الأربعين في أصول الدين - 20 | تكملة: شره الطعام، وشره الكلام (1)

للاستماع إلى الدرس

الدرس العشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: تكملة الأصل الأول: شره الطعام، ثم الأصل الثاني: شره الكلام (1) 

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر الخميس 27 صفر 1447هـ

يتابع بيان شَرَه الطعام: صُوَر الإفراط وأسبابه، وآثاره على السلوك والعبادة، ويذكر 7 فوائد للجوع، ثم ينتقل إلى الأصل الثاني: شَرَه الكلام: تمييز أنواعه (نافع/فضول/لغو)، وأثرُ اللسان في حياة القلب، وآفات اللسان، وحدّ ما لا يعني، وميزان "فليقل خيرًا أو ليصمت"..

 

نص الدرس المكتوب: 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبِسنَدكُم المتَّصل لِلإمام حجَّة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

فَصلٌ

فِي بَيَانِ فَوَائِدِ الجُوعِ

"لعلَّكَ تشتهي أن تعلمَ السِّرَّ في تعظيمِ الجوعِ، ووجهَ مناسبتِهِ لطريقِ الآخرةِ. 

فاعلمْ: أنَّ له فوائدَ كثيرةً، ولكنْ يرجعُ أصولُها إلى سبعٍ:

إحداها: صفاءُ القلبِ ونفاذُ البصيرةِ؛ فإنَّ الشِّبعَ يُورِثُ البَلادةَ ويُعمي القلبَ.

 قال ﷺ: "مَنْ أجَاعَ بطنَهُ.. عَظُمَتْ فِكْرَتُهُ، وَفَطِنَ قَلْبُهُ".

ولا يخفى أنَّ مفتاحَ السَّعادةِ المعرفةُ، ولا تُنالُ إلَّا بصفاءِ القلبِ وتنوُّرِهِ، فلذلكَ كانَ الجوعُ قرعَ بابِ الجنَّة.

الثانيةُ: رِقَّةُ القلبِ؛ حتَّى يُدرِكَ بهِ لذَّةَ المناجاةِ، ويَتأثَّرَ بالذِّكرِ والعبادةِ.

قالَ الجنيدُ: يجعلُ أحدُكُم بينَهُ وبينَ قلبِهِ مِخلاةً مِنَ الطَّعامِ ويُريدُ أن يجدَ حلاوةَ المناجاةِ!!.

ولا يخفى عليكَ أنَّ أحوالَ القلبِ؛ من الخشيةِ والخوفِ، والرِّقَّةِ والمناجاةِ، والانكسارِ والهيبةِ.. مِن مفاتيحِ أبوابِ الجنَّةِ، وإن كانَ بابُ المعرفةِ فوقَهُ، والجوعُ قرعٌ لهذا البابِ أيضًا.

الثَّالثةُ: ذلُّ النَّفسِ، وزوالُ البطرِ والطُّغيانِ منها؛ فلا تُكسَرُ النَّفسُ بشيءٍ كالجوعِ، والطُّغيانُ داعٍ إلى الغفلةِ عنِ اللهِ تعالى، وهوَ بابُ الجحيمِ والشَّقاوةِ، والجوعُ إغلاقٌ لهذا البابِ، وفي إغلاقِ بابِ الشَّقاوةِ فتحُ بابِ السَّعادةِ.

ولذلكَ لمَّا عُرِضَتِ الدُّنيا على النَّبيّ ﷺ.. قالَ: "لَا، بَلْ أَجُوعُ يَوْمًا وأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإذَا جُعْتُ.. صَبَرْتُ وَتَضَرَّعْتُ، وَإِذَا شَبِعْتُ.. شَكَرْتُ".

الرَّابِعةُ: أنَّ البلاءَ مِنْ أبوابِ الجنَّةِ؛ لأنَّ فيهِ مشاهدةَ طعمِ العذابِ، وبهِ يَعظُمُ الخوفُ مِنْ عذابِ الآخرةِ، ولا يَقدِرُ الإنسانُ على أن يُعَذِّبَ نفسَهُ بشيٍء كالجوعِ؛ فإنَّهُ لا يحتاجُ فيهِ إلى تكلُّفٍ، ويرتبطُ بهِ فوائدُ أخرى، فيكونُ مُشاهِدًا بلاءَ اللهِ تعالى على الدَّوامِ، وذلكَ يدعو إلى الرَّحمةِ والإطعامِ، والشَّبعانُ في غفلةٍ عن ألمِ الجائعِ.

الخامسةُ -وهيَ مِنْ كبارِ الفوائدِ-: كسرُ سائرِ الشَّهواتِ التي هيَ منابِعُ المعاصي، والاستيلاءُ على النَّفْسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ.

قالَ ذو النُّونِ -رضيَ اللهُ عنهُ-: ما شبعتُ قطُّ إلا عصيتُ، أو هممتُ بمعصيةٍ.

وقالَتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: أوَّلُ بدعةٍ حدثَتْ بعدَ رسولِ اللهِ ﷺ.. الشِّبعُ؛ إنَّ القومَ لمَّا شبعَتْ بطونُهُم..  جَمَحَتْ بهِم نفوسُهُم إلى الدُّنيا.

وأمَّا شهوةُ الفرج: فلا تخفى غائلتُها، والجوعُ يكفي شرَّها، فمَنْ شبعَ.. فلا يَملِكُ فرجَهُ، فإن منعَهُ التَّقوى.. فلا يَملِكُ عينيهِ، فالعينُ تزني كما أنَّ الفَرْجَ يزني، وجميعُ معاصي الأعضاءِ السَّبعةِ سببُها القُوَّةُ الحاصلةُ في الشِّبَعِ.

وقالَ حكيمٌ: كلُّ مريدٍ صبرَ على أكلِ الخبزِ البحتِ سنةً، لا يَخلطُ معَهُ شيئًا مِنَ الشَّهَواتِ، ويأكلُ بنصفِ بطنِهِ.. رفعَ اللهُ تعالى عنهُ مؤنةَ شهوةِ النِّساءِ.

السَّادسةُ: خفَّةُ البدنِ للتَّهجُّدِ والعبادةِ، وزوالُ النَّومِ المانعِ مِنَ العبادةِ؛ فإنَّ رأسَ مالِ السَّعادةِ العمرُ، والنَّومُ ينقصُ العمرَ؛ إذ يمنعُ مِنَ العبادةِ، وأصلُهُ كثرةُ الأكلِ. 

قال أبو سليمانَ الدَّارانيُّ: مَنْ شبعَ.. دخلَ عليهِ ستُّ خصالٍ: فَقْدُ حلاوةِ العبادةِ، وتعذُّرُ حفظِ الحكمةِ، وحرمانُ الشَّفقةِ على الخَلقِ؛ لأنَّه إذا شبعَ.. ظنَّ الخَلْقَ كلَّهُم شِباعًا، وثِقَلُ العبادةِ، وزيادةُ الشَّهَواتِ، وأنَّ سائرَ المؤمنينَ يدورونَ حولَ المساجِد وهو يدورُ حولَ المزابلِ.

السَّابعةُ: خفَّةُ المؤنةِ، وإمكانُ القناعةِ بقليلٍ مِنَ الدُّنيا، وإمكانُ إيثارِ الفقرِ؛ فإنَّ مَنْ قَنِعَ.. تَخَلَّصَ مِنْ شَرَهِ بطنِهِ، ولم يَفْتَقِرْ إلى مالٍ كثيرٍ، فيسقطُ عنهُ أكثرُ همومِ الدُّنيا، فمهما أرادَ أن يستقرضَ لقضاءِ شهوةِ البطنِ.. استقرضَ مِنْ نفسِهِ، وتركَ شهوتَهُ؛ كانَ إذا قيلَ لإبراهيمَ بنِ أدهَم في شيٍء: إنَّه غالٍ.. قالَ: أرخصوهُ بالتَّركِ. "

 

ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.

الحمد لله مُكرمنا بالتّوفيق لكل من صَدقَ في إرادةِ الاستقامة على أقوم طريق، ومُيَسِّر الوصول إليه لكلِّ مَن أقبلَ بالصدق بعد التّصديق. ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يُلحِق المُقبِلَ عليه بخيرِ فريق؛ ونشهدُ أن سيدَنا محمدًا عبده ورسوله، سيد أهل المحبة والقُرب والتحقيق، صلَّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه خير فريق، وعلى من والاهم واتَّبعهُم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من رفع لهم القَدْر والمنزلة والمكانة والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرَّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

يَذكرُ الشيخ الغزالي -عليه رحمة الله تعالى- في هذا الفصل ماذا يترتَّب على تقليل الطعام للمؤمن في سَيرِه إلى الله -تبارك وتعالى- واعتِيَاده أنْ يأكلَ في نصف البطن أو الثُّلُث. قال: "لعلَّكَ تشتهي أن تعلمَ السِّرَّ في تعظيمِ الجوعِ، ووجهَ مناسبتِهِ لطريقِ الآخرةِ"؛ قال: ليس المقصود مُجرَّد الجوع ولا مُجرَّد ألم الجوع و-لكن- "له فوائدَ كثيرةً يرجعُ أصولُها إلى سبع" فوائد، يتفرَّع عنها -بعد ذلك- عدد من الفوائد. أوّل أوّل: صفاء القلب، 

  • والأولى منها: صفاءُ القلبِ ونفاذُ البصيرةِ.

 لأن الشِّبَع وكثرةُ الأكل "يُورِثُ البلادةَ ويُعمي القلبَ"؛ ولذا أورد هذا الحديث -الذي ذكره الخُركوشي- يقول: "مَنْ أجاعَ بَطْنَهُ.. عَظُمَتْ فِكْرَتُهُ، وَفطِنَ قَلْبُهُ".

"ولا يخفى أنَّ مفتاحَ السَّعادةِ المعرفةُ، ولا تُنالُ إلَّا بصفاءِ القلبِ وتنوُّرِهِ، فلذلكَ كانَ الجوعُ قرعَ بابِ الجنَّة"؛ لأنه به يتهيَّأ باطن الإنسان للمعرفة بسبب صفائه، فإن كثرةَ الشِّبَع تمنع نقاء الباطن وصفاءه، وتكون مَدعاة لوجود الكُدورة فيه؛ فهذه أولى الفوائد. 

  • وثانيها:  "رِقَّةُ القلبِ".

فإنه يرِقّ ويحضر مع عدم كثرة الشِّبع حتى يُدرك لذّة المناجاة، التي هي ألذّ مِن كلِّ طعام وشراب ونكاح ولباس ومركب ومسكن ومُلك وجاه لذّة المناجاة! 

ولَمَّا أَوَتْ بعض بني إسرائيل نفسُه وقال: إني أعصي الله -تعالى- ولم يُعذِّبني! فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان.. قُل لفُلان: عذَّبتُك وأنت لا تشعر! قل له: ألم أحرِمْك لذيذ مناجاتي؟! ألم أحرمْك لذيذ مناجاتي؟! أنت في عذاب ما أنت دارٍ بنفسك، ما الذي حُرِمْته وما الذي حِيلَ بينك وبينه من النعيم العظيم!

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشرِّ ما عندنا، أذِقنا بَرد عفوك وحلاوةَ رحمتك ولذّة مناجاتك. 

"قالَ الجنيدُ: "يجعلُ أحدُكُم بينَهُ وبينَ قلبِهِ مِخلاةً مِنَ الطَّعامِ -كِيس كامل كبير- ويُريدُ أن يجدَ حلاوةَ المناجاةِ!!" أنَّى يتيسَّر له ذلك؟ 

قال: "ولا يخفى عليكَ أنَّ أحوالَ القلبِ؛ من الخشيةِ والخوفِ والرِّقَّةِ والمناجاةِ، والانكسارِ والهيبةِ.. مِن مفاتيحِ أبوابِ الجنَّةِ، وإن كانَ بابُ المعرفةِ" فوق وهذه النتائج وآثار أو مُقدِّمات- والجوعُ قرعٌ لهذا البابِ أيضًا"
باب الخشية والرِّقة والانكسار.

  • و"الثَّالثةُ: ذلُّ النَّفسِ، وزوالُ البطرِ والطُّغيانُ منها. 

فلا تُكسَرُ النَّفسُ بشيءٍ كالجوعِ، والطُّغيانُ" يدعو صاحبُه للغَفلة عن الله، وهذا "بابُ الجحيمِ والشَّقاوةِ" - والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].

فالغَفلة والكِبْر من أسباب حِرمان معرفة الحق -تعالى- وآياته والخضوع لجَلالِه -جلّ جلاله-. 
قال: "والجوعُ إغلاقٌ لهذا البابِ، وفي إغلاقِ بابِ الشَّقاوةِ فتحُ بابِ السَّعادةِ". 
"لمَّا عُرِضَتِ الدُّنيا على" سيدنا المصطفى محمد ﷺ؛ وخُيِّر بَيْنَ أنْ تصير جبال مكة وبطحاؤها له ذهبًا تسير معه حيثُ شاء، قال: "لاَ، بَلْ أَجُوعُ يَوْمًا وأَشْبَعُ يَوْمًا"، صلّى الله عليه وصحبه وسلَّم، "فَإذَا جُعْتُ.. صَبَرْتُ وَتَضَرَّعْتُ، وَإِذَا شَبِعْتُ.. شَكَرْتُ"؛ صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه. وهكذا كان الشَّكَّار للرحمن، وكان الصَّبَّار المُتذلِّل الخاضع للإله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

فذا رفَض الكنوز وقد عُرِضْن

وَراوَدتهُ الْجبالُ الشُّمُّ مِنْ ذهَبٍ *** عَنْ نَفْسِهِ فَأرَاهَا أيَّمَا شَمَمِ

وأكَّدَتْ زُهـدَهُ فِيهَا ضَرورَتُـهُ *** إنَّ الضَّرورةَ لا تعْدُو عَلَى العِصَمِ

وكَيفَ تدعُوإلَى الدُّنْيَا ضَرورةُ مَنْ *** لَوْلاهُ لَمْ تُخْرَجُ الدُّنْيَا مِنَ العَدمِ

مُحَمَّــدٌ سَيِّــدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْــنِ *** وَالفَريْقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ

صلّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله.

  • و"الرَّابِعةُ: أنَّ البلاءَ مِنْ أبوابِ الجنَّةِ". 

"لأنَّ فيهِ مشاهدةَ طعمِ العذابِ، وبهِ يَعظُمُ الخوفُ مِنْ عذابِ الآخرةِ، ولا يَقدِرُ الإنسانُ على أن يُعَذِّبَ نفسَهُ بشيٍء كالجوعِ؛ فإنَّهُ لا يحتاجُ فيهِ إلى تكلُّفٍ ويرتبطُ بهِ فوائدُ أخرى، فيكونُ مُشاهِدًا" لشيءٍ من البلاء؛ فيكون على الخوف الدائم، يكون على الخوف الدائم ويكون على تذكُّر أنَّ عذاب الآخرة أشدّ وأشقّ، فيَحْمِل نفسَه على البُعد عن موجبات العذاب؛ أيضًا "يدعو إلى الرَّحمةِ والإطعامِ"، "الشَّبعانُ في غفلةٍ عن ألمِ الجائعِ."

ويُذكر عن سيدنا يوسف أنه لما وُلِّي على خزائن الأرض صار يصوم يومًا ويُفطر يومًا، فقيل له: لماذا رجعت إلى هذا؟ قال: أخشى أن أشبع فأنسى الجائع. يتفقّد أهل الحاجة والمَسكنة، إلى أن جاءت السَّبع الشِّداد فكان يُقسِّم بالتَّرتيب الطعام على الوافدين مِن مُختلف الجهات حتى مرَّت السَّبع الشداد.

  • قال: "الخامسةُ: -وهيَ مِنْ كبارِ الفوائدِ-، كسرُ الشَّهواتِ التي هيَ منابِعُ المعاصي"

وسمَّاها مَجرى الشيطان: "إنَّ الشيطانَ يَجري مِنَ ابنِ آدمَ مجرى الدمِ فَضيِّقوا مجاريَهُ بالجوعِ". قال: "منابِعُ المعاصي، والاستيلاءُ على النَّفْسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ".

يقول ذو النُّونِ المصري: "ما شبعتُ قطُّ إلا عصيتُ، أو هممتُ بمعصيةٍ"، والمعصية في حقهم: كلُّ غفلة. 

"وقالَتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: "أوَّلُ بدعةٍ حدثَتْ بعدَ رسولِ اللهِ ﷺ.. الشِّبعُ، إنَّ القومَ لمَّا شبعَتْ بطونُهُم جَمَحَتْ بهِم نفوسُهُم إلى الدُّنيا". هكذا يروي عنها ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع، فأنكَرت بعده ﷺ، بمعنى: أنه كانوا يُحبون الشيء من الاقتصاد والاقتصار ولا يميلون إلى الشِّبَع، فأنكرت الناس بعده ﷺ، فقالت: "أوَّلُ بدعةٍ حدثَتْ" بعده ".. الشِّبعُ"

"وأمَّا شهوةُ الفرج فلا تخفى غائلتُها، والجوعُ يكفي شرَّها". وهكذا يقول: "كلُّ مريدٍ صبرَ على أكلِ الخَبزِ البحتِ" -يعني: الخالص- "سنةً، -و- لا يَخلطُ معَهُ شيئًا مِنَ الشَّهَواتِ، ويأكلُ بنصفِ بطنِهِ.. رفعَ اللهُ -تعالى- عنهُ مؤنةَ -وكُربة- شهوةِ النِّساءِ".

  • و"السَّادسةُ: خفَّةُ البدنِ -لأجل- التَّهجُّدِ والعبادةِ".

وقِلَّة النوم؛ لأنه بكثرة الأكل يحتاج إلى كثرة الشُُّّرب، ويحتاج إلى كثرة النوم. "وزوالُ النَّومِ المانعِ مِنَ العبادةِ، فإنَّ رأسَ مالِ السَّعادةِ العمرُ"؛ رأس مال الإنسان وموجِب السّعادة العُمُر.

 إِنَّمَا رَأْسُ مَالِكَ العُمْرُ فَاعْمُرْ *** هُ بِفِعْلِ الجَمِيلِ والمَكْرُمَاتِ 

وَاْتَّـخِذْهُ مَطِيَّــةً تَمــتَطِيهَا *** لِسُلُوكِ السَّبيلِ لِلدَّرَجَاتِ

 

رَأْسُ مَالِكَ العُمْرُ فَاْعمُرْ *** هُ بِفِعْلِ الجَمِيلِ والمَكْرُمَاتِ

رزقنا الله عمارة أعمارنا لما هو أحب، وأطيب، وأقرب، وأعظم، في المنزلة لديه والمكانة عنده.

أَلْبِدَارَ اْلبِدَارَ قَبْلَ الفَوَاتِ *** إِنَّمَا أنتَ عُرْضَةُ الآفَاتِ

بَادِر الفَوْتَ قَبْلَ أَنْ تَقْطَعنَّكْ *** دُونَ مَا تَشْتَهِي حُتُوفُ اْلمَمَاتِ

مَا أَرَاكَ مُشَمِّرًا وَاْللَّيَالي *** سَوْفَ تُدْنِي إِليْكَ مَا هُوَ آتِي

إِنَّمَا رَأْسُ مَالِكَ اْلعُمْرُ فَاعْمُرْ *** هُ بِفِعْلِ اْلجَمِيلِ والمَكْرُمَاتِ 

وَاْتَّخِذْهُ مَطِيَّةً تَمتَطِيهَا *** فِي سُلُوكِ اْلسَّبيلِ لِلدَّرَجَاتِ

وَجوَادًا تَطوِي عَليْهِ مَدى هـ *** ـذِهِ اْلدُّنيَا لِتَبْلُغَ الغَايَاتِ 
لِتَبْلُغَ الغَايَاتِ

بارك الله في أعمارنا؛ 

وبركة العمر إذا عمرك مضى وأنت طايع *** تعبد الله دائم وأنت خاشع وخاضع

"النَّومُ ينقصُ العمرَ؛ إذ يمنعُ مِنَ العبادةِ، وأصلُهُ كثرةُ الأكلِ". 

قال أبو سليمانَ الدَّارانيُّ: "مَنْ شبعَ.. دخلَ عليهِ ستُّ خصالٍ: فَقْدُ حلاوةِ العبادةِ، وتعذُّرُ حفظِ الحكمةِ"  -فإن الحافظة تقلّ مع كثرة الأكل-، وحرمانُ الشَّفقةِ على الخَلقِ؛ لأنَّه إذا شبعّ.. ظنَّ الخَلْقَ كلَّهُم شِباعًا، وثِقَلُ العبادةِ، وزيادةُ الشَّهَواتِ، وأنَّ سائرَ المؤمنينَ يدورونَ حولَ المساجِد، وهو- -بسبب كثرة أكله-- يدورُ حولَ المزابلِ" يحتاج إلى إخراج ما في بطنه فيتردَّد على الحمام وعلى المزابل كثيرًا؛ يُضيِّع وقته!

  • "السَّابعةُ: خفَّةُ المؤنةِ" 

"وإمكانُ القناعةِ بقليلٍ مِنَ الدُّنيا، وإمكانُ إيثارِ الفقرِ؛ فإنَّ مَنْ قَنَعَ.. تَخَلَّصَ مِنْ شَرَهِ بطنِهِ ولم يَفْتَقِرْ إلى مالٍ كثيرٍ، فيسقطُ عنهُ أكثرُ همومِ الدُّنيا"، لا إله إلّا الله، -إذا- "أرادَ أن يستقرضَ -لِأجل شهوةِ مِن شهوات بَطنِه- استقرضَ مِنْ نفسِهِ"؛ يعني: من صبرِها.

إِذا شِئتَ أَن تَستَقرِضِ المالَ مُنفِقًا *** عَلى شَهَواتِ النَّفْسِ في ساعةِ العُسرِ

ما عندك شيء وتستقرِض من أجل شهوة؛ ما هو من أجل الضرورة ولا من أجل نفقة؛ ولكن من أجل شهوة!

فَسَل نَفسَكَ الإِنفاقَ مِن كَنزِ صَبرِها *** عَلَيكَ...... 

أحسن يقول لك.. استقرض من النفس! من كنز الصبر وقل لها: هذه الأيام خلِّيكي كذا إلى أن يفتح الله تعالى. 

فَسَل نَفسَكَ الإِنفاقَ مِن كَنزِ صَبرِها *** عَلَيكَ وإرفاقًا إِلى زَمَنِ اليُسرِ

فَإِن فَعَــلَت كُـنتَ الغَنيَّ وَإِن أَبَت *** فَكُلُّ مَنُوعٍ بَعدَها واسِعُ العُذرِ
يقول أنتِ ما أردتِ تنفقين ونحن ما أردنا نُنفِق عليكِ.

فَكُلُّ مَنُوعٍ بَعدَها واسِعُ العُذرِ

 

قال: "فمهما أرادَ أن يستقرضَ لقضاءِ شهوةِ البطنِ.. استقرضَ مِنْ نفسِهِ، وتركَ شهوتَهُ".

قالوا لإبراهيم بن أدهم: الحاجة الفُلانية غالية، قال: أرخصوه! أرخصوه، قالوا: كيف نُرخِصها؟ قال: اتركوها ترخص، يشكُون من الغلاء وهم يعملون طوابير عليها! هذه الحاجة نفسها، ويبذُلون فيها المال! سيزيد الغلاء. قال: اتركوها، وازهدوا فيها؛ تلقائيًا بترخص؛ لكنكم أنتم تشتكون من شيء يَغلَى عليكم، وتحرصون عليه، وتبذلون المال فيه.. ما الذي سيُرخصه؟! إذا أردتموه أن يرخص اتركوه، استغنُوا عنه بشيء ثاني؛ فيبقى بضاعة كاسدة، فيَرخص، ويصير رخيصًا.

 

قال المؤلف -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم الصالحين في الدَّارين آمين:

فصلٌ فِي كيفيَّةِ التَّقليلِ منَ الطَّعامِ

 

"لعلَّكَ تقولُ: قد صارَ الشِّبَعُ والإكثارُ مِنَ الأكْلِ لي عادةً، فكيفَ أتركُها؟  

فاعلمْ: أنَّ ذلكَ يَسْهُلُ على مَنْ أرادَهُ بالتَّدريجِ، وهوَ أن يَنْقُصَ كلَّ يومٍ مِنْ طعامِهِ لُقمةً، حتَّى يَنْقُصَ رَغيفًا في مِقدارِ شهرٍ، فلا يظهرُ أثرُهُ، ويصيرُ التَّقليلُ عادةً. 

ثمَّ إذا رغِبتَ بالتَّقليلِ.. فلكَ نظرٌ في القَدْرِ، والوقتِ، والجِنسِ.

أمَّا القدْرُ.. فلهُ ثلاثُ درجاتٍ:

أعلاها -وهيَ درجةُ الصِّدِّيقينَ-: الاقتصارُ على قَدْرِ القِوامِ؛ وهوَ الذي يُخافُ مِنَ النُّقصانِ منهُ على العقلِ أو الحياةِ، وهوَ اختيارُ سهلٍ التُّسْتَرِيِّ، وكانَ يرى أنَّ الصَّلاةَ قاعدًا لضعفِهِ بالجوعِ أفضلُ مِنَ الصَّلاةِ قائمًا مَعَ قوَّةِ الأكلِ.

الثانيةُ: أَنْ تقنعَ بنصفِ مُدٍّ كلَّ يومٍ: وهوَ ثلثُ البطنِ، وهوَ عادةُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- وجماعةٍ مِنَ الصَّحابةِ، إذ كانَ قوتُ أحدِهِم في الأسبوعِ صاعًا مِنْ شعيرٍ. 

الثَّالثةُ: المُدُّ الواحدُ، وما جاوزَ ذلكَ فهوَ مشاركةٌ معَ أهلِ العادةِ، ومَيلٌ عن طريقِ السَّالكينَ مِنَ المسافرينَ إلى اللهِ تعالى. 

وقد يُؤثِّرُ في المقاديرِ اختلافُ الأحوالِ والأشخاصِ، وعندَ ذلكَ فالأصلُ فيهِ: أن يمدَّ اليَدَ إذا صدقَ جوعُهُ، ويَكُفَّ وهوَ بَعدُ صادقُ الاشتِهاءِ. 
وعلامةُ صدقِ الجوعِ: أن تشتهيَ أيَّ خُبزٍ كانَ مِنْ غيرِ أُدْمٍ، فإذا استُثْقِلَ الأكلُ بغيرِ أُدْمٍ .. فهوَ علامةُ الشِّبَع.

وأمَّا الوقتُ.. ففيهِ أيضًا ثلاثُ درجاتٍ:

أعلاها: أن يَطويَ ثلاثةَ أيامٍ فما فوقَها؛ فقدْ كانَ الصِّدِّيقُ -رضيَ اللهُ عنهُ- يطوي ستَّةَ أيَّامٍ، وإبراهيمُ بنُ أدهمَ والثَّوريُّ سبعًا، وبعضُهُمُ انتهى إلى أربعينَ يومًا، وقيل: مَنْ طَوَى أربعينَ يومًا.. ظَهَرَتْ لهُ -لا محالةَ- أشياءُ مِنْ عجائبِ الملكوتِ، ولا يمكنُ ذلكَ إلَّا بالتَّدريجِ.

وأمَّا الأوسطُ: فأن يطويَ يومينِ.

 والأدنى: أن يأكلَ في اليومِ مرَّةً واحدةً؛ فمَنْ أكَلَ في اليوم مَرَّتَينِ.. لم تكنْ لهُ حالةُ جوعٍ أصلًا، فيكونُ قد تركَ فضيلةَ الجوعِ.

وأمَّا الجنسُ:

فأعلاهُ: خُبزُ البُّرِّ معَ الإدامِ.

وأدناهُ: خبزُ الشَّعيرِ مِنْ غيرِ إدامٍ، والمُداوَمةُ على الإدامِ مكروهٌ جدًّا.

قالَ عمرُ -رضيَ اللهُ عنهُ- لولدِهِ: كُلْ مرَّةً خُبزًا ولحمًا، ومرَّةً خُبزًا وسَمنًا، ومرَّةً خُبزًا ولَبَنًا، ومرَّةً خُبزًا ومِلحًا، ومرَّةً خُبزًا قَفَارًا -يعني:بلا إدام-، فهذا تنبيهٌ على الأحسنِ في أهلِ العادةِ. 

وأمَّا السَّالِكونَ الطَّريقِ: فقد بالغوا في تركِ الإدامِ، بل في تركِ الشَّهواتِ جُملةً، حتَّى كانَ بعضُهُم يشتهي الشَّهوةَ عشرَ سنينَ وعشرينَ سنةً، وهو يخالفُ نفسَهُ ويمنعُها شهوتَها، وقد قال النَّبيُّ ﷺ: "شِرارُ أُمَّتِي.. الذين غُذُوا بالنَّعيمِ، ونَبَتَتْ عليْهِ أجسَامُهُمْ، وإنَّما هِمَّتُهم ألوَانُ الطَّعَامِ، وأنْوَاعُ اللِّبَاسِ، ويَتَشَدَّقُون فِي الكَلَامِ".
وقد شرحنا طريقَ السَّلفِ في تركِ الشَّهواتِ في (كتاب كَسْرِ الشَّهْوَتَين) مِنَ (الإحْياءِ).

 

رضي الله تعالى عنه.

يقول: "كيفيَّةِ التَّقليلِ منَ الطَّعامِ"، يقول: يعتاد أكثر الناس الشِّبَع، ويقول: هو لي "عادةً، فكيفَ أتركُها؟" قال: إنما يكون ذلك بطريق التّدريج، حتى ذكروا أنه إذا أراد أن يَجتهدَ فلا يجوز له أن يَقْطَعَ من الطعام ما يُضْعِف قوَّتَه، ولكن يتدرّج شيئًا فشيئًا؛ حتى لا تَنْقُص القوة ولا تَضْعُف، ومع ذلك يَقِلُّ أكْلُه. 

قال: مِثل أن "يَنْقُصَ كلَّ يومٍ مِنْ طعامِهِ لُقمةً واحدةً مما كان يعتاد -لا تؤثِّر عليه-، ويكون يُحَصِّل في مِقدار الشهر.. مقدار رغيف كامل -رغيف ينقص في خلال الشهر- بتنقيص اللُّقمة كل يوم.

فبعد ذلك؛ قال: "لكَ نظرٌ -من جهة- القَدْرِ، والوقتِ، والجنسِ"، قَدْر الطعام ووقته ومن أيِّ الأجناس هو.

  • أمَّا القدْرُ فلك فيها "ثلاث درجات":

"أعلاها -وهيَ درجةُ الصِّدِّيقينَ-: الاقتصارُ على قَدْرِ القِوامِ، وهوَ الذي يُخافُ منهُ"؛ إذا نَقَص عليه -على عقله أو على شيء من صحة أعضائه-، وهذا الرزق القُوام هو الذي قد ضَمِنَه تعالى.

قَدْ ضَمِنْ تَعَالَى، بِالرِّزْقِ الْقَوَام *** فِي الْكِتَابِ الْمُنْزَل، نُوْرًا لِلْأَنَام

في قوله: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود:6].

قال: هذا "اختيارُ -مثل- سهلٍ التُّسْتَرِيِّ -عليه رحمة الله تعالى-  وكانَ يرى أنَّ الصَّلاةَ قاعدًا لضعفِهِ بالجوعِ أفضلُ مِنَ الصَّلاةِ قائمًا مَعَ قوَّةِ الأكلِ"؛ فهذا مسلك بعض الأكابر من الصِّدِّيقين.

يقول و"الثانية: يكتفي بنحو "نصفِ مُدٍّ كلَّ يومٍ"، وهذا يكون في الغالب "ثلثُ البطنِ". قال: وهذا "عادةُ سيدنا عُمرَ وجماعةٍ مِنَ الصَّحابةِ، إذ كان قوتُ أحدِهِم في الأسبوعِ صاعًا مِنْ شعيرٍ"، وهو أربعة أمداد بمُدِّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ فيصل لكل يوم حدود نصف مُدٍّ، فيكفيهم في الأسبوع صاع. 
"الثالثة": "مُدُّ" في اليوم، ويحتاج إلى صاعين في الأسبوع إلا قليل، "فهو مشاركة مع أهل العادة" وخروج "عن طريق السَّالكين من المسافرينَ إلى اللهِ تعالى"،هذا على سبيل العموم؛ لكن قد يختلف "باختلافِ الأحوال واختلاف والأشخاص" وبعضهم تكون حاجته أو مُهمَّاته التي يقوم بها تحتاج إلى أكثر من الطعام، وهو يُذيب الطعام بما يقوم به من أعمال ومن ذكر وهكذا.

ويقول الحبيب أحمد بن محسن العطاس: كنت أمزح مع واحد من أصحابنا -كان عنده شيء من السِّمَن وكِبَر البطن، يقول له: خفِّف عن نفسك، يقول:أمزح معه قال: فخرجنا نُصلِح بين بعض القبائل وكانوا يُطعموننا اللَّبَن، فبدأت تظهر عليَّ آثار السِّمَن، وغلظ بطني ، قال: فجعل يقول لي، قال لي: يا أحمد، خلاص الآن بطنك قريب مِثلي، خفف بطنك. قال: لا تخف، سأسري بها الليلة بالبقرة وآل عمران وسيذوب هذا كله؛ فاهتز لها الرجل.

سأسري بها في الليل بالبقرة وآل عمران في القيام والتَّهجد، وسيذوب هذا الشَّحم كله.

"وعلامةُ صدقِ الجوعِ: أن تشتهيَ أيَّ خُبزٍ كان ولو مِنْ غيرِ أُدْمٍ،". لمَّا جاء بعض أهل الاقتصاد من الذين عندهم قِلَّة، جاء لأولاده بطعام، قالوا: بعد نريد له خصار -الإدام من اللحم- قال: طيب، اصبروا الآن أُحْضِر الخِصَار، ورفع الطعام عنهم. قال: اصبروا بجيب…؛ متى؟ قال: اصبروا…؛ صدق جوعهم. قالوا: ما عاد نبغى خِصَار! قال: خلاص جاء، الآن جاء الخِصَار؛ الجوع هذا الخِصار حقّكم؛ قال: لما صدق جوعكم الآن ارتضيتم به من دونه، فأخرجه لهم الآن كُلوا! أكلوه وطعمه طيب؛ لأنَّهم جاعوا. 

قال: "علامةُ.. الجوعِ: أن تشتهيَ أيَّ خُبزٍ كانَ -ولو- مِنْ غيرِ -إدام- فإذا استَثْقَلَ الأكلُ بغيرِ أُدْمٍ.." علامة أنه غير صادق في الحاجة إلى الطعام؛ هذا من جهة المقدار.

  • أما من جهة "الوقتُ.. -أيضًا له- ثلاث درجات":

فـأعلاها: ما عمل بعض الصحابة وبعض التابعين "أن "يَطويَ ثلاثةَ أيامٍ"، فيكون له في ثلاثة الأيام وقعة، "يَطويَ ثلاثةَ أيامٍ فما فوقَها؛ فقدْ كانَ الصِّدِّيقُ -رضيَ اللهُ عنهُ- يطوي ستَّةَ أيَّامٍ، -هكذا جاء عن سيدنا أبي بكر وعبد الله بن الزبير يطوي سبع- وإبراهيمُ بنُ أدهمَ والثَّوريُّ" أيضًا يطوون سبعة أيام.

"وبعضُهُمُ انتهى إلى أربعينَ يومًا، .. وقيل: مَنْ طَوَى أربعينَ يومًا.. ظَهَرَتْ لهُ -لا محالةَ- أشياءُ مِنْ عجائبِ الملكوتِ" لكن على الترتيب، ما هو هجوم من دون بيِّنة ولا بصِيرة، "ولا يمكنُ ذلكَ إلَّا بالتَّدريجِ".

وأمَّا الأوسطُ: "فأن يطويَ يومينِ".

 والأدنى: "أن يأكلَ في اليومِ مرَّةً، -وعلى مذهب الغزالي أنه إذا أكَلَ مَرَّتَينِ في اليوم- "لم تكنْ لهُ حالةُ جوعٍ أصلًا".

وآخِر ما استقر عليه حال أكثرالنَّاس: ثلاث وقعات -وجبات- يصلحونها في اليوم؛ ثلاث وقعات، فالشأن أنه لا يُبالغ في الاستكثار وينقِّص ولو مقداراللقمة يكون في ذلك خير له؛ هذا من جهة الوقت.

  • الثالث من جهة "الجنس -جنس الطعام-:

فأعلاهُ: "خُبز البُّرِّ معَ الإدامِ".

وأدناهُ: "خبزُ الشَّعيرِ مِنْ غيرِ إدامٍ، والمُداوَمةُ على الإدامِ مكروهٌ جدًّا". وفي الخبر أنَّ الله يكره أهل بيت اللَّحّامين؛ الذين ما يأكلون إلا باللحم في كل يوم، وينبغي أن يكون كما أرشد سيدنا عمر ولده عبد الله بن عمر؛ دخل عليه  وهو يأكل الخُبز واللحم، قال: "كُلْ مرَّةً خُبزًا ولحمًا، ومرَّةً خُبزًا وسَمنًا، ومرَّةً خُبزًا ولَبَنًا، ومرَّةً خُبزًا ومِلحًا، ومرَّةً خُبزًا قَفَارًا" خالصًا ما شيء فيه، يعني: تعوَّد على هذا وهذا، فلا تجعل الإدام أو نوع منه فرض لا بد منه لك. قال: "فهذا تنبيهٌ على الأحسنِ في أهلِ العادةِ". 

قال: "أما السَّالكونَ الطَّريقَ": "بالَغوا في ترك الإدام"، وبعضهم جلس سنوات نفسُه تطالبه بشيء من أنواع المأكولات أوالأُدم، فكان يُعرض عن ذلك ويتركه باختيارٍ مِنهُ مع قدرته عليه، وهذا في حق نفسه المُجاهد والمُهيَّأ لارتقاء الدرجات.

قالَ عمرُ -رضيَ اللهُ عنهُ- لولدِهِ: كُلْ مرَّةً خُبزًا ولحمًا، ومرَّةً خُبزًا وسَمنًا، ومرَّةً خُبزًا ولَبَنًا، ومرَّةً خُبزًا ومِلحًا، ومرَّةً خُبزًا قَفَارًا -يعني:بلا إدام-، فهذا تنبيهٌ على الأحسنِ في أهلِ العادةِ". 

وقال ﷺ: "شِرَارُ أُمَّتِي.. اْلَّذِينَ -غُذُّوا بِاْلنَّعِيمِ أو- غُذُوا بِاْلنَّعِيمِ، ونَبَتَتْ عَلَيْهِ أجْسَامُهُمْ، وإنَّما هِمَّتُهُمْ -مِن يُصبِح ويُمسِي- أَلْوَانُ الطَّعَامِ، وَأَنْوَاعُ اللِّبَاسِ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الكَلَامِ"، وتمر أعمارهم على هذا الحال؛ هذا صنف من شرار هذه الأمة، ممن أعرض عنهم الحق ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ همتهم كلها ألوان الطعام وأنواع اللباس، وموضات بعد موضات، ومفاخرات، وفي الصبح لباس وفي المساء لباس ثاني، وهكذا.. وروِّح وكلمان يعني: كلام- يتشدقون فيها يخوضون فيما لا يعنيهم وفيما لا ينفعهم، وعلى هذا الحال تنقضي أعمارهم الغالية، وهم في إفلاس من الكسب، من كسب الباقيات الصالحات وكسب الدرجات. 

الله يثبتنا على الاستقامة في جميع الشؤون، ويجعل ما نتناوله من الطعام قوةً لنا على طاعته وسببًا للقرب منه، ومن الشراب كذلك، ومن اللباس كذلك، ويجعل هَوانا تَبْعًا لما جاء به سيد أهل المسالك، حبيبه المُختار محمد صلى الله عليه وسلَّم وبارك عليه وعلى آله.

 

قال المؤلف -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم الصالحين في الدَّارين آمين:

الأصل الثّاني 

في شَرَهِ الكلامِ

"وذلكَ لا بدَّ مِنْ قطعِهِ؛ فإنَّ الجوارحَ كلَّها تُؤثِّرُ أعمالُها في القلبِ، لكنَّ اللِّسانَ أخصُّ بهِ؛ لأنَّه يُؤدِّي عنِ القلبِ ما فيهِ مِنَ الصُّورِ، فتقتضي كلُّ كلمةٍ صورةً في القلبِ مُحاكيةً لها؛ فلذلكَ إذا كانَ كاذبًا.. حصلَ في القلبِ صورةٌ كاذبةٌ، واعوجَّ بهِ وجهُ القلبِ، وإذا كانَ في شيءٍ من الفضولِ مستغنىً عنهُ.. اسودَّ بهِ وجهُ القلبِ وأظلمَ، حتَّى تنتهيَ كثرةُ الكلامِ إلى إماتةِ القلبِ.

ولذلكَ عظَّمَ رسولُ اللهِ ﷺ أمرَ اللِّسانِ فقالَ: "مَنْ يَتَكَفَّلْ لِي بِمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَرِجْلَيْهِ.. أَتَكَفَّلْ لَهُ بِالجَنَّةِ".

وسُئِلَ عن أكثرِ ما يُدخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فقالَ: "الْأَجْوَفَانِ: الفَمُ، وَالفَرْجُ". 

وقالَ ﷺ: "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!".

 وقالَ: "مَنْ صَمَتَ.. نَجَا".

وقالَ لهُ معاذٌ -رضيَ اللهُ عنهُ-: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ فأخرجَ ﷺ لسانَهُ، ووضعَ عليهِ يدَهُ، وقالَ: "إنَّ أَكْثَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ".

وقالَ ﷺ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ.. فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". 

وقالَ ﷺ: "مَنْ كَثُرَ كَلَاَمُهُ.. كَثُرَ سَقَطُهُ، ومَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ.. كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ.. فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ".

ولهذا كانَ الصِّدِّيقُ -رضيَ اللهُ عنهُ- يضعُ حجرًا في فيهِ؛ ليمنعَ نفسَهُ مِنَ الكلامِ".

فصلٌ

في بيانِ الاقتصارِ على المهمِّ مِنَ الكلامِ

"اعلمْ: أنَّ لِلِّسانِ عشرينَ آفةً، شرحناها في (كتابِ آفاتِ اللِّسانِ) مِنَ (الإحياءِ) ويطولُ ذكرُها هاهنا، ويكفيكَ العملُ بآيةٍ واحدةٍ؛ قال الله تعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 114].

ومعناهُ: ألَّا تتكلَّمَ فيما لا يعنيكَ، وتقتصرَ على المُهِمِّ، ففيهِ النَّجاةُ.

قالَ أنسٌ -رضيَ اللهُ عنهُ-: استُشهِدَ غلامٌ منَّا يومَ أُحُدٍ، فوُجِدَ على بطنِهِ صخرةٌ مربوطةٌ مِنَ الجوعِ، فمسحَتْ أُمُّهُ التُّرابَ عن وجهِهِ، وقالَتْ: هنيئًا لكَ الجنَّةُ يا بُنيَّ، فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "ومَا يُدْرِيكِ؟ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ".

وحدُّ مَا لا يعني: هوَ الذي لو تُركَ.. لم يَفُتْ بهِ ثوابٌ، ولم ينجرَّ بهِ ضررٌ. 

ومَنِ اقتصرَ مِنَ الكلامِ على هذا.. قلَّ كلامُهُ، فليُحاسِبِ العبدُ نفسَهُ عندَ ذكرِهِ مَا لا يَعنيهِ: أنَّه لو ذكرَ الله تعالى بدلًا عن تلكَ الكلمةِ.. لكانَ ذلكَ كنزًا مِنْ كنوزِ السَّعادةِ، فكيفَ يسمحُ العاقلُ بتركِ كنزٍ مكنوزٍ وأخذِ مَدَرةٍ؟! هذا لو لم يكنْ فيهِ إثمٌ، فإن كانَ فيهِ إثمٌ.. فهوَ كتركِ كنزٍ وأخذِ شعلةٍ مِنْ نارٍ!! 

ومِنْ جُملةِ ما لا يعني: حكايةُ أحوالِ الأسفارِ، وأحوالِ أطعمةِ البلادِ وعاداتِهِم، وأحوالِ النَّاسِ، وأحوالِ الصِّناعاتِ والتِّجاراتِ، وهوَ مِنْ جُملةِ ما ترى النَّاسَ يخوضونَ فيهِ".

 

يقول: الأصل الثاني في ضبط الكلام، والبعد عن شَرَهِ الكلام؛ كما أنه كذلك الطعام فكذلك الكلام؛ وهذا أحد الركنين من الأركان الأربعة التي يُقيم أهل السير إلى الله عليها رياضَتهم النفسية ورياضَتهم الروحية:

  • قلة الطعام.
  • وقلة الكلام.
  • وقلة المنام.
  • وقلة المخالطة للأنام.

ففي هذه الأربعة: أركان الرياضة أركان الرياضة للروح والترقيَة لها.

وكُنْ في طَعَام ٍوالمَنَامِ وَخِلْطَةٍ *** وَنُطْقٍ عَلَى حَدِّ اقْتِصَارٍ وَقِلَّةِ

والنَّفسَ رُضْها باعْتِزالٍ دائمٍ *** والصَّمْت مع سَهرِ الدُّجَى وتجوُّعِ    

وبالرِّياضَةِ من صَمْتٍ ومَخْمَصةٍ *** مع التَّخلِّي عن الأضّدادِ والسَّهرِ

هذه الأربعة، يقول:

بيتُ الولايةِ قَسَّمَتْ أركانَهُ *** ساداتُنا فِيهِ مِنَ الأبْدالِ

ما بَيْنَ صَمْتٍ واعتِزالٍ دائمٍ *** والجوعِ والسَّهرِ النَّزِيهِ الغَالِي

يقول: قلة الكلام والبعد عن الكلام فيما لا يعني؛ قال: "فإنَّ الجوارحَ كلَّها تُؤثِّرُ أعمالُها في القلبِ، لكنَّ اللِّسانَ.." أشدّ، بل يؤثِّر على بقية الأعضاء؛ كما صح في الحديث أنه "إذا أصبح ابنُ آدمَ؛ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تكفِّر اللسانَ، فتقول : اتقِ اللهَ فينا ؛ فإنما نحن بك ؛ فإن - استقمت استقمْنا وإنِ - اعوججتَ اعوججنا". إذا استقام اللسان استقامت العين والأذن والبطن والفرج، واليد، والرِّجل؛ وإذا اعوجّ اللسان اعوجت الأعضاء كلها؛ فلهذا يقول: 

  • (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) [الإسراء: 53].
  • (..وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..) [البقرة:83 ].
  • "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ".

قال: "اللِّسانَ أخصُّ -في التأثير على القلب- لأنَّه يُؤدِّي عنِ القلبِ ما فيهِ مِنَ الصُّورِ، فتقتضي كلُّ كلمةٍ صورةٌ في القلبِ محاكيةً لها"؛ ولهذا قال: لو نطق بالكذب يحصل "في القلبِ صورةٌ كاذبةٌ"، فيعوجّ به وجه القلب؛ وإذا تكلم في الفضول، ما يحصل اعوجاج في القلب، لكن يحصل شيء من الإظلام والاسوِداد هذا؛ "حتَّى -قد- تنتهيَ -به- كثرةُ الكلامِ إلى إماتةِ القلبِ."

"مَنْ يَتَكَفَّلْ لِي بِمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ"، وهو اللسان من جهة الكلام ومن جهة الطعام، "وَرِجْلَيْهِ" وهو الفرج "أَتَكَفَّلْ لَهُ بِالجَنَّةِ". 

وجوابه عن السؤال لما سُئل "أكثرِ ما يُدخِلُ النَّاسَ النَّارَ فقال"اَلْأَجْوَفَانِ: الفَمُ، وَالفَرْجُ". قالوا: فما أكثر ما يُدخِل الناس الجنة؟ قال: "تقوى الله وحسن الخُلق". 

"وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ -يقول لسيدنا معاذ- "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ - في النار- عَلَى مَنَاخِرِهِمْ.. إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!"؛ نتيجة ما تكلموا به في الدنيا، "إنَّ الرَّجُلَ ليتكَلَّمُ بالكَلِمةِ يُضحِكُ بها جُلَساءَه، يَهْوي بها مِن أبْعدَ مِن الثُّرَيَّا".

وهكذا روى لنا هذه الأحاديث؛ "مَنْ كَثُرَ كَلَاَمُهُ.. كَثُرَ سَقَطُهُ.." يعني: ما لا يعنيهِ من الكلام، "ومَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ.. كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ.. فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ"، "ولهذا كانَ الصِّدِّيقُ -رضيَ اللهُ عنهُ- يضعُ حجرًا في فيهِ؛ ليمنعَ نفسَهُ مِنَ الكلامِ"؛ فكان أكثر كلامهم ذكر الله وتلاوة كلامه والصلاة على نبيّه والتعلم والتعليم، هذا أكثر ما يخوضون فيه.

وقال: "لِلِّسانِ عشرينَ آفةً"، فسيذكر بعضها في الفصل الذي بعد هذا وقال: "يكفيكَ العملُ بآيةٍ، قال ربك: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ..) أي: المخاطَبات والمكالمات بينهم البين، (..إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ..) [النساء: 114]، فلهم في هذا الكلام خير؛ معناه: لا تتكلم فيما لا يعنيك وتقتصرعلى المهم ففيه النجاة. 

وذكر الحديث هذا عند ابن أبي الدنيا وأبي يعلى في مُسنده: لمّا مسحت أُمّ الغلام الطين عن وجه ولدها، وكان رابطًا حجرًا على بطنه من الجوع -وقد استشهد-، "وقالَتْ: هنيئًا لكَ الجنَّةُ يا بُنيَّ؛ فقال "ومَا يُدْرِيكِ؟ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيِهِ، وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ"، وفيه أن بعض الكلام يُفوِّت على الإنسان ثواب الشهادة، "وحدُّ مَا لا يعني: هوَ الذي لو تُركَ.. لم يَفُتْ بهِ ثوابٌ"، ولم يحصل بسبب السكوت ضرر عليه، لا في دينه ولا في دنياه. 

قال: فمن "اقتصرَ" على ما يعنيه من الكلام.. "قلَّ كلامُهُ"؛ وينظر أنه بدل الكلام في "مَا لا يَعنيهِ: أنَّه لو ذكرَ الله تعالى" فيُحصِّل بذلك درجات؛ "لكانَ ذلكَ كنزًا مِنْ كنوزِ السَّعادةِ" قال : "لا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ كَنزٌ مِن كُنوزِ الجنَّةِ"، "وأَفضَلُ ما قُلْتُ أنا والنَّبيُّونَ مِن قَبْلي لا إلهَ إلَّا اللهُ".
فالله يرزقنا صرف أعضائنا فيما يرضيه عنَّا وما يقرّبنا إليه، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

إذا أراد الإنسان أن يزِنَ نفسه يستطيع وزنها في مقدار ما يأكل، فكيف.. يقول سائل: كيف يُقَدِّر آخر لقمة يتركها؟ من حيث ما يعتاد ويشتهي، فيعلم أنه يريد تناول هذه اللقمة فيترك اللقمة؛ فهو بإقامته الميزان على نفسه يستطيع أن يُرتِّب نفسه.

فكذلك كما أشرنا، أنه صار عادتنا -غالبًا تناول الثلاث الوقعات -في غير أيام الصوم- في اليوم والليلة؛ ففيها نفسها، لا نُبَالغ في التَّعلق بالأُدم الكثيرة، ولا نبالغ في الشَّرَه في الأكل، والاقتصار على القليل؛ ولكن الأهم في هذا كله أنْ: 

  • نُحسن النظر في الحِلّ، ونتوقّى الشُّبُهات.
  • ونستحضِر نيَّة التّقوِّي على الطَّاعة والعِبَادة.
  • ثم نعمل بالسُّنن: 
  • من الأكل باليمين.
  • ومن غسل اليدين قبل الطعام. 
  • ومن إحكام المضغ.
  • وما تعلق بذلك من آداب الطعام. 

فهذا هو المهم علينا؛ إذا قمنا به حصَّلنا خير كثير. 
وكان يقول الحبيب علوي: "إذا قصُرَت بكم الهمم والنيات، كلوا ما تأكلوا؛ ولكن قوموا بطاعة الله، ولا تركنوا إلى الغفلة، ولا تحدِّثُوا أنفسَكم بالمعاصي، وما توجَّه عليكم الخطاب الذي توجّه لأرباب السير والسلوك في القرون السابقة، وما تيسر لكم من غير شبهةٍ، فضلًا عن الحرام، فتناولوا منه ما تيسر لكم، وما القصدُ إلا ألَّا تغفلوا به عن الله -سبحانه وتعالى-، ولا تُبالغوا في الإكثار منه فتنقطعوا عن العبادات. 

 

رزقنا الله حسن النظر فيما يرضيه عنَّا، وتولَّانا بما هو أهله في الحس والمعنى، وثبَّتنا على ما يحبه منَّا ويرضا بهِ عنَّا في جميع شؤوننا، ولا وكلنَا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر في عافية.

 

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ 

إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

تاريخ النشر الهجري

27 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

21 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام