الأربعين في أصول الدين - 23 | تكملة: شره الكلام، والغضب، والحسد (1)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث والعشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: تكملة شرح الأصل الثاني: شره الكلام، والأصل الثالث: الغضب، والأصل الرابع: الحسد (1)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر السبت 29 صفر 1447هـ

يبيّن الحبيب عمر بن حفيظ آفات المدح: 6 عِلل بين المادِح والممدوح، ومواضع الثناء المشروع، ثم يَفتتح أصل الغضب وحقيقته وآثاره الظاهرة والباطنة إلى دلائل الحِلم وكظم الغيظ، ويلي ذلك بيان أصل الحسد: أسبابه والفَرق بين حسدٍ مُحرَّم وغِبطةٍ محمودة.

 

نص الدرس المكتوب: 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

"الآفةُ الخامسةُ: المدحُ؛ كما جرتْ بهِ عادةُ النَّاسِ والشُّعراءِ عندَ زيارةِ المحتشمينَ مِنْ أبناءِ الدُّنيا، وكما جرتْ بهِ عادةُ القُصَّاصِ والمُذكِّرينَ؛ فإنَّهُم يمدحونَ مَنْ يحضرُ مجالسَهُم مِنَ الأَغنياءِ.

وفي المدحِ ستُّ آفاتٍ: أربعٌ على المادحِ، واثنتانِ على الممدوحِ.

أمَّا المادحُ:

فالآفةُ الأُولىٰ فيهِ: أنَّهُ قد يفرطُ فيذكرُهُ بما ليسَ فيهِ، فيكونُ كاذباً.

الثَّانيةُ: أنَّهُ قد يُظهِرُ لهُ مِنَ الحبِّ ما لا يعتقدُهُ، فيكونُ منافقاً مرائياً.

الثَّالثةُ: أنَّهُ يقولُ ما لا يَتحقَّقُهُ، فيكونُ مجازفاً؛ كقولِهِ: إنَّهُ عَدْلٌ، وإنَّهُ وَرعٌ، وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يَتحقَّقُ فيهِ 

مَدحَ رجلٌ بينَ يديْ رسولِ اللهِ ﷺ رجلاً، فقالَ: "وَيْحَكَ؛ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، إِنْ كَانَ لَا بُدَّ أَحَدُكُمْ مَادِحاً أَخَاهُ.. فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَاناً وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَداً، حَسِيبُهُ ٱللَهُ إِنْ كَانَ يَرَىٰ أَنَّهُ كَذَلِكَ".

الرَّابعةُ: أن يفرحَ الممدوحُ بهِ، وربَّما كانَ ظالماً، فيعصي بإدخالِ السُّرورِ على قلبِهِ.

قالَ : "إِنَّ اللَهَ لَيَغْضَبُ إِذَا مُدِحَ ٱلْفَاسِقُ".

وقالَ الحسنُ -رضيَ اللهُ عنهُ-: "مَنْ دعا لظالمِ بالبقاءِ . . فقد أحبَّ أن يُعصى اللهُ تعالى".

فالظَّالمُ الفاسقُ ينبغي أن يُذَمَّ "؛ لتفتُرَ رغبتُهُ في الظُّلمِ والفسقِ.

وأمَّا الممدوحُ: فإحدى الآفتينِ فيهِ: أن يُحدِثَ فيهِ كِبْراً أو إعجاباً، وهما مهلكانِ.

ولذلكَ قالَ رسولُ اللهِ : "قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ".

الثَّانيةُ: أن يفرحَ بهِ فيفتُرَ عنِ العملِ، ويرضىٰ عن نفسِهِ.

قالَ رسولُ اللهِ : "لَوْ مَشَىٰ رَجُلٌ إِلَىٰ رَجُلٍ بِسِكِّينٍ مُرْهَفٍ .. كَانَ خَيْرا لَهُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ".

وأمَّا إذا سَلِمَ المدحُ مِنْ هٰذهِ الآفاتِ في المادحِ والممدوحِ.. فلا بأسَ بهِ، وربَّما نُدِبَ إليهِ.

قالَ : "لَو وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بكرٍ بِإِيمَانِ الْعَالَمِينَ.. لَرَجَحَ".

وقالَ: "لَوْ لَمْ أُبْعَثْ.. لَبُعِثْتَ يَا عُمَرُ".

وقد أثنى على كثيرٍ من الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهُم-؛ إذ عَلِمَ أنَّ ذلكَ يزيدُ في نشاطِهِم، ولا يُورِثُهُم عُجْباً".

 

فَصْلٌ

فيما ينبغي أن يفعلَهُ الممدوحُ

 

"حقٌّ على الممدوحِ أن يَتأمَّلَ في خطرِ الخاتمةِ، ودقائقِ الرِّياءِ، وآفاتِ الأعمالِ، ويَتذكَّرَ ما يعرفُهُ مِنْ نفسِهِ مِنَ القبائحِ الباطنةِ، لا سيَّما في أفكارِه وحديثِ نفسِهِ ما لو عرفَهُ المادحُ .. لكفَّ عنِ المدحِ .

وينبغي أن يُظهِرَ كراهةَ المدحِ، ويكرهَهُ بقلبِهِ، وإليهِ الإشارةُ بقولِهِ : "احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ".

وقالَ بعضُهُم لمَّا أُثنِيَ عليهِ : اللَّهمَّ؛ إنَّ عبدَكَ هٰذا تَقرَّبَ إليَّ بمقتِكَ، وأنا أَشهِدُكَ علىٰ مقتِهِ.

وقالَ عليٌّ -رضيَ اللهُ عنهُ- لمَّا أُثنِيَ عليهِ: اللَّهمَّ؛ اغفز لي ما لا يعلمونَ، ولا تؤاخذْني بما يقولونَ، واجعلْني خيراً ممَّا يَظنُّونَ".

 

ما شاء الله لا قوة إلا بالله. 

الحمد لله مكرمنا بتبيين السبيل للارتقاء إلى مقام القُرب الجليل، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أكرمنا بالوحي والتنزيل وإرسال عبده الجليل سيدنا محمد، فنشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، نعم الهادي ونعم الدليل. اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك الهادي إلى صراطك المستقيم، الرؤوف الرحيم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه إلى يوم القيامة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل الفضل والكرامة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين.

 

وختم ما ذكر من الآفات المتعلقة باللسان الخمس، الخامسة التي هي: إطلاق اللسان في المدح على غير بصيرة بحلول آفة من الآفات التي ذكرها. 

فإذا سلم المدح منها، فهو ما بين مباح ومستحبٍ، كمدْحنا للأنبياء، ومدحنا للصحابة، ومدحنا لآل البيت الطاهر، ومدحنا لصَالحينا وأخْيارنا وأرباب الفضل فينا، إذا سلم عما ذكر من المحذورات، فهو من المقربات إلى الحق -جل جلاله-، كما تولى الله المدح والثناء على كثير من عباده في كتابه العزيز.

 

"الآفةُ الخامسةُ: المدحُ؛ كما جرتْ بهِ عادةُ النَّاسِ والشُّعراءِ عندَ زيارةِ المحتشمينَ مِنْ أبناءِ الدُّنيا، وكما جرتْ بهِ عادةُ القُصَّاصِ والمُذكِّرينَ؛ فإنَّهُم يمدحونَ مَنْ يحضرُ مجالسَهُم مِنَ الأَغنياءِ"، وما إلى ذلك من صرف المدح إلى غير محله. 

 

"وفي المدحِ ستُّ آفاتٍ: أربعٌ على المادحِ، واثنتانِ على الممدوحِ". فإذا سلم المادح من هذه الأربع والممدوح من الاثنتين، فلا إشكال في ذلك المدح.

 

ويقول: "أمَّا المادحُ:

  •  فالآفةُ الأُولىٰ فيهِ: أنَّهُ قد يفرطُ  -فينْسب إليه ما ليس له، ويصفه بما ليس فيه- فيذكرُهُ بما ليسَ فيهِ، فيكونُ كاذباً"، هذه أول آفة تحصل. فإذا كان ما يعتقده فيه ويتكلم عن اعتقاد صادق يرى أنه فيه، فهو ما أمرنا ﷺ أن نقيده بعلم الله وأنه هو الحسيب سبحانه. 

 

  • "الثَّانيةُ: أن المدح يشير إلى الولاء والمحبة، ولكن أحيانًا "يُظهِرُ لهُ مِنَ الحبِّ ما لا يعتقدُهُ،  -في قلبه- فيكونُ منافقاً مرائياً"، فكما أن الأول مدحه بما ليس فيه فكان كاذبًا، والثاني أظهر له من الود والولاء والمحبة والقيام معه ومودته شيئ كثير والواقع في قلبه أقل من ذلك؛ فيصير منافق مرائي. 

 

  • الآفة "الثَّالثةُ: أنَّهُ يقولُ ما لا يَتحقَّقُهُ، -فيجازف- فيكونُ مجازفاً، كقولِهِ: إنَّهُ عَدْلٌ، وإنَّهُ وَرعٌ" وصالح وتقي، ويكِيل من الأوصاف التي لم يتَحققها في الممدوح.

يقول: "مَدحَ رجلٌ بينَ يديْ رسولِ اللهِ ﷺ رجلاً، فقالَ: "وَيْحَكَ؛ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ"، يعني: أوقعته في اغترار وبما قلت فيه فيصدِّقُك، وهذا من عجيب مسلك الإنسان، أن يترك يقين ما عنده بوَهم وظَن ما عند الناس، وهو يتيقن من نفسه نقائص ويَتيقن معايب، ولكن يترك اليقين ويصدق الذين يتحدثون عن وَهم، فيقدم ظن الناس على يقين ما عنده، فما أجهله وما أغفله! يَترك يقين ما عنده بِظن ما عند الناس.

 

ولما أخذ بعض الرسائل شيخنا الحبيب أبوبكر العطاس بن عبد الله الحبشي، أظنه طبعها وكتب لمؤلفه: العبد المحض الخالص، تعجب الحبيب عطاس قال: من قال له إننا متصفين بهذا، وهذا وصف لا يصلح إلا للنبي ﷺ، وهو واصف له. يقول: وقد اجترأ علينا في بعض كلامه، من طبع لنا وصية لبعض إخواننا العيدروسية، لم نذكر اسمنا فيها بالكلية، فرفع اسمنا المستور الناقص ووصفنا فيها بالعبد المحض الخالص، وهذا وصف عظيم. وقال: وليس الرافع الخافض إلا الله -سبحانه وتعالى-، إنما أوصاف العباد عن توهمات أو ظنونات جميلات.  

 

يقول: "قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، إِنْ كَانَ لَا بُدَّ أَحَدُكُمْ مَادِحاً أَخَاهُ.. فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَاناً -يعني: أظنه وأعتقده- وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَداً، حَسِيبُهُ ٱللَهُ إِنْ كَانَ يَرَىٰ أَنَّهُ كَذَلِكَ".

أما إن كان حتى هو ما يرى أنه كذلك، فيَصفه بما ليس فيه، فيرجع منافق مرائي أو يرجع كذاب كذلك.

 

  • "الرَّابعةُ: أن يفرحَ الممدوحُ بهِ -فرحًا يغره ويضره- وربَّما كانَ ظالماً -يسمع مدح المادحين عليه فيفرح بظلمه وبحاله وبعَادته في السطو على عباد الله تعالى، ويتقوى عنده ذلك بمدح المادحين- فيعصي بإدخالِ السُّرورِ على قلبِهِ"، وهم كالمُعاونين له على ظلمه.

 

قالَ : "إِنَّ اللَهَ لَيَغْضَبُ إِذَا مُدِحَ ٱلْفَاسِقُ"، هكذا جاء في رواية البيهقي في الشعب.

وفي الحديث ايضًا: "لا تقولوا للمنافِقِ سيدَّنَا "، لا يا سيد فلان ولا سيدي،  "فإِنَّهُ إِنْ يكنْ سيدَكُمْ فقدْ أسخطتُمْ ربَّكُمْ". إذا كان سيدكم المنافق فقد أغضبتم الرب -جل جلاله-. فمن هنا أقام الميزان، إنما يُمدح من يُرى أن لهم عند الله منزلة، عند الله مكانة، أما بالاعتبارات الأخرى؛ فيكون من الخلل أن نمدح فاسق أو عاصي مجرم أو مذنب.  يقول: "فإِنَّهُ إِنْ يكنْ سيدَكُمْ فقدْ أسخطتُمْ ربَّكُمْ". 

"إِنَّ اللَهَ لَيَغْضَبُ إِذَا مُدِحَ ٱلْفَاسِقُ" وبذلك ترى وقع بعض الناس عن سذاجة أو قلة وعي يقول: الكفار أحسن من المسلمين، أنت تعرف أن في المسلمين أنبياء وصديقين وملائكة كلهم مسلمين، ما هذا الكلام! تقول أيش؟ يكفيه وصمة الكفر عار وعيب كبير تُوجب الخلود في النار، هذا إذا بغيت أن تقول هذا؟ هل أعجبك الفلوس أم الزهلقة والمظاهر؟! راح يَمدحهم في وصف تصفه يوجب الخلود في النار، فما الدي أعجبك فيه؟ وهكذا تجد الخلل في إكبار وتكبير ما ليس عند الله بكبير.

-لا إله إلا الله-. 

ومع ذلك فمُشاهد أمام الأعين.. "حقًا على اللهِ عزَّ وجلَّ ، أن لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِن الدنيا إلا وضعَه"، ما يظهر شيء من الأشياء المنقطعة عنه إلا ويضعه ويسقطه في الدنيا قبل الآخرة. 

وانظرها في حضارة المتحضرين، وملك المالكين، وزمجرة المزمجرين، وأنظمة المنظمين كلها قبل ما ينتهي العالم تسقط في الدنيا قبل الآخرة.

"إن حقًا على اللهِ عزَّ وجلَّ ، أن لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِن الدنيا إلا وضعَه". "كانَ للنبيِّ ﷺ ناقَةٌ تُسَمَّى العَضْباءَ، -معروفة- لا تُسْبَقُ، فَجاءَ أعْرابِيٌّ علَى قَعُودٍ فَسَبَقَها، -فكان  بعض الصحابة اشتق عليهم هذا- فَشَقَّ ذلكَ علَى المُسْلِمِينَ حتَّى عَرَفَهُ، فقالَ: حَقٌّ علَى اللَّهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا إلَّا وضَعَهُ"، صلى الله وسلم عليه وعلى آله.

فلا رفعة إلا بحقيقة محبته ومعرفته والقرب منه -سبحانه وتعالى- ونيل رضوانه، هذه رفعة ما تنزل أبدًا، هذه الرفعة. فلا يجوز أن نخرج عن سواء السبيل بتمجيد ما ليس بمجيد عند الله، ومدح فاسق أو ظالم.

 

"وقالَ الحسنُ -رضيَ اللهُ عنهُ-: "مَنْ دعا لظالمِ بالبقاءِ.. فقد أحبَّ أن يُعصى اللهُ تعالى".

لما كتب بعض تلامذة سيدنا إمام الحداد، إنه تولى علينا بعض الأمراء، وربما بعض سعيهم ما يشكر ويمدح؛ وطلبوا منا ندعو لهم في الخطبة في الجمعة، فماذا نصنع؟ فأجاب عليهم ما معناه: ادعوا لهم بالصلاح والتوفيق والخير، لا تدعوا لهم بالتمكين ولا بالنصر على ما هم عليه، ادعوا لهم بالصلاح؛ صلاح أحوالهم وشؤونهم، ما عليك إشكال فيه هذا؛ بل إن من دعا لظالم بالصلاح والهداية وُقِي شرّه، ما عاد يُسَلط عليه. 

فالدعاء بالهداية والصلاح، قال سيد المرسلين للكفار المحاربين: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون". 

 

قال: "فالظَّالمُ الفاسقُ ينبغي أن يُذَمَّ ؛ لتفتُرَ رغبتُهُ في الظُّلمِ والفسقِ".

هذه الأربع الآفات في حق المادح.

 

في حق الممدوح آفتان:

  • "أن يُحدِثَ فيهِ كِبْراً أو إعجاباً، وهما مهلكانِ. ولذلكَ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ". وقد يؤدي حتى إلى التكاسل والتخاذل عن اجتهاده في الخير، أو انصراف بمراده في فعل الخير إلى المكانة عند الناس، فيكون ضره بذلك، بخلاف المؤمن الموقن المهذَّب النفس، فإذا مُدِح ثار من باطنِه شهود معايبه ونقصه، وخاف على نفسه في الدار الآخرة، وزاد اجتهاده؛ هذا نادر؛ هؤلاء يصلح لهم المدح، المدح ما يغرّهم ولا يضرّهم، ويَزيدهم تواضع واجتهاد.

 

  • "الثَّانيةُ: أن يفرحَ بهِ فيفتُرَ عنِ العملِ، ويرضىٰ عن نفسِهِ"، كأنه خلاص قد حصل المراد لأنه مدحه فلان في قصيدة ولا صفقوا له في قوله ولا شيء، خلص كأنه كمّل كل شيء، ما عاد شيء باقي -لا حول ولا قوة إلا بالله-، وهو أمام مشروع صدق وانتباه واهتمام للقاء الكبير، وينسى ذا كله من أجل نظمه في القصائد ولا مدحه، -لا حول ولا قوة إلا بالله-. 

 

"قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "لَوْ مَشَىٰ رَجُلٌ إِلَىٰ رَجُلٍ بِسِكِّينٍ مُرْهَفٍ .. كَانَ خَيْرا لَهُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ"، يعني: إذا كان الثناء عليه يضره بذلك، ذكره المحاسبي.

وقال: "وأمَّا إذا سَلِمَ المدحُ مِنْ هٰذهِ الآفاتِ في المادحِ والممدوحِ.. فلا بأسَ بهِ، وربَّما نُدِبَ إليهِ.." يحمل ما جاء من مدحه ﷺ لبعض أصحابه، سواء في وجوههم وفي غيبتهم -لا إله إلاا لله-؛ هؤلاء لا هو تحوم حولهم شيء من آفات المدح، ولا هم يغترون بشيء؛ ولهذا رأيت الذين بشرّهم بالجنة عاشوا إلى آخر أعمارهم على وجل وخوف وورع وخشية -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. 

 

"قالَ : "لَو وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بكرٍ بِإِيمَانِ الْعَالَمِينَ.. لَرَجَحَ" بهم، وفي لفظٍ: "بإيمان الأمة لرجح بهم"، لما آتاه الله من قوة الإيمان واليقين -عليه رضوان الله تعالى-.

وقالَ: "لَوْ لَمْ أُبْعَثْ.. لَبُعِثْتَ يَا عُمَرُ". وفي لفظٍ: "لو كان بعدي نبي لكان عمر"، وقال: "إيهٍ يا ابن الخطاب"، كما في البخاري، قال: "والذي نفسي بيده، ما رآك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك". 

"وقد أثنى على كثيرٍ من الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهُم-؛ إذ عَلِمَ أنَّ ذلكَ يزيدُ في نشاطِهِم، ولا يُورِثُهُم عُجْباً"،  وعلى هذا يُحمل الحديث الآخر الذي جاء عند الطبراني وغيره: "إذا مُدِح المؤمن في وجهه ربا الإيمان في قلبه" يزداد إيمانًا؛ فيستفيد المؤمن العاقل وعيٌ بالمدح، وتذكرّه لمعايبه وستر الله الجميل له، ويخشى من ظهور قبائحه في الآخرة، ويرجو كما ستره الله في الدنيا أن يستره في الآخرة، ويزداد بذلك إقبالًا واجتهادًا، فهذا ممدوح يستفيد بالمدح. 

 

وهذا علامته حتى بالذم يستفيد، إذا أحد ذمُّه تذكّر أن فيه من المعايب ما لم يطلع عليه الذام وأن الله ساتره، وأخذ أيضًا مقال الذام مأخذ النصح -عَدَّهُ نُصح- وتفقد نفسه إن كان فيه شيء من هذه الصفات طهّر نفسه منها وزكاها، وتقرّب إلى الله تعالى بالإحسان إلى من أساء إليه، وصار يدعو للذام الذي يذمه.

فهذا المؤمن الصادق يستفيد: إن مُدح استفاد، وإن ذُمَّ استفاد، وإن كان في رخاء استفاد، وإن كان في شدة استفاد، في العسر يستفيد، وفي اليسر يستفيد. وأحواله كلها ترجع له فائدة بسبب صفاء حاله مع محوِّل الأحوال -جل جلاله-.

الله يصفِّي لنا كل بال، ويرزقنا صدق الإقبال في كل حال.

قال:

ومن مُدِحَ ينبغي "أن يَتأمَّلَ في خطرِ الخاتمةِ، ودقائقِ -ما يحصل له من- الرِّياءِ، وآفاتِ الأعمالِ، ويَتذكَّرَ ما يعرفُهُ مِنْ نفسِهِ مِنَ القبائحِ الباطنةِ"، ومنها استفادة سيدنا علي زين العابدين من ذم بعض الناس له عندما ذمه حتى تعب من الذم، -سكت-، قال: "يا هذا، ما ستره الله علينا من المعايب أكثر مما عرفته فينا، هل لك حاجة فنقضيها؟ لك حاجة نساعدك فيها؟" فخجل على نفسه، فهذا ما تعلمه: ما ستره الله عنك أكثر، وهو الذي جاء فيه حديث سيدنا جابر: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين"، قال: "فيقوم ابن هذا"، كان الحسين على حجره وهو طفل، يلاعبه سيدنا جابر قاعد عنده شافه، وقال: "يا جابر، إن طال بك عمر فسيولد لابني هذا ولد يدعى عليًا، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين، فيقوم ابن هذا، ويولد له ولد اسمه كاسمي، إن أنت أدركته يا جابر فأقرئه مني السلام".

سيدنا جابر علم أنه سيمتد به العمر، حتى توفي صلى الله عليه وسلم وسيدنا الحسين ابن سبع سنين، كبر وجاءه الأولاد وقتلوا معه في كربلاء، وبقي هذا علي زين العابدين، كبُر زين العابدين وجاءه الأولاد، وبينما كان جالس جاءوا يزورونه بعض التابعين، سيدنا جابر ورأى غلامًا لهم، قال: هذا من؟ قالوا: هذا محمد بن علي بن الحسين. قال: تعال إلى هنا، جلسه جنبه وقبّله وأخذ يقول: جدك رسول الله يقرئك السلام. عجبوا اللي عنده، قالوا: كيف؟ قال: أنا كنت جالس مع النبي وجده هذا الحسين طفلًا على رجل رسول الله ﷺ فقال لي: كذا كذا، وبعد أيام توفي سيدنا جابر، بلّغ السلام. "إن أنت أدركته يا جابر فأقرئه مني السلام"، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. 

 

قال: "وينبغي أن يُظهِرَ كراهةَ المدحِ، ويكرهَهُ بقلبِهِ"، حتى لا يبقى فيه التفات إليه، وهذا لعامة الناس والمبتدئين منهم والمتوسطين، وأما أرباب النهايات فعندهم يستوي المدح والذم. 

 

 "وإليهِ الإشارةُ بقولِهِ : "احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ" قال: ويفرحون أحيانًا للمادح بما يعلمون أنه يحصّل بذلك مرتبة أو خير أو فضل أو مدد من الله -تبارك وتعالى- لِولائهم للمحبوبين والمقربين.

ومن مسالك -سيدنا- الإمام الحداد يقول: إذا مدحنا أحد بشعر أو نثر تأملنا أن الذي اعتقده من المدح فإنما هو سراية أوصاف رسول الله ﷺ، فهو لم يمدحنا وإنما مدح رسول الله، فنحن نقبل مدحه على إنزاله على أصله، فإن ما تصوره أو توهمه أو ظنه من المحاسن التي ذكرها فينا؛ فإنما هي انتشار محاسنه ﷺ، وهو الأصل في الفضائل كلها. 

وما فضل في الكون  إلا هو من ذا الفضيل

ولا جمال انبسط إلا لهذا الجميل

ما عين إلا ومن ذا البحر ماؤها يسيل

فنقبله على هذا الأساس، فهم أبعد من أن يغتروا بشيء. 

ولما مدح سيدنا كعب بن زهير رسول الله ﷺ، تحوّل من مُهدر الدم إلى مُكرم بِبُردة الأكرم، ألقى إليه بردته، وصار حرًّا، كان أول مُهدر الدم: 

أُنبئتُ أن رسول الله أوعدني *** والعفو عند رسول الله مأمولُ

إن الرسول لنور يستضاء به *** مهند من سيوف الهند مسلولُ 

فرد البيت رسول الله: "من سيوف الله"  

إن الرسول لنور يستضاء به *** مهند من سيوف الله مسلولُ

فحمل البردة وأعطاه إياها إكرامًا له.

-لا إله إلا الله-. فرِح له بما هداه الله -تبارك وتعالى-.

وقال بعضهم لما أُثني عليه ،أولًا يقال: "احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ" أشار إلى كراهة المدح، وبعضهم جعل أن بعض المداحين بالنسبة لمن كان ثري وصاحب قدرة، إنما يستجديه "احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ" أعطوهم، يعني أعطوهم من التراب -المال-. 

وعلى كلٍ، فالمراد الذين يمدحون بشيء من الآفات المذكورة السابقة.

 

"وقالَ بعضُهُم لمَّا أُثنِيَ عليهِ : اللَّهمَّ؛ إنَّ عبدَكَ هٰذا تَقرَّبَ إليَّ بمقتِكَ -لا حول ولا قوة إلا بالله- وأنا أَشهِدُكَ علىٰ مقتِهِ". هذا قوي ذا المسكين.

ولكن هذا الذي نقله عن سيدنا علي وينقل مثله عن سيدنا أبو بكر الصديق أنه إذا مُدِح قال: "اللَّهمَّ؛ اغفز لي ما لا يعلمونَ، ولا تؤاخذْني بما يقولونَ، واجعلْني خيراً ممَّا يَظنُّونَ". وفي لفظ: "اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واغفر لي ما لا يعلمون"، وهذا نقله البخاري في الأدب المفرد عن عدي بن أرطأة، كان الرجل من أصحاب النبي إذا زُكِّيَ قال: "اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون".

 

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:

الأصل الثالث 

في الغضب

 

"اعلمْ: أنَّ الغضبَ شعلةُ نارِ اقتُبِسَتْ مِنْ نارِ اللهِ المُوقَدةِ، التي تطَّلعُ على الأفئدةِ، ومَنْ غلبَ عليهِ الغضبُ.. فقد نزعَ إلىٰ عرقِ الشَّيطانِ؛ فإنَّهُ مخلوقٌ مِنَ النَّارِ. وكسرُ شدَّةِ الغضبِ مِنَ المُهِمَّاتِ في الدِّينِ.

قالَ : "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".

وقالَ عليهِ السلامُ: "الْغَضَبُ يُفْسِدُ ٱلْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ ٱلصَّبِرُ الْعَسَلَ".

وقالَ عليهِ السلامُ: "مَا غَضِبَ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا أَشْفَىٰ عَلَىٰ جَهَنَّمَ".

وقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ؛ أيُّ شيءٍ أشدُّ؟ قالَ: "غَضَبُ اللهِ تَعَالَىٰ"، قالَ: فما يُبعِدُني مِنْ غضبِ اللهِ تعالىٰ؟ قالَ: أَلَّا تَغْضَبَ".

وقالَ رجلٌ لرسولِ اللهِ : مُرْني بعملٍ وأقللْ، فقالَ رسولُ اللهِ : "لَا تَغْضَبْ"، فأعادَ عليهِ مِراراً وهوَ يقولُ: "لَا تَغْضَبْ".

وكيفَ لا تعظُمُ آفةُ الغضبِ وهوَ يَحمِلُ في الظَّاهرِ على الضَّربِ والشَّتمِ وإطالةِ اللِسانِ، وفي الباطنِ على الحقدِ والحسدِ، وإضمارِ السُّوءِ والشَّماتةِ، والعزمِ على إفشاءِ السِّرِّ وهتكِ السِّترِ، والفرح مصيبةِ المغضوبِ عليهِ، والغمِّ بمَسرَّتِهِ، وكلُّ واحدةٍ من هذهِ لخبائثِ مُهلِكةٌ؟!".

 

فَصلٌ

في علاجِ الغضبِ 

 

عليكَ في صفةِ الغضبِ وظيفتانِ:

إحداهُما: كسرُهُ بالرّياضةِ، ولستُ أعني بكسرِهِ: إماطتَهُ؛ فإنَّهُ لا يزولُ أصلُهُ، ولا ينبغي أن يزولَ، بل إن زالَ.. وجبَ تحصيلُهُ؛ لأنَّهُ آلةُ القتالِ معَ الكُفَّارِ، والمنعِ مِنَ المُنكَراتِ، ويصلُ بهِ إلى كثيرٍ مِنَ الخيراتِ، وهوَ ككلبِ الصَّائدِ؛ إنَّما رياضتُهُ: في تأديبِهِ حتَّىٰ يَنقادَ للعقلِ والشَّرعِ، فيهيجَ بإشارةِ العقلِ والشَّرعِ، ويسكنَ بإشارتِهِما، ولا يخالفَهُما، كما يَنقادُ الكلبُ للصَّيَّادِ، وهذا لمكنٌ بالمجاهدةِ؛ وهوَ اعتيادُ الحِلْمِ والاحتمالِ معَ التَّعرُّضِ للمُغضباتِ.

الثَّانيةُ: ضبطُ الغضبِ عندَ الهيجانِ بالكظمِ، ويعينُ عليهِ علمٌ وعملٌ.

أمَّا العلمُ : فهوَ أن يعلمَ أنَّه لا سببَ لغضبِهِ إلَّا أنَّهُ أنكرَ أن يجريَ الشَّيءُ علىٰ مُرادِ اللهِ تعالى لا علىٰ مُرادِهِ، وهٰذا غايةُ الجهلِ.

والآخَرُ: أن يعلمَ أنَّ غضبَ اللهِ تعالىٰ عليهِ أعظمُ مِنْ غضبِهِ، وأنَّ فضلَ اللهِ تعالىٰ أكبرُ، وكم عصاهُ وخالفَ أمرَهُ، فلِمَ يغضبُ إن خالفَهُ غيرُهُ؟ فليسَ أمرُهُ ألزمَ على عبدِهِ وأهلِهِ ورفيقِهِ مِنْ أمرِ اللهِ تعالىٰ عليهِ.

وأمَّا العملُ: فهوَ أن يقولَ: "أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ" إذ يعلمُ أنَّ ذلكَ مِنَ الشَّيطانِ، فإن لم يَسكُنْ.. فليجلسْ إن كانَ قائماً، ويضطجع إن كانَ قاعداً؛ كذلكَ وردَ الخبرُ، فاختلافُ الحالِ يُؤثِّرُ في التَّسكينِ وإن لم يَسكُنْ.. فليتوضَّاً؛ قالَ ﷺ: "إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِٱلْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ.. فَلْيَتَوَضَّأُ".

وقالَ ﷺ: "أَلَا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبٍ آبْنِ آدَمَ؛ أَلَا تَرَوْنَ إِلَىٰ حُمْرَةٍ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.. فَلْيُلْصِقْ خَدَّهُ بِٱلْأَرْضِ"، وهذهِ إشارةٌ إلى تَمكينِ أعزِّ الأعضاءِ مِنْ أذلِّ المواضعِ؛ لينكسرَ الكِبْرُ؛ فإِنَّهُ السَّببُ الأعظمُ في الغضبِ؛ ليَعلَمَ أنَّهُ عبدٌ ذليلٌ، فلا يَليقُ بهِ الكِبْرُ.

قالَ رسولُ اللهِ : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِٱلْحِلْمِ دَرَجَةَ ٱلْقَائِمِ الصَّائِمِ، وَإِنَّهُ لَيُكْتَبُ جَبَّارا وَمَا يَمْلِكُ إِلَّا أَهْلَ بَيْتِهِ".

وقالَ : "مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ.. مَلَأَ اللهُ تَعَالَىٰ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْناً وَإِيمَاناً".

وقالَ: "مَا مِنْ جُرْعَةِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ تَعَالَىٰ مِنْ جُرْعَةٍ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، وَمَا كَظَمَهَا عَبْدٌ إِلَّا مَلَأَ اللَهُ تَعَالَىٰ قَلْبَهُ إيمَاناً".

 

ماشاءالله لا قوة إلا بالله. 

 

هذا الأصل فيما يتعلق بهذه الصفة التي خلقها الله في الإنسان وهي الغضب؛ ولها مهمة: 

  • وهي أن يغار على شرع ربه.
  • وأن يدفع شر الصائل والمُعتدي والظَالم. 
  • وأن يجاهد في سبيل الله -تبارك  وتعالى-.

 فهذه مقاصد خلق الغضب، والحكمة من خلق الغضب عند الإنسان.

ولكنه بحكم الطبع إنما يندفع لمراد النفس ولما يتعلق بهواه وبشخصه؛ فيغضب لنفسه؛ فيحتاج إلى أن يقوّم هذا الغضب. 

فهو ككلب ممكن أن يُعد للصيد بالتهذيب والتعليم، فإذا عُلِّم الكلب وهُذِّب، وصار ما ينطلق ولا يمسك الصيد على نفسه بل لأجل الصائد (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)[المائدة:4]، فلا يمسك لنفسه، وإذا تمكن من الصيد لا يقرب منه شيئ ولا يأكل منه شيئ حتى يأتي الصائد، إن وجد به رمق حياة ذبحه، وإلا فصار حلالًا له بما أُرسل له من هذه الكلاب المعلمة، ثم يذبحه ثم يعطيهم منه، ولكن ما يأكل لنفسه، فإذا أكل امتنع، ووجده أكل منه وهو ميت، فصار حرام على الصائد، لأنه خاف أن يمسك على نفسه لا عليكم (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) فهذا الكلب المعلم يصير. 

هكذا غضبك إذا تُهذِّب يصير بهذا الحال، ولا يغضب للنفس ولا للهوى، ويغضب من أجل الله تعالى، فيَرعى الحُرمات ويقيم الحدود ويؤدي النُصح ويُجاهد في سبيل الله -تبارك وتعالى-.

ويقول إن: "كسرُ شدَّةِ الغضبِ مِنَ المُهِمَّاتِ في الدِّينِ" حتى قالَ : "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، أي: الذي يتمكن من صرع الناس والرجال، "إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".

ولهذا مما يطلق عليه اسم السيد عند العرب الحليم الذي لا يستفزه الغضب، يقال له: سيد؛ لأنه يسود قومه، يسود قومه. 

قال بعضهم: جالست محمد بن عمر بن مُريِّم -هذا كان في القرن التاسع الهجري وآخر القرن الثامن- يقول: "أربعين سنة ما رأيته غضب". أربعين سنة! هذا ما يغضب بنفسه اصلا، بعضهم حتى أربعين يوم، بعضهم حتى أربعين ساعة لابد يغضب، وبعضهم أربعين دقيقة تحالسه لابد يغضب، جمرة يترقّد؛ لابد أن يغضب على أي شيء، ليش؟ أيش حركك؟ ما الذي يبطئ هذا أربعين دقيقة لابد أن يغضب، وهذا قال: "جلست أربعين سنة فما رأيته غضب". لا إله إلا الله. 

"وقالَ عليهِ السلامُ: "الْغَضَبُ يُفْسِدُ ٱلْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ ٱلصَّبِرُ الْعَسَلَ"، تحط صبر في العسل ما عاد تحصل فيه حلاوة.

وقالَ -عليهِ السلامُ-: "مَا غَضِبَ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا أَشْفَىٰ عَلَىٰ جَهَنَّمَ"، أي: أشرف عليها.

وقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ؛ أيُّ شيءٍ أشدُّ؟ قالَ: "غَضَبُ اللهِ تَعَالَىٰ"، قالَ: فما يُبعِدُني مِنْ غضبِ اللهِ تعالىٰ؟ قالَ: أَلَّا تَغْضَبَ". 

وقالَ رجلٌ لرسولِ اللهِ : مُرْني بعملٍ وأقللْ، -جاء في البخاري- فقالَ رسولُ اللهِ : "لَا تَغْضَبْ"، فأعادَ عليهِ مِراراً وهوَ يقولُ: "لَا تَغْضَبْ". وجاءت في رواية: انه جاء من بين يديه قال: "أوصني يا رسول الله، قال: لا تغضب،  جاءه من خلفه، قال: أوصني، قال: لا تغضب، جاء عن يمينه قال: أوصني يا رسول الله، قال: لا تغضب، جاءه عن يساره قال: أوصني يا رسول الله، قال: ويحك، ما تفقه! قلت لك: لا تغضب". يعني: لا تنفذ غضبك، إذا غضبت لنفسك وهواك، سكّن الغضب.

 

 قال: "وهوَ يَحمِلُ في الظَّاهرِ على الضَّربِ والشَّتمِ وإطالةِ اللِسانِ، وفي الباطنِ على الحقدِ والحسدِ، وإضمارِ السُّوءِ والشَّماتةِ، والعزمِ على إفشاءِ السِّرِّ وهتكِ السِّترِ، والفرح مصيبةِ المغضوبِ عليهِ، والغمِّ بمَسرَّتِهِ، وكلُّ واحدةٍ من هذهِ لخبائثِ مُهلِكةٌ؟!"، كلها خبائث مهلكات كلها بسبب الغضب.

 لا إله إلا الله.

إذاً فلابد من تهذيب هذا الوصف الذي عند الإنسان وصرفه إلى المحل الذي أراده الله فيه أن ينفع، يغضب إذا انتُهِكت حرمات الحق -جل جلاله-. وهو معنى قوله: "إذا استُغضِب فلم يغضب فهو حمار، ومن استُرضِي فلم يرضَ فهو شيطان". استُغضِب يعني: انتُهِكت حرمات الله تعالى وأُخِذ دينه وانتُهِك عرضه ولا يغضب، هذا حمار، ولكن للنفس لا يغضب.

 

 فقال: "عليكَ في صفةِ الغضبِ وظيفتانِ: إحداهُما: كسرُهُ بالرّياضةِ"، وقال: ما مراده بكسره؟ كما لا يُراد بكسر الشهوة إزالتها من أصلها، هذا ما يمكن ما دام هو بشرًا وإنسانًا، فلابد عنده شهوة وعنده غضب، ولكن المراد تقويمه وتعديله، ما هو الإزالة! كيف يُزال؟ قال: لو زال نحتاج لتحصيله من شأن أن تقوم بالجهاد، ومن شان أن تقوم بالأمر والنهي، فإنما المراد أن تهذبه حتى لا ينبعث إلا تحت إشارة العقل والشرع، الشهوة والغضب كذلك.

 

 قال: "فإنَّهُ لا يزولُ أصلُهُ"، لهذا قال بعضهم لما يقرأ أخبار أهل التزكية ويجي يحصل غضبه ما يروح، وشهوته ما تزول، هذا ما يتأتى، ما قال لك تزيلُه، يتأتى تقويمه وتعديله؛ هذا هو المراد.

قال: "ولا ينبغي أن يزولَ، بل إن زالَ.. وجبَ تحصيلُهُ؛ لأنَّهُ آلةُ القتالِ معَ الكُفَّارِ، والمنعِ مِنَ المُنكَراتِ، ويصلُ بهِ إلى كثيرٍ مِنَ الخيراتِ، وهوَ ككلبِ الصَّائدِ". هذه الوظيفة الأولى، والوظيفة الثانية؟

  • "الثَّانيةُ: ضبطُ الغضبِ عندَ الهيجانِ بالكظمِ، ويعينُ عليهِ -قال: أمران- علمٌ وعملٌ.
    • أمَّا العلمُ: تعلم أن غضبك للنفس معناه لماذا جرى الأمر على غير مرادك؟ إذا جرى على مراد من؟ على مراد الله.. وأنت تريد إلا أن يجري مرادك أنت وليس مراد الله! يا جاهل، يا متجرئ! أمر جرى على مراد الله تبارك وتعالى، وأنت لا تريده إلا على مرادك أنت. لا حول ولا قوة إلا بالله. تريد تقاوم الإرادة الإلهية بإرادتك، لهذا علمهم ﷺ حتى إذا عمل الخادم ما لا يحبون وعكس شيء مما يريدون، يقولوا: "قدّر الله وما شاء فعل". فكأنك أنت الآن عند الغضب، تقول: ليه جرى الأمر على مراد الله ما هو على مرادي أنا؟ من أنت؟ وهو على مراد الله -سبحانه وتعالى-. 
    • الثاني: تعلم أن لله غضبًا ما تطيقه، ولا ينجيك منه إلا ألا تُنفذ غضبك لنفسك، سكِّن الغضب. فبهذا العلم تُعان على كظم الغيظ، وما قال تعالى والفاقدين الغيظ، قال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)، ما هو فاقدين الغيظ، فيه غيظ لكن يكظمونه، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)[آل عمران:134].

 

قال: "وأمَّا العملُ: فهوَ أن يقولَ: "أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ" .. فليجلسْ إن كانَ قائماً، ويضطجع إن كانَ قاعداً.. وإن لم يَسكُنْ.. فليتوضَّاً -أو يغتسل-، قالَ ﷺ: "إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِٱلْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ.. فَلْيَتَوَضَّأُ".

وقالَ ﷺ: "أَلَا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبٍ آبْنِ آدَمَ؛ أَلَا تَرَوْنَ إِلَىٰ حُمْرَةٍ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.. فَلْيُلْصِقْ خَدَّهُ بِٱلْأَرْضِ"؛ حتى لا تنبعث منه بواعث الانتقام. 

 

"وهذهِ إشارةٌ إلى تَمكينِ أعزِّ الأعضاءِ مِنْ أذلِّ المواضعِ؛ لينكسرَ الكِبْرُ؛ فإِنَّهُ السَّببُ الأعظمُ في الغضبِ؛ ليَعلَمَ أنَّهُ عبدٌ ذليلٌ، فلا يَليقُ بهِ الكِبْرُ"،

 

قالَ رسولُ اللهِ : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِٱلْحِلْمِ دَرَجَةَ ٱلْقَائِمِ الصَّائِمِ، وَإِنَّهُ لَيُكْتَبُ جَبَّارا وَمَا يَمْلِكُ إِلَّا أَهْلَ بَيْتِهِ"، يكتب في الجبابرة، ويحشر يوم القيامة مع الجبابرة، هو فقير عاش ماعنده شيء، لأنه جبار في داره، يٌرعب ويؤذي الناس على كيفه وعلى مراده، ولسانه سليط، وصوته فوق الناس، ساعة يرفس، وساعة يضرب، وساعة يلكم، وساعة يحبس، وساعة... وبعدين فيكتب من الجبارين ويحشر يوم القيامة جبار، تجد حتى الأطفال ما يفرحوا بمجيئه للبيت؛ لأنه جبار، ما يخلي لأحد حاله يؤذي الكبير ويؤذي الصغير، فيكتب من الجبارين ويحشر معهم يوم القيامة، وهو ما عنده شيء، عنده نفس شمخت عليه. 

ويقول: "وقالَ : "مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ.. مَلَأَ اللهُ تَعَالَىٰ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْناً وَإِيمَاناً".

وقالَ: "مَا مِنْ جُرْعَةِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ تَعَالَىٰ مِنْ جُرْعَةٍ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، وَمَا كَظَمَهَا عَبْدٌ إِلَّا مَلَأَ اللَهُ تَعَالَىٰ قَلْبَهُ إيمَاناً"، ومن كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة حتى يخيره من أي حُلل الجنة شاء.

 

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:

الأصل الرابع

في الحسد

 

"قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "الْحَسَدُ يَأْكُلُ ٱلْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ ٱلنَّارُ الْحَطَبَ".

وقالَ: "ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الظَّنُّ، وَالطِيَرَةُ، وَٱلْحَسَدُ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ؛ إِذَا ظَنَنْتَ.. فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ.. فَأَمْضٍ، وَإِذَا حَسَدْتَ.. فَلَا تَبْغ".

وقالَ ﷺ: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ؟ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبُغْضَةُ هِيَ الْحَالِقَةُ".

وقالَ زكريًّا -عليهِ السَّلامُ-: "قالَ اللهُ تعالى: الحاسدُ عدوٌّ

لنعمتي، مُتسخِّطٌ لقضائي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمتُ بينَ عبادي".

واعلمْ: أنَّ الحسدَ حرامٌ؛ وهوَ: أن تُحِبَّ زوالَ النِّعمةِ مِنْ غيرِكَ، أو تُحِبَّ نزولَ مصيبةٍ بهِ.

ولا تحرمُ المنافسةُ؛ وهيَ: أن تغبطَهُ وتشتهيَ لنفسِكَ مثلَهُ، ولا تُحِبَّ زوالَها منهُ.

ويجوزُ أن تُحِبَّ زوالَ النِّعمةِ ممَّنْ يستعينُ بها على الظُّلمِ والمعصيةِ؛ لأنَّكَ لا تريدُ زوالَ النِّعمةِ، وإنَّما تريدُ زوالَ الظُّلمِ، وعلامتُهُ: أنَّهُ لو تركَ الظُّلمَ والمعصيةَ.. لم تُحِبَّ زوالَ نعمتِهِ.

وسببُ الحسدِ: إمَّا الكِبْرُ، وإمَّا العداوةُ، وإمَّا خُبثُ النَّفسِ؛ إذ يبخلُ بنعمةِ اللهِ تعالىٰ علىٰ عبادِهِ مِنْ غيرِ غرضٍ لهُ فيهِ".

 

فصل

في علاجِ الحسدِ

"اعلمْ: أنَّ الحسدَ مِنَ الأمراضِ العظيمةِ للقلبِ، ومرضُ القلبِ لا يُداوى إلَّا بمعجونِ العلمِ والعملِ.

 

فأمَّا العلاجُ العلميُّ: فهوَ أن يعلمَ أنَّ حسدَهُ يضرُّهُ ولا يضرُّ مَحسودَهُ، بل ينفعُهُ.

أمَّا أنَّهُ يضرُّهُ: فهوَ أنَّه يُبطِلُ حسناتِهِ، ويُعرِّضُهُ لسخطِ اللهِ تعالىٰ؛ إذ يَسخَطُ قضاءَ اللهِ، ويَشَحُّ بنعمتِهِ التي وسعَها مِنْ خزائِنِهِ على عبادِهِ، وهٰذا ضررُهُ في دِينِهِ.

وأمَّا ضررُهُ في دنياهُ: فهوَ أنَّهُ لا يزالُ في غمِّ دائمٍ، وكمدٍ لازمِ، وذلكَ مرادُ عدوِّهِ منهُ؛ فإنَّ أهمَّ أغراضِ عدوِّهِ منهُ وأكملَ النِّعمةِ عليهِ.. حزنُ حاسِدِهِ، فقد كانَ يريدُ المحنةَ لعدوّهِ فحصلَتْ لهُ، والحسودُ لا يخلو قطُّ مِنَ الغمِّ والمحنةِ؛ إذ لا يزالُ أعداؤُهُ أو واحدٌ منهُم في نعمةٍ.

 

وأمَّا أنَّهُ ينفعُ عدوَّهُ ولا يضرُّهُ: لأنَّ النِّعمةَ لا تزولُ بحسدِهِ، وإنّما تتضاعفُ حسناتُهُ؛ إذ تُنقَلُ إليهِ حسناتُ الحاسدِ، لا سيَّما إذا طَوَّلَ اللِّسانَ فيهِ؛ فإنَّه مظلومٌ مِنَ الحاسدِ، فقد طلبَ الحاسدُ زوالَ نعمةِ الدُّنيا منهُ، فأضافَ إليهِ نعمةَ الآخرةِ، وحصَّلَ لنفسِهِ معَ عذابِ الدُّنيا عذابَ الآخرةِ، فهوَ كمَنْ رمى عدوَّهُ بحجارةٍ فلم تُصِبْ عدوَّهُ، وعادَتْ إلىٰ عينِهِ فأعمتْهُ، وزادَتْ عليهِ شماتةَ عدوّه إبليسَ بهِ؛ فإنَّهُ فاتَتْهُ النِّعمةُ، وفاتَهُ الرِّضا بالقضاءِ، ولو رضيَ بهِ.. لكانَ لهُ فيهِ ثوابٌ، لا سيّما إذا حسدَ على العلمِ والورعِ؛ فإنَّ مُحِبَّ العالِمِ يعظُمُ ثوابُهُ.

 

وأمَّا العملُ: فهوَ أن يعرفَ حكمَ الحسدِ وما يتقاضاهُ مِنْ قولٍ وفعلٍ، فيخالفَهُ ويعملَ بنقيضِهِ، فيثنيَ على المحسودِ، ويظهرَ الفرحَ بنعمتِهِ، ويتواضعَ لهُ، وبذلكَ يعودُ المحسودُ صديقاً لهُ، ويزايلُهُ الحسدُ، ويَتخلَّصُ مِنْ إثمِهِ وألمِهِ.

قالَ الله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34]".

 

يقول في هذه المصيبة والخصلة التي يصاب بها كثير من الناس وهي الحسد؛ وهي: استثقال النعمة على المسلم وإرادة زوالها أو تمني زوالها، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.

"قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "الْحَسَدُ يَأْكُلُ ٱلْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ ٱلنَّارُ الْحَطَبَ، فلا تضيّع حسناتك بالحسد على أحد، فإن حسدته على شيء في الدنيا؛ فالدنيا من أولها إلى آخرها أهون من أن يُحسد عليها.

وإن كان على شيء من الدين، فقبيح بك أن تحسد على شيء في الدين؛ وهو خير لك وللأمة، فيجب أن تفرح به وتسر به فتشاركه في الثواب.

 

"وقالَ: "ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الظَّنُّ، -أي: سوء الظن- وَالطِيَرَةُ -التشاؤم- وَٱلْحَسَدُ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ:

  • إِذَا ظَنَنْتَ.. فَلَا تُحَقِّقْ" -يعني: فلا تجزم بما ظننت ولا تصدق ظنك السيء ولا تعمل بمقتضاه فلا تأثم.
  • "وَإِذَا تَطَيَّرْتَ..  -جاءك التشاؤم- فَأَمْضٍ،" ولا تبالي.
  • "وَإِذَا حَسَدْتَ.. فَلَا تَبْغ"، لا ترضَ بالحسد ولا تذم المحسود ولا تتمنى زوال النعمة، ارجع إلى الثناء عليه وإلى الإحسان إليه.

 وسماه داء الأمم، "دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ؟" -يعني: الذي يهلك الأمم- "الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبُغْضَةُ هِيَ الْحَالِقَةُ"، تحلق لكن ما تحلق الشعر وإنما تحلق الدين، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-. 

وذكر قول زكريًّا -عليهِ السَّلامُ-:"قالَ اللهُ تعالى: الحاسدُ عدوٌّ لنعمتي، مُتسخِّطٌ لقضائي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمتُ بينَ عبادي".

 

أَلا قُلْ لمِنْ بَاتَ لي حَاسِداً *** أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الأَدَبَ

أَسَأَت عَلَى الله في فِعْلِهِ *** كَأَنّكَ لَمْ تَرْضَ لي مَا وَهَبَ فَكَانَ جَزَاوُكَ أَنَّ خَصَّنِي *** وسَدَّ عَلَيْكَ طَرِيقُ الطَّلَب

 

قال: "واعلمْ: أنَّ الحسدَ حرامٌ؛ وهوَ: أن تُحِبَّ زوالَ النِّعمةِ مِنْ غيرِكَ، أو تُحِبَّ نزولَ مصيبةٍ بهِ، -بخلاف- المنافسةُ؛ وهيَ: أن تغبطَهُ -الغبطة في الخيرات محمودة- وتشتهيَ لنفسِكَ مثلَهُ، ولا تُحِبَّ زوالَها منهُ".

وإذا كان أحد من المنعم عليهم يستعمل نعمته في الظلم والأذى، فأحببت أن تزول النعمة لزوال الظلم؛ فهذا لك فيه وجه، وإذا أقلع عن معصيته لا تحب زوال النعمة عنه. 

قال: "وسببُ الحسدِ: إمَّا الكِبْرُ، وإمَّا العداوةُ، وإمَّا خُبثُ النَّفسِ؛ ". والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.

وعلاجه "بمعجونِ العلمِ والعمل":

  • "العلم":
    • تعلم أن هذه النعمة التي تحسد عليها مراد للحق تعالى، أرادها لهذا، فإيش تقابل مراد الله؟ واحد. 
    • الثاني: مهما حسدته، فحسدك يضرك ولا يضر المحسود، يضرك، يبطل حسناتك ويعرّضك لسخط ربك لسخطك بقضائه. 
    • وأيضًا لا تزال في غم، لماذا؟ لأن النعمة ما تزول بحسدك وأنت مغتم بوجودها فيزيد غمك، وكلما مرت الأيام وأنت بغيتها أن تزول، وهي ما تزول، بل نعم الله تزيد على عباده فيزيد غيظك، وإذا أنت في تعب في الدنيا قبل الآخرة والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.

 

أهم أغراضه عداوة منه، وأكمل النعمة على عدوه حزن الحاسد. وأنت تعجّلت لنفسك الحزن، خلاص خذ لك حزنًا، لأنه ما تأتى أن تزول النعم بحسدك، بل تزيد، وهي تزيد وأنت يزيد غيظك. 

فخذ لك تعب في الدنيا واستلم عذاب في الآخرة، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، بسبب الحسد. 

وينفع عدوك، لماذا ينفع عدوك؟ لأن النعمة ما تزول، تتضاعف حسناته وتنقل حسناتك إليه إذا طولت اللسان فيه وقلت: كيف؟! وكيف؟!، تفرّغ حسناتك، فأنت نفعته تمامًا. لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. 

ويكفي الحاسد أنه مستعاذ به على ألسن رسول الله والصالحين كلهم: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[الفلق:1-5]، فإذا وقعت بالحسد فأنت مستعاذ منك على ألسن النبي والصالحين كلهم من الأمة، ليش تقع بهذه الحالة؟

وقالوا "العملُ: أَن يعرفَ حكمَ الحسدِ" وإثمه وضرره عليك "فيخالفَهُ" تثني على المحسود وتدعو له، انتهت المسألة، ويروح الحسد من أصله كله، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت:34]، لكنها قائمة على المجاهدة، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت:35].

اللهم اجعلنا من أهل الصبر والشكر وأهل الحظ العظيم والثبات على الصراط المستقيم في خير ولطف وعافية.

 

"الغضب شعلة من النار" هذا وارد في الحديث، وشرح بعضه الإمام الغزالي. وكما أن الحُمّى من فيّح جهنم، وأشد ما نجد في الصيف من الحرارة من نفس جهنم، وأشد ما نجد في البرد من نفس زمهريرها كذلك.

فهذه الواردات تدل على أن هناك مناسبة بين ما جعل الله من حر النار، وما جعل من حرارة هذا الغضب عند الإنسان، لأنه يوصل إلى النار، فكان هناك مناسبة بينه وبين النار من هذه الناحية، ولهذا سُمي من النار.

كذلك ما يتضرر به الناس من شدة الحر في الدنيا يذكرهم بحرارة جهنم:

 "قَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ". 

وكذلك ما يتضررون به بالبرد، فلأجل هذه المناسبة نُسب إلى النار، لأن النار هي التي خلقها الله تعالى لتعذيب أهلها بالحرارة أو بالزمهرير، فنُسب ما يوجد في الدنيا من شديد الحر أو من شديد البرد إلى ذلك. وكذلك هذا الغضب، لأنه بينه وبين النار مناسبة، بين حرارة النار، إذا تبعُه صاحبه أوصله إلى النار. 

 

أصلح الله أمورنا وأمور المسلمين، ورعانا بعين الرعاية وشأن الحال الحين، أثبتنا في ديوان أهل الإنابة والخشية والاستقامة والاستجابة، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، وأصلح لكل منا حاضره ومَآبه، وأجزل ثوابه، وتولنا بما تولى به أحبابه في لطف وعافية. 

 

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

 إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

تاريخ النشر الهجري

01 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

23 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام