(339)
(535)
(364)
الدرس الخامس والعشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: تكملة شرح الأصل الخامس: البخل وحب المال (2)، والأصل السادس: الرعونة وحب الجاه
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء السبت 29 صفر 1447هـ
يبيّن الحبيب عمر بن حفيظ ميزان حدّ الكفاية والإسراف، وأن المال كالدَّواء: نافعٌ بقدَرٍ ومُهلك إذا زاد، ثم يحدِّد معنى البُخل وضابطه بين ما أوجبه الشَّرع وما تُوجبه المروءة، ويعرض علاجَ الشُّحّ مع شواهدَ من قصص الرزق والتوكّل، وينبّه إلى خطر حُبّ الجاه والشُّهرة وأنهما كذِئبين جائعين على دين المرء.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
فصل
في بيانِ مقدارِ الكفايةِ
"لَعلَّكَ تشتهي أن تعرفَ مقدارَ الكفايةِ وتقولُ: ما مِنْ غنيٍّ إلَّا ويدَّعي أنَّ ما في يدِهِ دونَ مقدارِ كفايتِهِ.
فاعلمْ: أنَّ الضَّرورةَ إنَّما تدعو إلى المَطعَمِ والمَلبَسِ فقطْ، فإن تركتَ التَّجمُّلَ في المَلبَسِ.. فيكفيكَ في السَّنةِ دينارانٍ لشتائِكَ وصيفِكَ، فتتَّخذُ بهِما ثوباً خشناً يدفعُ عنك الحرَّ والبردَ.
وإن تركتَ التَّنعُمَ في مَطعَمِكَ، والشِّبَعَ مِنَ الطَّعامِ في جميعٍ أحوالِكَ.. فيكفيكَ في كلِّ يومٍ مُدٌّ، فيكونُ في السَّنةِ خمسَ مئةِ رِطْلٍ، ويكفيكَ لإدامِكَ إن لم تَتوسَّعْ فيهِ، واقتصرتَ على القليلِ منهُ في بعضِ الأوقاتِ.. ثلاثةُ دنانيرَ على التَّقريبِ في السَّنةِ عندَ رخاءِ الأسعارِ.
فإذاً؛ مبلغُ كفايتِكَ خمسةُ دنانيرَ، وخمسُ مئةِ رِطْلٍ، وهوَ القدْرُ الذي نُقدِّرُهُ إذا فرضنا نفقةَ العَزَبِ، فإن كنتَ مُعْيِلاً.. فخذْ لكلِّ واحدٍ منهُم مثلَ ذلكَ.
فإذا كنتَ كَسوباً، وكَسَبتَ في اليومِ ما يكفيكَ ليومِكَ..
فانصرف واشتغلْ بعبادتِكَ؛ فإنْ طلبتَ الزِّيادةَ.. صرتَ مِنْ أهلِ الدُّنيا.
وإن لم تكنْ كَسوباً، وكنتَ مشغولاً بالعلمِ أوِ العبادةِ، واقتنيتَ ضيعةً يدخلُ منها هذا القدرُ دائماً، فأرجو ألَّا تصيرَ بذلكَ مِنْ أهلِ الدُّنيا، لا سيَّما في هٰذهِ الأعصارِ، وقد تغيَّرَتِ القلوبُ، واستولى عليها الشُّحُّ، وانصرفَتِ الهِممُ عن تفقُّدِ ذوي الحاجاتِ، فاقتناءُ هٰذا القَدْرِ أَولىٰ مِنَ السُّؤالِ .
وهٰذا بشرطِ: أن يكونَ بودِّكَ أن تَتخلَّصَ مِنَ التَّعرُّضِ للجوعِ والبردِ لتطرحَ الضَّيعةَ وتتركَها، فلا تكونَ كارهاً للموتِ، ولا مُحِبّا للضَّيعةِ، ولتكنِ الضَّيعةُ -وهيَ مَدخلُ طعامِكَ- كالخلاءِ الذي هوَ موضعُ فراغِكَ، فإِنَّما تريدُهُ للضَّرورةِ، وبودِّكَ لو تَخلَّصتَ منهُ؛ لتخرجَ عنِ النَّهيِ في قولِهِ ﷺ: "لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتُحِبُّوا الدُّنْيَا".
فإنّكَ إذا قصدتَ الفراغةَ للاستعانةِ بها على الدِّينِ.. كنتَ مُتزوّداً مسافراً، لا مُعرّجاً على الضَّيعةِ.
وربَّما لا يَحتمِلُ بعضُ الأشخاصِ القناعةَ بالقَدْرِ الذي ذكرتُهُ.. إلَّا بشدَّةٍ ومَشقَّةٍ، ولا حرجَ في الدِّينِ في ازديادِ الضِّعفِ علىٰ هٰذا القَدْرِ؛ إذ لا يصيرُ مِنْ أبناءِ الدُّنيا، ولا يخرُجُ مِنْ حزبِ أبناءِ الآخرةِ والمسافرينَ إلى اللهِ تعالىٰ.. ما دامَ يقصدُ بذلكَ دفعَ الألمِ الشَّاغلِ عنِ الذِّكرِ والعبادةِ، دونَ التَّلذُّذِ والتَّنعُّمِ في الدُّنيا، ثمَّ ما فَضَلَ مِنَ الطَّعامِ صرفَهُ إلى اللباسِ والإدامِ ولا يبقىٰ بعدَ هذهِ الرُّخصةِ داعيةٌ إلى الزِيادةِ إلَّا للتَّنعُمِ، أو للتَّصدُّقِ، أو للاستظهارِ لو أصابَ المالَ آفةٌ.
أمَّا التَّنعُّمُ: فإعراضٌ عنِ اللهِ تعالى، واشتغالٌ بالدُّنيا.
وأمَّا التَّصدُّقُ: فتركُ المالِ أفضلُ منهُ؛ قالَ عيسىٰ عليهِ السَّلامُ: يا طالبَ الدُّنيا لِتَبَرَّ؛ تركُكَ الدُّنيا أبرُّ وأبرُّ.
وأمَّا الاستظهارُ لخوفِ آفةٍ: فذلكَ لا مردَّ لهُ، وهوَ سوءُ ظنِّ لا آخرَ لهُ، بل ينبغي أن يَدفَعَ ذلكَ بحسنِ الظَّنِّ بتدبيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وهوَ أنَّهُ إن تَصوَّرَ أن تُصِيبَ المالَ آفةٌ مِنْ حيثُ لا يَتوقَّعُ.. فيتصوَّرُ أن ينفتحَ للرِّزقِ أيضاً بابٌ مِنْ حيثُ لا يَحتسِبُ؛ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2].
وإن فُرِضَ على النُّدورِ خلافُهُ.. فلا ينبغي أن يعتقِدَ العبدُ أنَّ سلامتَهُ طولَ عمرِهِ عنِ البلاءِ محمودٌ، بلِ البلاءُ هوَ الذي يَصقُلُ القلبَ ويُزكِيهِ، ويُخلِصُهُ مِنَ الخبائثِ كلِّها، ولهذا كانَ مُوكَّلاً بالأنبياءِ، ثمَّ الأولياءِ، ثمَّ الأمثلِ فالأمثلِ، فاتَّكِلْ على فضلِ اللهِ تعالى، واعلمْ أنَّهُ لا يصيبُكَ إلَّا ما فيهِ خيرُكَ وخيرتُكَ؛ فإنَّ مُدبِّرَ المُلْكِ والملكوتِ أعلمُ بمصالحِكَ".
نعم، الحمد لله مشرق الأنوار على أهل الوجهة إليه في كل الأطوار، نشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له الآخذ بيد الصادق في الوجهة إليه في خير المسار، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفوته المختار، أكرم داعٍ إليه وموصلٍ إليه في السر والإجهار. اللهم أدِم صلواتك على عبدك محمد نور الأنوار وسرّ الأسرار، وعلى الخليفة من بعده المختار، وعلى جميع أصحابه وآل بيته وآله ووَرثته وأمته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوتك في العالمين، وعلى آلهم وصحبهم وذراريهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيتحدث الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- عما يتعامل به الإنسان في هذه الحياة، عمّا يحتاج إليه من مسكن وملبس ومشرب ومطعم وما إلى ذلك، مما يغذي به البَدَن الذي هو آلتُه ومركبه، فهو كدابّة يعلفها لأجل رُكوب الروح فيها، لتسير بالراكب عليها إلى المقصد.
"قال: ما مِنْ غنيٍّ إلَّا ويدَّعي أنَّ ما في يدِهِ دونَ مقدارِ كفايتِهِ" وفي الخبر: "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثاني، ولو كان معه ثانٍ لابتغى إليه ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
"فاعلمْ: أنَّ الضَّرورةَ إنَّما تدعو إلى المَطعَمِ والمَلبَسِ فقطْ، فإن تركتَ التَّجمُّلَ في المَلبَسِ.. فيكفيكَ في السَّنةِ دينارانٍ لشتائِكَ وصيفِكَ"؛ واحد للصيف وواحد للشتاء. وهذه هي الكسوة التي فرضها الله أيضًا للأزواج، على الزوج أن يُخرج لزوجته كسوتين كسوة للشتاء وكسوة للصيف.
قال: "فتتَّخذُ بهِما ثوباً خشناً يدفعُ عنك الحرَّ والبردَ. وإن تركتَ التَّنعُمَ في مَطعَمِكَ، والشِّبَعَ مِنَ الطَّعامِ في جميعٍ أحوالِكَ.. فيكفيكَ في كلِّ يومٍ مُدٌّ، فيكونُ في السَّنةِ خمسَ مئةِ رِطْلٍ، ويكفيكَ لإدامِكَ إن لم تَتوسَّعْ فيهِ، واقتصرتَ على القليلِ منهُ في بعضِ الأوقاتِ.. ثلاثةُ دنانيرَ على التَّقريبِ في السَّنةِ عندَ رخاءِ الأسعارِ"، هذا تقريب الحساب على ما كان في وقته.
"فإذاً؛ مبلغُ كفايتِكَ خمسةُ دنانيرَ، وخمسُ مئةِ رِطْلٍ، وهوَ القدْرُ الذي نُقدِّرُهُ إذا فرضنا نفقةَ العَزَبِ، فإن كنتَ مُعْيِلاً.. فخذْ لكلِّ واحدٍ منهُم" ممن تعولهم وتجب نفقتهم "مثلَ ذلكَ".
فإذا كنتَ كَسوباً، وكَسَبتَ في اليومِ ما يكفيكَ ليومِكَ..
فانصرف واشتغلْ بعبادتِكَ؛ فإنْ طلبتَ الزِّيادةَ.." صرتَ مِنْ الراغبين في الدنيا.
"وإن لم تكنْ كَسوباً، وكنتَ مشغولاً بالعلمِ أوِ العبادةِ"، لا معطّل جالس فارغ، ولكن مُزجٍّ للوقت في العلم أو في العبادة، "واقتنيتَ ضَيعةً"؛ قطعة من الأرض لها دخل أو بيت ونحو ذلك، يدخل منها هذا القدر دائماً، "فأرجو ألَّا تصيرَ بذلكَ مِنْ أهلِ الدُّنيا"؛ لأنك رتبت مقدار الحاجة وأنت مشغول بالعلم أو العبادة.
"لا سيَّما في هٰذهِ الأعصارِ، وقد تغيَّرَتِ القلوبُ،" هذا قبل 900 سنة! لا إله إلا الله… "وقد تغيَّرَتِ القلوبُ، واستولى عليها الشُّحُّ، وانصرفَتِ الهِممُ عن تفقُّدِ ذوي الحاجاتِ، فاقتناءُ هٰذا القَدْرِ أَولىٰ مِنَ السُّؤالِ"، فأنكر ما بينه وبين الوقت الأول الذي أدركه وما قبله -عليه الرضوان-.
قال: "فاقتناءُ هٰذا القَدْرِ أَولىٰ مِنَ السُّؤالِ"؛ أن تتعرض لسؤال الناس. "وهٰذا بشرطِ: أن يكونَ بودِّكَ أن تَتخلَّصَ مِنَ التَّعرُّضِ للجوعِ والبردِ لتطرحَ الضَّيعةَ وتتركَها، فلا تكونَ كارهاً للموتِ، ولا مُحِبّا للضَّيعةِ، ولتكنِ الضَّيعةُ -وهيَ مَدخلُ طعامِكَ- كالخلاءِ الذي هوَ موضعُ فراغِكَ"، إنما تدخل الخَلاء للضرورة، وتود أنه لو ما احتجت إليه ما تشتاق له ولا تعوّل عليه، فكذلك هذا الذي يدخل إنما هو للضرورة، لو استغنيتَ عنه وكُفيته كان أحسن، "وبودِّكَ لو تَخلَّصتَ منهُ؛ لتخرجَ عنِ النَّهيِ في قولِهِ ﷺ: "لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتُحِبُّوا الدُّنْيَا".
قال: "فإنّكَ إذا قصدتَ الفراغةَ للاستعانةِ بها على الدِّينِ.. كنتَ مُتزوّداً مسافراً، لا مُعرّجاً على الضَّيعةِ. وربَّما لا يَحتمِلُ بعضُ الأشخاصِ القناعةَ بالقَدْرِ الذي ذكرتُهُ.. إلَّا بشدَّةٍ ومَشقَّةٍ، ولا حرجَ في الدِّينِ في ازديادِ الضِّعفِ علىٰ هٰذا القَدْرِ؛ إذ لا يصيرُ مِنْ أبناءِ الدُّنيا، ولا يخرُجُ مِنْ حزبِ أبناءِ الآخرةِ والمسافرينَ إلى اللهِ تعالىٰ"، لكن تلك درجة عليا وهذه درجة بعدها. "ما دامَ يقصدُ بذلكَ دفعَ الألمِ الشَّاغلِ عنِ الذِّكرِ والعبادةِ، دونَ التَّلذُّذِ والتَّنعُّمِ في الدُّنيا، ثمَّ ما فَضَلَ مِنَ الطَّعامِ صرفَهُ إلى اللباسِ والإدامِ ولا يبقىٰ بعدَ هذهِ الرُّخصةِ داعيةٌ إلى الزِيادةِ إلَّا للتَّنعُمِ، أو للتَّصدُّقِ، أو للاستظهارِ"؛ يعني: الاستعداد لما يطرأ من الآفات، "لو أصابَ المالَ آفةٌ".
"أمَّا التَّنعُّمُ" وقصده والتوجه إليه في الدنيا "فإعراضٌ عنِ اللهِ تعالى، واشتغالٌ بالدُّنيا"، يمنعك التنعم بالعبادة والذكر والحضور مع الحق وأنواع الطاعات فيها نعيم، إن قصدت التنعم بها ما عليك شيء، ولكن حتى مع هذا، فكمال الإخلاص عندهم ألا تقصد التلذذ بها، ولكن تقصد بها العبودية للمعبود. وعدّوا هذا من الشوائب في الإخلاص أنك تقصد التلذذ بالعبادة، وهو يأتيك من دون قصد ولا عليك في ذلك شيء، ولكن ما تُنشئ العبادة لأجل التلذذ بها. على أن هذا كمال بالنسبة لمن يريد التلذذ والتنعم بمُتع الدنيا، هذا كمال، ولكن أكمل منه من يريد العبادة لا ليتلذّذ ويتنعم بها، ولكن ليؤدي حقّ المعبود، وهذا يتنعّم أكثر من الثاني، يجيء له نعيم أكثر من الثاني، لأنه ما قصده، فلا ينقص من مقامه ولكن تَنعُمَه أشدّ من ذلك، لأنه عَبَدَ الله لله؛ لذاته لأنه يستحق العبادة،. الله أكبر!
حتى قال سأل بعضهم بعض أهل العلم، قال: الآن أنا أُؤجر على التلاوة؟ كيف ما تُؤجر على التلاوة، بكل حرف عشر حسنات قال: أشتهيها وأتلذذ بها لذة كبيرة، فزعان أنه لم يعد لي أجر فيها. قال: مادام تقصد وجهه بذلك فتلذذ وتنعم ولك بكل حرف أجور كثيرة، الله لا إله إلا الله.
حتى كان الإمام محمد بن حسن جمل الليل يحب تأخير تلاوة القرآن أيام رمضان إلى الليل، وما يقرأ في النهار إلا قدر يسير، لأنه يلذّ له التلاوة وينسى الظمأ والجوع، ما يحس بشيء، يشبع ويروى من خلال التلاوة، وقال أريد أن أحُس بالصوم قليلاً، فيؤخر أكثر التلاوة إلى الليل. لا إله إلا الله!.. أما إرادة التنعّم بالفانيات، هذا فيه إعراض عن الله ويمنع التنعّم بالعبادة.
قال: إذا كان قصدك "التَّصدُّقُ" فهذا عند إخلاص النية و الحاجة ، وإلا ففي العموم أن تركك له أفضل. و لكن كثيراً من هؤلاء الموفقين تصدّقوا لأن نيتهم التصدق، ما بين أمرين:
وقال قول سيدنا "عيسىٰ عليهِ السَّلامُ: يا طالبَ الدُّنيا لِتَبَرَّ"؛ أي: تنال بها البِر والطاعات "تركُكَ الدُّنيا أبرُّ وأبرُّ".
قال: "وأمَّا الاستظهارُ لخوفِ آفةٍ: فذلكَ لا مردَّ لهُ، وهوَ سوءُ ظنِّ لا آخرَ لهُ، بل ينبغي أن يَدفَعَ ذلكَ بحسنِ الظَّنِّ بتدبيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وهوَ أنَّهُ إن تَصوَّرَ أن تُصِيبَ المالَ آفةٌ مِنْ حيثُ لا يَتوقَّعُ.. فيتصوَّرُ أن ينفتحَ للرِّزقِ أيضاً بابٌ مِنْ حيثُ لا يَحتسِبُ؛ -كذلك- (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2]".
وكيف مضى ما مرّ من عمرك؟ والذي رتّب لك ما مضى من عمرك ما بيعرف يرتّب الباقي؟ هل سينقص من قدرته في باقي عمرك؟ ولذا قال سيدنا علي:
رَضيتُ بِما قَسَّمَ اللَهُ لِي *** وَفَوَّضتُ أَمري إِلى خالِقي
كَما أَحسَنَ اللَهُ فيما مَضى *** كَذَلِكَ يُحسنُ فيما بَقي
وقال الحبيب عبدالله بن حسين بن طاهر رضي الله عنه:
أَحْسِنْ كَما أَحْسَنْتا *** واسْتُرْ كَما سِتَرْتا
وَزِدْ كما قَدْ زدتا *** وجُدْ كما قَدْ جُدْتَا
أتمِمْ لِما أنعمتَا *** وما بِهِ مَنَنٌتَا
كم قد جاد، جل جلاله!..
خمَّسِ البيتين المنسوبة لسيدنا علي، شيخنا الحبيب إبراهيم بن عمر بن عقيل بن يحيى عليه رحمة الله يقول:
إذا أزمةٌ نزلت قِبَلي *** وضِقْتُ وضاقتْ بها حِيَلي
تذكرت قول الإمام علي *** رَضيتُ بِما قَسَّمَ اللَهُ لِي
وَفَوَّضتُ أَمري إِلى خالِقي *** فما عتم الضيقُ حتى انقضى
وجاءت تباشير فيض الرضا *** وقد أطفأ الله جمر الغضىى
كَما أَحسَنَ اللَهُ فيما مَضى *** كَذَلِكَ يُحسنُ فيما بَقي
له الحمد وله المنة، اللهم لك الحمد شكراً ولك المنّ فضلاً.
قال: "وإن فُرِضَ على النُّدورِ خلافُهُ.. فلا ينبغي أن يعتقِدَ العبدُ أنَّ سلامتَهُ طولَ عمرِهِ عنِ البلاءِ محمودٌ، بلِ البلاءُ هوَ الذي يَصقُلُ القلبَ ويُزكِيهِ، ويُخلِصُهُ مِنَ الخبائثِ كلِّها، ولهذا كانَ مُوكَّلاً بالأنبياءِ، ثمَّ الأولياءِ، ثمَّ الأمثلِ فالأمثلِ، فاتَّكِلْ على فضلِ اللهِ تعالى"، واسأله الكفاية والتوفيق "واعلمْ أنَّهُ لا يصيبُكَ إلَّا ما فيهِ خيرُكَ وخيرتُكَ"؛ لمَ؟ قال: "مُدبِّرَ المُلْكِ والملكوتِ أعلمُ بمصالحِكَ".
"عبدي أطِعني ولا تقل لي بما يصلحك، فأنا أعلم به". أطعني فقط، أنا أرتب لك وأدبر لك أمورك.. اصدُق معي في التوجه وسترى كيف أصلح لك أمورك من حيث لا تشعر، فما عاد يصادفك شيء إلا وفيه خير لك، من حيث تدري ومن حيث لا تدري.
كان جلساء بعض الأمراء يقول: كل ما حصل أي شيء، يقول: "فيه خير". فسكت حتى أُصيب يوم في إصبعه أو عين، قال: فيه خير! قال: تُصاب عيني وإصبعي وتقول فيه خير؟! احبسوه، أمر بحبسه، وخرج للصيد لمكان، فصادف أناسًا من الفرقة الذين يأخذون الآدميين ويأكلونهم.. فأخذوه معهم، أخذوا هذا الأمير معهم، لكن يعرضونهم على طبيب لهم خاص قبل ما يخرقون رأس أحدهم ويسكبون الدم لهم لغرض، وبعد ذلك باقي الجسم. فقيل: هذا عينه فقئت، فحصه قال: مايصلح لكم هذا بسبب هذا دمه ما يصلح.. اذهب، فخرج وقال: نعم فيه خير، وقال: أخرِجوا الرجل من الحبس ، خرج الرجل من الحبس، وقال: تعال صح كلامك حين قلت فيه خير.. لكن أنت ما الخير في حبسك؟ أنت حبسناك ما هو الخير لك في الحبس؟ قال: لو ما أنا في الحبس لكنت معك وأكلتني الجماعة!! لو ما كنت في الحبس لكنت معك في الصيد ولأخذوني الجماعة وأكلوني أنا!.. يا سبحان الله! ما يكون شيء إلا وفيه خير.
والحق لمّا يدبر لأحد من عباده وهو يحبه، فوق حتى مدارك الملائكة، يدبّر له تدابير هو محيط علم بكل شيء سبحانه وتعالى، والخير بيده، ومع ذلك كله؛ ما يخبأ لهم عند لقائه في الآخرة أجمل وأفضل وأكمل وأنعم وأطيب وألذ.. (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ) [ آل عمران:198]. سبحانه، "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". ونِعمَ المُعدّ - جل جلاله - في قوته و قدرته وإحاطة علمه. فيا ما أحسن الاعتماد عليه والاستناد إليه.
فَصْلٌ
في بيانِ حدّ الكفايةِ والإسرافِ
"هٰذا الذي ذكرتُهُ تقريبٌ، يمكنُ الزِّيادةُ عليهِ والنُّقصانُ منهُ بالاجتهادِ في بعضِ الأشخاصِ، وفي بعضِ الأحوالِ، ولكنِ اعتقدْ قطعاً أنَّ المالَ كالدَّواءِ، النَّافعُ منهُ قَدْرٌ مُخصوصٌ، والإفراطُ فيهِ قاتلٌ، والقُربُ مِنَ الإفراطِ مُمرِضٌ إِن لم يقتلْ.
فعليكَ بالتَّقليلِ، والحذرِ مِنَ الإفراطِ والرَّفاهيَّةِ؛ فذلكَ خطرٌ عظيمٌ، وليسَ في التَّقليلِ إلَّا مَشقَّةٌ قليلةٌ في أيَّامٍ قلائلَ، وذو الحزمِ لا يثقلُ عليهِ أن يُجوِّعَ نفسَهُ لوليمةِ الفردوسِ؛ لعلمِهِ بأنَّ اللَّذَّةَ على قدرِ الجوعِ".
فَصْلٌ
في بيانِ حدّ البخلِ
"لعلَّكَ ترغبُ في معرفةِ حدِّ البخلِ؛ إذِ الشَّخصُ الواحدُ قد يَشُكُّ في أنَّهُ بخيلٌ أم لا، ويختلفُ النَّاسُ فيهِ .
فاعلمْ: أنَّ حدَّ البخلِ: منعُ ما يُوجِبُهُ الشَّرعُ أوِ المروءةُ، ولا تظنَّ أنَّ مَنْ سَلَّمَ إلىٰ زوجتِهِ وقريبِهِ ما فرضَهُ القاضي عليهِ، وضايقَ وراءَ ذلكَ في لقمةٍ.. فليسَ بيخيلٍ، وأنَّ مَنْ ردَّ الخبزَ واللَّحمَ إلى الخبَّازِ والقصَّابِ لنقصانِ قَدْرٍ منهُ يسيرٍ.. ليسَ ببخيلٍ، وإن كانَ لهُ ذلكَ في الشَّرعِ؛ فإِنَّ معنى الشَّرعِ في هذهِ الأمورِ: قطعُ خصومةِ البخلاءِ بتقديرِ مقدارٍ يطيقُهُ البخيلُ، ولذلكَ قالَ اللهُ تعالى: (إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) [محمد:37].
بل لا بدَّ مِنْ مراعاةِ المروءةِ، ودفعٍ قبحِ الأُحدوثةِ، وذلكَ يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ وقَدْرِ المالِ، ومَنْ لهُ مالٌ وأمكنَهُ أن يَقطعَ هجوَ شاعرٍ وذمَّهُ عن نفسِهِ بقَدْرٍ يسيرِ فلم يفعلْهُ.. فهوَ بخيلٌ وإن لم يكنْ ذلكَ واجباً عليهِ؛ إذ قالَ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ: "مَا وَقَى ٱلْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ.. فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ".
والتَّحقيقُ فيهِ: أنَّ المالَ خُلِقَ لفائدةٍ لأجلِها يُمسَكُ، وفي بذلِهِ أيضاً فائدةٌ، فمهما ظهرَ لهُ أنَّ فائدةَ البذلِ أعظمُ مِنْ فائدةِ الإمساكِ، ثمَّ شَقَّ عليهِ البذلُ.. فهوَ بخيلٌ مُحِبٌّ للمالِ، والمالُ لا ينبغي أن يُحَبَّ لذاتِهِ، بل لفائدتِهِ، فيُصرَفُ إلى أقوىٰ فوائدِهِ، وحفظُ المروءةِ أفضلُ وأقوى مِنَ التَّنَعُّمِ بالأكلِ الكثيرِ مثلاً.
وقد يحملُهُ البخلُ وحبُّ المالِ على أن يجهلَ أقوى الفائدتينِ وأَولاهما، وذلكَ غايةُ البخلِ، فإن عَلِمَ وعَسُرَ عليهِ البذلُ.. فهوَ بخيلٌ أيضاً ولو بذلَ تكلُّفاً، بل إنَّما يبرأُ مِنَ البخل بألَّا يَثْقُلَ عليهِ بذلُ المالِ فيما ينبغي أن يُبذَلَ فيهِ عقلاً وشرعاً.
وأمَّا درجةُ السَّخاءِ: فلا تُنالُ إلَّا ببذلِ ما يزيدُ علىٰ واجبِ الشَّرع والمروءةِ جميعاً".
فَصْلٌ
في بيانِ علاجِ البخلِ
"لعلَّكَ تريدُ أن تفهمَ علاجَ البخلِ.
فاعلمْ: أنَّ دواءَهُ معجونٌ مُركَّبٌ مِنَ العلمِ والعملِ.
أمَّا العلمُ: فهوَ أن تعلَمَ ما في البخلِ مِنَ الهلاكِ في الدَّارِ الآخرةِ، والمَذَمَّةِ في الدُّنيا.
وتعلمَ: أنَّ المالَ لا يتبعُهُ -إن بقيَ- إلى قبرِه، وإنَّما المالُ للهِ تعالى، مكَّنَهُ منهُ ليصرفَهُ إلى أهمّ أمورِهِ.
وتعلمَ: أنَّ إمساكَ المالِ إن كانَ للتَّنعُّمِ في الشَّهَواتِ.. فحسنُ الأُحدوثةِ، وثوابُ الآخرةِ ألذُّ منهُ؛ فقضاءُ الشَّهوةِ سجيَّةُ البهائمِ، وهٰذهِ سجيَّةُ العقلاءِ.
وإن كانَ يمسكُهُ ليتركَهُ لولدِهِ.. فكأنَّهُ يتركُ ولدَهُ بخيرٍ، ويُقدِمُ علىٰ ربِّه بشرّ، وهذا عينُ الجهلِ، كيفَ وولدُهُ إن كانَ صالحاً.. فاللهُ تعالىٰ يكفيهِ، وإن كانَ فاسقاً.. فيستعينُ بهِ على المعصيةِ، ويكونُ هوَ سببَ تمكُّنِهِ منها، فيتضرَّرُ هوَ، ويتنعَّمُ غيرُهُ؟!
وأمَّا العملُ: فهوَ أن يحملَ نفسَهُ على البذلِ تكلُّفاً، ولا يزالُ يفعلُ ذلكَ حتَّىٰ يصيرَ لهُ عادةً.
ومِنْ نوافذِ حيلِهِ فيهِ: أن يخدعَ نفسَهُ بحسنِ الاسمِ، وتوقُّع المكافأةِ، حتَّىٰ يرغبَ في البذلِ، ثمَّ بعدَ ذلكَ يَتدرَّجُ أيضاً إلى قمع هٰذهِ الصِّفاتِ".
يقول: "في بيانِ حدّ الكفايةِ والإسرافِ، هٰذا الذي ذكرتُهُ تقريبٌ"؛ أمر تقريبي ليس بمحدود بالنسبة للأشخاص والأماكن والأزمِنة، قد يختلف من شخص إلى شخص، لكن الذي يجب أن تعرفه أن تعتقد "أنَّ المالَ كالدَّواءِ، النَّافعُ منهُ قَدْرٌ مُخصوصٌ" ، ما زاد ما ينفع، يضر.
"فعليكَ بالتَّقليلِ، والحذرِ مِنَ الإفراطِ" لأن "القُربُ مِنَ الإفراطِ مُمرِضٌ إِن لم يقتلْ".
و "حدَّ البخلِ" أن تمنع شيء "يُوجِبُهُ الشَّرعُ أوِ المروءةُ"
فما دام يبخل بما يوجبه الشرع، يمنع ما يوجبه الشرع، ويمنع ما توجبه المروءة، فهو بخيل، بخيل.
وفي الحديث: " ثلاثة من كُنّ فيه وُقِيَ شح نفسه: من أدى الزكاة ، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة"؛ يعني: قام بحقّ المُروءة مع حق الشرع.
"قال" كذلك "مَنْ ردَّ الخبزَ واللَّحمَ إلى الخبَّازِ والقصَّابِ لنقصانِ قَدْرٍ منهُ يسيرٍ."، الشرع يجيز له يردّه، ما يمنعه الشرع أن يرده لو كان يسير؛ ناقص، لكن المروءة تمنعه. إذًا: "معنى الشَّرعِ في هذهِ الأمورِ: قطعُ خصومةِ البخلاءِ بتقديرِ مقدارٍ يطيقُهُ البخيلُ".
إذًا؛ يحتاج أن يخرج من البخل بأن يبذل ما يوجبه الشرع وما توجبه المروءة، هذا أقل شيء. فإذا منع شيء يوجبه الشرع والمروءة فهو بخيل. "بل لا بدَّ مِنْ مراعاةِ المروءةِ، ودفعٍ قبحِ الأُحدوثةِ"، الأُحدوثة: الكلام بين الناس، ترجع تصرفاته محل تندُّرات الناس، يتفكهون بها في المجالس، قال كذا وامتنع عن كذا يتعجبون فيه، يصير أُحدوثة بين الخلق، محل حديثهم.
"قال: وإن لم يكنْ ذلكَ واجباً عليهِ؛، إذ قالَ ﷺ: "مَا وَقَى ٱلْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ.. فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ"."، إذا يقدر يقطع هجو شاعر أو ذامّ يذمّه أويسبّه، ماذا يريد منه؟ آثر أن لا يعطيه شيء، يتركه يسبّه يتحمل ألم السب ولا يتحمل ألم البذل! هذا واحد من البخلاء بخيل.. لأن المروءة تقضي أن تقي عرضك بالمال. قال: والمال خُلق لفائدة لأجلها يُمسَك، وفي بذله فائدة أيضًا لأجلها يُبذل. "فمهما ظهرَ لهُ أنَّ فائدةَ البذلِ أعظمُ مِنْ فائدةِ الإمساكِ، ثمَّ شَقَّ عليهِ البذلُ.. فهوَ بخيل، والمالُ لا ينبغي أن يُحَبَّ لذاتِهِ، بل لفائدتِهِ، فيُصرَفُ إلى أقوىٰ فوائدِهِ، وحفظُ المروءةِ أفضلُ وأقوى مِنَ التَّنَعُّمِ بالأكلِ الكثيرِ مثلاً."
"وقد يحملُهُ البخلُ وحبُّ المالِ على أن يجهلَ أقوى الفائدتينِ وأَولاهما، وذلكَ غايةُ البخلِ، فإن عَلِمَ وعَسُرَ عليهِ البذلُ.. فهوَ بخيلٌ أيضاً ولو بذلَ تكلُّفاً، بل إنَّما يبرأُ مِنَ البخل بألَّا يَثْقُلَ عليهِ بذلُ المالِ"
"وأمَّا درجةُ السَّخاءِ: فلا تُنالُ إلَّا ببذلِ ما يزيدُ علىٰ واجبِ الشَّرع والمروءةِ جميعاً"، يتخلص من البخل، ولا يكون سخياً إلا أن يزيد على ما لا توجبه المروءة ولا يوجبه الشرع، لكن هو يتفضل به، هذا سخي.
"قال: وعليك بعلاج ما فيك من بخل" بأي وسيلة ذلك؟ "قال: بالعلم والعمل، ما هو العلم؟ "العلم بما ما في البخلِ مِنَ الهلاكِ في الدَّارِ الآخرةِ، والمَذَمَّةِ في الدُّنيا، فتنفر نفسك عنه، وتعلم أنَّ المالَ لا يتبعُهُ -إن بقيَ- إلى قبرِه"، يقف، "وإنَّما المالُ للهِ تعالى، مكَّنَهُ منهُ ليصرفَهُ إلى أهمّ أمورِهِ."
"وليعلم: أنَّ إمساكَ المالِ إن كانَ للتَّنعُّمِ في الشَّهَواتِ.. فحسنُ الأُحدوثةِ، وثوابُ الآخرةِ ألذُّ منهُ؛ فقضاءُ الشَّهوةِ سجيَّةُ البهائمِ"، وقصد ثواب الآخرة "سجيَّةُ العقلاءِ".
"وإن كانَ يمسكُهُ ليتركَهُ لولدِهِ.. فكأنَّهُ يتركُ ولدَهُ بخيرٍ، ويُقدِمُ علىٰ ربِّه بشرّ"! وكثير منهم ممن يمسكون المال لأولادهم، هم أنفسهم آباؤهم ما خلفوا لهم ورزقهم الله.. وأنتم أولادكم ما يعرف يرزقهم! يعرف يرزقك أنت؟ أنت أباك ما خلّف لك شيء ورزقك.. وبعدين ما عاد يقدر يرزق ولدك أو كيف!!
وذكر لنا ﷺ رجلين في بني إسرائيل أغنياء، ماتا، أوقفهما الله بين يديه، قال للأول: ماذا فعلت فيما أعطيتك؟ قال: يا رب خفت العَيلة على أولادي فتركتُه لهم، قال: أما ما كنت تخشاه من العَيلة فقد أنزلته بهم. افتقروا أولاده في أقرب الأوقات وذهبت أموالهم.
قال للثاني: ما عملت فيما آتيتك؟ قال: وثقت بجودك وطولك، أنفقته في مرضاتك، ووثقت بجودك وطولك لأولادي وأهلي. قال: أما ما كنت ترجوه لهم فقد أنزلته بهم. فعاشوا أولاد هذا أغنياء. لا إله إلا الله..
في بعض قرى اليمن، كان مرض بعض الشيبان، فكان ينقلونه في بيوت أولاده. بعدين واحد من الأولاد قال: لا تتعبون الوالد تنقلونه، خلوه عندي أنا أقوم بخدمته كاملة. قالوا: بعد الموت تريد أن تأخذ التّرِكة قال: لا لا لا! بل العكس، سأعطيكم ورقة أن ما لي شيء في إرث الوالد، معه الأرض أنتم خذوها كلها أنا لا أريد شيء، أريد أن أقوم ببره فقط. قالوا: ستكتب ورقة؟ كتب لهم ورقة.
أخذ الوالد وأخذ يمرّضه ويخدمه حتى توفّي عنده، بعد ذلك تقاسموا الإرث والأرض ولا أعطوا هذا ولا شيء. سنة واحدة مرت افتقروا، وهو اغتنى، حتى إن إخوته صاروا يأخذون نفقتهم من عنده، صار هو ينفق على إخوانه هؤلاء الذين أخذوا تركة والده وما أعطوه شيء! لا إله إلا الله.. يرزق من يشاء سبحانه وتعالى.
"وقال: كيفَ وولدُهُ إن كانَ صالحاً.. فاللهُ تعالىٰ يكفيهِ، وإن كانَ فاسقاً.. فيستعينُ بهِ على المعصيةِ"، هكذا قالوا لسيدنا عمر بن عبدالعزيز: اترك لأولادك شيئاً قال: إن كان ولدي من الصالحين فالله يتولى الصالحين، وإن كان من العاصين فما أُعينه على المعصية، لماذا أخلي له شيء يعصي به بعدي؟
" قال: هذا العلم"
و "العملُ: فهوَ أن يحملَ نفسَهُ على البذلِ تكلُّفاً"، يتكلف يتكلف "حتَّىٰ يصيرَ لهُ عادةً" فينتقل ويخرج عن دائرة البخل إلى السخاء.
ومن نوافع الحيل أحيانًا، ما تسمح النفس فيسلط عليها داء ثاني، مرض ثاني لكن أخف، أحيانا يعالجون بعض الأمراض؛ يعطيه شيئاً من الجرثومات في الدواء تقضي على ذاك، وهي أخف، بعدين يقضي عليها فيداويها. قال وهذا أيضًا يقولون له: ما شاء الله، بيمدحونك الناس، وخلاف ما تنفقه يجيء بدله أحسن منه.. فينفق لا عن سخاء منه، إنما رجاء السمعة بين الناس. قال: خلُّه لما يخلص من دائرة البخل ويصير عادة عنده، نقول له: تعال تقصد من؟ وأيش العائدة عليك من هذا؟ هو الذي جزاؤه أعظم.. خلّه يخرج بعدين من الرياء، فيعالج ذا بذا.
لكن هذا قال الشيوخ الحذّاق ينقلونه من عيب إلى عيب، يسلطون عليه عيب أخف حتى يقضوا على العيب الأكبر، ثم يعالجون العيب الثاني ويداوونه منه. مثل الأطباء في الأجساد يصلّحون بهم. وهؤلاء أطباء القلوب كذلك.
الأصل السّادس
في الرّعونة وحبّ الجاه
قالَ الله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
وقالَ النَّبيُّ ﷺ: "حُبُّ ٱلْمَالِ وَٱلْجَاهِ يُنْبِتَانِ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ ٱلْبَقْلَ".
وقالَ ﷺ: "مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَكْثَرَ فَسَاداً فِيهَا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي دِينِ ٱلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ".
وقالَ ﷺ في مدحِ الخمولِ: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى ٱللهِ لَأَبَرَّهُ".
وقالَ ﷺ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلُّ أَشْعَتَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ، لَا يُؤْبَهُ لَهُ؛ ٱلَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى ٱلْأُمَرَاءِ.. لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ.. لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا.. لَمْ يُنْصَتْ لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِه، لَوْ قُسِمَ نُورُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَى ٱلنَّاسِ.. لَوَسِعَهُمْ". .
وقالَ سليمُ بنُ حنظلةَ: بينَما نحنُ حولَ أُبيِّ بن كعبٍ نمشي خلفَهُ.. إذ رآهُ عمرُ، فعلاهُ بالدِرَّةِ، فقالَ : انظرْ يا أميرَ المؤمنينَ ما تصنعُ، فقالَ: إنَّ هذا مذلَّةٌ للتَّابعِ، وفتنةٌ للمتبوعِ.
وقالَ الحسنُ: إنَّ خفقَ النِّعالِ خلفَ الرجالِ قلَّما تثبتُ معَهُ قلوبُ الحمقىٰ.
وقالَ أيُّوبُ: واللهِ، ما صدقَ الله عَبدٌ إلّا سرَّهُ ألّا يُشعَرَ بِمكانِهِ.
فقد عرفتَ بهٰذا مذمَّةَ الشُّهرةِ والجاهِ، إلَّا أن يَشهَرَ اللهُ تعالىٰ عبداً في الدِّينِ مِنْ غيرِ طلبِ منهُ، كما شَهرَ الأنبياءَ والخلفاءَ الراشدينَ والأولياءَ".
رضي الله تعالى عنهم. يقول: الأصل هذا في الرعونة وحب الجاه،
قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
قرئت هذه الآية مرة على الشيخ عبدالله بن محمد باعباد - عليه رحمة الله - وكان جالس على حصير، من سعف النخل، وقرأ الآية أخرج الحصير وجلس على الأرض، قال أخاف يكون من العلوّ في الأرض.. (لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وقال تعالى عندما ذكر افتراق الناس أمام قارون، وكذلك الفرقتان قائمتان أمام قارون كل زمان، قارون كل زمان: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ)، في كل زمان ناس يقولون كذا، ويقولون: (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص:79]. ولا حظ عظيم ولا شيء، يتجلجل في الأرض من يوم خُسف به إلى الليلة وإلى القيامة، وفي الآخرة نار أيش من حظ عظيم؟! (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ)، وهذه الفرقة أيضًا موجودة، (ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) ألحقنا اللهم بهم (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:80-83].
"وقالَ النَّبيُّ ﷺ: "حُبُّ ٱلْمَالِ وَٱلْجَاهِ يُنْبِتَانِ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ ٱلْبَقْلَ"." ثم بين أو صوّر ما يفسده محبة الجاه والمنزلة عند الناس من دين الإنسان بهذا المثال. قال: "مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَكْثَرَ فَسَاداً فِيهَا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي دِينِ ٱلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ". إذا عندنا زريبة غنم؛ مجموعة من الغنم في زريبة، وهنا ذئبان جائعان ضاريان فتّاكان أرسلناهما على الغنم.. أيش بيصلحون؟ يقتل ذا وذا وذا، تجد أكثرها، آخر النهار مقتولة إن لم يكن كلها. قال: حب المال والجاه في دين الرجل يفتكان في دينك كما يفتك الذئبان الضاريان في زريبة الغنم؛ الذي يحصل في زريبة الغنم سيحصل في دينك من خلال ذئبي محبة المال والجاه. الله يدفع عنا شرّها ويحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ويصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، ويصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
يقول: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى ٱللهِ لَأَبَرَّهُ". منهم أويس بن عامر القرني، من التابعين، ومنهم فلان، ومنهم… ذكر بعض أصحابه ﷺ. قال: إن منكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره منهم عمرو بن الجموح - عليه الرضوان -.
كان هناك حادثة في عهد سيدنا عمر، قال: قم يا فلان أقسِم على الله يسقينا، قال: أستغفر الله! قال: سمعتُ النبي يقول: إنه لو أقسم على الله لأبره فلان، قم! قال: يا رب، أقسمتُ عليك إلا سقيتنا، فأقبل السحاب وأُمطروا! لا إله إلا الله..
غير الحادثة الكبيرة التي كانت مع سيدنا العباس، قدّمه في الاستسقاء، فاستسقى به، وتوسل به كما في البخاري، يقول: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا". قُم يا عباس، وهذا العباس عم رسول الله ﷺ، كان يرى رسول الله ﷺ ما يرى الولد للوالد، فقام وقال: اللهم إنهم توسلوا بي لقرابتي من نبيك، اللهم إنه لم تنزل عقوبة إلا بذنب، ولم تُرفع إلا بتوبة، وهذه نواصينا نمدّ أيدينا إليك بالتوبة، بينما هو يدعو أقبل السحاب وتراكم حتى سُقيت المدينة ومكة والحجاز وكل ما حواليها سقيا كبيرة، وكان العام يسمى عام الرمادة من شدة الجدب الذي كان فيه، وكان الصحابة يسمّون سيدنا العباس "ساقي الحرمين"، يسمّونه يا ساقي الحرمين، كان سبب السقيا، الله سقاهم ببركة دعائه.
وذكر من أهل الجنة صِنف يعيشون في الدنيا مغمورين لَا يُؤْبَهُ لَهُم؛ "إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى ٱلْأُمَرَاءِ.. لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ.. لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا.. لَمْ يُنْصَتْ لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِه، لَوْ قُسِمَ نُورُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَى ٱلنَّاسِ.. لَوَسِعَهُمْ"، لوسع أهل الموقف كلهم! رواه البيهقي في الشعب. سماهم ملوك أهل الجنة، كل أشعث، نِعم الملوك!
"وقالَ سليمُ بنُ حنظلةَ: بينَما نحنُ حولَ أُبيِّ بن كعبٍ نمشي خلفَهُ.. إذ رآهُ سيدنا عمر"، قدّمه ناس يمشون وراءه، "فعلاه بالدِّرَّة. فعلاهُ بالدِرَّةِ، فقالَ: انظرْ يا أميرَ المؤمنينَ ما تصنعُ"، إيش عندك، إيش فعلت؟ "قال: تمشي هكذا والناس وراءك؟ "إنَّ هذا مذلَّةٌ للتَّابعِ، وفتنةٌ للمتبوعِ". ادخل بينهم، لا تكون مقدم عليهم. ملاحظة الصحابة لما يُخاف منه، ولكن ربّاهم زين الوجود ﷺ.
"وقالَ الحسنُ: إنَّ خفقَ النِّعالِ خلفَ الرجالِ قلَّما تثبتُ معَهُ قلوبُ الحمقىٰ"؛ يعني: يكون مدعاة للاغترار والتكبر.
"وقالَ أيُّوبُ: واللهِ، ما صدقَ الله عَبدٌ إلّا سرَّهُ ألّا يُشعَرَ بِمكانِهِ."، أحبَّ أن لا يُعرف. "عرفتَ بهٰذا مذمَّةَ الشُّهرةِ والجاهِ، إلَّا أن يَشهَرَ اللهُ تعالىٰ عبداً في الدِّينِ" فهذا الذين شُهروا من الأنبياء، من الصحابة، من الأولياء، ما طلبوا الشهرة ولا قصدوها ولا أرادوها، وأشهرهم الله.
كان سيدنا الشيخ أبو بكر بن سالم - عليه رحمة الله - لما أظهره الله تعالى، جاءت بعض قوافل من الرّوم قطعت البلدان والأماكن حتى وصلت حضرموت، فيها نذور له. ووفد عليه الوافدون من الشام ومن مصر ومن المغرب ومن الحرمين الشريفين، قال: كنت من بدايتي أطلب من الله تعالى الخمول -يعني الاستتار وأن لا يُظهرني- قال: فأظهرني الله قهراً، ولكن ما أنا فيه من الظهور بالنسبة لما تكرَّم به علي هو عين الخمول! قال هذا.. سبحان المنعم! لذلك ما لهم التفات، أشهرهم وأظهرهم بدون ما يطلبون ولا يلتفتون، ما عليهم شيء في ذلك، وهم معه سبحانه وتعالى ما يؤثر فيهم هذا شيء. ويستوي عندهم إقبال الناس وإدبارهم، وذمّهم ومدحهم… إذا كان مولاي راضٍ، فمن أراد يغضب فليغضب.. إذا الله راضٍ علينا، سواء عندي المدح والسب.. فهم عباد حق للملك الجواد - جلّ جلاله -.
قال: "كما شَهرَ الأنبياءَ والخلفاءَ الراشدينَ والأولياءَ" والصالحين من دون اختيار منهم. هذا كان يهرب من الشهرة سيدنا أويس، صار من أشهر الأمة، ولكن شهرته في السماء أكثر. يقول ﷺ: "معروفٌ في السماء، مجهول في الأرض". إذا كان يوم القيامة قيل له: قف فاشفع، فيُشفّع في عددٍ كربيعة ومُضر! هؤلاء ملايين، أكبر قبائل العرب ربيعة ومُضر، هذا الواحد يشفع فيهم. فهذا واحد من أمة الحبيب، فكيف شفاعة الصحابة والصدّيقين الباقين؟ كيف شفاعة الأنبياء؟ كيف شفاعة سيد المرسلين ﷺ؟ سبحان الله، يشفّع في عباده من يشاء، (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة:255].
الإجابة على الأسئلة:
الأحوال بعد ذلك تختلف، فيما جاء في الحديث أنه: "أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس". فهذا في أحوال مخصوصة ولعموم المسلمين. وذاك قول هؤلاء الأكابر، وما حثّ عليه ﷺ عبر ما أخبرنا عن الرجل في بني إسرائيل، باب مخصوص لأرباب العنايات والرعايات، والصادق من المؤمنين يتوسط في الأمور لا يمنعه تركه النصيب لأولاده من الصدقة في حياته من الوصية إلى حدود الثلث عند وفاته، هذا الأمر كان فيما يتعلق بالوصية، وأراد أن يوصي بماله عند الموت هذا سيدنا سعد، أما صدقاته كانت كثيرة، كان يتصدق كثير، لكن يسأله عن الوصية فيما يبقى من ماله عند الموت، فأجابه بهذا الجواب.
ومع ذلك لم يكن له ورثة، لكن بعدها جاء له الورثة فيما بعد، وكان يظن نفسه أنه سيموت. فقال له: لعلك تخلّف حتى ينتفع بك قوم ويضرّ بك آخرون. فقال له لو خُلِّفت بعد أصحابي، فأشار إليه أنه سيبقى، فبقي مدة في الحياة وجاء له الورثة فيما بعد. وهكذا تختلف الأحوال وما تلاحظه قلوب الرجال.
نستقبل أيامنا وليالينا من شهر ربيع الأول بأيّ نيات؟
نيات الاقتداء والاهتداء والاتباع، وزيادة الإيمان والمحبّة والتعظيم للحقّ ورسوله، وكثرة الصلاة والسلام عليه، وتعليق قلوب أهالينا وأولادنا بالحق وبرسوله ﷺ، وكثرة القراءة لأخباره وسيرته وشمائله ﷺ، والعمل على إحياء سُنّته في الأنفس والأهلين والذريّة وفي المسلمين، ورجاء عناية الله ونصره وفرجه لأمّته ببركته ﷺ.
والله يجعل الشهر المقبل من أبرك الشهور علينا وعلى أمة الحبيب الأعظم ﷺ، يجعل ارتباطنا به يقوى أضعافًا مضاعفة، ويجعله مستمر في القوة وزيادة في قوته أبدًا سرمدًا في الحياة وعند الوفاة وفي البرزخ ويوم القيامة وفي دار الكرامة. الله يحنّن روحه علينا، ويعطّف قلبه علينا، ويجعلنا وإياكم من أسعد أمّته بقُربه وبمحبته وبرؤيته ومرافقته في خيرٍ ولطفٍ وعافية
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
01 ربيع الأول 1447