الأربعين في أصول الدين - 24 | تكملة الحسد، والبخل وحب المال (1)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الرابع والعشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: تكملة الأصل الرابع: الحسد، والأصل الخامس: البخل وحب المال (1)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

ظهر السبت 29 صفر 1447هـ

يشرح الحبيب عمر بن حفيظ تتمّة أصل الحسد: كيف يتخلّص المرء من إثمِه مع بقاء الدافع الطبعي، وعلامات صدقِ كراهية الحسد في القلب، ثم يفتتح شرح البُخل وحُبّ المال: ميزانُ السَّخاء، ومعنى أن يكون المال "زاد راكب" لا حملًا يُثقِل الطريق.

 

نص الدرس المكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

رضى الله تعالى عنكم، وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

فَصْلٌ 

في كيفيةِ التخلُّصِ مِنْ إثمِ الحسدِ 

 

"لعلَّ نفسَكَ لا تطاوعُكَ على التَّسويةِ بينَ عدوِّكَ وصديقِكَ، بل تكرهُ مَساءةَ الصَّديقِ دونَ العدوِّ، وتُحِبُّ نعمةَ الصَّديقِ دونَ العدوِ، ولستَ مُكلَّفاً بما لا تطيقُ.

فإن لم تَقدِرْ على ذلكَ.. فعليكَ أن تَتخلَّصَ مِنَ الإثمِ بأمرينِ:

أحدُهُما: ألَّا تُظهِرَ الحسدَ بلسانِكَ وجوارحِكَ وأعمالِكَ الاختياريَّةِ، بل تُخالِفُ مُوجَبَها.

والثَّاني: أن تكرهَ مِنْ نفسِكَ حبَّها زوالَ نعمةِ اللهِ تعالى عن عبدٍ مِنْ عبادِهِ، فإذا اقترنَتِ الكراهةُ عن باعثِ الدِّينِ بحبِّ زوالِ النِّعمةِ الذي اقتضاهُ الطَّبعُ.. اندفعَ عنكَ الإثمُ، وليسَ عليكَ تغييرُ الطَّبع؛ فإنَّ ذلكَ لا تَقدِرُ عليهِ في أكثرِ الأحوالِ.

وعلامةُ الكراهيَّةِ: أن تكونَ بحيثُ لو قَدرْتَ علىٰ إزالةِ نعمتِهِ.. لم تُقدِمْ على الإزالةِ معَ حبِّكَ لها، ولو قَدرْتَ على معونتِهِ في دوامٍ نعمتِهِ أو في زيادتِها.. لفعلتَ معَ كراهيتِكَ لذلكَ؛ فإذا كنتَ كذلكَ.. فلا إثمَ عليكَ فيما يتقاضاهُ طبعُكَ؛ فإنَّ الطَّبعَ إنَّما بصيرُ مغموراً مقهوراً في حقّ المُستهتَرِ باللهِ تعالى، الذي انقطعَ نظرُهُ عنِ الدُّنيا وعنِ الخَلْقِ، بل عَلِمَ أنَّ المُنعَمَ عليهِ إن كانَ في النَّارِ.. فما تنفعُ هذهِ النِّعمةُ، وإن كانَ في الجنَّةِ.. فأيُّ نسبةِ لهٰذهِ النِّعمةِ إلى الجنَّةِ؟

بل يرىٰ كلَّ الخَلْقِ عبادَ اللهِ تعالىٰ، فيُحبُّهُم لأنَّهُم عبادُ مَحبوبِهِ، ويُحِبُّ أن يَظهرَ أثرُ نعمةِ محبوبِهِ على عبادِهِ، وهٰذهِ حالةٌ نادرةٌ لا تدخلُ تحتَ التَّكليفِ".

 

الحمد لله مهيأ من يشاء للدرجات العُلا ومدخلهم في خيار الملأ، بتزكيتهم أنفسهم وتنقيتها عن الشوائب وتخليتها عن المعايب؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب المشارق والمغارب ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أطيب الأطايب، سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، ومن والاهم واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين.

ويتحدث الشيخ -عليه رحمة الله- عن التخلص من إثم الحسد، فإن المؤمن يهمه إذا وقع في أي ذنب صغير أو كبير أن يتخلص من إثمه وتبعته وأثره وعاقبته.

يقول: "لعلَّ نفسَكَ لا تطاوعُكَ" لعدم بلُوغك الذروة في التهذيب أو الوصول إلى حالة الشهود الأكمل، "لا تطاوعُكَ على التَّسويةِ بينَ عدوِّكَ وصديقِكَ، بل تكرهُ مَساءةَ الصَّديقِ دونَ -ولا تبالي بمساءة- العدوِّ، -إذا نزل عليه- وتُحِبُّ نعمةَ الصَّديقِ" دون أن تفرح بنعمة نزلت بمن يؤذيك ويعاديك وتحسده.

قال: "فإن لم تَقدِرْ على ذلكَ.."، إن تمكنت من الوصول إلى هذه الدرجة بحسن التربية والتزكية، فهذا واجبك وهو الأفضل لك، وإلا "فعليكَ أن تَتخلَّصَ مِنَ الإثمِ بأمرينِ:

  • الأمر الأول: "ألَّا تُظهِرَ الحسدَ بلسانِكَ وجوارحِكَ وأعمالِكَ الاختياريَّةِ"، بل تكره ما ينازل قلبك من فرح بمساءة هذا الذي تعاديه أو تكره النعمة عليه وتحسده، أو بالكره لشيئ مما ينازله من النعم واليسرى، فلا يجوز أن تقرَّ قلبك على الكراهة لما ينازله من النعم، ولا على الفرح بما ينازله من المساءات، هذا واحد. ثم لا يظهر بلسانك شيء، لا تقول: يستاهل وإلا خلّوه وإلا ماذا علينا منه؛ لا تظهر الحسد بلسانك، لا تظهر بلسانك الحسد لأنك تؤاخذ بذلك. ولا بجوارحك؛ بالإشارة وإلا الرمز والإيماء وإلا بتصفيق وإلا بأي شيء، انتبه! لأنك مؤاخذ بهذا، تؤاخذ عليه ويكون حساب عليك وعقاب، وكل ما يدخل في اختيارك "وأعمالِكَ الاختياريَّةِ، بل تُخالِفُ مُوجَبَها"؛ هذا الأول.
  • الأمر "الثَّاني: أن تكرهَ مِنْ نفسِكَ حبَّها زوالَ نعمةِ اللهِ تعالى عن عبدٍ مِنْ عبادِهِ، فإذا اقترنَتِ الكراهةُ عن باعثِ الدِّينِ بحبِّ زوالِ النِّعمةِ الذي اقتضاهُ الطَّبعُ.. اندفعَ عنكَ الإثمُ، وليسَ عليكَ تغييرُ الطَّبع؛ فإنَّ ذلكَ لا تَقدِرُ عليهِ في أكثرِ الأحوالِ".

وعلامةُ الكراهيَّةِ: لِما نازلك من حسد "أن تكون بحيث لو قدرت على إزالة نعمته.." وتمكنت منها "لم تُقدِم على الإزالة" مع كون نفسك تحب إزالة النعمة هذه، ولكنك بدافع الشرع ترد مُراد هذا الطبع، فلو تمكنت لم تُزلها خوفًا من الله وأدبًا، فإذا كان بهذه الحالة سلمت، تخلصت منه، هذا علامة أنك تكره الطارئ على قلبك هذا من الحسد.

"ولو قَدرْتَ على معونتِهِ في دوامٍ نعمتِهِ أو في زيادتِها.." لبادرت وفعلت ذلك، ولو لم تتمكن وتقول: خله في حاله ما علي منه، وبإمكانك مساعدته وتقول: غيري سيساعده، لمَّا أنك حاسد له، وإذا قدرت أن تقوى هذه النعمة التي حسدته عليها أو تستمر على يدك، فافعل ذلك، وكراهة ذلك في قلبك يُكفِّره هذا الإقدام الذي هو بدافع الشرع، يكفر عنك الكراهة التي هي من دافع الطبع.

قال: "فإذا كنتَ كذلكَ.. فلا إثمَ عليكَ فيما يتقاضاهُ طبعُكَ؛ فإنَّ الطَّبعَ إنَّما بصيرُ مغموراً مقهوراً في حقّ المُستهتَرِ -يعني: المستَغرَق- باللهِ تعالى"، هذا الطبع كله ينقلب عنده، ما عاد تشوفه، بشر ما كأنه بشر أمامك، ما عاد عنده التفات إلى شيء من هذه التي هي شؤون النفوس أصلًا؛ استغراقًا بالله.

"الذي انقطعَ" بذلك الاستغراق "نظرُهُ عنِ الدُّنيا وعنِ الخَلْقِ" والوجود والكائنات وما فيها، فما الذي يهزه؟ وصْفُهُ كما قال بعض السائحين لما سأله الحبشي: كيف رأيت العيدروس بن عمر الحبشي؟ قال: (وَتَرَى الجِبالَ تَحسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل:88]، ما يؤثر فيه شيء، مع ربه في شؤونه وأحواله كلها -لا إله إلا الله-. وكان في كريم خلقه الذي اعتاد يحلق له كبر سنه وصارت يده ترتجف فصار يشّخط رأس الحبيب، فقالوا: هذا يخرج الدم من رأسك، ما هذا؟ جيب واحد ثاني، قال: لا، سينكسر خاطره، لا نكسر خاطره وله سنوات معنا، لو هو من نفسه قال، أما إحنا ما بنجيبها، خلوه يشخّط رأسي، لا بأس، قليل، لكن ما نكسر خاطره -لا إله إلا الله-.

قال له بعض الذي خرَّج له سحر أصابه: أخبرك بالذي فعله؟ قال: لا لا لا، أنا سأدعي له، ولا تقول لي من هو، قال له: لا أتغير عليه إذا أتانا يحضر مجلسنا ويجي عندنا اتركه، أنا سأدعي له بالهداية والمغفرة، فهذا عجائب غلبة الشهود واستغراقهم بالمعبود عن الوجود، فما بقي من أثر الطبع شيء عندهم، تبحث عنه عندهم فتجده مغطى بنور شهود الحق -جل جلاله وتعالى في علاه-.

لهذا قال بعض الأولياء في الهند لما التقى ببعض أهل حضرموت، قال له: تعرف العيدروس بن عمر الحبشي؟ -في حياته-. قال: نعم أنا من بلده، قال: ما شاء الله! فرح وقال له: تلقاه كل يوم؟ قال: لا، قال: متى؟ قال: في الجمعة، إذا تمكنا نصافحه. قال: الله يشهد أنَّك محروم، لو كنت محلك في البلد، في الصباح آتي من جهة غرب بيته، أجلس تحت البيت في الظل عسى أن يشرف أو يخرج وأراه؛ وبعد الزوال أجلس في الجانب الشرقي في ظل بيته عسى أن يشرف عليه أو ينزل وأراه، وما أفارق مكانه، وأنت في بلاده وتشوفه من الجمعة للجمعة؟ ذاك يعرف قدرهم، حال بعيد بنور البصيرة -لا إله إلا الله- (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران:163].

قال "الذي انقطعَ نظرُهُ عنِ الدُّنيا وعنِ الخَلْقِ، بل عَلِمَ أنَّ المُنعَمَ عليهِ " هذا الذي أراد طبعه أن يحسده "إن كانَ" مصيره إلى نار الغضب، فما الفائدة من هذا الذي معه؟ لا تنفعه، وإن كان هو في الجنة فيحسده على ماذا؟ هذه النعمة لا تساوي شيئًا بالنسبة لما يلقاه هناك من نعيم أكبر وعطاء أوفر، فعلى ماذا تحسده؟ الحاجة التي تحسده عليها لا تساوي لحظة من النعيم المقبل عليه ولا ذرة، فعلى ماذا تحسده؟ ما في شيء، وأما إن كان مصيره -والعياذ بالله- النار، فلماذا مازلت تحسده؟ لا تنفعه هذه النعم التي عليه وهو قدامه العذاب الأليم -لا إله إلا الله-.

"بل يرىٰ كلَّ الخَلْقِ عبادَ اللهِ تعالىٰ" وصنعه وفعلته "فيُحبُّهُم لأنَّهُم عبادُ مَحبوبِهِ، ويُحِبُّ أن يَظهرَ أثرُ نعمةِ محبوبِهِ على عبادِهِ، وهٰذهِ" قال: "حالةٌ نادرةٌ لا تدخلُ تحتَ التَّكليفِ" ولكنها تعطى بالفضل والتشريف، يشرِّف الله بها من يشاء من عباده، أنت تعلم أنَّ من أحب إنسانًا أحب عبيده ومملوكيه، وكل شيء يدخل في ملكه يحبه لأنَّه ملك الذي يحبه، والكون كله ملك الواحد، فتُحبه من أجله جلَّ جلاله -لا إله إلا الله-.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:

الأصل الخامس

في البحل وحبّ المال

"اعلمْ: أنَّ البخلَ مِنَ المُهلِكاتِ العظيمةِ.

قالَ الله تعالىٰ: (وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ) [الحشر:9].

وقالَ اللّٰه تعالى: (وَلا يَحسَبَنَّ الَّذينَ يَبخَلونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُم بَل هُوَ شَرٌّ لَهُم سَيُطَوَّقونَ ما بَخِلوا بِهِ يَومَ القِيامَةِ) [آل عمران:180].

وقالَ الله تعالى: (الَّذينَ يَبخَلونَ وَيَأمُرونَ النّاسَ بِالبُخلِ) [النساء:37].

وقال ﷺ: "إِيَّاكُمْ وَالْبُخْلَ؛ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". 

وقال ﷺ: "السَّخَاءُ شَجَرَةٌ تَنْبُتُ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَلِجُ الْجَنَّةَ إِلَّا سَخِيٌّ، وَالْبُخْلُ شَجَرَةٌ تَنْبُتُ فِي النَّارِ، فَلَا يَلِجُ النَّارَ إِلَّا بَخِيلٌ". 

وقال ﷺ: "ثَلَاثُ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌ مُطَاعٌ، وَهَوَى مُتَّبَعُ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ.." الحديث.

وقالَ ﷺ: "شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ: شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ".

وقال النَّبيُّ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْبَخِيلَ فِي حَيَاتِهِ، السَّخِيَّ عِنْدَ مَوْتِهِ".

وقال عليه السلام: "السَّخِيُّ الْجَهُولُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَابِدِ الْبَخِيلِ". 

وقال ﷺ: "خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ".

فصلٌ

في بيانِ أصل البخلِ 

اعلمْ: أنَّ أصلَ البخلِ : حبُّ المالِ ، وهوَ مذمومُ ؛ إذ مَنْ لا مالَ لهُ.. لا يظهرُ بخلُهُ بالإمساكِ، ولكنْ يظهرُ بحبّ المالِ.

وربَّ رجلٍ سخيّ لكنَّهُ يحبُّ المالَ، فيسخىٰ بهِ ليُذكَرَ بالسَّخاءِ، وذلكَ أيضاً مذمومٌ؛ لأنَّ حبَّ المالِ يُلهي عن ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَصرِفُ وجهَ القلبِ إلى الدُّنيا، ويُحكِمُ علاقتَهُ فيها، حتَّىٰ يَثقُلَ عليهِ الموتُ الذي فيهِ لقاءُ اللهِ تعالىٰ.

قالَ الله عزَّ وجلَّ: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [المنافقون:9]، وقالَ تعالى: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال:28]، وقالَ تعالى: ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر:1].

وقالَ ﷺ: "لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتُحِبُّوا الدُّنْيَا".

وقيلَ للنَّبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "أيٌّ أُمَّتِكَ أشرُّ ؟ فقالَ: "الْأَغْنِيَاءُ".

وقالَ: "مَنْ أَخَذَ مِنَ الدُّنْيَا فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ .. أَخَذَ حَتْفَهُ وَهُوَ لا يَدْرِي".

وقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ؛ إنِّي لا أحبُّ الموتَ، قالَ عليهِ السَلامُ: "هَل لَكَ مَالٌ ؟"، قالَ: نعم، قالَ: "قَدِّمْ مَالَكَ؛ فَإِنّ قَلْبَ ٱلرَّجُلِ مَعَ مَالِهِ، فَإِنْ قَدَّمَهُ.. أَحَبَّ أَن يَلْحَقَهُ، وَإِنْ أَخَّرَهُ.. أَحَبَّ أَنْ يَتَخَلَّفَ مَعَهُ".

وقالَ: "إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ.. قَالَتِ ٱلْمَلَائِكَةُ: مَا قَدَّمَ؟ وَقَالَ ٱلنَّاسُ: مَا خَلّفَ؟".

وقالَ عليهِ السلامُ: "تَعِسَ عَبْدُ ٱلدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ ٱلدِّرْهَمِ وَعَبْدُ ٱلْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَس، وَإِذَا شِيكَ.. فَلَا انْتَقَشَ".

 

هكذا يُحذِّر -عليه رحمة الله تعالى- من وصف أيضًا من الأوصاف التي تضُر القلب وتورث في القبر والقيامة الكرب؛ وهو وصف البخل. 

  • فإن البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار.
  • وإن السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار.

قال: "اعلمْ: أنَّ البخلَ مِنَ المُهلكات العظيمة، قال الله تعالى: (وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ) [الحشر:9]." يحوز السعادة بأن يوقى ويسْلم ويحفظ من شح النفس.

"وقال الله تعالى: (وَلا يَحسَبَنَّ الَّذينَ يَبخَلونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُم بَل هُوَ شَرٌّ لَهُم سَيُطَوَّقونَ ما بَخِلوا بِهِ يَومَ القِيامَةِ) [آل عمران:180]." فالذين لا يؤدون الزكاة تُصَوَّر لهم أموالهم في صُوَرِ حيّة تلتوي بأعناقهم، وتدخل وتبرز كل حيّة وجهها قدام وجهه تقول: أنا كنزك الفلاني، أنا مالك الفلاني الذي كنت لا تتقي الله فيه ولا تخرج زكاتي، فتلهَزُهُ -يعني: تضربه- في طول الموقف -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، (سَيُطَوَّقونَ ما بَخِلوا بِهِ يَومَ القِيامَةِ وَلِلَّهِ ميراثُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَاللَّهُ بِما تَعمَلونَ خَبيرٌ) [آل عمران:180]، "(الَّذينَ يَبخَلونَ وَيَأمُرونَ النّاسَ بِالبُخلِ وَيَكتُمونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ وَأَعتَدنا لِلكافِرينَ عَذابًا مُهينًا) [النساء:37]" .

"وقال: "إِيَّاكُمْ وَالْبُخْلَ؛ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ" رواه مسلم وغيره؛ يقول: هلكوا ببخلهم والشح والبغضاء. 

وقال: "السَّخَاءُ شَجَرَةٌ تَنْبُتُ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَلِجُ الْجَنَّةَ إِلَّا سَخِيٌّ"، وجاء في لفظ آخر: "إنَّ السَّخاءَ شجرةٌ في الجنَّةِ، أغصانُها في الدُّنيا، فمن أخذ بغُصنٍ منها جرَّه إلى الجنَّةِ، وإنَّ البخلَ شجرةٌ في النَّارِ، أغصانُها في الدُّنيا، فمن أخذ بغُصنٍ منها جرَّه إلى النَّارِ". 

"وقال ﷺ: "ثَلَاثُ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌ مُطَاعٌ.." وفيه أن الشح إذا لم يطع فلا يضر، بل ينتقل صاحبه إلى متسخٍّ، ثم إذا داوم على ذلك صار سخيًا، يتحول طبعه بالمجاهدة، إنما السخاء بالتسخي، فإذا لم يكن سخيًا من طبعه فبالتَّسخي يصير سخيًا، أولًا يخرج وينفق بالتكلّف، فما يقال له سخي لكن مُتسخٍّي، فإذا داوم على ذلك رسخ فصار سهلًا عليه فيخرجه بطيب نفس فصار سخيًا، لَحِق بالأسخياء، فهذه الصفات جعلها الله في الإنسان تقبل التغيير؛ بالرياضة والمجاهدة تقبل التغيير، "وَهَوَى مُتَّبَعُ،" كذلك "وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ.." ثلاث مهلكات؛ فمن اجتمع فيه الثلاث فهو هالك -والعياذ الله- شح مطاع، وهوى متبع، ومعجب بالنفس -نعوذ بالله من غضب الله-.

ويقول: "شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ: شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ" يعني: شديد، "شُحٌّ هَالِعٌ -شديد- وَجُبْنٌ خَالِعٌ".

وقال ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْبَخِيلَ فِي حَيَاتِهِ، السَّخِيَّ عِنْدَ مَوْتِهِ". عند الموت كلٌّ يسخى! -لا إله إلا الله-، وكما قيل: إذا أردت أن تعرف قدر الدنيا فاسأل عنها رجلًا في سكرات الموت، هو الذي يعرف، ولا عاد يراها شيئًا كان أول متشبث بها، الحين خلاص -لا إله إلا الله-.

وقال: "السَّخِيُّ الْجَهُولُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَابِدِ الْبَخِيلِ".

وقال: "خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ" وقد يكون عنده شيء من سوء الأخلاق ويعاني أو يدافعه، ولكن يجتمع سوء خلقه مع بخل؟ لا يكون في المؤمن، كما جاء في الرواية الأخرى تقدمت معنا: "ليس الكذب والخيانة"، لا يجتمع أبدًأ.

ويقول: "أصل البخل: حبُّ المالِ" وحب المال طُبعت عليه النفوس اختبارًا من الله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]، فجعل -سبحانه- برهان محبته أن يُبذل المحبوب -بِحكم الطبع- من أجل المحبوب -وهو الحق سبحانه وتعالى-، فإذا بذل هذا المحبوب الطبعي من أجل ربه فهو محب صادق، وإذا بخل به فمحبتُه كاذبة لله تبارك وتعالى.

قال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ) بمحبة الله تعالى، لمحبتهم لله (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:8-9]، لأنهم دفعوا بدافع الحب لله تعالى، فما عادوا يلتفتون إلى شكر أحد ولا إلى مدح أحد، فيرقبون الذي أعطوا من أجله.

نعم، قال: "إذ مَنْ لا مالَ لهُ.. لا يظهرُ بخلُهُ بالإمساكِ"، هو ليس بخيل، قد يكون سخيًا لكن ما عنده مال؛ لكن طبعه سخي؛ لو وُجِدَ المال لأنفق، بل أيضًا هذا الذي لا يحب المال وسخي قد يمسك المال أحيانًا لهدف أكبر أو لموضع أعظم أجر يريده، ما له ميل لإمساك المال نفسه، لكن حُسن توزيعه وترتيبه داخل في السخاء.

"ولكنْ يظهرُ بحبّ المالِ"، إذ هذا المؤمن الفقير الذي لا مال له، يظهر بتعظيمه ومحبته للمال يظهر أنَّه بخيل، وإذا لا يحبه ولا يكترث به ولا له منزلة لديه علمت أنَّه سخي وإن كان هو لا يملك شيئًا.

"وربَّ رجلٍ سخيّ لكنَّهُ يحبُّ المالَ" فإنَّما "يسخىٰ بهِ ليُذكَرَ بالسَّخاءِ".

قالَ الله عزَّ وجلَّ: ( لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ)، ويصرف المحبة هذه ويوجه القلب إلى الدنيا حتى يثقل عليه الموت (وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9].

وقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:28]".

وقال: "لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ" أي: التعلق بملك العقار من دون حاجة ولا حسن ترتيب ولا بذله في مكانه، فيبقى قلبه معلقًا بمملوكاته هذه.

"وقيل للنَّبي عليه الصلاةُ والسَّلامُ: أَيُّ أُمَّتِكَ أَشرُّ؟ فقال: "الْأَغْنِيَاءُ".

  • يعني: شرار الأغنياء الذين يبخلون، والأغنياء الذين لا يتقون الله تعالى.
  • ويكون من خيارهم الأغنياء الذين يحترزون عن الشبهات وينفقون في سبيل الله تعالى.

كما قال: "لا حسدَ إلا في اثنتينِ رجلٌ آتاه اللهُ مالًا فهو ينفقُ منه آناءَ الليلِ وأطراف النهارِ"، أو "سَلَّطَهُ على هلكتِهِ في الحق".

وقال رجل للنبي ﷺ يشكو "إنِّي لا أحبُّ الموتَ" قال: أعندك مال؟ "قالَ: نعم، قالَ: "قَدِّمْ مَالَكَ؛ فَإِنّ قَلْبَ ٱلرَّجُلِ مَعَ مَالِهِ، فَإِنْ قَدَّمَهُ.. أَحَبَّ أَن يَلْحَقَهُ، وَإِنْ أَخَّرَهُ.. أَحَبَّ أَنْ يَتَخَلَّفَ مَعَهُ".

وهكذا، قال بعض الأغنياء لبعض الأخيار كثر الناس عليه وزيارته، قال: لا يزورونك أنت، لا، لكن يزورون أمهم، أمهم عندك، لو طلقتها لن يأتوا عندك. أمهم الدنيا، هم يأتون لأنه أنت معك الدنيا فهم يأتون يزورونك أنت؟ لا، إلا أنك باب ليزوروا أمهم، فلو طلقت أمهم لن يزوروك، لن يأتوا عندك.

وقالَ: "إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ.. قَالَتِ ٱلْمَلَائِكَةُ: مَا قَدَّمَ؟ وَقَالَ ٱلنَّاسُ: مَا خَلّفَ؟"، ماذا قدم؟ الناس يقولون: ماذا خلف؟ لأن همهم هنا في الفانية الحقيرة.

"وقال عليه السلامُ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ" الذي من أجل الدينار يترك الطاعة، من أجل الدينار يرتكب المعصية، من أجل الدينار يحسد، من أجل الدينار يذم الناس، من أجل الدينار يتكبر، هذا عبد للدينار، ما صحت عبوديته لله، صار عبدًا للدينار. قال: "تَعِسَ" دعا عليه بالتعاسة، فهو تعيس في الدنيا والآخرة.

و"مَنْ أَخَذَ مِنَ الدُّنْيَا فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ.. أَخَذَ حَتْفَهُ -يعني: هلاكه- وَهُوَ لَا يَدْرِي".

"تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ"؛ الملابس "عبد القطيفة" في رواية، "تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ.. فَلَا انْتَقَشَ"، يعني: إذا أصابته الشوكة لم تعد تخرج منه ولا عاد ينتقش، يعني: ما ينازله من مصائب لا يُرفع عنه -نعوذ بالله من غضب الله- دعوة على من صرف عبوديته لغير خالقه، لغير مالكه الحقيقي الله -تبارك وتعالى-، فيصير عبد الدينار، عبد الدرهم، عبد الخميصة، عبد الشهرة، عبد السمعة.

اللهم حققنا بالعبودية لك، وأخرج من قلوبنا كل قدر للدنيا، كل محبة للخلق يميل بنا إلى معصيتك أو يشغلنا عن طاعتك، ويحول بيننا وبين التحقق بمعرفتك الخاصة ومحبتك الخالصة.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:

فصل

في بيانِ حقيقةِ المالِ مِنْ حيثُ الذمُّ والمدحُ 

 

"اعلمْ: أنَّ المالَ ليسَ مذموماً مِنْ كلِّ وجهٍ، وقد قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "نِعْمَ ٱلْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ"، وقالَ: "الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ".

وكيفَ يكونُ مذموماً مطلَقاً والعبدُ مسافرٌ إلى اللهِ تعالىٰ، والدُّنيا منزلٌ مِنْ منازلِ سفرِهِ، وبدنُهُ مَركَبُهُ، ولا يمكنُهُ السَّفرُ إلى اللهِ إلَّا بهِ، ولا يبقى البدنُ إلَّا بمَطعَمٍ ومَلبَسٍ، ولا وصولَ إليهما إلَّا بالمالِ؟!

لكنْ مَنْ فهمَ فائدةَ المالِ، وعلمَ أنَّهُ آلةُ عَلْفِ الدَّابَّةِ لسلوكِ الطَّريقِ.. لم يُعرِّجْ عليهِ، ولم يأخذْ منهُ إلَّا قدْرَ الزَّادِ، فإنِ اقتصرَ علىٰ ذلكَ.. سعدَ به، كما قالَ النَّبيُّ ﷺ لعائشةً -رضيَ اللهُ عنها-: "إِذَا أَرَدْتِ اللَّحَاقَ بِي.. فَأقْنَعِي مِنَ ٱلدُّنْيَا بِزَادٍ الرَّاكِبِ، وَلَا تَخْلَعِي قَمِيصاً حَتَّىٰ تَرْقَعِيهِ".

وقالَ ﷺ: "اللَّهُمَّ؛ أجْعَلْ قُوتَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافا".

وإن زادَ علىٰ قدْرِ الكفايةِ.. هلكَ، كما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَنْ أَخَذَ مِنَ ٱلدُّنْيَا فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ.. أَخَذَ حَتْفَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ".

وكذلكَ المسافرُ، إذا أخذَ ما يزيدُ علىٰ زادِ الطَّريقِ.. ماتَ تَحتَ ثقلِهِ، ولم يبلُغْ مَقصِدَ سفرِهِ؛ فالزِّيادةُ علىٰ قَدْرِ الكفايةِ مُهلِكةٌ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ:

أحدُها: أن يدعوَ إلى المعاصي؛ فإنَّهُ يُمكِّنُ منها، ومِنَ العصمةِ ألَّا تَقدِرَ، وفتنةُ السَّرَّاءِ أعظمُ مِنْ فتنةِ الضَّرَّاءِ، والصَّبرُ معَ القدرةِ أشدُّ.

الثَّاني: أن يدعوَ إلى التَّنعُمِ بالمباحاتِ، وهوَ أقلُّ الدَّرجاتِ؟ فيَنبُتُ على التَّنعُمِ جسدُهُ، ولا يمكنُهُ الصَّبرُ عنهُ، وذلكَ لا يمكنُ استدامتُهُ إلَّا بالاستعانةِ بالخَلْقِ، والالتجاءِ إلى الظَّلَمةِ، وذلكَ يدعو إلى النِّفاقِ والكذبِ والرِياءِ، والعداوةِ والبغضاءِ، ويَتشعَّبُ منهُ جملةٌ مِنَ المُهلِكاتِ ؛ ولذلكَ قالَ ﷺ: "حُبُّ الدٌّنْيَا رَأْسُ كُلّ خَطِيئةٍ".

الثَّالثُ: أن يلهيَ عن ذكرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- الذي هوَ أساسُ السَّعادةِ الأخرويَّةِ؛ إذ يزدحمُ على القلبِ خصومةُ الفلَّاحينَ، ومحاسبةُ الشُّركاءِ، والتَّفكُرُ في تدبيرِ الحذرِ منهُم، وتدبيرُ استنماءِ المالِ، وكيفيَّةُ تحصيلِهِ أوَّلاً، وحفظِهِ ثانياً، وإخراجِهِ ثالثاً، وكلُّ ذلكَ ممَّا يُسوِدُ القلبَ، ويزيلُ صفاءَهُ، ويلهي عنِ الذِّكرِ؛ كما قالَ اللهُ تعالى: (أَلْهَنَكُمُ التَّكَاُثُرُ..) إلى آخرِ السُّورةِ ".

اعلمْ: أنَّ المالَ ليسَ مذموماً مِنْ كلِّ وجهٍ، وقد قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "نِعْمَ ٱلْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ"، وقالَ: "الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ".

 

يقول حقيقة المال؛ ليس المال في حد ذاته مذموم، ولكن المذموم:

  • التعلق به.
  • وطلب الزيادة على الحاجة منه.
  • وتعظيم القلب له.

هذه مذمومات توقع الإنسان في أنواع من الهلكة، أمَّا هو نفسه كما أورد الحديث: "نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ"، قال رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في الصحيح: "نِعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالح"

  • الذي لا يلهيه عن ذكر الله.
  • ويصرفه في مصارفه.

وقال: "الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ"، يغرس فيها ما يُجنى ثمره في الدار المقبلة علينا.

وقال: ما هو مذموم مطلقًا، "والعبدُ مسافرٌ إلى اللهِ تعالىٰ، والدُّنيا منزلٌ مِنْ منازلِ سفرِهِ، وبدنُهُ مَركَبُهُ"، دابته يمشي بها؛ دابة للروح البدن، "ولا يمكنُهُ السَّفرُ إلى اللهِ إلَّا بهِ، ولا يبقى البدنُ إلَّا بمَطعَمٍ ومَلبَسٍ، ولا وصولَ إليهما إلَّا بالمالِ؟!"

"لكنْ مَنْ فهمَ فائدةَ المالِ، وعلمَ أنَّهُ آلةُ عَلْفِ الدَّابَّةِ" يعلف الدابة به من أجل "لسلوكِ الطَّريقِ.. لم يُعرِّجْ عليهِ" ولم يجعله مقصود في ذاته "ولم يأخذْ منهُ إلَّا قدْرَ الزَّادِ، فإنِ اقتصرَ علىٰ ذلكَ.. سعدَ به".

كان بعض التجار الأخيار: إذا حصَّل في أول النهار ما يكفيه لكل اليوم يقفل ويروح، يشتغل بأشياء ثانية.

قال: "ولم يأخذْ منهُ إلَّا قدْرَ الزَّادِ، فإنِ اقتصرَ علىٰ ذلكَ.. سعدَ به، كما قالَ النَّبيُّ ﷺ لعائشةً -رضيَ اللهُ عنها-: "إِذَا أَرَدْتِ اللَّحَاقَ بِي.. فَأقْنَعِي مِنَ ٱلدُّنْيَا بِزَادٍ الرَّاكِبِ، وَلَا تَخْلَعِي قَمِيصاً حَتَّىٰ تَرْقَعِيهِ". بعد ما يمر عليه مدة، وتحتاج إلى رقعة ورقعة، بعدها تُبَدِّليه بقميص ثاني، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى ربَّاهم؛ ربَّاهم وأحسن تربيتهم ﷺ، وكانوا نموذجًا في البشر، نموذجًا في البشر الذين تربُّوا على يده الكريمة، نموذجًا فيه، فلا أمَّة مثل أمته، ولا صحابة مثل صحابته، ولا آل مثل آله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وسلم-.

وكان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ؛ أجْعَلْ قُوتَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافا".

هلكَ، كما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَنْ أَخَذَ مِنَ ٱلدُّنْيَا فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ.. أَخَذَ حَتْفَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ".

"وإن زادَ علىٰ قدْرِ الكفايةِ.. " وتعلق به أخذ حتفه وهو لا يشعر. قال: مثل "المسافرُ، إذا أخذَ ما يزيدُ علىٰ زادِ الطَّريقِ.." هذا الذي حامله يتعبه في السفر، ويقطعه عن قطع الطريق والوصول إلى المقصد؛ بسبب المشاكل هذه التي معه كثيرة، حاملها وهو لا يحتاج إليها، ما خفف على نفسه.

قال: "مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ:

أحدُها: أن يدعوَ إلى المعاصي؛ فإنَّهُ يُمكِّنُ منها، ومِنَ العصمةِ ألَّا تَقدِرَ، وفتنةُ السَّرَّاءِ أعظمُ مِنْ فتنةِ الضَّرَّاءِ، والصَّبرُ معَ القدرةِ أشدُّ.

 

  • الأول إذا تعلق بالزائد على قدر الحاجة:

"يدعوَ إلى المعاصي؛ فإنَّهُ يُمكِّنُ منها" أكثر من الفقير "ومِنَ العصمةِ ألَّا تَقدِرَ،" كما جاء في رواية البيهقي، "وفتنةُ السَّرَّاءِ أعظمُ مِنْ فتنةِ الضَّرَّاءِ" حتى قال الصحابة: "ابتلينا بالهزيمة فصبرنا، وابتلينا بالنصر فلم نصبر"، فالابتلاء بنعمة السراء أشد وأصعب على النفس، ولهذا يقول: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الإنسان:15-16] هذا ابتلاه وهذا ابتلاه؛ ابتلاء بتقتير الرزق: يعني بضيقه. وابتلاء بكثرته. 

كله ابتلاء، لكن الابتلاء بالكثرة أشد وأصعب لا ينجو منه إلا الأقل، والابتلاء بالقلة ينجو الكثير من شرهه. 

قال: "وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، والصبر مع القدرة أشد".

  • الثاني: يدعوَ إلى -كثرة- التَّنعُمِ بالمباحاتِ:

"فيَنبُتُ على التَّنعُمِ جسدُهُ" ويألفها، فيبدأ الإنصراف إليها والتعلق بها؛ بحيث لا يمكنه الصبر عنها، ويلتجئ في ذلك إلى الظلمة ويستعين، وما عاد يبالي ما هو الواقع بالسوق من ربا أو خيانة، يمشِّي حاله مع الناس لأنَّه معلَّق بما اعتاده من التنعم، وماشي في الطريق هكذا مغمض عيونه، فيصير على حال لا يبالي من أي باب دخل عليه الرزق، فيصير على خطر، كما قال سيدنا علي: "من لم يبالِ من أي باب دخل عليه الرزق، لم يبالِ الله به في أي وادٍ من أودية جهنم هلك".

يقول: "حُبُّ الدٌّنْيَا رَأْسُ كُلّ خَطِيئةٍ"". قالوا: فبغض ما لا حاجة لك به من مظاهرها رأس كل فضيلة.

الثَّالثُ: أن يلهيَ عن ذكرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- الذي هوَ أساسُ السَّعادةِ الأخرويَّةِ؛ إذ يزدحمُ على القلبِ خصومةُ الفلَّاحينَ، ومحاسبةُ الشُّركاءِ، والتَّفكُرُ في تدبيرِ الحذرِ منهُم، وتدبيرُ استنماءِ المالِ، وكيفيَّةُ تحصيلِهِ أوَّلاً، وحفظِهِ ثانياً، وإخراجِهِ ثالثاً، وكلُّ ذلكَ ممَّا يُسوِدُ القلبَ، ويزيلُ صفاءَهُ، ويلهي عنِ الذِّكرِ؛ كما قالَ اللهُ تعالى: (أَلْهَنَكُمُ التَّكَاُثُرُ..) إلى آخرِ السُّورةِ ".

  • الثالث: "أن يلهيَ عن ذكرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- الذي هوَ أساسُ السَّعادةِ الأخرويَّةِ" الأبدية

 و"إذ يزدحمُ على القلبِ" ترتيباته وما إليه، فيكون واصل إلى إلهائه، يفكر كثيرًا في "تدبيرُ استنماءِ المالِ، وكيفيَّةُ تحصيلِهِ أوَّلاً، وحفظِهِ ثانياً، وإخراجِهِ ثالثاً"، وحراسته من المتربصين وما إلى ذلك، فيأخذ هذا همه وفكره.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، واجعل همنا أنت، وقصدنا أنت، ومرادنا أنت، ووجهتنا إليك، وجميع هذه المهلكات خلصنا منها وطهرنا منها، وأولادنا وأهالينا وقراباتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

قرِّبنا مع أهل التقريب، ووفِّر لنا الحظ والنصيب من الفناء فيه تعالى بحبيبه المصطفى، ومن البقاء به في حبيبه المصطفى في ألطاف وعوافي ظاهرة وخوافي، وتمكين مكين، في صفو ذاك العيش الصافي في مراتب القرب مع خواص المحبوبين الذين تولاهم بعين عنايته في كل ظاهر وخافي، وأن يصلح لنا شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، ويرَّقينا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ولا يحرمنا أذواق المقربين الصالحين، ويرزقنا العلم ويجعل العلم مقتدانا بحكم الذوق والفهم في سر معنى المعية، ويشرِّف سبحانه سرائرنا وبصائرنا وأبصارنا بالنظر للطلعة البهية، ويبلِّغنا به أقاصي الأمنية، ويتولانا به في كل ظاهرة وخفية، في الحياة وعند الوفاة وفي البرازخ، وفي مواقف القيامة كلها وفي دار الكرامة، يسبغ كل ما يؤتينا من نعيم بصبغة تكريم خاص بالإتصال بالجناب الأشرف، ويعيذنا من كل سوء أحاط بعلمه، ويجعلنا منه على بال في كل حال.

وما بقي من أعمالنا فنحن منعَّمين ونحن في بال زين الوجود صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ لنحوز من سرِّ الذكر في الحضرة الواحدية والحضرة الأحدية بالحضرة المحمدية والحضرة الأحمدية، عن عجائب الجود الذي لا حدَّ له ولا غاية، ويبلِّغنا فوق الأماني مما هو أهله في كل قاصٍ ودانٍ، ويسقينا سلسبيل محبته الهاني، يسقينا من ذاكم الكأس ويلحقنا بأولئكم الناس، ويقوِّي لنا في إرثهم ويجمع خيراتهم والأساس، مع صلاح البلاد والعباد، ويعجل بالفرج العاجل لجميع الأمة وكشف كل غمة عنَّا وعن جميع الأمة في خير ولطف وعافية.

 

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

 إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ،

اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

 

أَلَا يَا نَازِلِينَ عَلَى الكَثِيبَ *** مِنَ الوَادِي عَلَى المَرْعَى الخَصِيبِ

نَأَتْ بِي عَنْكُمُ الدَّارُ فَمَا لِي *** وَلِلبُعْدِ المُفَنِّتِ لِلْقُلُوبٍ

تُرَوَّعُنِي الحَوَادِثُ كُلَّ يَوْم *** وَتَقْصِدُنِي مَهُولَاتُ الكُرُوبِ

وَلَو أَنَّي مُقِيمٌ فِي حِمَاكُمْ *** أَرَاكُمْ لَمْ أُمَدَدْ بِالخُطُوبِ

وَلَمْ أَسْلُوكُمُ يَا أَهْلَ وِدِّي *** فَلَا تَصْغَوْا لإِرجَافِ الكَذُوبِ

يَرَى أَنَّي خَلِيٌّ عَنْ هَوَاكُمْ *** وَلَا يَدْرِي بِمَا بَيْنَ الجُنُوبِ

أُحِبَّكُمُ لَكُمْ وَلِمَا مَنَحْتُمْ *** مِنَ الإحْسَانِ وَاللُّطْفِ العَجِيبِ

وَكَم أَهْدَتْ إِلَى سِرِّي يَدَاكُمْ *** مَوَاهِبَ دُونَهَا أَرَبُ الأَرِيبِ

وَكَمْ بَرَزَتْ لِرُوحِي مِنْ حِمَاكُمْ *** تحَجَّبَةٌ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ

وَلِي أَمَلّ وَرَا هَذَا بَعِيدٌ *** وَذَلِكَ أَنْ أَصِيرُ إِلَى الحَبِيبِ

وَأَشْهَدَهُ مُشَاهَدَةً وَأَفْنَى *** عَنِ الكَوْنِ البَعِيدِ مَعَ القَرِيبِ

وَأَنْ أَبْقَى بِهِ بَعْدَ التَّفَانِي *** فَيَا بُشْرَايَ مَا أَوْفَى نَصِيبِي

 

******

 

نادمته على الصفا فطاب عيشي وصفا *** وكنت أهوى قربه ووصله فأسعفا

وليس عندي حالة توحشني مثل الجفا *** فكل من عنّفني في حبه ما أنصفا

لله خلٌّ صادقٌ عاهدته على الوفا *** وصفه الواصفُ لي وهو على ما وصفا

أسقمني هجرانه فكان بالوصل الشفا *** إذا أسأتُ أدبي في حقه عني عفا

نادمته على الصفا فطاب عيشي وصفا *** وكنت أهوى قربه ووصله فأسعفا

 

تاريخ النشر الهجري

01 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

23 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام