(339)
(535)
(364)
الدرس الحادي والعشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: مواصلة الأصل الثاني: شره الكلام (2)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الخميس 27 صفر 1447هـ
متى تُباح الغيبة؟ يتحدث الحبيب عمر بن حفيظ عن تفصيل آفات اللسان ومنها: الكذب، الغيبة، المِراء، المدح، المزاح؛ مع بيان حدِّ الكذب وما استُثني لضروراتٍ محدودة، وحدِّ الغيبة وصورها الخفيّة (إشارةً ورمزًا وتعريضًا)، ثم يذكر 6 مواضع تُباح فيها الغيبة..
بسم الله الرحمن الرحيم
وبِسَندكم المتّصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
فَصلٌ
في تَفصِيلِ بعضِ آفاتِ اللسانِ
"لعََّلكَ تريدُ أن تعرفَ تفصيلَ بعضِ هذهِ الآفاتِ.
فاعلم: أنَّ الغالبَ على الألسنةِ من جملةِ العشرينَ آفةً، خمسٌ: الكذبُ، والغيبةُ، والمماراةُ، والمدحُ، والمزاحُ.
الأولى: الكذبُ.
وقد قال رسول الله ﷺ: "لا يَزالُ العَبدُ يَكذِبُ ويَتَحرَّى الكَِذبَ.. حَتَّى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذّابًا".
وقال ﷺ: "ويلٌ للذي يُحدِّثُ فَيَكذِبُ ليَضْحَكَ مِنهُ النُّاسُ، ويلٌ لَه، ويلٌ لَه".
وقيل: يا رسول الله؛ أيَزني المُؤمِنُ؟ أيَسرِقُ المُؤمِنُ؟ قال: "قَد يَكُونُ ذَلِكَ"، فَقِيلَ له: أيكذب؟ فقال: "لا، (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) [النحل:105]".
وقال: "ألا أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ؟ الإشرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ"، وكان مُتَّكئًا فَقَعَدَ، وقال: "أَلَا وَقَولُ الزُّورِ".
وقال عليه السلام: "كلُّ خَصلَةٍ يَطبَعُ اللهُ عَليْهَا المُؤمِنَ إلَّا الخِيانَةَ والكَذِبَ".
فَصلٌ
في تفصيلِ أحكامِ الكَذبِ
اعلم: أنَّ الكذبَ حرامٌ في كلِّ شيءٍ إلا لِضرورةٍ، حتى قالت امرأة لولدها الصغير: تَعالَ حتَّى أُعطيَك، فقال النبي ﷺ: "وَمَاذا كنتِ تُعطينَه لَو جاءَ؟" قالت: تمرةً، قال: "أمَا لَوْ لَمْ تَفعَلِي.. كُتِبَتْ عَلَيكِ كَذِبَةٌ".
فليحذرِ الإنسانُ الكذبَ حتى في التَّخَيُّلِ وحديثِ النفسِ؛ فإنَّ ذَلكَ يُثْبِتُ في النَّفسِ صُورةً مُعوَجَّةً حتى تكذبَ الرُّؤيا، فلا تَنكَشِفُ لَهُ فِي النَّومِ أَسرارُ الملكوتِ، والتَّجرِبةُ تشهدُ بذلكَ.
نَعم؛ إنَّما يُرخَّصُ في الكذبِ إذا كانَ الصدقُ يُفضِي إلى محذورٍ آخرَ أشدَّ من الكذبِ، فيباحُ كما تُباحُ الميتَةُ إذا أدَّى تركُها إلى محذورٍ آخرَ أشدَّ من أكلِها؛ وهو فواتُ الروحِ.
قالت أمُّ كلثومٍ -رضيَ الله عنها-: ما رَخَّصَ رسولُ اللهِ ﷺ في شيءٍ من الكذبِ.. إلا في ثلاثٍ: الرجلُ يقولُ القولَ يريدُ بهِ الإصلاحَ، والرَّجُلُ يقولُ القَولَ في الحربِ، والرجلُ يُحدِّثُ امرأتَهُ.
وهذا؛ لِأنَّ أسرارَ الحربِ لو وَقَفَ عليها العَدوُّ.. اجترأَ، وأسرارُ الزوجِ لو وقفَتْ عليها المرأةُ.. نشأَ منهُ فسادٌ أعظمُ من فسادِ الكذبِ، وكذلكَ المتخاصمانِ تدومُ بينهما الخصومةُ والعداوةُ، فإذا أمكنَ الإصلاحُ بكذبٍ.. فذلكَ أولى.
فهذا ما وردَ فيهِ الخبرُ.
وما في معناهُ: كذبُ الإنسانِ ليسترَ مالَ غيرهِ عن ظالمٍ، أو إنكارهُ ليسترَ غيرهُ، بل إنكارهُ لمعصيةِ نفسهِ عن غيرهِ؛ فإنَّ المجاهرةَ بالفسقِ وإظهارهُ حرامٌ، وإنكارهُ جنايةَ نفسهِ على غيرهِ لتطييبِ قلبهِ، وإنكارهُ معَ زوجتهِ أن تكونَ ضَرَّتها أحبَّ إليه، وكلُّ ذلكَ يرجعُ إلى دفعِ المَضرَّاتِ.
ولا يُباحُ لجلبِ زيادةِ مالٍ وجاهٍ، وفيهِ يكونُ كذبُ أكثرِ النَّاس.
ثمَّ إذا اضطُرَّ إلى الكذبِ.. فليعدل إلى المعاريضِ ما أمكن؛ حتى لا تعتادَ نفسهُ الكذبَ.
كانَ إبراهيمُ النَّخعي إذا طُلِبَ في الدَّارِ.. قال لخادمتهِ: قولي لَهُ اطلبهُ في المسجدِ.
وكانَ الشَّعبيُّ يَخُطُّ دائرةً ويقولُ لخادمتهِ: ضعي الإصبعَ فيها وقولي: ليسَ ها هُنَا.
وكان بعضهم يعتذرُ عندَ الأميرِ ويقولُ: منذُ فارقتكَ ما رفعتُ جنبي من الأرضِ إلاّ ما شاء الله تعالى.
وكانَ بعضهم ينكرُ ما قالَ؛ فيقولُ: إنَّ اللهَ تعالى ليعلمُ ما قلتُ من ذلكَ من شيءٍ، فيوهم ُ النَّفيَ بحرفِ ما وهوَ يريدُ غيرَ ذلكَ.
وتباحُ المعاريضُ لغرضٍ خفيفٍ؛ كقولهِ ﷺ: "لَا تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ"، و"نَحْمِلُكَ علَى وَلَدِ البَعِيرِ"، و"فِي عَينِ زَوجِكِ بَيَاضٌ"؛ لأنَّ هذهِ الكَلِمَاتُ أوهمتْ خلافَ ما أرادَ، فيُباحُ مثلُ ذلكَ مع النساءِ والصبيانِ لتطييبِ قلوبهم بالمزاحِ.
وكذلكَ من يمتنعُ عن أكلِ الطعامِ، فلا ينبغي أن يكذبَ ويقولَ: لا أشتهي، إذا كانَ يشتهي، بل يعدلُ إلى المعاريضِ. قال النبي ﷺ لامرأةٍ قالت ذلك: "لا تَجمَعٌي كَذِبًا وَجُوعًا".
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
الحمد لله خالق القلب والأعضاء، وجعل لكلٍّ سُنَّةً وفرضًا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تُعرَض الخلائقُ أعمالُهم عليه عرضًا، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه الذي أشرق نوره وأضاء، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على من جاءنا بالرحمة؛ عبدِك المصطفى محمدٍ مَعدِن العِصمة، وعلى آله وصحبه ومن سارَ في دربه في كل مُهِمَّة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جعلتهم للمتقين والهداة أئمة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،
فيذكر الشيخ -عليه رحمة الله- تفصيل بعض آفات اللسان، وقد ذكر في (الإحياء) عشرين آفة، إلّا أنه هنا لخّص، قال: "أنَّ الغالبَ على الألسنةِ من جملةِ العشرينَ آفةً، خمسٌ: الكذبُ، والغيبةُ، والمماراةُ، والمدحُ، والمزاحُ"، فهذا الذي يَغلُب على المتحدثين والمتكلمين من الناس من جملة آفات اللسان؛ فَنَبَّهَ عليها.
الأولى: "الكذِب": وهو الإخبار بغير الواقع، سواء كان ذلك باللفظ باللسان، أو بالإيماء بالرأس، أو باليد، أو بالعين، وما إلى ذلك، كل ما أَفْهَمَ خلاف الواقع من الخبر فهو الكذب، وهو مُحذَّر منه ومنفيٌّ عن المؤمن، فلا يرتاح المؤمن إلى الكذب، ولا يتمادى في الكذب، ولا يسترسل في الكذب، ولا يتساهل بكذبة بعد كذبة أبدًا، إلا أن يكون فيه نِفاق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، بل جاء أنه كانَ من أشقِّ ما يكون على رسول الله ﷺ أن يَعْلَمَ عن أحدٍ كذبًا، وإذا عَلِمَ عن أحدٍ كذبًا تغيّر عليه باطنه، فلم يعد إلى حاله حتى يعلم أنه أحّدث توبة صادقة، بل قال الصحابة: ما كنا نتهم به إلاّ المنافقين، ما كنا نتهم به أحدًا من المؤمنين.
وقال رسول الله ﷺ: "لا يَزالُ العَبدُ يَكذِبُ ويَتَحرَّى الكَِذبَ.. حَتَّى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذّابًا"؛ فتحلّ عليه اللعنة -والعياذ بالله تعالى- كما جاء في الصحيحين وغيرهما، "وَلا يَزاَلُ الرَّجُل يَصْدُق ويَتَحَرَّى الصِّدقَ -أي: في أقواله وأفعاله ومقاصده ونياته- حتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا".
والصدّيقون أفضل الناس بعد الأنبياء، وقال تعالى:(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)[االنساء:69] ونِعمَ الرفيق، اللهم رافقنا بالصدّيقين والأنبياء والمرسلين.
قال: وقال ﷺ: "ويلٌ للذي يُحدِّثُ فَيَكذِبُ ليَضْحَكَ مِنهُ النُّاسُ، -من أجل غرض يُضَحِّك الناس يكذب- ويلٌ لَه، ويلٌ لَه" تهديدٌ شديد كما جاء في رواية أبي داود والترمذي وغيرهما، وهكذا سُئل عن المؤمن: أيفعل المعاصي والذنوب؟ وذكر عددًا من الذنوب، "قال: "قَد يَكُونُ ذَلِكَ" -يعني ويتوب- قيل: أيكذب المؤمن؟ قال: "لا -وقرأ الآية الشريفة-: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النحل:105]، أعاذنا الله من الأسواء، انظر كيف تساهل الناس مع انتمائهم للإسلام والإيمان، فصاروا يكذبون الكذبة بعد الكذبة، وهذا خطر، وشأن في السلوك مُزرٍ، ومؤذِن بحصول بلاء أو غضب عليهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فيجب أن نتحرى الصدق ونعلم أبناءنا وبناتنا وأهالينا الصدق.
قال: "ألا أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ"، وكان مُتَّكئًا -فاهتم- فَقَعَدَ.. "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور…". فكررها؛ حتى خاف الصحابة من حواليه وقالوا: ليته سكت، خشية أن ينازله بذلك همٌ أو غمٌ أو يتغيّظ عليهم؛ فيخافون أن يَنزِل عليهم غضب، فلم يزل يكرر: "ألا وقول الزور"، ألا وشهادة الزور "وقول الزور": أن يقول كذبًا، أو أن يقول في حُكمٍ بغير علم؛ قول الزور، وشهادة الزور كذلك، وهي شديدة وشنيعة.
وقال عليه الصلاة والسلام: "كلُّ خَصلَةٍ يَطبَعُ اللهُ عَليْهَا المُؤمِنَ" يعني: كل خصلة قد تكون من أخلاق المؤمن، إلا أن يهذب نفسه ويتخلص منها، إلا خصلتين ما يطبع المؤمن عليهما: "إلا الخِيانَةَ والكَذِبَ" فالذي يخون الأمانات ويَستَمرِئها ويستمر عليها؛ ليس في قلبه إيمان، كذلك الذي يتساهل بالكذب في الليل، في النهار، في الصبح، في المساء، في كل يوم… هذا دليل أن القلب خالٍ عن حقيقة الإيمان -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فلا يُطبع المؤمن على الخيانة ولا على الكذب، قد يُطبع على خُلُق سيئ؛ بالتهذيب والتزكية يتخلص منه، لكن ما يُطبع بحكم الإيمان على الخيانة ولا على الكذب "كلُّ خَصلَةٍ يَطبَعُ اللهُ عَليْهَا المُؤمِنَ إلَّا الخِيانَةَ والكَذِبَ"، يقول الحديث في مسند الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه: "كُلُّ خَصلَةٍ قَد يَطبَعُ اللهُ المُؤمِنَ عَلَيها، لَيسَ الكَذِب والخِيَانَة" -لا إله إلا الله- طهرنا الله وأهالينا.
يقول: "أنَّ الكذبَ حرامٌ في كلِّ شيءٍ" إلا في ضرورات يُباح، حتى ذكر أنه جاء في رواية أبي داود والخرائطي كذلك أنه كانت "امرأة تقول لولدها: -تعال- تعال حتى أعطيَك -تعال-، فقال النبي ﷺ: "وَمَاذا كنتِ تُعطينَه لَو جاءَ؟" قالت: تمرةً -عندي سأعطيه إياها-، قال: "أمَا لَوْ لَمْ تَفعَلِي.. كُتِبَتْ عَلَيكِ كَذِبَةٌ"، تقول له تعال أعطيك، وما نويتِ أن تعطيه شيئًا إذا جاء ما تعطينه شيء؛ فهذا كذب. ولهذا كان يتحرى بعض الأخيار الصالحين لمّا يكلم أولاده ويريد أن يشتري لهم، فما يعطيهم وعد ولا يقول سأشتري، بل يقول: كيف لو اشترينا لك كذا؟ كيف لو جئنا لك بكذا؟ خشية أن يقول سأشتري لك، وبعدها يُخلف بوعده، يصير كذب وأخلف الوعد، يقول: كيف لو أحضرت لك كذا؟ كيف لو اشتريت لك كذا؟.. تمام طيب، ولكن ما يعطيهم وعد، حتى لا يتعرض للكذب وإخلاف الوعد.
قال: "فليحذرِ الإنسانُ الكذبَ حتى في التخَيُّلِ وحديثِ النفسِ؛ فإنَّ ذَلكَ يُثْبِتُ في النَّفسِ صُورةً مُعوَجَّةً"؛ حتى يتبعها كذب الرُّؤيا لِمَا اخْتَلَجَ في باطنه من صورة الكذب، "فلا تَنكَشِفُ لَهُ فِي النَّومِ أَسرارُ الملكوتِ، والتَّجرِبةُ تشهدُ بذلكَ"؛ أنّ الذي يتساهل بالكذب في الحديث أو يعوّد نفسه الكذب حتى في التخيلات أن رؤياه لا تَصدُق.
"إنَّما يُرخَّصُ في الكذبِ إذا كانَ الصدقُ يُفضِي إلى محذورٍ آخرَ أشدَّ من الكذبِ، فيباحُ كما تُباحُ الميتَةُ" للضرورة إذا خاف الهلاك، وذكر الثلاث المواطن التي يباح فيها الكذب بقدره.
"قالت أمُّ كلثومٍ -رضيَ الله عنها-: ما رَخَّصَ رسولُ اللهِ ﷺ في شيءٍ من الكذبِ.. إلا في ثلاثٍ:
بين متخاصمين متنازعين متقاطعين من المسلمين، فيتوصَّل إلى ما يقرِّب بينهم، ويلم شملهم ولو ببعض الكذب، ولكن هذا الكذب يحتاج إلى عقل وحكمة حتى يختار الكلام الذي يريد أن يوصل إليه، وإلا قد يتصور بعضهم أنه سيصلح بالكذب فيجلب كلمات تزيد الطين بلة وإلا تنكشف على قريب أنها كذب ويزدادون بُعد، فهذا أبَلَه بليد!، وإنما يكون بمقدار ما يُقرّب بينهم وبما يرى أنه طريقة للوَصل بينهم، حتى يقول للخصم: نَدِم فلان، وقال لي أنه ندمان -وما قال له أنه ندمان-، ورجع يُليِّن قلب الثاني حتى يصطلحا وأمثال ذلك مما يَلُمُّ الشَّمل بين المتخاصمين. انظر مع فظاعة الكذب وشناعته لكن كيف أباحه الله للإصلاح؛ لما نعلم أن القطيعة والتنازع أفظع وأشد عنده، فيكره التنازع بين عباده المؤمنين حتى؛ أباح الكذب لأجل الإصلاح بينهم مع شناعته.
لقوله: "إنَّما الحَرْبُ خُدْعةٌ"، فيجوز عند محاربة الحربيين من الكفار، أو الخارجين عن الطاعة من البغاة أن يكذب عليهم في شيء يوهمهم فيه أمر يخوفهم ويبعدهم أو يوقع بهم الهزيمة بأي وسيلة من هذه الوسائل، فهذا الكذب في الحرب، "إنَّما الحَرْبُ خُدْعةٌ".
لمّا جاء وأسلم بعض الصحابة والنبي ﷺ في غزوة الخندق، وقال: ماذا تريد أن أفعل يا رسول الله؟ ما منعه وقال: إنما أنت واحد! ولكن: "خَذِّلْ عَنّا؛ فإنَّ الحَرْبَ خُدْعَةٌ"، اكتم إسلامك وخذَّلهم، فكان أيضًا من جملة الأسباب التي رتبها الله -سبحانه وتعالى- بقدرته، فذهب إليهم وما علموا بإسلامه، ابن مسعود الأشجعي ما علموا بإسلامه، فقال لليهود: ما ترون.. ما العلوم عندكم؟ قالوا: أنت ناصح؟ قال لهم: سمعت قريش وغطفان يقولون إنهم سينتقمون منكم ويتركونكم لمحمد، وهم سيرجعون إلى بلدانهم وأماكنهم، وأنتم قد خُنتم العهد الذي بينكم وبينه، سيخبرونه بما فعلتم ويروحون ويخلُّونكم، قال: انتبهوا لأنفسكم، لا تمشوا معهم حتى تستوثقوا منهم وثيقة، واطلبوا أحد من أولادهم يكون عندكم وهكذا حتى تستوثقوا، قالوا: نصحت، رجع إلى قريش يقول لهم: ما تدرون العلوم؟ قالوا:أنت محل الصدق والأمانة، قال لهم: اليهود ندموا، قريظة ندموا على ما خانوه واتفقوا مع محمد، وقالوا إنهم سيرضونه وسيجلبون ناس من أولادكم يسلمونهم له، قالوا: ما تقول؟ قال: هذا الذي حصل، وقالوا: إن قريش ستذهب وتتركنا، فاصطلحوا مع محمد، وانظروا والرأي رأيكم في أمرهم! قالوا: نصحت، وقال لغطفان كذلك. أرسَلوا إليهم قالوا: هيا يناجزونهم، سيدخلون أنتم من جهتكم ونحن من جهتنا، قال لهم اليهود: هذا اليوم سبت، ونحن لا نقاتل فيه، ولكن لن نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا من أولادكم،..رأيتم ما قال! ففرق بينهم وشتت بينهم، وبقي الأمر مرتبك بينهم، كل واحد خائف من الثاني، في الليل بعد ذلك أرسل الله الريح التي شرَّدَتهُم وانتهت المسألة، في الليلة التي أراد الله أن يصرفهم فيها، وكان ﷺ جاء في وقت برد، وكان كثير من ساداتنا الصحابة ما وجدوا شيء يتدفؤون به من البرد، بعضهم أخذ المُرط حق زوجته يتدفأ به في الخندق من البرد، فمرَّ يقول: "مَنْ يَأتِينِي بِخَبَرِ القَومِ؟" والصحابة كلٌّ في مكانه وساكتين، وقت مع هذه الشدة برد وكيفية الوصول إلى القوم، فحصّل سيدنا حذيفة، قال: حُذَيفَة؟ قال: نعم، قال: قم، قام وهو ما عنده إلا المُرط حق زوجته يتدفأ به، قال: اذهب فانظر ما بين القوم وارجع إلي بخبرهم قال: مرحبًا، قال: لا تُحدِث شيئًا حتى تعود إليّ، قال:مرحبا، فلما ذهب قال: اللهم إنه في خدمة رسولك فَقِهِ البرد، قال: فلما مشيت فكأني في حمّام حار دافئ أدخل فيه، ولم أزل كذلك حتى تسللت بين القوم فوجدتهم يوقدون بعض النار من أجل يتدفؤون بها، ووجدت أبا سفيان كان قائد لهم قبل إسلامه، وكان يتدفأ بالنار، فأخرجت سهم وأردت أضربه، فتذكرت قول النبي: لا تُحدِث شيئًا حتى تعود إليّ، قال: ارجعت السهم. وإذا بالريح هبَّت وقلّعت خيامهم وأكفأت قدورهم -سقطت-، وإذا بأبي سفيان يقول: أيها القوم ليتأكد كل منكم من جليسه، من الذي يحدثكم، قال حذيفة: فأنا بادرت الجميع، وقلت: من أنت؟ من أنت؟ قال: فلان بن فلان ، قال تمام طيب، قال لهم: حصل ما تراه، وبنو قريظة قد خانوا العهد، وطلبوا منا رهائن من أجل أن يذبحونهم ويؤدُّونهم إلى محمد، والآن حصل ما ترون وأنا راجع الآن، من أراد يرجع يرجع ومن أراد يجلس يجلس في البرد، وشال متاعه، ورجع سيدنا حذيفة إلى الحبيب ﷺ قال: فوجدته قائم يصلي عليه شَمْلة، فما هو ألا أن عدت إليه فعاد البرد إليّ، قال: فلاحظني فأشار إلي للقرب منه، فغطاني بشَمْلَته التي يتغطى بها حتى قضى الصلاة، فقال: كيف وجدتهم؟ قال: حصل كذا كذا..وهم هاربين الآن، والأيام قضوها على الخندق شديدة (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب:10-11]، ولكن ثبت الثابتون، المنافقون قالوا:ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)[الأحزاب:12] (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب:22]، فالشاهد: أنه يجوز الكذب في الحرب لأجل مصلحة نصرة أهل الحق.
أيضًا ببصيرة وعقل بما يجلب المودة بينهم ويزيد الألفة بينهم، لما اعتنى الشارع -الحقّ ورسوله- باستقرار أمور الأسر والبيوت، وأن يبقى مودة بين الزوجين، وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الروم:21]، فيجوز هذا من أجل الإصلاح بين المتخاصمين، وتقوية المودة والمحبة بين الزوجين.
ثلاثة مواطن، غيرها ما يجوز، قال:
ومن جملة ذلك ما يترتب عليه من ردِّ الظّالم؛ فلو كان هناك ظالم يبحث عن شخص ليقتله ظلمًا أو يحبسه ظلمًا أو يضربه ظلمًا، فجاء يقول لك: أين فلان؟ وأنت تعرف أين هو، ما يجوز لك أن تقول له في المكان الفلاني، قال: لا، لا، نريد الصدق، الصدق، في هذا الموقف، فهنا تُعَاقَب على الصدق؛ لأنك أعنت الظالم وصرت معه، ولكن تقول: لا أدري، ولو كان عندك مُخبّأ، ما يجوز لك في مثل هذا إلاّ أن تدفع الظلم.
ويقول: "كذبُ الإنسانِ ليسترَ مالَ غيرهِ عن ظالمٍ، أو إنكارهُ ليسترَ غيرهُ، بل إنكارهُ لمعصيةِ نفسهِ عن غيرهِ؛ فإنَّ المجاهرةَ بالفسقِ وإظهارهُ حرامٌ، وإنكارهُ جنايةَ نفسهِ على غيرهِ لتطييبِ قلبهِ، وإنكارهُ معَ زوجتهِ أن تكونَ ضَرَّتها أحبَّ إليه، وكلُّ ذلكَ يرجعُ إلى دفعِ المَضرَّاتِ".
يقول: "ولا يُباحُ لجلبِ زيادةِ مالٍ وجاهٍ"، كما يتخيل بعض العوام أن الكذب في الإصلاح يجوز؛ يعني في المصلحة.. مصلحة؟ أي مصلحة؟! إصلاح بين متخاصمين ومتقاطعين، ما هو لك مصلحة فتكذب، خلاص ما عاد هناك معنى لتحريم الكذب إذا كان هكذا، ما يعرفون معنى الإصلاح، يفسِّره بالمصلحة له، إذا كانت المصلحة لك خلاص انتهت حرمة المعصية هذه من أصلها، "ولا يُباحُ لجلبِ زيادةِ مالٍ وجاهٍ، وفيهِ يكونُ كذبُ أكثرِ النَّاس"، حتى أن الذي يُنِفّق سلعته باليمين الكاذبة ممن لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ يقول: هذه ممتازه، ما تحصل كماها -مثلها-، والله انها تساوي كذا، يكذب لأجل يُنَفِّق السلعة، والله إني اشتريتها بكذا ويكذب، مُنفّق سلعته باليمين الكاذبة لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم.
وقال مع ذلك: "إذا اضطُرَّ إلى الكذبِ.. فليعدل إلى المعاريضِ" أولى.
و"كانَ إبراهيمُ النَّخعي إذا طُلِبَ في الدَّارِ.. قال لخادمتهِ: قولي لَهُ اطلبهُ في المسجدِ"، ما تقول له: هو في المسجد، بل اطلبه.. دوّر له في المسجد، رُح شوفه هل هو في المسجد؟ حتى ما تكذب.
وهكذا..
السيد محمد أمين كُتبي لمّا اعتزل الناس فمن جاء يقولون له: في الحرم؛ والحرم مكة كلها حرم، -ما هو قصدهم في المسجد- ما يقولون في المسجد يقولون في الحرم.
وهكذا.. حتى جاء بعض الأيام الحبيب محمد الهدار -عليه رحمة الله تعالى- لعند بيت السيد محمد أمين قالو له: في الحرم، فتَوجَّه، وكان الشيخ -عليه رحمة الله- هناك راقد في البيت فرأى الحبيب الأعظم قال: يأتيكم ابني محمد الهدار ترده من عند البيت.. من عند الباب.. تقول في الحرم ؟! انتَبَه…حد جاء هنا؟ يسأل أهله، قالوا: واحد السيّد الهدار قال: ماذا قلتم؟ قالوا: قلنا في الحرم، قام توضأ وخرج الى الشقة عند الحبيب محمد قال له: عاتبني فيك رسول الله ﷺ.
وقال مع ذلك حتى هو ﷺ استعمل في وقت جواز الكذب استعمل التعريض؛ وكان مع سيدنا أبو بكر في أيام مشيهم في غزوة بدر، ويجيء واحد شايب يقول له: ما بَلَغَك عن محمد وعن قريش؟ قال: مِمّن أنتما؟ قالا: إن تُخبرنا أخبرناك، قال: ذاك بذاك! قال: أُخبِركم أن الذي بلَغَني أن قريش خرجت يوم كذا ومعها كذا، وإن كان صَدَق الذي أخبرني فهم اليوم في مكان كذا -المكان الذي فيه قريش-، وأن محمد خرج مع أصحابه يوم كذا، وإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم في موضع كذا -الموضع الذي فيه النبيﷺ- فممن أنتما؟ قال ﷺ: نحن من ماء.
ومشى يقول: من ماء! من العراق؟ أو من أين؟ ظن أنه قبيلة اسمها ماء، النبي قال: من ماء يعني: خُلِقنا من ماء. ذاك ظن من ماء، مع أنه في وقت الحرب يجوز الكذب، لكنه جاء بالصدق واستعمل التعريض ﷺ، ورَجَع الرجل جَعَل يقول: من ماء من العراق؟ أو من أين هذا الماء؟ ظن أنه اسم قبيلة.
يقول: "وكانَ الشَّعبيُّ يَخُطُّ دائرةً ويقولُ لخادمتهِ: ضعي الإصبعَ فيها وقولي: ليسَ ها هُنَا".. أين فلان؟ تقول: ليس هاهنا، وتشير إلى الدائرة -ليس في المكان هذا يعني-.
وهكذا.. كان عندنا بعض الذين يحتاجون إلى حِفْظ وقتهم وعدم مقابلة بعض الناس في أوقات؛ يُسمي الغرف حقُّه في البيت بأسماء بعض البلدان القريبة منه، فيسمي هذه فلانة و…، فإذا جاء أحد ما يحتاج إلى مقابلته، أو يخاف من ضَياع وقته في مقابلته؛ يدخل الغرفة مثلاً: التي اسمها عينات أو التي اسمها سيؤن، فيقول: أين فلان؟ فيقولون له: في عينات؛ يقصدون الغرفة حقّهم ويظنون أنه في القرية هناك؛ بُعدًا عن الكذب.
"وكان بعضهم يعتذرُ عندَ الأميرِ ويقولُ: منذُ فارقتكَ ما رفعتُ جنبي من الأرضِ إلاّ ما شاء الله تعالى" تأخرت علينا ماجيت عندنا؟ "يقولُ: منذُ فارقتكَ ما رفعتُ جنبي من الأرضِ إلاّ ما شاء الله تعالى"؛ يوهمه أنه كان مريض وهو ماهو مريض، وهو ما يرفع جنبه إلا ما شاء الله يقين هذا، لكن ذاك يظنه كان مريض.
"وكانَ بعضهم ينكرُ ما قالَ؛ فيقولُ: إنَّ اللهَ تعالى ليعلمُ ما قلتُ من ذلكَ من شيءٍ" هو صحيح يعلم ولا ما يعلم؟ فيظن أن "ما قلتُ" يعني نافية، وهي ألا "ما" موصولة؛ يعني: يعلم الذي قلتُ من ذلك، أي شيء قلت من ذلك الله يعلمه، هذا كلام صحيح. "فيوهم ُ النَّفيَ بحرفِ ما" وهو يريد "ما" الموصولة.
قال: "وتباحُ المعاريضُ لغرضٍ خفيفٍ" حتى ولو للمزاح، يجوز التعريض: كقوله ﷺ للمرأة قالت: ادعُ الله أن يدخلني الجنة وهي عجوز قال: "لَا تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ"؛ يعني: عند دخولها الجنة سواء رجل ولا امرأة يتحول إلى ابن ثلاثة وثلاثين سنة، يصير شباب بلا هرم على طول الأبد -هذا معناه- وضَّح لها المعنى.
وجاء له قال له: نريد يا رسول الله تحملني؛ بيخرج معه في الغزوة قال: "نَحْمِلُكَ علَى وَلَدِ البَعِيرِ"، وفي رواية قال: "عَلَى ابنِ النَّاقَة"، ظن إنه قعود صغير بيعطيه، قال: يارسول الله ما أصنع بابن الناقة؟ قال: وهل يلد الجمل إلا الناقة؟ سأعطيك جمل كبير، أليس ابن ناقة؟! أي جمل إلا وهو ابن ناقة.
وكذلك جاءت تذكر له زوجها وتقول كذا ، قال: زوجك ذاك الذي بعينيه بياض؟ قالت: لا يا رسول الله، ما بِعينَيّ زوجي شيء! قال: بلى بعينيه بياض، قالت: لا، زوجي صحيح عينه مستقيمه، ما فيها؟ قال: ما من أحد إلا وفي عينيه بياض؛ أنا قلت لك بياض في سواد العين؟! البياض الذي حواليه! كل واحد فيه بياض في عينه! ﷺ.
قال: "لأنَّ هذهِ الكَلِمَاتُ أوهمتْ خلافَ ما أرادَ، فيُباحُ مثلُ ذلكَ مع النساءِ والصبيانِ لتطييبِ قلوبهم بالمزاحِ".
"وكذلكَ من يمتنعُ عن أكلِ الطعامِ، فلا ينبغي أن يكذبَ ويقولَ: لا أشتهي، إذا كانَ يشتهي، بل يعدلُ إلى المعاريضِ"؛ جزاكم الله خير، أكرمكم الله، أحسن الله إليكم، ما هو وقت أكلي الان، أي شيء يجيبه، لأنه مرة كان عنده ﷺ بعض الطعام فدخل بعض بنات الأنصار فقالت لهن عائشة: تفضلوا كلوا فقلن: لا نشتهي، قال ﷺ: "لا تَجمَعٌي كَذِبًا وَجُوعًا"، عندكُن جوع وتشتهين وتكذبن! فأطعمه ﷺ.
وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
الآفةُ الثَّانيةُ: الغِيبةُ .
"قالَ الله تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات:12].
وقالَ النَّبيُّ ﷺ: "الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلزِّنَا".
وأوحى اللهُ تعالىٰ إلى موسى -عليهِ السَّلامُ-: مَنْ ماتَ تائباً مِنَ الغِيبةِ.. فهوَ آخرُ مَنْ يدخلُ الجنّةَ، ومَنْ ماتَ مُصِرّاً عليها . . فهوَ أوَّلُ مَنْ يدخلُ النَّارَ.
وقالَ ﷺ: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَىٰ قَوْمٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ بأَظْفَارِهِمْ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ لِي: هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ يَغْتَابُونَ ٱلنَّاسَ".
واعلمْ: أنَّ حدَّ الغِيبةِ كما بيَّنَهُ رسولُ اللهِ ﷺ: أن تذكرَ أخاكَ بما يكرهُهُ لو بلغَهُ وإن كنتَ صادقاً؛ سواءٌ ذكرتَ نقصاناً في نفسِهِ، أو عقلِهِ، أو ثوبِهِ، أو فعلِهِ، أو قولِهِ، أو نَسَبِهِ، أو دارِهِ، أو دابَّتِهِ، أو شيئاً ممَّا يَتعلَّقُ بهِ، حتَّىٰ قولُكَ: إنَّهُ واسعُ الكُمِّ، أو طويلُ الذَّيلِ، حتَّىٰ ذُكِرَ عندَ رسولِ اللهِ ﷺ رجلٌ، فقيلَ: ما أعجزَهُ!! فقالَ: "أغْتَبْتُمُوهُ".
وأشارَتْ عائشةُ -رضيَ الله عنها- بيدِها إلى امرأةٍ؛ أنَّها قصيرةٌ!! فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: 'اغْتَبْتِهَا".
فبهذا يُعلَمُ: أنَّ الغِيبةَ لا تَقتصِرُ على اللِسانِ، بل لا فرقَ بينَ أن يحصلَ التَّفهيمُ باليدِ، أو بالرَّمزِ، أو بالإشارةِ، أو بالحركةِ، أو بالمحاكاةِ، أوِ التَّعريضِ المُفهِمِ؛ كقولِكَ: إنَّ بعضَ أقربائِنا وبعضَ أصدقائِنا كذا وكذا.
واعلمْ: أنَّ أخبثَ أنواع الغِيبةِ غِيبةُ القرَّاءِ؛ يقولونَ مثلاً:
الحمدُ للهِ الذي لم يبتلِينا بالدُّخولِ على السلُّطانِ لطلبِ الدُّنيا، أو: نعوذُ باللهِ مِنْ قلَّةِ الحياءِ، وهم يُفْهِمونَ المقصودَ بذلكَ، ويقولونَ: ما أحسنَ أحوالَ فلانٍ لولا أنَّهُ بُلِيَ بمثلِ ما بُلِيَ بهِ أمثالُنا -وهوَ قلَّةُ الصَّبرِ عنِ الدُّنيا- فنسألُ اللهَ تعالىٰ أن يعافيَنا، وغرضُهُم بذلكَ الغِيبةُ.
فيجمعونَ بينَ الغِيبةِ والرِّياءِ وإظهارِ التَّشبُّهِ بأهلِ الصَّلاحِ في الحذرٍ مِنَ الغِيبةِ، وهٰذهِ خبائثُ، ثمَّ يَغترُّونَ بها ويظنُّونَ أنَّهُم تركوا الغِيبةَ.
وكذلكَ قد يُغتابُ واحدٌ، فيغفلُ عنهُ الحاضرونَ، فيقولُ: سبحانَ اللهِ!! ما أعجبَ هذا!! حتَّىٰ ينتبهَ القومُ إلى الإصغاءِ، فيستعملُ ذكرَ اللهِ تعالى في تحقيقِ خُبثِهِ، ويقولُ: قلبي مشغولٌ بفلانٍ تابَ اللهُ علينا وعليهِ وليسَ غرضُهُ الدُّعاءَ لهُ، بلِ التَّعريفُ، ولو قصدَ الدُّعاءَ.. لأخفاهُ، ولوِ اغتمَّ قلبُهُ لأجلِهِ.. لكتمَ عيبَهُ ومعصيتَهُ.
وكذلكَ قد يُظهِرُ المستمعُ تعجُّباً مِنْ كلامِ المغتابِ حتَّىٰ يزيدَ نشاطُهُ في الغِيبةِ، و"ٱلْمُسْتَمِعُ أَحَدُ ٱلْمُغْتَابَيْنِ"؛ كذلكَ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ، فكيفَ إذا حرَّكَ نشاطَهُ بالتَّعجُّبِ؟!
وكذلكَ قد يقولُ: دعْ غِيبةَ النَّاسِ، وهوَ بقلبِهِ غيرُ كاره لغِيبتِهِ، إنَّما غرضُهُ أن يُعرَفَ بالتَّورُّعِ؛ وذلكَ لا يخرجُهُ عن إثمِ الغِيبةِ ما لم يَكرَهْها بقلبِهِ، ويُورِّطُهُ في إثمِ الرِّياءِ، بل إنَّما يخرجُ مِنَ الإثمِ: بأن يكرهَهُ بقلبِهِ، ويُكذِّبَ المغتابَ ولا يُصدِّقَهُ بقلبِهِ؛ لأنَّهُ فاسقٌ يَستحِقُّ التَّكذيبَ، والمسلمُ المذكورُ بالغِيبةِ يَستحِقُّ إحسانَ الظَّنِّ بهِ .
قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "إِنَّ ٱللهَ تَعَالَىٰ حَرَّمَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِ دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ ، وَأَن يُظَنَّ بِهِ ظَنُّ ٱلسَّوْءِ".
فالغِيبةُ بالقلبِ حرامٌ، كما أنَّها باللِسانِ حرامٌ، إلَّا أن يُضطَرَّ إلى معرفتِهِ بحيثُ لا يمكنُهُ التَّجاهلُ ".
قال: "الآفةُ الثَّانيةُ: الغِيبةُ" وهي: أن تذكر أخاك المسلم بما يكره كما عُرِّفت في الحديث، وزجر عنها الحقّ في القرآن: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات:12]، شبّهَهُ بآكل لحم الميتة، وأن الغيبة إثمها وشرّها عند الله أشد من الزنا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ويقول ﷺ: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَىٰ قَوْمٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ بأَظْفَارِهِمْ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ لِي: هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ يَغْتَابُونَ ٱلنَّاسَ".
وهذا الحد الذي ذكره في الحديث قال كل إفادة على ذكر عار أو عيب أو شيء يكره الإنسان أن يذكر به، سواء ان كان ذلك باعتراض على "نقصاناً في نفسِهِ، أو عقلِهِ، أو ثوبِهِ، أو فعلِهِ، أو قولِهِ، أو نَسَبِهِ، أو دارِهِ، أو دابَّتِهِ"، أو أي شيء، حتى الكلام على مركوبه؛ كلام عليه، "حتَّىٰ قولُكَ: إنَّهُ واسعُ الكُمِّ، أو طويلُ الذَّيلِ"؛ كلام عليه.
لا إله إلا الله!
"ذُكِرَ عندَ رسولِ اللهِ ﷺ رجلٌ، فقيلَ: ما أعجزَهُ !! فقالَ: "أغْتَبْتُمُوهُ"
وقالت السيدة عائشة: حسبك من صفية، قال: " قلتِ كلمةً لو مُزِجتْ بماءِ البحرِ لمَزجَتْه"، وزجرها ﷺ.
فإذًا الغيبة أيضا لا تقتصر على اللسان، لأن السيدة عائشة أشارت بيدها أنها قصيرة، " يحصلَ التَّفهيمُ باليدِ، أو بالرَّمزِ، أو بالإشارةِ، أو بالحركةِ، أو بالمحاكاةِ".
وبعد ذلك قال: بعضهم يقول: أن فلان من قرابتنا ولا من جيراننا ولا من عندنا في البلاد، ولما يَذكُر وصف يعرفون أن فلان المُراد به فلان بن فلتان! وهو يُظهِر أنه ما ذكر اسمه، أما لو كان يَذكر إنسان ما يُعرف مَن هو، ولا أي بلد، هذا ما يعد غيبة، لكن يقول: واحد من أصحابنا، واحد من أقاربنا، ويجيب الوصف الذي يعرفون أنه مقصوده فلان بن فلان، فهو غيبة.
قال: ومن الخبائث في الغيبة، بعض القراء والمتشبهين بالصالحين يغتاب وهو يجيبها بصورة طيبة، يوهِم أنه متحذر من الغيبة وهي غيبة، قال تسمى "غِيبةُ القرَّاءِ" يقول: الحمد لله... يذكرون واحد فيقول: "الحمدُ للهِ الذي لم يبتلِنا بالدُّخولِ على السلُّطانِ لطلبِ الدُّنيا"؛ يعني: أن فلان الذي ذكرتوه يدخل على السلاطين لطلب الدنيا؛ فقوله: "الحمدُ للهِ" هذا غيبة؛ هي صورتها الحمد لله تملأ الميزان ثواب، لكنها القصد حولها إلى شيء ثاني، صارت إلا غيبة.
ويذكرون فلان يقولون: "نعوذُ باللهِ مِنْ قلَّةِ الحياءِ" يعني: أنهذا فلان قليل الحياء! ماذا بقي بعد؛ يجيبها ملتوية كذا! يقول: "مما أحسنَ أحوالَ فلانٍ -ولا نسخى به ونحبه- لولا أنَّهُ بُلِيَ بمثلِ ما بُلِيَ بهِ أمثالُنا -وهوَ قلَّةُ الصَّبرِ عنِ الدُّنيا-" هو يعمل كذا، عجيب!!
قال: "فيجمعونَ بينَ الغِيبةِ والرِّياءِ وإظهارِ التَّشبُّهِ بأهلِ الصَّلاحِ في الحذرٍ مِنَ الغِيبةِ" قال: جمَّع خبائث فوق الخبيثة حقُّه وجمع فوقها خبائث أخرى.
لا إله إلا الله.
قال: أو يُغتاب أحد من الناس في المجلس ما ينتبهو منه الحاضرين، فيقول: "سبحانَ اللهِ!!" ايش ايش كيف عجيب!! يخليهم ينتبهون؛ يسمعون الغيبة، خلاص أنت واحد من المغتابين.
ويقول: "قلبي مشغولٌ بفلانٍ تابَ اللهُ علينا وعليهِ"، تدعي له في السجود؟.. لا، تدعي له في الخلوة؟.. لا
ألا قدام الناس كذا!! جابها بصورة دعاء وصورة رحمة، وهي ألا؛ أفهموا أن فلان كذا وكذا -لا حول ولا قوة إلا بالله- قال: "ولو قصدَ الدُّعاءَ.. لأخفاهُ، ولوِ اغتمَّ قلبُهُ لأجلِهِ.. لكتمَ عيبَهُ"... قد يُظهِر؛ هو ما يَغتاب لكن واحد ثاني يَغتاب، فيُظهر التعجب: لا لا صحيح!! كيف؟ كيف؟ صدق هذا؟! ما معناه؟ معناه: أنا عونك في الغيبة، زِد منها، هات، اغتب اغتب، هو يرجع واحد من المغتابين، يُظهر تعجبه من كلام المغتاب، يخلي المغتاب يَفْتَكّ-يَنْفَلِت أو يسترسل- ، ويؤكد كلامه ويرجع هو معه، لأن المستمع شريك القائل.
وهكذا.. فإذا كان مجرد المستمع شريك، "فكيفَ إذا حرَّكَ نشاطَهُ" -أيضا- "حرَّكَ نشاطَهُ بالتَّعجُّبِ؟!".
والا الواجب يقول له: اسكت ما يحرِّضه، يقول له: دع عيوب الناس، فينا عيوبنا التي تكفينا، نتفكر فيها ونتوب إلى الله منها وهكذا.. -لا إله إلا الله-.
أو "يقولُ: دعْ غِيبةَ النَّاسِ، وهوَ بقلبِهِ غيرُ كاره" ألا بس يُظهِر باللسان؛ فكأنه يقول: دَع غيبة الناس، وزد شوي عادك، هات كلام، بالقلب يقول هكذا.
وقال: "وذلكَ لا يخرجُهُ عن إثمِ الغِيبةِ ما لم يَكرَهْها بقلبِهِ، ويُورِّطُهُ في إثمِ الرِّياءِ، بل إنَّما يخرجُ مِنَ الإثمِ: بأن يكرهَهُ بقلبِهِ" كما يكره أن يُغتاب هو، ويكذب المغتاب ولا يصدقه بقلبه وهكذا.
"إِنَّ ٱللهَ تَعَالَىٰ حَرَّمَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِ دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ ، وَأَن يُظَنَّ بِهِ ظَنُّ ٱلسَّوْءِ"، قال: حتى "فالغِيبةُ بالقلبِ حرامٌ، كما أنَّها باللِسانِ حرامٌ".
يقول سيدنا الجنيد بن محمد رأى شاب يسأل فقال بقلبه وخاطره يقول له: لو صَرف هذا همَّته وقوَّته للكسب أحسن من أن يسأل الناس، فلما راح الى البيت رقد، فَجِيءَ بالمسكين هذا السائل الذي شافه سائل ميت، يقال له: كُل لحمه فقد اغتبته، فقال: إنما هو خاطر خطر لي، قال: مثلك لا يُسمَح له بمثل هذا، لماذا ما كَرِهتَ الخاطر مباشرة ورددته، ترد الغيبة من المغتاب حتى خاطرك اذا اغتاب ترده، ما تقبل منه، كما لا تقبل من المغتاب الآدمي لا تقبل من خاطرك يغتاب أحد من خلق الله.
الله يصلح شؤوننا والمسلمين ويجنبنا الغيبة والحرام كله، اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فصل
في بيانِ المواضعِ التي تُباحُ الغِيبةُ فيها
"إنَّما يُرخَّصُ في الغِيبةِ في ستَّةٍ مواضعَ :
الأوَّلُ منها: المُتظلِّمُ يذكرُ ظلمَ الظَّالمِ عندَ سلطانٍ ليدفعَ ظلمَهُ، فأمَّا عندَ غيرِ السُّلطانِ، وعندَ مَنْ لا يقدرُ على الدَّفعِ .. فغِيبةٌ.
اغتيبَ الحجَّاجُ عندَ بعضِ السَّلفِ، فقالَ: إنَّ اللهَ لينتقمُ للحجَّاجِ ممَّنِ اغتابَهُ، كما ينتقمُ مِنَ الحجَّاجِ لمَنْ ظلمَهُ.
الثَّاني: الذي يُستعانُ بهِ علىٰ تغييرِ المُنكَرِ يجوزُ لهُ أن يَذكُرَ عندَهُ أيضاً.
الثَّالثُ: المستفتي إذا افتقرَ إلى ذكرِهِ للسُّؤالِ؛ كما قالَتْ هندٌ: إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ، لا يعطيني ما يكفيني وولدي، أفآخذُ مِنْ غيرِ علمِهِ؟ فقالَ: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِٱلْمَعْرُوفِ"، فذكرَتِ الشُّحَّ والظُّلمَ ولم يَزجُزْها رسولُ اللهِ ﷺ وهٰذا كلُّهُ شِكايةٌ، ولكنْ إنَّما يَحِلُّ إذا كانَتْ فيها فائدةٌ.
الرَّابعُ: تحذيرُ المسلمِ مِنْ شرِّ الغيرِ إذا عَلِمَ أنَّهُ لو لم يذكرْهُ.. لُقُبِلَتْ شهادتُهُ، كما يذكرُ المُزكِي؛ أو يُعامِلُ ويُناكِحُ فيُتضرَّرُ بهِ، فيذكرُهُ لمَنْ يَتوقَّعُ تضرُّرَهُ بهِ فقطْ.
الخامسُ: أن يكونَ معروفاً باسمٍ فيهِ عيبٌ؛ كالأعمشِ والأعرجِ، فلا إثمَ علىٰ مَنْ ذكرَ ذلكَ، والعدولُ إلى اسمِ آخرَ أَولىٰ.
السَّادسُ: أن يكونَ مُجاهِراً بذلكَ العيبِ، لا يكرهُ أن يُذكَرَ بهِ؛ كالمُخنَّثِ وصاحبِ الماخورِ.
قالَ الحسنُ: ثلاثةٌ لا غِيبةَ لهُم: صاحبُ الهوىٰ، والفاسقُ المُعلِنُ بالفسقِ، والإمامُ الجائرُ.
وهؤلاءِ يجمعُهُم: أنَّهم مُجاهِرونَ لا يكرهونَ الذِّكرَ، والصَّحيحُ: أنَّ ذكرَ الفاسقِ بمعصيةٍ يخفيها ويكرهُ ذكرَها لا يجوزُ مِنْ غيرِ عذرٍ".
قال: المواطن التي يباح فيها الغيبة ستة محددة:
إذا كان يَذكر عند القاضي أو عند السلطان أو عند الفاصل بينهم والحاكم بينهم في القضية، فيقول: ظلمني وعمل كذا، وأخذ مني كذا، فيذكر ما ظلمه فيه من أجل أن يأخذ حقه منه، وأما أن يذكر ذلك عند من لا يقدر أن يدفع عنه ولا يخرج له شيء، ما يجوز. يذكره عند الذي سيخرج له حقه.
وكذلك لما اغتيب الحجاج مرة عند بعض السلف، قال له: اسمع، "إنَّ اللهَ لينتقمُ للحجَّاجِ ممَّنِ اغتابَهُ، كما ينتقمُ مِنَ الحجَّاجِ لمَنْ ظلمَهُ"، والذي اغتاب الحجاج سينتقم منه كذلك، يعني اضبط لسانك!
وقال بعضهم لما ذَكر الحَجَّاج وسبَّه، قال له الصحابي: إذا كان حاضر بيننا ستقول هذا الكلام؟! قال: لا، قال: كنا نَعُدُّ هذا نفاقًا على عهد رسول الله، تجيء أمامي تتكلم وبعدين أمامه تجيب كلام ثاني!!
فيحتاج إلى ذكره عند من يعاون على تغييره ويرتبون ترتيب لإزالة ذلك المنكر، فيقول له: حصل كذا وجرى منه كذا، وكيف نعالجه بكذا؟ عند الذي سيعالج فقط وسيساعد في العلاج، ما هوعند غيره، ما يجوز.
يَذكُر في الحُكْم، يقول: قال لي كذا وظلمني في كذا وأخفى عني كذا، ويذكر بعض عيوبه؛ لكي يرى الحُكم فيها كيف يكون عند المستفتي إذا احتاج لذلك.
كما استفتت هند، قالت للنبي ﷺ: إن أبا سفيان رجل شحيح؛ لا يعطيني وولده ما يكفينا، فهل يجوز لي أن آخذ من ماله بغير علمه؟ قال: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِٱلْمَعْرُوفِ" وما أنْكَرَ عليها ذكرها لأبي سفيان بالشح، لأنها تستفتي عن حكم، "فذكرَتِ الشُّحَّ والظُّلمَ ولم يَزجُزْها" -لأنه فيه شِكاية- "يَحِلُّ إذا كانَتْ فيها فائدةٌ" مثل الاستفتاء.
"إذا عَلِمَ أنَّهُ لو لم يذكرْهُ.."؛ سيتعرض هو للتضرر به، إما تضرر به في عقيدته، أو تضرر به في معاملة له في بيع أو شراء، أو في وكالة، أو في زواج منه، أو تزويجه لإبنته إياه وهو ما يعلم؛ فيجوز أن يقول له: لا، ما يصلح لك فلان بن فلان، فإذا ما بينزجر إلا يذكره؛ فقط يقول: فيه الوصف الفلاني؛ من أجل ألا يتضرر هذا المسلم، فبمقدار الضرورة يجوز.
أنه يكون هو معروف بالاسم هذا، اشتهر بين الناس: "الأعمش"، اشتهر بين الناس: "الأعرج"، اشتهر بين الناس: الأصم وبعدين بيذكر: فلان بن فلان ما أحد يجيء عليه، يقول: الأصم… معروف هذا، والأعمش، ولا أعرج، اشتهر بهذا، فهو لما سيذكره ويعرّفه، ما بيعرفونه الناس؛ فهذا يجوز له، ما قصده أن ينسبه إلى العيب ولكن أن يُعرّف به. ومع ذلك قالوا: "والعدولُ إلى اسمِ آخرَ أَولىٰ" إذا بيقدر يُعرِّفه به أفضل.
أن يكون المغتاب هذا متجاهر بالأمر الذي يذكره عنه، غير مستتر به وغير مناكر له، وهو يتَبَجَّح به ويقول: لا غيبة للمتجاهر، لا يكره أن يُذكَر بذلك؛ يبني له مكان للمخدرات وشرب الخمر، أو مكان للصور المحرمة، ويتظاهر بذلك، فذكره بذلك تنفيرًا عنه ما يضر؛ لأنه متجاهر غير متخفي؛ أما العاصي الذي يتخفى بمعصيته ما يجوز ذكره بها. "الفاسقِ بمعصيةٍ يخفيها ويكرهُ ذكرَها لا يجوزُ -ذكره- مِنْ غيرِ عذرٍ"، إلا لإزالة هذا المنكر، أو نصيحته، وما إلى ذلك.
الحَجَّاج مجاهر بأشياء، ولكن أيضا الإستطالة في الكلام تجيء بعدين تمتد إلى غير ما هو متجاهر به من ناحية، ومن ناحية أخرى.. فإن مثل هؤلاء الصحابة يحبون سَدّ أبواب الخَوض في ما لا يعني، وشُغل العُمر بما لا يُفيد.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
28 صفَر 1447