "بعدَ الموتِ"؛ ولكن هذه الدّنيا بهذا المعنى تكون آلةً وسببًا:
(لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف:7].
يقول -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-: والذّي يُصادف الإنسان من شأن هذه الدّنيا وما يتعلّق بعمله فيها منها "الأعيانُ: فهيَ الأرضُ وما عليها" من أنواع النّباتات والجمادات.
"ومطلوبُ الآدميّ مِنَ الأرضِ":
والالتفات إليها، والقنوع بها، والانحسار فيها: هو الهوى! فالمَيل إليها لذاتها، وعمارتها، والانحسار فيها؛ هو الهوى! الذّي يجب أن ننهى أنفسنا عنه؛ (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ) [النازعات:40].
و قال -وفي شؤون هذه الدنيا-:"يندرجُ فيهِ جميعُ المُهلِكاتِ الباطنةِ؛ مِنَ الكِبْرِ والغِلِ، والحسدِ والسُّمعةِ، والرِّياءِ والنِّفاقِ، والتَّفاخرِ والتَّكاثرِ".
قال: ما يتعلّق "التَّفاخرِ والتَّكاثرِ، وحبِّ الدُّنيا وحبِّ الثَّناءِ؛ -وما إلى ذلك- وهيَ الدُّنيا الباطنةُ، وإنَّما الأعيانُ هيَ الدُّنيا الظَّاهرةُ.
وأمَّا شغلُكَ في إصلاحِها: -من قبل القيام- بالحِرَفِ والصِّناعاتِ -وما إلى ذلك، وما الناس- مشغولونَ بها:
قال: شاغلهم العلاقة -علاقة القلب بحب حظوظها، وانحباس الإنسان في هذا الأمر الفاني الحقير- قال : "هذه هي حقيقةُ الدُّنيا التي حبُّها رأسُ كلِّ خطيئةٍ"، -سبب كل معصية- "خُلِقَتْ للتَّزوُّدِ منها إلى الآخرةِ" -قال: "ولكنْ -لما صادف الناس- كثرةُ أشغالِها وفنونُ شهَواتِها أنسَتِ الحمقىٰ سفرَهُم ومَقصِدَهُم" وعَكفوا عليها.
فَدُو الْحَمَاقَةِ مَنْ قَدْ ظَلَّ يَجْمَعُهَا *** يُعَانِيِ السَّعْيَ مِنْ شَامٍ إِلَىٰ يَمَنِ
مُشَمّراً يَرْكَبُ الأَخْطَارَ مُجْتَهِداً *** لِأَجْلِهَا يَسْتَلِيْنُ الْمَرْكَبَ الْخَشِنِ
وَذُوْ الْحِجَا يَقْلُهَا زُهْداً وَيَنْبُذُهَا *** وَرَاءَهُ نَبْذَهُ الأَقْذَارَ فِيْ ٱلدِّمَنِ
يَرْمِيْ بِقَلْبٍ مُنِيْرِ فِيْ مَصَائِرِهَا *** فَلاَ يُصَادِفُ غَيْرَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ
يَجُوْلُ بِٱلْفِكْرِ فِيْ تَذْكَارِ مَنْ صَرَعَتْ *** مِنْ مُؤْثِرِيْهَا بِسَعْىِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ
مِمَّنْ أَشَادَ مَبَانِيْهَا وَأَحْكَمَهَا *** لِيَسْتَجِنَّ مِنَ الأَقْدَارِ بِٱلْجُنَنِ
نَالُوا مَكَارِمَهَا أَخْبَوْا مَعَالِمَهَا *** سَلُّوا صَوَارِمَهَا لِلْبَغْيِ وَالضَّفَنِ
ثمّ أصبحوا عبرةً كلهم كما قص الله -تبارك وتعالى- علينا، وكما نشاهد في ذلك في أعمارنا وإن كانت قصيرة، نشاهد كل من آثرها وعظّمها، وصرف همّته إليها، ثمّ صار عبرةً للمعتبرين، وذكرى للمدّكرين.
"فقصَروا عليها همَّتَهُم"، صار مثلهم مثل الحاج الذي يريد السفر لأداء فريضة الله تعالى، فيشْتغل بالدّابة وعلفها وتسمينها، ويخرج النّاس ويمشون، وهو قاعد في طرف البلاد ومعتنٍ بها وبتسْمينها، ووصلوا لمكة وكمّلوا الحج وهو قاعد، هو والراحلة حقّه والزّاد، وتعرَّض في البادية ما عاد فيها، جاءت له السباع وأكلته هو وحقه الناقة، وانتهى. وهذا شأن المُتخلّف عن ركب الوجهة إلى الله -تبارك وتعالى- من جميع الكفّار، والغافلين من النّاس على ظهر هذه الأرض، ونسوا أنّ مقصودهم بالدّنيا: أنّهم عابرين، وأنّهم مسافرين، وأنّ القصد هناك، والمرجع إلى لقاء خالقها -جل جلاله-
رزقنا الله -تبارك وتعالى- الإنابة والخشية والاستقامة، واستعمال الدّنيا لما خَلقها من أجله، والتّزوّد منها للدّار الآخرة. ولهذا البيت كله والفصل الذي بعده أنّها وهي بهذه المثابة هي نفسها محل الزراعة للآخرة، ومحل إقامة ارتقاء الدّرجات، وارتفاع المراتب، وإلى غير ذلك.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فَصْلٌ
في كونِ الدنيا مزرعةَ الآخرةِ
"هٰذهِ الدُّنيا المذمومةُ المُهلِكةُ هيَ بعينِها مزرعةُ الآخرةِ في حقِّ مَنْ عرفَها؛ إذ يَعرِفُ أنَّها منزلٌ مِنْ منازلِ السَّائرينَ إلى اللهِ تعالىٰ، وهيَ كرباطِ بُنِيَ على قارعةِ الطَّريقِ، أُعِدَّ فيها العَلَفُ والزَّادُ وأسبابُ السَّفِرِ، فمَنْ تَزوَّدَ منها لآخرتِهِ، واقتصرَ منها على قَدْرِ الضَّرورةِ التي ذكرناها في المَطعَمِ والمَلبَسِ والمَنكَحِ وسائرِ الضَّروراتِ.. فقد حرثَ وبذرَ، وسيحصدُ في الآخرةِ ما زرعَ، ومَنْ عَرَّجَ عليها واشتغلَ بلذَّاتِها.. هلكَ.
ومثلُ الخَلْقِ فيها كمثلِ قومٍ ركبوا سفينةً، فانتهَتْ بهِم إلىٰ جزيرةٍ، فأمرَهُمُ المَلَّاحُ بالخروجِ لقضاءِ الحاجةِ، وخوَّفَهُمُ المُقامَ، واستعجالَ السَّفينةِ، فتفرَّقوا فيها.
فبادرَ بعضُهُم وقضىٰ حاجتَهُ، ورجعَ إلى السَّفينةِ فوجدَ مكاناً خالياً واسعاً.
ووقفَ بعضُهُم ينظرُ في أزهارِ الجزيرةِ وأنوارِها، وطرائفِ أحجارِها، وعجائبِ غياضِها، ونغماتِ طيورِها، فرجعَ إلى السَّفينةِ فلم يجدْ إلَّا مكاناً ضيِّقاً حرجاً.
وأكبَّ بعضُهُم على تلكَ الأصدافِ والأحجارِ، وأعجبَهُ حسنُها، فلم تسمحْ نفسُهُ إلَّا بأن يستصحبَ شيئاً منها، فلم يجد في السَّفينةِ إلَّا مكاناً ضيِّقاً، وزادَتْهُ الحجارةُ ثقلاً وضيقاً، فلم يَقدِرْ علىٰ رميها، ولم يجدْ لها مكاناً، فحملَها على عنقِهِ وهوَ ينوءُ بأعبائِها.
وتَولَّجَ بعضُهُمُ الغياضَ، ونسيَ المَركَبَ، واشتغلَ بالتَّفزُّجِ في تلكَ الأزهارِ، والتَّناولِ مِنْ تلكَ الثِّمارِ، وهوَ في تفرُّجِهِ غيرُ خالٍ مِنْ خوفِ السِّباع، والحذرِ مِنَ السَّقَطاتِ والنَّكَباتِ، فلمَّا رجعَ إلى السَّفينةِ.. لم يُصادِفْها، فبقيَ على السَّاحلِ، فافترسَتْهُ السِّباعُ، ومَزَّقَتْهُ الهوامُّ .
فهذهِ صورةُ أهلِ الدُّنيا بالإضافةِ إلى الدُّنيا والآخرةِ، فتأمَّلْها واستخرجْ وجهَ الموازنةِ فيها إِن كنتَ ذا بصيرةٍ.
فصلٌ
في كونِ الدُّنيا والآخرةِ ضَرَّتينِ
"مَنْ عرفَ نفسَهُ، وعرفَ ربَّهُ، وعرفَ زينةَ الدُّنيا، وعرفَ الآخرةَ.. شاهدَ بنورِ البصيرةِ وجهَ عداوةِ الدُّنيا للآخرةِ؛ إذ يَنكشفُ لهُ قطعاً أن لا سعادةَ في الآخرةِ إلَّا لِمَنْ قدمَ على اللهِ تعالىٰ عارفاً بهِ مُحِبّاً لهُ؛ فإنَّ المحبَّةَ لا تُنالُ إلَّا بدوامِ الذِّكرِ، وإنَّ المعرفةَ لا تُنالُ إلَّا بدوامِ الطَّلبِ والفكرِ، ولا يتفرَّغُ لهُما إلَّا مَنْ أعرضَ عن أشغالِ الدُّنيا، ولا تستولي المعرفةُ والحبُّ على القلبِ ما لم يَفرُغْ مِنْ حبِّ غيرِ اللهِ تعالىٰ، ففراغُ القلبِ مِنْ غيرِ اللهِ ضرورةُ اشتغالِهِ بحبِّ اللهِ تعالىٰ ومعرفتِهِ، ولن يُتصوَّرَ ذلكَ إلَّا لمُعْرِضِ عنِ الدُّنيا، قانعٍ منها بقَدْرِ الزَّادِ والضَّرورةِ.
فإن كنتَ مِنْ أهلِ البصيرةِ.. فقد صِرْتَ مِنْ أهلِ الذَّوقِ والمشاهدةِ، وإن لم تكنْ كذلكَ .. فكنْ مِنْ أهلِ التَّقليدِ في الإيمانِ، وانظرْ إلى تحذيرِ اللهِ تعالى إيَّاكَ بالكتابِ والسُّنَّةِ؛ وقد قالَ عزَّ وجلَّ: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا…) [هود:15]الآيةَ .
وقالَ تعالىٰ: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ..) [النحل:107] الآية .
وقالَ عزَّ اسمُهُ: ( فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) [النازعات:37-38] ولعلَّ ثلثَ القرآنِ في ذمِّ الدُّنيا وذمِّ أهلِها.
وقد قالَ ﷺ: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ، إِلَّا ذِكْرَ ٱللهِ تَعَالَىٰ"
وقالَ ﷺ: "يَا عَجَباً كُلَّ ٱلْعَجَبِ لِلْمُصَدِّقِ بِدَارِ ٱلْخُلُودِ وَهُوَ يَسْعَىٰ لِدَارِ ٱلْغُرُورِ".
وقالَ ﷺ: "الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا ، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ".
وقالَ ﷺ: "إِنَّ ٱللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الدٌّنْيَا ، وَإِنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا مُنْذُ خَلَقَهَا".
وقالَ ﷺ: "مَنْ أَصْبَحَ وَٱلدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ.. فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَأَلْزَمَ اللهُ قَلْبَهُ أَرْبَعَ خِصَالٍ: هَمَا لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ أَبَداً، وَشُغْلاً لَا يَتَفَرَّغُ عَنْهُ أَبَداً، وَفَقْراً لَا يَبْلُغُ غِنَاهُ أَبَداً، وَأَمَلاً لَا يَبْلُغُ مُنْتَهَاهُ أَبَداً".
وقالَ أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ-: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؛ أَلَا أُرِيكَ ٱلدُّنْيَا جَمِيعَهَا ؟"، قلتُ: نعمْ، فأخذَ بيدي إِلَىٰ مزبلةٍ فيها رؤوسُ أناسٍ، وعذراتٌ، وخرق، وعظامٌ، وقالَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؛ هَذِهِ الرُّؤُوسُ كَانَتْ تَحْرِصُ كَحِرْصِكُمْ، وَتَأْمُلُ آمَالَكُمْ، ثُمَّ هِيَ ٱلْيَوْمَ عِظَامٌ بِلَا جِلْدٍ، ثُمَّ هِيَ صَائِرةٌ رَمَاداً، وَهَٰذِهِ الْعَذِرَاتُ أَلْوَانُ أَطْعِمَتِهِمُ، اكْتَسَبُوهَا مِنْ حَيْثُ أكْتَسَبُوهَا، ثُمَّ قَذَفُوهَا مِنْ بُطُونِهِمْ، فَأَصْبَحَتْ وَالنَّاسُ يَتَحَامَوْنَهَا، وَهَٰذِهِ الْخِرَقُ ٱلْبَالِيَةُ كَانَتْ رِيَاشَهُمْ وَلِبَاسَهُمْ، فَأَصْبَحَتْ وَالرِيَاحُ تَصْفِقُهَا، وَهَٰذِهِ ٱلْعِظَامُ عِظَامُ دَوَابِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَنْتَجِعُونَ عَلَيْهَا أَطْرَافَ ٱلْبِلَادِ، فَمَنْ كَانَ بَاكِياً عَلَى الدُّنْيَا.. فَلْيَبْكِ".
وقالَ ﷺ: "لَيَجِيئَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَأَعْمَالُهُمْ كَجِبَالِ تِهَامَةَ، فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ"، قالوا: يا رسولَ اللهِ؛ أمُصلُّونَ؟ قالَ: "نَعَمْ، كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ، وَيَأْخُذُونَ هَنَةً مِنَ ٱللَّيْلِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ ٱلدُّنْيَا.. وَثَبُوا عَلَيْهِ ".
وقالَ عيسى عليهِ السَّلامُ: لا يستقيمُ حبُّ الدُّنيا والآخرةِ في قلبِ مؤمنٍ ، كما لا يستقيمُ الماءُ والنَّارُ في إناءِ واحدٍ.
وقالَ نبيُّنا ﷺ: "آحْذَرُوا ٱلدُّنْيَا ؛ فَإِنَّهَا أَسْحَرُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ".
هكذا يُبيِّن -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- شأن هذه الدنيا، وأنّها مزرعة الآخرة؛ بكلِّ ما فيها من آفات وكل ما فيها من اختبارات وابتلاءات.
هي أيضًا:
في هذه الدنيا ما يعمله الإنسان، ما يكتسبه، ما ينويه، ما ينطلق فيه، ما ينتهجه من نهج، يُؤثّر عليه في حيازة الدَّرجات العُلى، ومُرافقة الأنبياء إلى غير ذلك من أنواع العطاء.
وضَرب المثل بِسفينة رست في جزيرة، قال لهم ربَّان السَّفينة: اخرجوا إلى الجزيرة، واقضوا حاجاتكم، وارجعوا بسرعة، ولا تتأخرون والسفينة بتمشي وتتحرك إلى المقصد. ولمّا خرجوا للجزيرة، وهذا قصد مجيئنا؛ كنّا في عالم الأرواح، وعالم الذر، وتنقَّلنا في الأصلاب، وثم جئنا، وصلنا إلى عند الولادة وخرجنا للجزيرة وقعدنا في الأرض مدّة محدّدة هي: عمرك! و تعال!، السّفينة ماشية ما بتنتَظرك.
فلمّا خرجوا للجزيرة، كانوا أصنافًا:
قال: والنّاس في الدّنيا على مثل هذه الأمثلة.
وكلّ عاقل في الدّنيا يعرف من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ ويقول: "مَنْ عرفَ نفسَهُ، وعرفَ ربَّهُ" والدّنيا ضرّة الآخرة، لا يتّفقان!. وأورد لنا من الآيات والأحاديث ما به نعرف إيثار الآخرة على الدّنيا، وأنّ الله قد جعل لنا قدوة من الأنبياء:
ثمّ ذكرلنا بما ورد من عدد من الأحاديث الشّريفة، والآيات في هذا المضمار، هذا المسلك نفسه.
وذكر لنا أيضًا حديث أبي نعيم في الحلية والديلمي وغيرهما يقول: "لَيَجِيئَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ" -ويجيء لهم أعمال صالحة- "وَأَعْمَالُهُمْ كَجِبَالِ تِهَامَةَ". لكن يؤمر بهم إلى النّار. قالوا: يا رسول الله! كانوا يصلون؟ قالَ: "نَعَمْ، كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ، وَيَأْخُذُونَ هَنَةً مِنَ ٱللَّيْلِ، أو هنئةً من الليل -لكن وصفهم- فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ ٱلدُّنْيَا.. وَثَبُوا عَلَيْهِ "، حلال، حرام، بطريقة صحيحة غير صحيحة، المهم الدّنيا ما يفرّطون فيها، ويأخذونها من غير حلّها، ومن غير محلها، -والعياذ بالله- هؤلاء تذهب أعمالهم سُدى، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ولا يُدركون حقيقة محبّة المولى ولا قربه ولا رضاه.
"وقالَ سيدنا عيسى عليهِ السَّلامُ: لا يستقيمُ حبُّ الدُّنيا والآخرةِ في قلبِ مؤمنٍ، كما لا يستقيمُ الماءُ والنَّارُ في إناءِ واحدٍ"، نار تشعل وماء ممكن مرة في إناء واحد؟ ما يتأتى! إذا في نار ما في ماء، كما بين المشرق والمغرب: إن قربت من هذا بعدت من هذا، وبعدت من هذا قربت من هذا، والمعنى أنّ أنواع المُلهيات التّي تُوقعك في الغفلة عن الله تعالى:
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
"وقالَ نبيُّنا ﷺ: "آحْذَرُوا ٱلدُّنْيَا؛ فَإِنَّهَا أَسْحَرُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ".
وقال عيسى عليهِ السَّلامُ: يا معشرَ الحواريِّين ارضوا بدنيّ الدُّنيا معَ سلامةِ الدِّينِ، كما رضيَ أهلُ الدُّنيا بدنيِّ الدِّينِ معَ سلامةِ الدُّنيا.
وقالَ عيسى عليهِ السَّلامُ أيضاً للحواريِينَ: لَأَكلُ خبزِ الشَّعيرِ بالمِلحِ الجريشِ، ولُبْسُ المُسُوحِ، والنَّومُ على المزابلِ.. كثيرٌ معَ عافيةِ الدُّنيا والآخرةِ ) (٢) .
ورُوِيَ: أنَّ عيسى عليهِ السَّلامُ كُوشِفَ بالدُّنيا، فرآها في صورةٍ عجوزِ شوهاءَ عليها مِنْ كلِّ زينةٍ، فقالَ لها: كمْ نكحتِ؟ فقالَتْ: إنّي لا أُحصيهِم، فقالَ: يُطلِّقونَكِ أو ماتوا عنكِ؟ فقالَتْ: بل قتلْتُ كلَّهُم، فقالَ عيسى عليهِ السَّلامُ: بؤساً لأزواجِكِ الباقينَ كيفَ لا يعتبرونَ بأزواجِكِ الماضينَ؟!".
فصلٌ
في أنَّ الغفلةَ سببٌ لدخولِ الدُّنيا إلى القلبِ
"اعلمْ: أنَّ مَنْ ظنَّ أنَّهُ يلابسُ الدُّنيا ببدنِهِ، ويخلو عنها بقلبِهِ.. فهوَ مغرورٌ .
قالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "مَثَلُ صَاحِبِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ
الْمَاشِي فِي ٱلْمَاءِ ، هَلْ يَسْتَطِيعُ الَّذِي يَمْشِي فِي الْمَاءِ أَلَّا تَبْتَلَّ قَدَمَاهُ ؟!".
وكتبَ عليٌ -رضيَ اللهُ عنهُ- إلىٰ سلمانَ الفارسيِّ -رضيَ اللهُ عنهُ-: مثلُ الدُّنيا مثلُ الحيَّةِ؛ يلينُ مَسُّها، ويقتلُ سمُّها، فأعرضْ عمَّا يُعجِبُكَ منها؛ لقلَّةِ ما يصحبُكَ منها، وضعْ عنكَ همومَها؛ لِمَا أيقنتَ مِنْ فِراقِها، وكنْ أسرَّ ما تكونُ بها أحذرَ ما تكونُ لنها؛ فإنَّ صاحبَها كلَّما اطمأنَّ منها إلى سرورٍ.. أشخصَهُ عنهُ كروهٌ.
وقالَ عيسى -عليهِ السَّلامُ-: مثلُ طالبِ الدُّنيا مثلُ شاربٍ ماءٍ البحرِ؛ كلَّما ازدادَ شرباً.. ازدادَ عطشاً حتَّىٰ يقتلَهُ.
واعلمُ: أنَّ مَنِ اطمأنَّ إلى الدُّنيا وهوَ يَتيقَّنُ أنَّهُ راحلٌ عنها.. فهوَ في غايةِ الحماقةِ، بل مثلُ الدُّنيا مثلُ دارٍ هيَّأَها صاحبُها، وزيَّنَها لضيافةِ الواردينَ والصَّادرينَ، فدخلَ واحدٌ دارَهُ، فقدَّمَ إليهِ طبقاً مِنْ ذهبٍ عليهِ بَخُورٌ وريحانٌ ليَشَمَّها، ويتركَ الطَّبقَ لمَنْ يلحقُهُ لا ليتملَّكَهُ، فجهلَ رسمَهُ، فظنَّ أنَّهُ وهبَ ذلكَ لهُ، فلمَّا نعلَّقَ بهِ قلبُهُ.. استُرجِعَ منهُ، فضَجِرَ وتَوجَّعَ، ومَنْ كانَ عالِماً برسمِهِ.. انتفعَ بهِ وشكرَهُ، وردَّهُ بطيبةِ قلبٍ، وانشراحِ صدرٍ.
فكذلكَ سُنَّةُ اللهِ في الدُّنيا، فإنَّها دارُ ضيافةٍ على المجتازينَ لا على المقيمينَ؛ ليتزوَّدوا منها ما ينتفعونَ بهِ كما يُنتفَعُ بالعاريَّةِ، ثمَّ يتركونَها لمَنْ يَلحَقُ بعدَهُم بطِيبةِ نفسٍ مِنْ غيرِ تعلُّقِ القلبِ بها. فهذهِ أمثلةُ الدُّنيا وما خلقَ اللهُ فيها".
فهذهِ أمثلةُ الدُّنيا وما خلقَ اللهُ فيها فهي تحتاج إلى فكر وتأمّل.
ويقولون عن سيدنا الإمام الحداد فاضح الدُّنيا، فضحها وذكر ما أشرنا إليه من قصيدته المسمّاة بالنُّونيّة:
فيمَ الرُكونُ إِلى دارٍ حَقيقَتُها *** كَالطَيفِ في سَنَة وَالطَلِّ مِن مُزنِ
-كَالطَيفِ في سَنَة: كالحلم في النوم-
-الطل: من الماء-
دارُ الغُرورِ وَمَأوى كُلِّ مُزرِيَةٍ *** وَمَعدِنُ البُؤسِ وَاللأَواءِ وَالمِحَنِ
هذه حقيقة الدُّنيا، وخلقها الله ليختبرنا، نميل إليها وننساه، أم نقصده -سبحانه وتعالى- ونقبل بالكُلّية عَليه، ونتَّخذَها وسيلة، وسببًا، نحو بها.
لا بَارَكَ الله فِيْ الدُّنْيَا سِوَىٰ عَرَضٍ * مِنْهَا يُعَدُّ إِذَا مَا عُدَّتِ الْقُرَبُ
يُرِيْدُ صَاحِبُهُ وَجْهَ الإِلَٰهِ بِهِ * دُوْنَ الرِّيَا إِنَّهُ التَّلْبِيْسُ وَالْكَذِبُ
يقول:
الزُّوْرُ ظَاهِرُهَا وَالْغَدْرُ حَاضِرُهَا *** والْمَوْتُ آخِرُهَا وَالْكَوْنُ فِي الشَّطَنِ
تُنبِيدُ مَا جَمَعَتْ تُهِيْنُ مَنْ رَفَعَتْ *** تَضُرُ مَنْ نَفَعَتْ فِيْ سَالِفِ الزَّمَنِ
لمّا تمثّلت لسيدنا عيسى في صورة عجوز شوهاء، وعليها من كلٍّ زينة، فسألها عن من يطلب نكاح، قالت: كثيرون!. قال: بعدين كلّهم طلَّقوك وماتوا عنها؟ قالت: لا! قتلتهم كلهم. ولا خليت واحد منهم؟ قال: عجبًا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين! قد صنعتي بهم كذا، وبعدهم يخطبونك، وتصنعين بهم نفس العمل، الذي عملت مع الذين قبلهم، -لا إله إلا الله-
قال:
تُبِيْدُ مَا جَمَعَتْ تُهِيْنُ مَنْ رَفَعَتْ *** تَضُرُ مَنْ نَفَعَتْ فِيْ سَالِفِ الزَّمَنِ
النَّفْسُ تَعْشَقُهَا وَالْعَيْنُ تَزْمُقُهَا *** لِكَوْنِ ظَامِرِهَا فِيْ صُوْرَةِ الْحَسَنِ
سَحَّارَةٌ تُحْكِمُ التَّخْيِيْلَ حَتَّىٰ يُرَىٰ *** كَأَنَّهُ الْحَقُّ إِذْ كَانَتْ مِنَ الْفِتَنِ
إِنَّ الإِلَٰهَ بَرَاهَا كَيْ يَمِيْزَ بِهَا *** بَيْنَ الفَرِيْقِيْنِ أَهْلِ الْحُمْقِ وَٱلْفِطَنِ
فَذُوْ ٱلْحَمَاقَةِ مَنْ قَدْ ظَلَّ يَجْمَعُهَا *** يُعَانِيِ السَّعْيَ مِنْ شَامٍ إِلَىٰ يَمَنِ
مُشَمِّراً يَرْكَبُ الْأَخْطَارَ مُجْتَهِداً *** لِأَجْلِهَا يَسْتَلِيْنُ الْمَرْكَبَ الْخَشِنِ
وَذُوْ ٱلْحِجَا يَقْلُهَا زُهْداً وَيَنْبُذُهَا *** وَرَاءَهُ نَبْذَهُ الأَقْذَارَ فِيْ الدِّمَنِ
يَرْمِيْ بِقَلْبٍ مُنِيْرٍ فِيْ مَصَائِرِهَا *** فَلاَ يُصَادِفُ غَيْرَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ
يَجُوْلُ بِالْفِكْرِ فِيْ تَذْكَارِ مَنْ صَرَعَتْ *** مِنْ مُؤْثِرِيْهَا بِسَعْيِ الْقَلْبِ وَٱلْبَدَنِ
بغيت من المتقدمون؟ بغيت من الأمم السّابقة؟ بغيت من الأمم اللي نعرفهم واللي ما نعرفهم؟ بغيت من هذه الأمة؟ بغيت من الذين في زمانك، تشُوفهم قدّامك نماذج كثيرة! -لا إله إلا الله-
كان بعض رؤساء اليمن دخل، إلي كان في الرئاسة أول الثورات حقهم ثم نُفي وأخرج من البلد، ردّوا بعدين واحد من الرؤساء رجع، ودخل إلى المعسكر، وقاموا يصفقون له. فكان الرّئيس السّابق يقول له: لا تصدّقهم! قد كانوا يعملون لي مثل هكذا. قال: كانوا يصلحون لي كذا، أنا لمّا كنت رئيسًا، وأنت ذا الحين لا تصدّقهم. وبعدين رجعوا وقتلوا الثّاني، وصفقوا له، و كم من بعده واحد يصفقون له؟ ورجعوا يحكّمونه، ودخلوه المحكمة في زمنك وحدك، والذي قبلِك والذي قبلِك. تصلّح أخبار والنَّاس وراءها مكانهم سكارى ما يرجعون عنها.
مِمَّنْ أَشَادَ مَبَانِيْهَا وَأَحْكَمَهَا *** لِيَسْتَجِنَّ مِنَ الأَقْدَارِ بِٱلْجُنَنِ
نَالُوا مَكَارِمَهَا أَحْيَوْا مَعَالِمَهَا * سَلُّوا صَوَارِمَهَا لِلْبَغْيِ وَٱلضَّغَنِ
رَقَوْا مَنَابِرَهَا قَادُوا عَسَاكِرَهَا *** بِقُوَّةٍ وابْتَنُوْا الأَمْصَارَ وَٱلْمُدُنِ
وَعَبَّدُوا النَّاسَ حَتَّىٰ أَصْبَحُوا ذُللاً *** لأَمْرِهِمْ بَيْنَ مَغْلُوْبٍ وَمُمْتَهَنِ
وَجَمَّعُوا الْمَالَ وَاسْتَصْفَوْا نَفَائِسَهُ *** ……..
أخرجوا المال سويسرا وغيرها
وَجَمَّعُوا الْمَالَ وَاسْتَصْفَوْا نَفَائِسَهُ *** لِمِتْعَةِ النَّفْسِ فِيْ مُسْتَقْبَلِ ٱلزَّمَنِ
حَتَّىٰ إِذَا أمْتَلَوُوا بِشْراً بِمَا ظَفِرُوا *** وَمُكُّنُوْا مِنْ عُلاَهَا أَبْلَغَ الْمِكَنِ
نَادَاهُمُ هَادِمُ اللَّذَّاتِ فَاقْتَحَمُوا *** سُبْلَ ٱلْمَمَاتِ فَأضْحَوْا عِبْرَةَ ٱلْفَطِنِ
تِلْكَ الْقُبُوْرُ وَقَدْ صَارُوا بِهَا رِمَماً *** بَعْدَ ٱلضَخَامَةِ فِيْ ٱلْأَجْسَامِ وَٱلسِّمَنِ
بَعْدَ التَّشَهِّيْ وَأَكْلِ الطَّيَّبَاتِ غَدَا *** يَأْكُلْهُمُ ٱلدُّوْدُ تَحْتَ التُّرْبِ وَاللَّبِنِ
تَغَيَّرَتْ مِنْهُمُ الْأَلْوَانُ وَأَنْمَحَقَتْ *** مَحَاسِنُ ٱلْوَجْهِ وَٱلْعَيْنَيْنِ وَٱلْوَجَنِ
خَلَتْ مَسَاكِنُهُمْ عَنْهُمْ وَأَسْلَمَهُمْ *** مَنْ كَانَ يَنْصُرُهُمْ فِيْ السِّرِّ وَٱلْعَلَنِ
وَعَافَهُمْ كُلُّ مَنْ قَدْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ *** مِنَ الْأَقَارِبِ وَٱلْأَهْلِيْنَ وَالْخَدَنِ
مَا كَانَ حَظَّهُمُ مِنْ عَرْضٍ مَا أكْتَسَبُوْا *** غَيْرَ ٱلْحَنُوْطِ وَغَيْرَ الْقُطْنِ وَالْكَفَن
تِلْكَ الْقُصُوْرُ وَتِلْكَ الدُّوْرُ خَاوِيَةٌ *** ………………
بعضهم بعده بالحياة ويصلحوا عليه حصر ومنعوه من حقه في الفلوس وحجروه وهو بعده في الدنيا، وما عاد قدر عليه وبعده في الدّنيا، تشوفه لا يقدر عليها -لا إله إلا الله- بعضها باسم أشخاص، بعضها باسم دول، وحجَروا عليها ومنعوهم. ومنهم من صلّح لها مفاتيح وأرقام وما أعطاها لأحد حرص عليها ومات؛ حتى أولاده ما قدروا يحصلونها، ما يعرفون الرقم حقها السري، ولهفها من لهفها من السقطة وهكذا عجائب في الدنيا هذا إلى في وقتك واللي قبلك.. أمور غريبة.
قال:
تِلْكَ الْقُصُوْرُ وَتِلْكَ الدُّوْرُ خَاوِيَةٌ *** يَصِيْحُ فِيْهَا غُرَابُ الْبَيْنِ بِالْوَهَنِ
فَلَوْ مَرَرْتَ بِهَا وَٱلْبُوْمُ تَنْدُبُهَا *** فِيْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لَمْ تَلْتَذَّ بِٱلْوَسَنِ
وَلَا تَجَمَّلْتَ بِالأَرْيَاش مُفْتَخِراً *** وَلَاَ أَفْتَتَنْتَ بِحُبَّ الْأَهْلِ وَ السَّكَنِ
وَلَا تَلَذَّذْتَ بِالْمَطْعُوْمِ مُنْهَمِكاً *** وَلَا سَعَيْتَ لِدُنْيَا سَعْيَ مُفْتَتِنِ
وَلاَ اعْتَبَرْتَ إِذَا شَاهَدْتَ مُعْتَبَراً *** تَرَاهُ بِالْعَيْنِ أَوْ تَسْمَعْهُ بِالأُذُنِ
إِنَّ ٱلْمَواعِظَ لا تُغْنِيْ أَسِيْرَ هَوىً *** مُقَفَّلَ ٱلْقَلْبِ فِيْ حَيْدٍ عَنِ السَّنَنِ
مُسْتَكْبِراً يَبْطَرُ ٱلْحَقَّ الصَّرِيْحَ إِذَا *** يُلْقىٰ إِلَيْهِ لِفَرْطِ الْجَهْلِ وَالشَّنَنِ
يُمَنَّى النَّفْسَ أَمْراً لَيْسَ يُدْرِكُهُ *** إِنَّ الأَمَانِيَ مِقْطَاعَ مَنِ الْمِنَنِ
يَكْفِيُ اللَّبِيْبَ كِتَابُ اللَّهِ مَوْعِظَةً *** كَمَا أَتَى فِيْ حَدِيْثِ السَّيِّدِ الْحَسَنِ
مُحَمَّدٍ خَيْرِ خَلْقِ اللهِ قُدْوَتِنَا *** مُطَهَّرِ الْجَيْبِ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ دَرْنِ
عَلَيْهِ مِنَّا صَلاَةُ ٱللهِ دَائِمِةً *** مَا سَارَتِ اَلرِّيْحُ بِالأَمْطَارِ وَالسُّفُنِ
وَٱلآلِ وَٱلصَّحْبِ مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ *** وَمَا بَكَتْ عَيْنُ مُشْتَاقٍ عَلَىٰ وَطَنِ
رزقنا الله الاعتبار، والادّكار، والاستقامة على ما يحبّه منّا ويرضى به عنّا في السرِّ والإجهار، وسخَّر لنا خير الدّنيا، وخير الآخرة، وصرف عنّا شر الدّنيا، وشرّ الآخرة. اللهم إنا نسألك خير الحياة، وخير الوفاة، وخير ما بينهما، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة، وشر ما بينهما. ونسألك صلاح القلب والقالب، والظّاهر والباطن، وصلاح الدّين، والاستقامة على ما هو أحب إليك وأرضى لك، وما ننال به الدّرجات العُلى في الجنّة. ويجعل مُكثنا في الدّنيا ومقامنا فيها المحدود المحصور، وسيلة لنا لارتقاء المعالي والمراتب الرّفيعة، ونيل كل وهبٍ وعطاء غالٍ، وحيازة المرافقة للنّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحَسن أولئك رفيقًا. يا أكرم الأكرمين.
صلّ الله عليه أفضل الصّلوات، اجعل لنا من شريف محبّته، فيجعل الله محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وصحبه وسلم ما يغلب على قلوبنا فنعيش ونحيا ونموت والله ورسوله أحبُّ إلينا مِمّا سواهما، ونزداد من تلك المحبّة ونرتقي فيها رتبة بعد رتبة، حتى يوفّر الله حظنا من ثمرة هذه الحياة وممّا أعدّ لمن اصطفاه عند لقياه، وفي البرازخ ويوم الملاقاة، وفي دار الكرامة والنظر، وأنَّ الله -سبحانه وتعالى- يزيدنا محبّة، و يلحقنا بالأحبّة، ويقينا جميع الأسواء، وكل بلوة، ولا يحرمنا الزّيادة من محبّته ومحبّة رسوله، في كلّ صلاة نصليها، وفي كلّ قراءة نقرأها، وفي كلّ مجمع نجتمع فيه، وفي كلّ مجلس نجلس فيه، وفي كل يوم وفي كل ليلة، وفي ساعاتنا، وأنفاسنا، ولحظاتنا، لحظة بعد لحظة، لا يحرمنا خير ما عنده لشر ما عندنا، وينظموا في سلك أهل ذوق تلك المحبّة من خيار الأحبّة حتّى يقينا جميع الأسواء والشرور، وكل محذور في البطون والظهور، بسر الفاتحة وإلى حضرة النّبيّ محمد بدر البدور…
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
يكاد من شدة أشواقي فؤادي يطير *** الى الحبيب الذي حبه سكن في الضمير
متى متى يأذن المولى لنا بالمسير *** نزور خير الورى المختار طه البشير
نزور قبره ونتعطر بذاك العبير *** ويفتح اللّٰه لنا باب
العطايا الكبير
نزور في عافية يسهل علينا العسير *** نزور بأولادنا
كبيرهم والصغير
تقع زيارة مددها من حبيبي كثير *** ننظر إلى ذلك الوجه الصبيح النوير
نشهد جماله ويُمسى الطرف منا قرير *** يا سيد الرسل تحت الباب طالب فقير
مالي طلب غير في لقيا السراج المنير *** دائم خياله معي في مقعدي والمسير
يا الله بجاهه تقينا حر نار السعير *** واغفر لنا كل زلة وامحوا ما في النظير
وأدركنا برحماتك يمسي الجو منها مطير *** يا رب صل على المختار طه البشير
والحمد لله رب العالمين
02 ربيع الأول 1447