الأربعين في أصول الدين - 2 | العلم، الإرادة، السمع والبصر، الكلام، الأفعال

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثاني للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . مواصلة شرح القسم الأول: في جمل العلوم وأصولها (من الأصل الرابع إلى الثامن: العلم، الإرادة، السمع والبصر، الكلام، الأفعال)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر الخميس 20 صفر 1447هـ

> من السؤال إلى اليقين: لماذا يقع كلّ شيء بإذن الله؟ وكيف نفهم كلامه الأزلي؟ ولماذا لا يُقاس عدلُه بعدلنا؟ يوضح الحبيب عمر بن حفيظ في الدرس بمنهجٍ يوازن بين النصّ والعقل، وأدلةٍ محكمةٍ من القرآن والسنّة، مع تطبيقاتٍ عمليةٍ تُقرِّب المعنى من السلوك.

 

نص الدرس المكتوب : 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

 

الأصل الرابع

في العلم

 

"وَأَنه عَالم بِجَمِيعِ المعلومات، مُحِيط بِمَا يجْرِي فِي تخوم الْأَرْضين إِلَى أَعلَى السَّمَوَات، لَا يعزب عَن علمه مِثْقَال ذرة فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء، بل يعلم دَبِيب النملة السَّوْدَاء على الصَّخْرَة الصماء فِي اللَّيْلَة الظلماء، وَيدْركُ حَرَكَة الذَّر فِي جو الْهَوَاء، وَيعلم السِّرّ وأخفى، ويطلَّع على هواجِس الضمَائر، وحركاتِ الخواطر، وخفياتِ السرائر، بِعلمٍ قديمٍ أزليٍ، لم يَزل مَوْصُوفا بِه فِي أزلِ الآزالِ، لَا بِعلمٍ مُتَجَدِّد حَاصِل فِي ذَاته بالحلول والانتقال".

 

-جلّ جلاله-؛

الحمد لله، ويُواصِل الشيخ -عليه رحمة الله- ذكر الأصول في معرفة الحق -جل جلاله-، وذكر الأصل الرابع في العلم؛ وهو أحد ما نصّ الحق -تعالى- عليه في القرآن أنّه من الحكمة العظيمة في خلق ووجود هذا الإنسان والكائنات والسماوات والأرض وما بينها، فيما تَلَوْنَا من قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق: 12].

 

فغايةُ ما يَنتهي إليه المُوفَّق المَسعود من المؤمنين بالله -تعالى- على ظهر هذه الأرض رسوخ قدمِه في علمِ أنَّ الله على كل شيءٍ قدير، وأنّه قد أحاط بكل شيء علمًا؛ ويستدعي هذا معرفته ببقيَّة ما أوجَب علينا وفرضه، وانتدبنا إليه من معرفة صفاته، وأسمائه، وعظمته وملائكته، وأنبيائه، ورسله، ولقائِه، واليوم الآخر، والرجوع إليه -جل جلاله-.

 

يقول: "وَأَنه عَالم بِجَمِيعِ المعلومات" وهذا هو الإطلاق الذي لا حد له ولا حصر.

(..وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق: 12].

(..وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الحديد: 3].

فهذا من العُموم الذي لا تخصِيص فيه ولا حدَّ له، "مُحِيط بِمَا يجْرِي فِي تخوم الْأَرْضين إِلَى أَعلَى السَّمَوَات، لَا يعزب"  أي: لا ينقطع- ولا  يتأخر عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، كما ذكر ذلك في كتابه العزيز؛ "بل يعلم دَبِيب النملة السَّوْدَاء -وعدد حركات أرجلها- على الصَّخْرَة الصماء" لو فرضنا أنَّها في صخرةٍ صمَّاء في ليلةٍ ظلماء، فهذه النملة السوداء وسط الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، ولو رُمي بها في أعماق البحار-؛ فإنَّ الرحمن -سبحانه وتعالى- يطَّلع عليها ويعلمها ويراها، ويرى -سبحانه وتعالى- المخ  في ساقها، ولا يحيط بعلمه محيط.

 

قال: "وَيدْركُ حَرَكَة الذَّر فِي جو الْهَوَاء، وَيعلم السِّرّ وأخفى"، 

أخفى من السر: ما لم يعلم به الإنسان في باطنه مما سيطرأ عليه، ومما سيجيء، فهو أخفى من السر. 

السر: ما أكنّه في ضميره، وأسرّه في باطنه. 

لكن أخفى من السر ما لم يخطر على باله بعد ولم يدرِ به. فعلمه محيط بما كان وما يكون، وما هو كائن وما يكون كيف يكون، وما لا يكون ولو كان ما لا يكون كيف يكون. فعلمه -سبحانه وتعالى- علم مطلق لا حد له.

 

وعلمه مع ذلك "قديمٍ أزليٍ" لا يحدث، وهو محيط بالكليات والجزئيات؛ خلافًا لمن أنكر ذلك من بعض الفلاسفة، وادّعوا أن علم الرحمن -تعالى- إنما هو بالكليات لا تفصيل الجزئيات. وقد قال الله الرحمن -تعالى- وهو خالق الكل: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14]. بل هو أعلم بكل شيء من نفس ذلك الشيء بنفسه. 

"يعلم السِّرّ وأخفى" فهو يعلم من سرِّي ما لا أعلمه أنا من سرِّي، وما لا أطلع عليه أنا من سرِّي وجهري؛ ويعلم من سرِّي وجهري ما لا أعلمه أنا من سرِّي ومن جهري -جل جلاله-.

"ويطلَّع على هواجِس الضمَائر، وحركاتِ الخواطر" ويسمع وقع الخواطر في القلوب؛ "وخفياتِ السرائر، بِعلمٍ قديمٍ أزليٍ" ليس بحادث؛ وهذا هو الميزة في علم الله تبارك وتعالى -كما ذكرنا في البارحة- أن جميع أسمائه وصفاته مهما أُطلِق لفظها على شيء من الكائنات، فالمعنى آخر بعيد، لائقٌ بالكائنات بعيدٌ عن وصف الحق -تبارك وتعالى- وأسمائه فمنه هذا العلم. علمه قديم والكائنات حادثة وعلمُها حادث، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل: 78].. وسائل العلم؛ فعلَّمكُم ما قدَّر لكم أن تعلموا، قال تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة: 255]

ومن أعلَم خلقِه بِه وبعظمته وآياته الملائكة المقرَّبون -عليهم سلام الله-، ومع ذلك؛ فلما سألهم عن الأسماء ما عرفوها؛ (..فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖإِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) [البقرة:31-32]؛ (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216] فالعلم له.

 

علمه قديم أزلي لا يتجدد منه شيء ولا يُحدِث، وهو علم محيط بكل شيء من الأزل إلى الأبد، لا إله إلا هو. "لم يَزل مَوْصُوفا بِه فِي أزلِ الآزالِ.." قبل خلقه الخلق؛ "لَا بِعلمٍ مُتَجَدِّد حَاصِل فِي ذَاته بالحلول والانتقال" بخلافِ علوم المخلوقات فإنها تزيد وقابلة للزيادة. وقال الله لأعلم خلقه به على الإطلاق وهو حبيبه محمد ﷺ، قال له: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه: 114].

 

..فالله يرزقنا الأدب معه، ويزيدنا علوم ومعارف وفهوم واسعة؛ نرتقي بها في مَراقي المعرفة به، ويوفر الله حظنا من ذلك.

 

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: 

 

"الأصل الخامس في الإرادة: وأنَّه -سبحانه- مُريد لِلْكَائِنَاتِ، مُدَبِّرٌ لِلْحَادِثَاتِ، فَلَا يَجْرِي فِي الْمُلْكِ والمَلكوت قليلٌ أو كثيرٌ، صغيرٌ أو كبيرٌ، خيرٌ أو شرٌ، نفعٌ أو ضرٌ، إيمانٌ أو كفرٌ، عرفانٌ أو نكرٌ، فوزٌ أو خسرانٌ، زيادةٌ أو نقصانٌ، طاعةٌ أو عصيانٌ.. إِلَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَحُكْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ فَمَا شَاءَ.. كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ.. لَمْ يَكُنْ.

 

لا يخرُجُ عن مَشِيئَتِهِ لفتةُ ناظرٍ، ولا فلتَةُ خاطرٍ، بل هو المُبدِئُ المُعِيد، الفعَّالُ لمَا يرِيدُ، لا رادَّ لحُكْمِه، ولا معقِّبَ لِقضائِه، ولا مهربَ لعبدٍ عن معصيَتِه إلا بتَوفِيقهِ ورحمَتِهِ، ولا قوةَ لهُ على طاعَتِه إلاَّ بمَعونَتِهِ وإرَادَتِهِ. 

لو اجتَمعَ الإِنسُ والجِنُّ والمَلائِكةُ والشياطِين على أنْ يُحرِّكُوا في العَالم ذرَّة أو يسكِّنُوها دون إرادَتِهِ ومشِيئَتِهِ.. لعَجَزُوا عن ذلك. 

وأن إرَادَتَهُ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِه، في جُملةِ صفاتِهِ، لم يَزَل كذلك موصُوفًا بها، مُريدًا في أزلِهِ لوجُودِ الأشياءِ في أوقاتِها التي قدَّرها، فوُجِدَت في أوقاتِها كما أرادَهُ في أزَلِه، من غيرِ تقدُّمٍ ولا تَأخرٍ، بل وقعَت على وِفقِ علمِهِ وإرادَتِهِ من غيرِ تَبدُّلٍ ولا تغيُّرٍ. 

دبَّر الأمورَ لا بترتيبِ أفكَارٍ وتَربُّصِ زمانٍ، فلذلك لم يَشغَلهُ شأنٌ عن شَأن". 

 

-جل جلاله وتعالى في علاه-.

وهذا الأصل الخامس في بَيانِ وصفِ ربنا -سبحانه وتعالى- بالإرادة التي تعرَّف بها إلينا في كتابه العزيز -جل جلاله-، فقال: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)[البروج:16] -سبحانه وتعالى-، وأنه لا يكون شيء إلا بإرادته -سبحانه وتعالى-. وهذه إرادته الصفة القائمة بذاته العليَّة -أيضًا- إرادة أزلية قديمة.

 وأنَّه -سبحانه- مُريد للكائنات، فلا يكون إلا ما أراد، مدبِّر للحادِثات كما تقدَّم معنا في قيُّومِيته على كل شيء من الكائنات والموجودات. 

"فَلَا يَجْرِي فِي الْمُلْكِ والمَلكوت" أي: في عالم الشهادة ولا عالم الغيب، لا عالم الظاهر ولا عالم الباطن؛ "قليلٌ أو كثيرٌ، صغيرٌ أو كبيرٌ، خيرٌ أو شرٌ، نفعٌ أو ضرٌ، إيمانٌ أو كفرٌ، عرفانٌ أو نكرٌ، فوزٌ أو خسرانٌ، زيادةٌ أو نقصانٌ، طاعةٌ أو عصيانٌ" وجميع ما هو جارٍ في الأكوان؛ لا يكون شيء من ذلك إلا بقضائِه وقدره -جل جلاله-.

 

وما الفرق بين القضاء والقدر؟ 

  • على اختلاف: أنَّ أحدهما إرادته الأزلية والثاني ظهور ذلك في وقته. 
  • وقيل: إن القضاء ما قضاه في الأزل، والقدر بروز ذلك على ما سبق في علمه وما قضاه في أزله. 
  • وقيل: إن القدر تقدير الأشياء في الأزل والقضاء وجودها. 
  • والراجح فيه: أنَّ قضاءه ما كان حَكَمَ به في الأزل، وقدَرُهُ بروز ذلك المحكوم به على وجهه، وعلى هيئته في الوقت الذي قدَّره، وعلى الكيفية التي قضاها في الأزل وأرادها -سبحانه وتعالى-. 

فلا يكون كائن إلا بقضائه وقدره. وقال ﷺ في جوابه على سيدنا جبريل لما جاء في صورة السائل وسأله عن الإيمان، قال: "..وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى".

 

فقضاء الله وقدره مُلازم لكل شيء، فلا يكون شيء إلا بقضائه وقدره وحُكمِهِ ومشيئته -سبحانه وتعالى-. فالأمر كما قال: "مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ". 

وفي ذلك أبيات لسيدنا الإمام الشافعي يقول مخاطبًا للإله:

مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ *** وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ

خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَدْتَّ *** فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ

عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ *** وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ

 

يقول: "لا يخرُجُ عن مَشِيئَتِهِ لفتةُ ناظرٍ" فما يمكن أن يلتفت الناظر إلا بمشيئته، ولا تتحرك إصبع إلا بمشيئته، ولا يبسط طائر جناحيه إلا بمشيئته، ولا ترفع نملة رجلها ولا تحطُّها إلا بمشيئته. "لا يخرُجُ عن مَشِيئَتِهِ لفتةُ ناظرٍ، ولا فلتَةُ خاطرٍ" جميع الخواطر التي تخطر على بال أي مخلوق كلها بمشيئته -سبحانه وتعالى-. واستقامة الخواطر في الباطن وصلاحها يجري من الباطن مجرى العافية في الجسد، مثل الصحة والعافية في الجسد. وفساد الخواطر وتخيُّل ما لا يليق أو ما لا يكون -ما هو مستحيل- يجري مجرى المرض في الجسد؛ فهو في الباطن كالمرض في هذا الجسد محل الأمراض في الأجساد. وكلما زيّن المؤمن باطنه بالحضور مع الله وهو استشعاره أنه يراه ويطلع على ما في ضميره وباطنه، كلما دفع الله عنه خواطر السوء.

 

وكما علمنا أن الخواطر كلها بإرادة الله:

  • ومرجعُها إما إلى تفضُّل منه مباشرة من دون واسطة، وهذا يقال له: الخاطر الربَّاني. 
  • وإما أن يكون بواسطة الملك وهذا الذي يسمى الإلهَام
  • وإما ما يكون من جهة الشيطان وما تحدِّث به الشياطين العباد في بواطنهم، وهذا يقال له الوسواس
  • وإما أن يكون من قِبل النفس وهواها وحديث النفس. 

فهناك الخاطر ربَّاني، ونفساني، وملكي، وشيطاني؛ وهذه أنواع ما يخطر على بال الإنسان. 

  • والخاطر الربَّاني: قوي لا يستطِيع دفعه. 
  • والخاطر الملكي: تصحبه الطمأنينة ويقوى بالذكر؛ يقوى بذكر الله -تبارك وتعالى-. 
  • والخاطر الشيطاني: لا تكون معه الطمأنينة ويخنس بذكر الله، يضعف بذكر الله -تبارك وتعالى-. 
  • والخاطر النفساني: يكون مُتشبِّث بأمرٍ مُتعلِّق بالهوى لا يضعف إلا بذكر الموت، واستشعار الموت؛ فاستشعار الموت والخروج من الحياة يُضعف الخاطر النفساني.

لأنَّ الخاطر الذي مصدره النفس -يجعله الله بواسطة النفس- تَذكُر الله.. ما تشعر بأثر ضعفه ولا ذهابه! إلا إن غلَبك الذكر واستغرَقَك؛ فإذا لم يستغرِقُك الذكر، ما تجد له أثر؛ بخلاف الخاطر الشيطاني؛ فبمجرد ذكر الله تعالى يخنس (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)[الناس:4] الذي يخنس عندما يُذكر الله، وإنما يتسلط على الغافل عن الله. (وَمَن يَعْشُ..) أي: يغفَل (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)[الزخرف:36]، فإذا ذكرت الله ذهب. (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)[الزمر:45] فيضعف بذكر الله. 

والخاطر النفساني مُتشبِّث بالإنسان على أمر معين هواه، يذكر الله.. وما يرى ضعفه! لكن استشعاره للانتقال من هذه الحياة والموت هو الذي يُضعِف هذا الخاطر النفساني. 

وإذا استجاب الإنسان لخاطر المَلك، أسلَمَه المَلك إلى مَلك، ومن مَلك إلى مَلك، فيتنقَّل بين خواطر الخير ووارِدَات الفضل الربَّاني. 

وإذا أصغى لخاطر الشيطان، أسلَمَه الشيطان إلى شيطان، ومن شيطان إلى شيطان، فلا يزالون يضحكون عليه ويلعبون به في الخواطر السيئة؛ وقانا الله شرَّها.

 

"لا يخرُجُ عن مَشِيئَتِهِ لفتةُ ناظرٍ، ولا فلتَةُ خاطرٍ، بل هو المُبدِئُ المُعِيد" المُبدئُ يعني: المنشئ، المُعِيد الذي يردُّ الشيء من حالِ إلى حال. 

"الفعَّالُ لمَا يرِيدُ، لا رادَّ لحُكْمِه" لا يملك مَلك ولا إنسيّ ولا جنيّ، فرد ولا جماعة ولا كائن من الكائنات، ردَّ شيءٍ حكمَ به -سبحانه وتعالى-. 

"ولا معقِّبَ لِقضائِه، ولا مهربَ لعبدٍ عن معصيَتِه إلا بتَوفِيقهِ ورحمَتِهِ، ولا قوةَ لهُ على طاعَتِه إلاَّ بمَعونَتِهِ وإرَادَتِهِ" وهذا أحد معاني قولنا: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". 

لا حول أي: لا تحوّل عن المعصية والبُعد عنها إلا بالله، 

ولا قوة: على الطاعة والعبادة إلا بالله.

وكل حولٍ وقوة لا يكون إلا بالله -جل جلاله-. حتى لا يستطيع أحد رفع رجله، بل ولا حركة إصبعه، بل ولا رَمش عينه، ولا تحريك طائر لجناحه، ولا رفع قائمة من قوائم الحشرات إلا بقدرته وإرادته -سبحانه وتعالى جل جلاله-.

 

"ولا مهربَ لعبدٍ عن معصيَتِه إلا بتَوفِيقهِ ورحمَتِهِ".

وقانا الله بتوفيقه ورحمته جميع الذنوب والمعاصي. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين مَعاصِيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك.ة، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا.

 

قال: "ولا قوةَ لهُ على طاعَتِه إلاَّ بمَعونَتِهِ وإرَادَتِهِ. لو اجتَمعَ الإِنسُ والجِنُّ والمَلائِكةُ والشياطِين على أنْ يُحرِّكُوا في العَالم ذرَّة أو يسكِّنُوها دون إرادَتِهِ ومشِيئَتِهِ.. لعَجَزُوا عن ذلك" لعجزوا، لعجزوا، لعجزوا. ولا يقدر مَلك ولا إنسيّ ولا جنيّ على أن يحرِّك ذرة ولا يسكِّنها من دون إرادته -سبحانه وتعالى-، ومن دون مشيئته. وهذا حُكم الألوهية والربوبية التي استبدَّت بالخلق والإيجاد، فهو كذلك في عظمته وجلاله. وما يُعطَى الخلائق من إرادة فالحال كما ذكرنا؛ إذا وُصِفَت الإرادة للعبد فإرادة العبد غير معنى الإرادة بالنسبة للحق -جل جلاله-. 

ويُعطَى الإرادة في أشياء محدودة يحدَّها له -سبحانه- بإرادته، فيكون فرق بين ما للإنسان فيه إرادة واختيار وما ليس للإنسان فيه إرادة واختيار. وفي هذا المضمار؛ جاء سر التكليف للمُكلفين من الإنس والجن، فيما أدخله الله بإرادته تحت إرادة لهم واختيار منهم -جل جلاله-.

 

وما من عاقل في الوجود لا يفرق بين حركة المرتعش بسبب المرض من دون اختيار، وبين حركة من يرفع شيئًا ويحطُّه ويحمل الكأس ويرفعه؛ هذه حركة غير هذه الحركة، هذه حركة فيها اختيار، وتلك بلا اختيار. فكذلك بإرادته رتَّب ما جعل للناس فيه مجال قدرة واختيار، وما لا قُدرة لهم عليه، ولا اختيار لهم فيه. 

  • وأناطَ التَّكليف بما أدخله تحت حيِّز ما أعطاهم من قدرةٍ واختيار -جل جلاله وتعالى في علاه-. 
  • وما لا إرادة لهم فيه ولا اختيار، فقد رَفع القلم عنهم فيه، فلا يؤاخِذهم به. 

ولكن يؤاخِذهم بما أدخلَه تحت دائرة إرادتهم واختيارهم؛ وإن كانوا هم وما يختارون وما لا يختارون كله تحت إرادته. 

فدخل ما دخل تحت إرادتهم بإرادته، وخرج ما خرج عن إرادتهم بإرادته، وهو الذي أراد هذا وأراد هذا، فإِرادَته فيما أدخله تحت اختيارنا كإرادَته فيما لم يُدخله تحت اختيارنا.. إرادة واحدة. ما نقدر عليه وما لا نقدر عليه.. كله إرادته فيه واحدة، هو الذي رتب هذا وهو الذي رتب هذا. إنما برحمته جعل المُؤاخذة والتكليف فيما أدخله تحت إرادتنا واختيارنا، وما خرج عن ذلك فـ (..لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..)[البقرة:286] -جل جلاله وتعالى في علاه-.

 

قال: "وأن إرَادَتَهُ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِه" وفي أيام -أيضًا- كانت آثار من آثار الشيوعية في بعض نواحي اليمن، وهي شيء من الفتن السابقة؛ وكان قد يتقابل بعضهم يتقاتلون، فكان بعض أرباب التَّمكين في الإيمان؛ وإن كان الأمر أيضًا ليس على وجهِ عموم السنَّة الإلهية؛ يُناوِل المُعادِي -هذا من الذي يغتَر بكلام الشيوعيين- يناوله البُندق ويقول له: "امسك إن كان بقدرتك أو بقدرة جماعتك تضرب، اضرب! ولا يقدر ذلك أن يتحرك بشيء. فالأسباب والمسببات كلها دخلت تحت إرادته واختياره. 

وإذا أراد شيء تحت اختيارك أن يخرج من اختيارك.. خرج! في أي وقت كان. كنت تقدر، والآن ما تقدر؛ أمس كنت تقدر عليه، اليوم ما تقدر عليه؛ أمس كنت عاجزًا عنه، اليوم أقدَرَك عليه. فالأمر كله دائر تحت مشيئته وإرادته -جل جلاله-. والخطابُ عليكَ فيما أدخله تحت إرادتك كيف تتصرف فيه (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2] -جل جلاله العزيز الغفور سبحانه-.

 

"وأن إرَادَتَهُ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِه، في جُملةِ صفاتِهِ، لم يَزَل كذلك موصُوفًا بها، مُريدًا في أزلِهِ لوجُودِ الأشياءِ في أوقاتِها التي قدَّرها" فلا يتقدم ولا يتأخر شيء عن وقته. وكل الناس الموجودين على ظهر الأرض، من منهم اختار وقت تكوينه؟ وقت تكوين جسده، وقت خروجه من بطن أمه من؟! أحد عبقري هو اختار؟! اختار ماذا؟.. ما يختار. 

هو الله الذي اختار زمانه ويقدّره؛ يقول أحد أنا أحسن أكون في القرن كذا؟ ولا قرن كذا ولا القرن كذا؟! ولا أنت داري بالقرون؟! هو الذي يُسيِّرها. ويوم خلقك لا كنت تعلم شيء،  وجعل لك سمع وبصر فعرفت القرون، وعرفت الأوقات، وإلا متى جئت أنت أصلا؟! وما أحد منهم له اختيار لا في وقته ولا في مكانه. من منهم اختار أنه يولد في المكان الفلاني؟! الموجودون هؤلاء كلهم، أحد منهم اختار؟ ما اختار، لا اختار المكان ولا اختار الزمان، ولكن -سبحانه وتعالى- قدَّرَ هكذا. فيصِل كل شيء على الحال الذي أراده، في الوقت الذي أراده، بالهيئة التي أرادها، بالتقدير الذي أراده، ويبقى أيضًا متطور بالأطوار التي أرادها، وينتهي في الوقت الذي أراد انتهائه فيه -جل جلاله وتعالى في علاه-.

ولا يخرج عن ذلك أحد، لا مقرب ولا مبعود، لا محبوب ولا مبغوض، كلهم تحت هذا القهر الإلهي، والإرادة الربانية؛ وهو في ذلك الحكم العدل. 

 

"وأن إرَادَتَهُ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِه، في جُملةِ صفاتِهِ، لم يَزَل كذلك موصُوفًا بها، مُريدًا في أزلِهِ لوجُودِ الأشياءِ في أوقاتِها التي قدَّرها، فوُجِدَت في أوقاتِها كما أرادَهُ في أزَلِه، من غيرِ تقدُّمٍ ولا تَأخرٍ، بل وقعَت على وِفقِ علمِهِ وإرادَتِهِ من غيرِ تَبدُّلٍ ولا تغيُّرٍ".

ومن خلال هذه الحيثيّة أيضًا، يُعلم اختصاص الحق -تعالى- للمؤمنين الذين جعلهم في أزمنة أنبيائه، جعلهم في زمانهم، ما أحد يختار الزمن، هو يختاره. جعله مؤمن في وقت النبي فيصير صاحب من أصحاب النبي، هذا ما يجيء باختيار أحد؛ ومن الذي رتَّب زمانه أن يكون في وقت نبيه؟! ومن هنا يُعرف قدر الصُحبة للمؤمنين الذين لقوا رسول الله ﷺ ورأوه وجَالسوه، فالله رتَّب وقتهم في ذاك الوقت، وخلقَهم في ذلك الوقت والتقدير. لذا يقول: "واخترتهم في سابقِ الإقتِدَار أنَّهم أصحاب نبيك". ما أحد يقدر يُؤخِّر زمان أحد ولا يُقدِّمه. فجعل في زمن أحب أحبابه.. فلان وفلان وفلان من المؤمنين به، فجعلهم صحابته، وجعل من آله فلان وفلان وفلان وجعلهم آله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

"دبَّر الأمورَ لا بترتيبِ أفكَارٍ وتَربُّصِ زمانٍ" فهذا تدبير الخلائق، والخالق أجل وأكبر -جل جلاله-. "فلذلك لم يَشغَلهُ شأنٌ عن شَأن" مُحيط بجميعِ الأشياء، لا تختلط الأصوات عليه، ولو يسأله من في السماء ومن في الأرض كلهم، كل واحد يسمعه، وكل واحد يحيط به، وكل واحد يحيط بما دعا، وكل واحد يتصرَّف في سؤاله، ويذكره بإرادته -سبحانه وتعالى-، ويذكر من ذكره سواء في الأرض أو في السماء في وقت واحد؛ "لم يَشغَلهُ شأنٌ عن شَأن"، فهذا وصف المحصورين من الخلق، مقدار إدراكهم واطلاعهم وعلمهم محدود، وإذا اشتغل بهذا ما يقدر يشتغل بالثاني. أما الحق سبحانه وتعالى فيُحيط بالأشياء كلها في شانٍ واحد ودفعة واحدة، ونجد في عالم الحس وعالم الخلق اختلاف قدرات الناس، هذا قد يستطيع أن يستوعِب أربعة، وهذا يستطيع أن يستوعب عشرة، هذا يستطيع أن يستوعب أكثر منهم، وهذا استطاعته أقل. ثم عالم الروح وقدرته واستيعابه أكثر من عالم..؛ وكله محصور بالنسبة للخلق. 

أما بالنسبة للخالق، فمطلق في كل شيء، محيط بكل شيء، من كل وجه، بكل معنى. وهذا وصف الإلوهيّة، وهذا وصف الربوبيّة، هكذا يكون الله -جل جلاله وتعالى في علاه، ولا إله غيره-.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: 

 

الأصل السادس

 في السمع والبصر 

 

"وأنَّهُ تعالى سميعٌ بصيرٌ، يسمعُ ويرى، لا يَعزُبُ عن سمعِهِ مسموعٌ وإن خفيَ، ولا يغيبُ عن رؤيتِهِ مرئيُّ وإن دقَّ، ولا يحجبُ سمعَهُ بُعدٌ، ولا يدفعُ رؤيتَهُ ظلامٌ. 

يرى من غيرِ حَدَقةٍ وأجفانٍ، ويسمَعُ مِن غيرِ أصمِخةٍ وآذانٍ، كما يَعلَمُ مِن غيرِ قلبٍ، ويَبطِشُ بغيرِ جَارحةٍ، ويَخلُقُ بغيرِ آلةٍ، إذ لا تُشبِهُ صفاتُهُ صفاتِ الخَلقِ، كما لا تُشبِهُ ذاتُهُ ذاتَ الخَلقِ". 

 

جل جلاله وتعالى في عُلاه.

قال: الأصل السادس في السمع والبصر، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11] كما تعرَّف إلينا بذلك على لسان رسوله في قرآنه الكريم. فهو تعالى سميع.

فإذا قلنا الله سميع، فاحذر أن تتصور ما يوصف به المخلوق من كونه سميع! وبعضهم أصم وبعضهم سميع. والسميع هذا -أحسن الخلق سمع- سمعه حادث، ومحصور، وبواسطة آلة، وبترتيبات من عنده -سبحانه وتعالى- يُسمِع بها الأشياء. 

وأما إذا قلت: الله سميع، فالسمع شيء آخر؛ محيط بكل شيء من دون واسطة آلة، ولا شيء من تكوين الأعضاء ولا غيرها، فهو السميع على الحقيقة، وهو يجعل من يشاء من عباده سميعًا بمقدار. فسمع الكائنات حادث به، فلا يسمعون إلا ما أسمَعَهُم -جل جلاله-.

 

قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ..) مشيرًا إلى نوع من أنواع السَماع الذي تنصرف عنه قلوب أهل الشقاوة من المُعرضين والمُتكبرين والُمعاندين. (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ)[الأنفال:22-23]؛ (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) [الأعراف:100] والذين يسمعون الذين استجابوا وأنابوا. 

 

يُطلق السمع -أيضًا- على مجرد سمع الصوت.

ويُطلق السمع -أحيانًا- على المقصود من سماع الصوت بامتثال الأمر. 

ولهذا يقولون: كلمنا فلان وما سمع كلامنا؛ لا يقصدون نَفي سماع الألفاظ.. ما هو أصم، هو يسمع؛ لكن لا اعتبِر بالكلام ولا نفذه ولا أخذ به! فهو ما يسمع هذا، هذا ما يسمع!.. فيُطلق أحيانًا على السمع المَعنوي المُتعلِّق بالإنسان.

 

"وأنه تعالى سميع بصير" وبصره -سبحانه وتعالى- لائق بعظمته وجلاله، قديم أزلي، يحيط بكل شيء، "سميع بصير" يُبصر الحسيَّات والمَعنويَّات؛ يستوي إبصاره للحسِّ وللمَعنى. "يسمع ويرى" قال تعالى لسيدنا موسى وسيدنا هارون لما (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ * قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ)[طه: 45-46] -جل جلاله-. 

 

"لا يَعزُبُ عن سمعِهِ مسموعٌ وإن خفيَ مثل دبيب النمل، ولا يغيبُ عن رؤيتِهِ مرئيٌّ وإن دَقَّ"، فالكل عنده سواء -جلَّ جلاله-. 

وبَصر المخلوقين: مُرتّب على مسافة مُعينة، وعلى وجود ضوء وعلى عدم وجود حِجاب، هذا كله بصر المخلوقين. أمّا بصر الله: فلا فرق بين ظلمة ولا نور ولا حجاب ولا شيء، لا يحجبه شيء، فهو يرى كل شيء جلَّ جلاله وتعالى في علاه. 

ويقول: "ولا يَحجبُ سمعَهُ بُعدٌ، ولا يدفعُ رؤيتَهُ ظلامٌ"، فهذا شأن سمع المخلوقين، إنّما يذكُر هذه الأشياء؛ ليبعد الأوهام، لمّا يُطلق على الحق -سبحانه وتعالى- لفظ السمع والبصر؛ الناس بطبيعة مداركهم أسماعهم وأبصارهم محصورة في أشياء محددة فينفي؛ ينفيها من أجل أن يبعد الوهم أنّ سمعه يشبه سمع شيء من الخلق، أو بصره يشبه بصر شيء من الخلق، فيبعد هذه الأوهام.

 

"يرى مِنْ غيرِ حَدَقةٍ وأجفانٍ"؛ لأن هذه طريقة رؤية الحيوانات بأبصارهم، هذه السُّنّة التي سَنّها ليبصرَ الحيوانات بأبصارهم؛ لكن هو خالق البصر جلَّ جلاله. "ويسمَعُ مِنْ غيرِ أصمِخةٍ وآذانٍ، كما يَعلَمُ مِنْ غيرِ قلبٍ"، فهذه آلات خلقها للكائنات والمخلوقين ليتوصلوا بها إلى شيء من علم أو سمع أو بصر.  "ويُبطِشُ بغيرِ جارحةٍ، ويَخلُقُ بغيرِ آلةٍ، إذ لا تُشبِهُ صفاتُهُ صفاتِ الخَلْقِ، كما لا تُشبِهُ ذاتُهُ ذوات الخلق" جلّ جلاله.

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: 

 

الأصل السابع 

في الكلام

 

"وأنَّه تعالى مُتكلِّمٌ، آمرٌ ناهٍ، واعدٌ مُتوعِّدٌ، بكلامٍ أزليٍّ قديمٍ، قائمٍ بذاتِهِ، لا يُشبِهُ كلامَ الخَلْقِ؛ فليسَ بصوتٍ يَحْدُثُ مِنِ انسلالِ هواءٍ واصطِكاكِ أجرامٍ، ولا بحرفٍ ينقطعُ بإطباقِ شفةٍ أو تحريكِ لسانٍ. 

وأنَّ القرآنَ والتَّوراةَ والإنجيلَ والزَّبورَ كتبُهُ المُنزلَةُ على رُسلِهِ. 

وأنَّ القرآنَ مقروءٌ بالألسنةِ، مكتوبٌ في المصاحفِ، محفوظٌ في القلوبِ. 

وأنَّه مع ذلك قديمٌ، قائمٌ بذاتِ اللهِ تعالى، لا يقبلُ الانفصالَ والافتراقَ بالانتقالِ إلى القلوبِ والأوراقِ. 

وأنَّ موسى -عليهِ السَّلامُ- سمعَ كلامَ اللهِ تعالى بغيرِ صوتٍ ولا حرفٍ؛ كما يرى الأبرارُ ذاتَ اللهِ سبحانَهُ مِنْ غيرِ شكلٍ ولا لونٍ. 

وإذ كانَتْ لهُ هذهِ الصِّفاتُ، كانَ حيًّا، عالمًا، قادرًا، مريدًا، سميعًا، بصيرًا، مُتكلِّمًا؛ بالحياة، والعلمِ، والقدرةِ، والإرادةِ، والسَّمعِ، والبصرِ، والكلامِ، لا بمُجرَّدِ الذَّاتِ".

 

جلَّ جلاله وتعالى في علاه. 

هذا الأصل السابع في الكلام؛ أخبرنا الحق -تعالى- في كتابه أنه متكلم، قال تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) [النساء:164] -جلّ جلاله وتعالى في علاه-. فإذا جئنا إلى الكلام، وما أنّزله على الأنبياء من كلامه، وما أنزله على خاتم الأنبياء من القرآن الكريم، كلامه -جلّ جلاله وتعالى في علاه- له معنى إذا أطلقنا صفة الكلام عليه، أو أطلقنا صفة القرآن؛ 

إذا أطلقنا صِفة القرآن فالمُراد به صفته القائمة به -سبحانه وتعالى-.

ثم إنّا قد نريد بالقرآن وكلام الله -تبارك وتعالى- ثمراته ونتائجه وأسباب وصولنا نحن إلى معرفة معاني هذا الوصف القائم بذات الله تعالى من الكلام؛ وذلك ما نسمعه بالآذان، أو ما نتلوه بالألسن، أو ما نبصره مكتوبًا في الألواح، كل هذه الأشياء لما تَرجمت عن معاني الصِفة القائمة بذات الله -تعالى- سُميت كلامًا، وسُميت قرآنًا.

  • ما نتلوه بألسنتنا يُسمى قرآنًا.
  • ما نسمعه بآذاننا يُسمى قرآنًا.
  • ما نكتبه في المصاحف يُسمى قرآنًا.
  • ولكن أصل القرآن ما هو هذا المكتوب، أصل القرآن صفة مِن صفات الحق -تبارك وتعالى- قائمة بذاته -جلّ جلاله-، ليست بشكل ولا بصورة ولا بحرف ولا بِلُغة من اللغات، هذا إذا عرفنا أو وصفنا الحق -تبارك وتعالى- وتكلمنا عن صفته.

فلهذا يكون من الواجب على المؤمن معرفته أنّ الحق -سبحانه وتعالى- مُتكلم بكلام أزليّ قديم؛ هذا الكلام الأزلي القديم في حدِّ ذاته ليس بِلُغة في اللغات حوادث أحدثها الله -تبارك وتعالى-؛ ولكن تَرجمت معاني كلام الله -تبارك وتعالى- على أي قوم بلسان رسولهم، بلسان القوم الذين أرسل إليهم الرّسُول، حتى اختار الله -تعالى- أن يكون الكتاب الخاتم والكلام الخاتم له الذي أراد إبرازه من كلامه لخلقه على وصف مخصوص.

فإنّ أعلى ما يبرزه -سبحانه وتعالى- من الكلام ما أوحاه إلى الأنبياء ليبلّغوا أُممهم عنه ذلك الكلام:

  • كمِثل التوراة المُنزلة على سيدنا موسى. 
  • والإنجيل المُنزل على سيدنا عيسى. 
  • والزبور المُنزل على سيدنا داود. 
  • والقرآن المُنزل على سيدنا محمد ﷺ؛ (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المائدة:48]. 

فاختاره بلسان عربي مُبين، كما ذكر، يعني: بيانه في وصوله معانيه إلينا باللسان العربي المبين، لا أنّ ذات كلام الله تعالى بشيء من اللغات. ومن العجيب أن يقول بعض المبتدعة الذين ما يفقهون كلام أهل التوحيد وأهل السُّنّة: في أنّ كلام الله ليس بِلُغة ولا بصوت ولا بحرف، فيذكرون ما ذَكر ﷺ من تلاوتنا للقرآن، وأنه قرأ حرفًا، قد يقول تمام هذه قراءتي، قراءتي أنا حروف، ما هو وصف ربي. فرق بين وصف ربي وبين قراءتي أنا لكلام ربي، وحفظي أنا لكلام ربي في ذهني، وتلاوته بلساني عبارة عن حروف، وكتابته في الأوراق. هذه لمّا اتصلت بسر معنى كلام الله ووصفه القديم، أُطْلِق عليها الاسم مجازًا لتتميز عن غيرها، لكونها تُتَرْجِم معاني كلام الله -تبارك وتعالى-. فلو ما هناك قوة ولا قدرة ولا استعداد عند الإنسان لمعرفة هذا الكلام الإلهي إلّا بهذه الوسائط، فجعل الله هذه الوسائط تدل على معنى الكلام القديم الذي ليس بحرف ولا بصوت. قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) [الشورى:51] -جلّ جلاله-.

 

فبذلك كله نعلم معنى كلام الله ومعنى القرآن والتوراة والإنجيل، الوصف القائم بذات الله -تبارك وتعالى-، ثم ما يتوصل الخلق إليه من معرفة معاني كلامه القديم -جلّ جلاله- فيُطلَق عليه سواء كان ملفوظًا باللسان أو محفوظًا في الذهن أو مكتوبًا بالقلم أو مسموعًا بالأذن؛ يُطلق عليه كلام الله، يطلق عليه القرآن بهذا المعنى؛ لأنه يُترجِم معاني الوصف القديم القائم بذات الله -تبارك وتعالى-؛ لهذا قالوا: 

كلامه كوصفه القديمِ *** لم يحدث المسموع للكليمِ

 

سيدنا موسى سماعه حادث، وإدراكه لكلام الله حادث، لكن كلام الله نفسه ليس بحادث، فلا إشكال في مثل هذا عند تَبيُّن العقل واتّساعه، وأنّه -تعالى- متكلمٌ بكلام، هو بكلامه ذلك:

  • آمرٌ بأوامر. 
  • وناهٍ عن أشياء. 
  • وواعدٌ بكثير من الجزاء الحَسن والدرجات والمثوبات والنّعيم. 
  • متوعدٌ أيضًا بكلامه بأنواع من العذاب والآلام والعقوبات على السيئات والذنوب؛

 

 بكلام أزلي قديم قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق، "فليسَ بصوتٍ يَحْدُثُ مِنِ انسلالِ هواءٍ واصطِكاكِ أجرامٍ" هذا كلام الخلق، "ولا بحرفٍ ينقطعُ بإطباقِ شفةٍ أو تحريكِ لسانٍ" هذا كلام الخلق. "وأنَّ القرآنَ والتَّوراةَ والإنجيلَ والزَّبورَ كتبُهُ المُنزلَةُ على رُسلِهِ"، صلوات الله وسلامه عليهم.

 

"وأنَّ القرآنَ مقروءٌ بالألسنةِ" يعني: نقرأ معاني هذا الكلام، ما هو نحن نتّصِف بوصف الله -حاشا الله-، لكن هذا الوصف القائم بذاته وصل نوره إلينا وتجلّى إلينا، فعبّرنا عنه بألسنتنا وتكلمنا به نحن. ووصفه ما هو نحن نتصف به، ولكن نحن نتلقى من تجلّي هذا الوصف وسرّ هذا الوصف، كمن تلقّى من سرّ قدرته ما نقدر عليه ونقوم به في الأشياء، ما اتّصفنا نحن بصفة الله، ولا خرجت قدرتنا هذه عن قدرة الله -تبارك وتعالى- ما هي إلا بقدرته، ما نقدر على شيء إلّا بإقداره، فكل ما نتحرك فيه بقدرتنا الموهوبة لنا منه -سبحانه وتعالى- متصلة بصفته القائمة بذاته وهي القدرة، قدرته -جلّ جلاله تعالى في علاه- فلا خلط بين الصفة القائمة به وبين آثارها فيّ؛ لأن كما أن الشمس هذه مخلوقة، مخلوقة، ومكوّنة في الفضاء فوق، ومع ذلك ترى نورها يشرق هنا حتى يدخل الغرفة ونقول: هذه الشمس. يجيء واحد يقول: هذه شمس؟ شمس أين .. بينك وبينها كذا؟ هذا سطوع نورها الذي وصل إلينا فسميناه شمسًا، أو لا؟!  أمّا هي  لا أقدر أطلع عندها، وإذا قربت منها بتحرقنا. ولكن الشمس تدخل معي وأمشي فيها، كيف تمشي فيها؟! بينك وبينها كم مسافة؟! نعم، أمشي فيها يعني في سطوع نورها الذي سطع منها فهو منسوب؛ فنحن نسميه شمسًا. فهكذا قدرة الله، كلام الله، نسمّيه كلام الله وهو أثره الذي وصل إلينا، وأمّا حد وصفه نفسه .. أين؟! لا إله إلّا هو -جلّ جلاله- هو أكبر وأجلّ مِن أن أُحيطَ أنا به؛ ولكن هذه آثار جودُه علينا مثل ما تصل آثار الشمس إلينا وإلى ديارنا وإلى منازلنا وعلى الأرض ونراها، واحد يقول: لحقت الشمس.  الشمس؟! أنت أين وهي أين؟! بينك وبينها ملايين من الأميال، كيف وصلت إلى الشمس؟! ولحقت الشمس؟! هذه أثرها وضؤها هذا الذي وصل إلينا، ويُسمّى شمسًا. فهكذا صحّت التسمية مع عدم الخلط بين الآثار وبين الأصل، وإنما هذه آثارُه، فكذلك كلام الله -سبحانه وتعالى-.

 

قال -وهو مع ذلك مع كون نحن آثاره عندنا مقروءة ومنظورة ومسموعة ومحفوظة، لكن الوصف قائم بذاته-:

"وهو على ذلك قديم قائم بذاته، لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق، لا ينتقل الوصف، قائم بذاته -جلّ جلاله-. فهو متكلم. وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف، كما يرى الأبرار ذات الله تعالى من غير شكل ولا لون".
نقول: الذي  أنكره  مثل المعتزلة وغيرهم  من رؤية الحق سبحانه وتعالى، لماذا؟ وهو تصورهم أنه إنما تُرى الأجسام. نقول نفس الشيء، كتصور من يتصور أنه ما يُسمع إلا الأصوات، فيُنكِر سماع كلام الله -تعالى-. نقول له: لا يختلط الأمر عليك، يمكنك أن تسمع كلام الله، وأمّا ذات كلام الله فليس بصوت وليس بحرف وليس بِلُغة، لكن تجلّيه عليك بمعاني ذلك الكلام بالوسيلة التي تحويها أنت وتقدر عليها وتصل بها إلى مفهوم معنى الكلام. هذا أيضًا سُمّي كلام الله -تبارك وتعالى- من حيث كونه أثره.

 

كذلك هذه الرؤية كذلك، فما أراد نفيه المعتزلة وغيرهم من النظر إلى وجه الله ومن رؤية الله؛ الذي تخيلوه هو منفي عند أهل السنة كذلك، أهل السنة عندهم يقولون الرؤية ليست بِجِهة ولا بِجسم ولا بإحاطة أصلًا؛ هذا هم منفي عندهم، لكن لمّا كان المستعمَل بين الناس يترقى في ظهوره على الأجسام في جهات معينة، أنكروا رؤية الحق هم نهائيًا. لكن جاء به النص، فبقي أهل السنة عند أهل النص، لكن أنزلوا النص مقرونًا ببقية النصوص لا يتناقض معها، فتبين أن ذات وصفه -سبحانه وتعالى-، أو ذاته الشريفة، جلّت من أن تكون في جهة، وجلّت من أن يحيط بها بصر أو غيره، ولكن تجلّيه بنوره بما يكشفه من الحجب حتى يُعبَّر عنه بالرؤية، هذا الذي عبَّر عنه رسوله، ورسوله أعرف الخلق به "إنكم سترون ربكم"، قال كذا: "إنكم سترون ربكم". الرؤية هذه ليست رؤية جهة ولا أجسام ولا صور ولا أشكال، هذا أمر منفي نهائيًا. فمن لم يتصور كيفية نفي هذه النقائص، اضطر إلى أن ينكر الرؤية من أصلها مع وجودها في النص، مع وجود النص بها، ومن غير شك أنه ﷺ لم يرد بذلك شيئًا من التشبيه ولا التمثيل، وهو أعظم الخلق تنزيهًا للرب عز- وجل- وأعرفهم بتسبيحه وتقديسه -جلّ جلاله-.

 

وهكذا فكما يقولون: "رؤية ذات الله تعالى من غير شكل ولا لون". لما كان هذا التجلي في الدنيا ما يتسعون إلا لتجلّي الصفات والأسماء، وتجلّي الذات يقوون عليها في الآخرة فقط، ولكنه لا يحيطون بالأوصاف فضلًا عن الذات، لا في الدنيا ولا في الآخرة. لا يحيط به محيط -جلّ جلاله وتعالى في علاه-. ولا يزالون يزدادون من معرفة الله وأسرار سماع كلامه ورؤيته في الآخرة، ولا يحيطون به، وهم على مراتبهم كل واحد يزداد ولا يصل إلى غاية، ما يمكن الوصول؛ لأنه لا منتهى له -جلّ جلاله-.

 

، كانَ حيًّا، عالمًا، قادرًا، مريدًا، سميعًا، بصيرًا، مُتكلِّمًا؛ بالحياة، والعلمِ، والقدرةِ، والإرادةِ، والسَّمعِ، والبصرِ، والكلامِ، لا بمُجرَّدِ الذَّاتِ".

 

 

قال: "وإذ كانَتْ لهُ هذهِ الصِّفاتُ"، وثبتت عقلًا وشرعًا، فلا بد أن يكون حيًّا، ما تكون هذه الصفات إلا للحي العالِم القادر المريد السميع البصير المتكلم، فهو حي بالحياة، وعالِم بالعلم، وقادر بالقدرة، وهذه اضطروا إليها من شأن نفي بعض تصورات الفلاسفة وغيرهم. فلهذا يقولون: نثبت ما جاء عن الله ورسوله، فهو -سبحانه وتعالى- عالِم وله وصف العلم، فهو إذًا عالِم بعلم، وليست الأوصاف عين الذات ولا منفصلة عن الذات، فهو حي عالِم قادر مريد سميع بصير متكلم بالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، لا بمجرد الذات، فهذه أوصاف تتعلق بذاته -سبحانه وتعالى- تتعلق بذاته

كما أنّا نرى الإنسان أيضًا وهو مخلوق كله، مكوَّن، الإنسان شيء ثم له وصف العلم، ووصف العلم شيء زائد على مجرد الذات. فكذلك فيما نقول أن الله -تعالى- عليم وأن الله سميع، بصير، وما إلى ذلك بسمع وعلم وبصر، لا مجرد الذات، لا إله إلا هو جلّ جلاله وتعالى في عُلاه. 

 

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين: 

 

الأصل الثامن 

في الأفعال

 

"وأنَّهُ -تعالى- لا موجودَ سواهُ إلَّا وهوَ حادثُ بفعلِهِ، وفائضٌ مِن عدلِهِ على أحسنِ الوجوهِ وأكملِها وأتمِّها وأعدلِها. 

وأنَّهُ حكيمٌ في أفعالِهِ، عادلٌ في أقضيتِهِ. ولا يُقاسُ عدلُهُ بعدلِ العبادِ؛ إذِ العبدُ يُتصوَّرُ منهُ الظُّلمُ بتصرُّفِهِ في مِلْكِ غيرِهِ، ولا يُتصوَّرُ الظُّلمُ مِن اللهِ -سبحانَه-؛ فإنَّهُ لا يُصادِفُ لغيرِهِ مِلْكًا حتَّى يكونَ تصرُّفُهُ فيهِ ظلمًا. 

فكلُّ ما سواهُ، مِن جنٍّ وإنسٍ، وشيطانٍ ومَلَكٍ، وسماءٍ وأرضٍ، وحيوانٍ ونباتٍ، وجوهرٍ وعَرَضٍ، ومُدرَكٍ ومحسوسٍ.. حادثٌ، اخترعَهُ بقدرتِهِ بعدَ العَدَمِ اختراعًا، وأنشَأهُ بعدَ أن لم يكنْ إنشاءً؛ إذ كانَ في الأزلِ موجودًا وحدَهُ، ولم يكنْ معَهُ غيرُهُ، فأحدثَ الخلقَ بعدَ ذلك إظهارًا لقدرتِهِ، وتحقيقًا لِمَا سبقَ مِن إرادتِهِ، ولِمَا حَقَّ في الأزلِ مِنْ كلمتِهِ، لا لافتقارِهِ إليهِ وحاجتِهِ. 

وأنَّهُ مُتفَضِّلٌ بالخَلْقِ والاختراعِ والتَّكليفِ لا عن وجوبٍ، ومُتَطوِّلٌ بالإنعامِ والإصلاحِ لا عن لزومٍ؛ فلهُ الفضلُ والإحسانُ، والنِّعمةُ والامتنانُ؛ إذ كانَ قادرًا على أن يَصُبَّ على عبادِهِ أنواعَ العذابِ، ويبتليَهُم بضروبِ الآلام والأوصابِ، ولو فعلَ ذلك.. لكانَ منهُ عدلًا، ولم يكن قبيحًا ولا ظلمًا. 

وأنه يثيبُ عبادَهُ على الطَّاعاتِ بحكمِ الكرمِ والوعدِ، لا بحكمِ الاستحقاقِ واللُّزومِ، إذ لا يجبُ عليهِ فعلٌ، ولا يُتَصوَّرُ منهُ ظلمٌ، ولا يجبُ عليهِ لأحدٍ حقٌّ. 

وأن حقَّهُ في الطَّاعاتِ وجبَ على الخَلقِ بإيجابِهِ على لسانِ أنبيائِهِ، لا بمُجَرَّدِ العقلِ، ولكنَّهُ بعثَ الرُّسلَ وأظهرَ صدقَهُم بالمعجزاتِ الظَّاهرةِ، فبلَّغوا أمرَهُ ونهيَهُ، ووعدَهُ ووعيدَهُ، فوجبَ على الخلقِ تصديقُهُم فيما جاؤوا بِهِ".

 

آمنا بالله ورسله، وجميع رسله في كل ما جاءوا به عن الله -تعالى-. 

يقول في الأفعال: والأفعال كل ما سواه، كل ما سواه فهو فعله -جلّ جلاله-؛ أرض، وسماء، وعرش، وكرسي، وجنة، ونار، وروح، وجسد، وحس، ومعنى، وظاهر، وباطن، ومُلك، وملكوت.. كل ما سواه فهو فعله. 

 

"وأنَّهُ -تعالى- لا موجودَ سواهُ إلا وهوَ حادثُ بفعلِهِ - تعالى- ، وفائضٌ مِن عدلِهِ على أحسنِ الوجوهِ" قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)[السجدة:7]؛ وفي قراءة: خلْقَه. "على أحسنِ الوجوهِ وأكملِها وأتمِّها وأعدلِها" يعني: أنَّ له حكمة في خلق هذا الوجود على هذه الصورة وعلى هذه الأحوال، وهو بحكمته محيط بتلك الحكمة، وهو محيطٌ بحكمته ولا يحيط بحكمته غيره. خلق الخلق لحكمة وطوى عليها علمه -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي يحيط. وإنما يُبرِز لعبادِه من آثار الحكمة ما يُبرز، فهم على مقادير في معرفة حكمة الله في هذا التقدير والتصوير والتقديم والتأخير. حتى كان يقول سيدنا علي بن أبي طالب: لو كُشف الغطاء لأدركتُم الحقائق؛ أي: ما اخترتُم إلا الواقع؛ لأن الواقع وقع بإرادة وقدرة من حكيم عظيم، فلا يحيط بحكمته محيط، ولا يمكن أن يكون غيره مُدبِّر أحسن من تدبيره، ولا مُصوِّر أحسن من تصويره. فهو الذي تفرَّد بالخلق والإيجاد بحكمته البالغة -سبحانه وتعالى- (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2].

 

كل شيء من هذا الوجود "حادثُ بفعلِهِ، وفائضٌ مِن عدلِهِ على أحسنِ الوجوهِ وأكملِها وأتمِّها وأعدلِها. وأنَّهُ حكيمٌ في أفعالِهِ، عادلٌ في أقضيتِهِ وأقداره -جلّ جلاله-. لا يُقاسُ عدلُهُ بعدلِ العبادِ".

العبد يُتَصوَّر منه الظلم، لماذا؟ 

لأنه يأخذ حق الغير، ويتصرف في حق الغير؛ وأمَّا هو، وجميع الكائنات كلها مُلك الله -سبحانه وتعالى- (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[المائدة:120].

 

"ولا يُتصوَّرُ الظُّلمُ مِن اللهِ -سبحانَه-؛ لإنَّهُ لا يُصادِفُ لغيرِهِ مِلكًا حتَّى يكونَ تصرُّفُهُ فيهِ ظلمًا، فكلُّ ما سواهُ، مِن جنٍّ وإنسٍ، وشيطانٍ ومَلَكٍ، وسماءٍ وأرضٍ، وحيوانٍ ونباتٍ، وجوهرٍ وعرضٍ، ومُدرَكٍ ومحسوسٍ.. كل ذلك حادثٌ، اخترعَهُ بقدرتِهِ بعدَ العَدَمِ اختراعًا، وأنشَأهُ بعدَ أن لم يكنْ إنشاءً" وقدَّره تقديرًا وفطره وأوجده -سبحانه وتعالى-. 

"إذ كانَ في الأزلِ -سبحانه- موجودًا وحدَهُ ولم يكنْ معَهُ غيرُهُ" هو الأول  "فأحدثَ الخلقَ بعدَ ذلك إظهارًا لقدرتِهِ، وتحقيقًا لِمَا سبقَ مِن إرادتِهِ، ولِمَا حقَّ في الأزلِ مِن كلمتِهِ، لا لافتقارِهِ"؛ لشيء من الكائنات، ولكن هو خالقها وهي المُفتقرة إليه -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

 

"وأنَّهُ مُتفَضِّلٌ بالخَلقِ والاختراعِ والتكليفِ لا عن وجوبٍ" تفضَّل بالخلق والإيجاد، ثمَّ تفضَّل بتكليفنا وبيان الشرعِ لنا. ويقول سبحانه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ)[التوبة:115] لا عن وجوب، لا يجب عليه شيء.

 "ومُتَطوِّلٌ بالإنعامِ والإصلاحِ لا عن لزومٍ" فلا يلزمه شيء، فالإيجاب والإلزام يكون من أعلى لمن دونه، ولا أعلى من الله، هو الأعلى -جلّ جلاله-. فكيف يجب عليه شيء؟! ولهذا؛ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الأنبياء: 23] لأنهم مخلوقون، وتحته، وهو الأعلى.

 

قال: "فلهُ الفضلُ والإحسانُ، والنعمةُ والامتنانُ؛ إذ كانَ قادرًا على أن يَصُبَّ على عبادِهِ أنواعَ العذابِ، ويبتليَهُم بضروبِ الآلام والأوصابِ، ولو فعلَ ذلك.. لكانَ منهُ عدلًا" لأنهم خلقه وملكه يفعل ما يشاء "ولم يكن قبيحًا ولا ظلمًا"؛ ولكن اقتضت رحمته ورأفته أن يكونوا بهذا التفضُّل الرباني، والجود الامتناني. 

 

"وأنه يثيبُ عبادَهُ على الطَّاعاتِ بحكمِ الكرمِ والوعد" وهو لا يخلف الميعاد "لا بحكمِ الاستحقاقِ واللُّزومِ"، فإن العبد وطاعته مخلوقة لله -تعالى-، وهو الذي وفق وأكرمه بالطاعة، أفيلزمه بعد ذلك بشيء؟ كيف يلزمه؟ لا يلزمه شيء، ولكنه بفضله وعد من أطاعه بأن يثيبه وأن يعلي درجاته وأن ينعِّمه، فهذا كله بحكم الوعد والفضل من الله. ما فيه غير الله تعالى يفرض على الله شيء ولا يلزم الله بشيء، بل هو الذي يلزم من يشاء بما شاء؛ لأنه فوق الكل وخالق الكل -جلّ جلاله وتعالى في علاه-. 

 

قال: "ولا يُتصوَّرُ منه ظلمٌ، ولا يجبُ عليهِ لأحدٍ حقٌّ. وأنَّ حقَّهُ في الطَّاعاتِ وجبَ على الخَلْقِ بإيجابِهِ على لسانِ أنبيائِهِ"، فلا تستقِلُّ العقول بمعرفة الواجب والمُحرَّم والمكروه؛ نظام الله لكل الأمم، وما ختم به الشريعة التي جعلها لجميع المكلفين؛ من هذا واجب، وهذا مندوب ومستحب، وهذا حرام، وهذا مباح، وهذا مكروه. هذا لا يُستقل به عقل أحد. (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) [النحل: 116]؛ لأن الحق له هو الذي يقول هذا حلال وهذا حرام -جلّ جلاله وتعالى في علاه- ليس لأحد من خلقه. فلهذا ما يكون لوجوب شيء بمجرد العقل، ولا تحريم شيء بمجرد العقل، ولكن ما أمر به فهو الواجب، إن أمر به على سبيل اللزوم، وإن أمر به على سبيل الاستحباب فهو المستحب، والمندوب، والمسنون. وما نهى عنه على سبيل الجزم فهو الحرام، وما لم يكن على سبيل الجزم فهو المكروه. وما أباحه فهو المباح -جلّ جلاله-. 

فإذًا لا يثبت هذا بمجرد العقل، "لا بمُجَرَّدِ العقلِ، ولكنَّهُ بعثَ الرُّسلَ وأظهرَ صدقَهُم بالمعجزاتِ الظَّاهرةِ"، وكل رسول جعل له من المعجزات ما يكفي قومه دليلًا واضحًا وحجة ظاهرة في أنه مرسل من عند الله، "فبلَّغوا أمرَهُ ونهيَهُ، ووعدَهُ ووعيدَهُ، فوجبَ على الخلقِ تصديقُهُم فيما جاؤوا بِهِ". آمنا وصدَّقنا برسل الله. 

رزقنا الله محبتهم ومتابعتهم وحشرنا في زمرتهم اللهم آمين. نسألك إيمانًا دائمًا يباشر قلوبنا، ويقينًا صادقًا حتى نعلم أنه لم يصيبنا إلا ما كتبته علينا، ورضِّنا بما قسمته لنا.

  • (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[القمر:17].
  • وقال الله تعالى في الآية: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ)[مريم:97] أي: أقدرناهم على النطق بمعاني كلامنا بلسانك -لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بلسان عربي مبين. 
  • وقال الله تعالى في الآية: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان: 58]. 
  • (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا) [مريم: 97]. في سورة مريم وفي سورة الدخان (يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ)

 (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) قال مطر الوراق -كما في البخاري-: هل من طالب علم فيُعان عليه، 

يسّر القرآن: يسّر تلاوته، ويسّر فهم معناه لمن تدبّروتأمّل -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

 

رزقنا الله كمال الإيمان واليقين ويسّر لنا لليُسرى وجنّبنا العُسرى، ويسّر لنا تلاوة القرآن والعمل بالطاعات، وأبعد عنا الآفات والأسواء في الظاهر والباطن إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وزادنا وإياكم زيادة وأسعدنا بأعلى السعادة، وتولانا في الغيب والشهادة. 

 

بسرِّ الفاتحة

 إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

21 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

14 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام