الأربعين في أصول الدين - 18 | اتباع السنة (1)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثامن عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني:  الأصل العاشر: اتباع السنة (1)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

ظهر الأربعاء 26 صفر 1447هـ

يوضح الحبيب عمر بن حفيظ كيف يمتدّ الاتّباع من العبادات إلى تفاصيل العادات: من هيئة الأكل واللباس والدخول والخروج إلى ترتيب تقليم الأظفار والتيامن؛ ولماذا كان الاتّباع سببًا للمحبّة الإلهية، ثم يفتح أسرار الاتّباع الثلاثة: تهذيبُ القلب بأعمال الجوارح، والمعرفة بما يكشفه نور النبوّة من خواصّ نافعة، وتربية النفس على مخالفة الهوى..

 

نص الدرس المكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

وسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

الأصل العاشر

في اتِّباعُ السُّنَّةِ

"اعلمْ: أنَّ مفتاحَ السَّعادةِ اتِّباعُ السُّنَّةِ، والاقتداءُ برسولِ اللهِ ﷺ في جميعِ مصادرِه ومواردِهِ، وحركاتِهِ وسكناتِهِ؛ حتَّىٰ في هيئةِ أكلِهِ، وقيامِهِ ونومِهِ وكلامِهِ.

ولستُ أقولُ ذلكَ في أمورِ العباداتِ فقطْ، فإنَّهُ لا وجهَ لإهمالِ السُّننِ الواردةِ فيها، بل ذلكَ في جميعِ أمورِ العاداتِ، فبذلكَ يَحصلُ الاتِّباعُ المطلقُ.

قالَ اللٰه تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران:31].

وقالَ تعالىٰ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر:7].

فعليكَ أن تلبَسَ السَّراويلَ قاعداً، وتتعمَّمَ قائماً، وتبتدئَ باليمينِ في تنقُلِكَ، وتأكلَ بيمينِكَ، وتُقلِمَ أظفارَكَ، وتَبْتَدئ بمُسبِّحةِ اليدِ اليمنىٰ، وتَختِمَ بإبهامِها، وفي الرِّجلِ تبتدئَ بخِنصِرِ اليمنى، وتَختِمَ بخِنصِرِ اليسرىٰ. 

وكذلكَ في جميعِ حركاتِكَ وسكناتِكَ، فلقد كانَ محمَّدُ بنُ أسلمَ لا يأكلُ البِطِّيخَ؛ لأنَّهُ لمْ يُنقَلْ إليهِ كيفيَّةُ أكل رسولِ اللهِ ﷺ لهُ.

وسها أحدُهُم، فلبسَ الخفَّ فابتدأَ باليسرىٰ، فكفَّرَ عنهُ بكُرِّ حنطةٍ.

فلا ينبغي أن تتساهلَ في أمثالِ ذلكَ فتقولَ: هٰذا ممَّا يتعلَّقُ بالعاداتِ، فلا معنى للاتّباعِ فيهِ؛ فإنَّ ذلكَ يُغلِقُ عليكَ باباً عظيماً مِنْ أبوابِ السَّعادةِ.

 

الحمد لله مُكرمنا بخير قدوة، حبيبه محمدٍ الصفوة صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه، وعلى آله وأصحابه أهل المروءة والفتوة، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان مقتديًا بخير أسوة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، مكانَ التفضيل من الحق -تبارك وتعالى-، والذين جعَلَهم للخلائق أُسوة، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمته إنّه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

يقول المؤلف -عليه رحمة الله-: "الأصل العاشر: في اتِّباعِ السنَّةِ"؛ والمراد: هديُ سيدِنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد جَعل الله تعالى الأنبياء والمرسلين مكانَ القدوة لمن سواهم، قال: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]، وشرَّفنا بخاتَمهم وسيدهم وإمامهم محمد ﷺ، الذين لو اجتمعوا لم يكن لهم قدوةٌ إلاّ هو، وهو القائل: "لو كان موسى حيًّا ما وسِعَه إلا اتِّباعي" -صلوات ربي وسلامه عليه-.

ورتبَ الله على اتباعِه محبتَه، بل وجعلَها علامةَ صدقنا في محبتنا له تعالى، يقول: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

قال: "أنَّ مفتاحَ السَّعادةِ اتِّباعُ السُّنَّةِ، والاقتداءُ برسولِ اللهِ ﷺ في جميعِ مصادرِه ومواردِهِ، وحركاتِهِ وسكناتِهِ؛ حتَّىٰ في هيئةِ أكلِهِ، وقيامِهِ ونومِهِ وكلامِهِ.". بيّن -عليه رحمة الله- أنّه ليس المرادُ الاتباعَ في جوانب العبادات وحدِها، "ولستُ أقولُ ذلكَ في أمورِ العباداتِ فقطْ، فإنَّهُ لا وجهَ لإهمالِ السُّننِ الواردةِ فيها"، بل أشيرُ لك إلى مَرقى به ترتقي، وإلى ما يَطوي لك الطريقَ، فتصلَ إلى المقام العليّ، بأن تنطويَ في الاقتداء بالمصطفى النبي ﷺ في جميع أحوالك وشؤونك.

قال: "بل ذلكَ في جميعِ أمورِ العاداتِ، فبذلكَ يَحصلُ الاتِّباعُ المطلقُ.

  • قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويغفر لكم ذنوبكم) [آل عمران:31].
  • وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر:7].
  • (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].
  • (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54].
  • (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
  • (مَن يُطِعِ الرسولَ فقد أَطاعَ الله) [النساء:80].
  • (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ) [الأحزاب:6].

أن تلبَسَ السَّراويلَ قاعداً

قال: ففي العادات لبس السراويل.

"السَّراويلَ" في اللغة العربية مفرد، وجمعُه: سراويلات، والواحد يقال له: سراويل، أمَّا إحداث لفظة "سروال" فغيرُ مستقيمٍ على وزن العربية، فالمفرد: سراويل.

قال: "أن تلبَسَ السَّراويلَ قاعداً" حتى يُروى عن سيدِنا عليٍّ أنّه قال:

  • "ما تَسَرْوَلْقمتُّ قط"؛ أي لم ألبس السراويل قائمًا.
  • كما قال: "ولا تنعّلقمتُ قط"؛ أي ما لبست نعلي قائمًا.
  • "ولا تعمقَعْدَدْتُ  قط"؛ ما تعممتُ قاعدًا قط، لم ألبس العمامة قاعدًا.

فالسنة "أن تلبَسَ السَّراويلَ قاعداً"، وكذلك العمامة "وتتعمَّمَ قائماً"؛ ما يتعمم وهو قاعد، بل يقوم ويلبس العمامة قائمًا فمن أراد أن يتعمم فيسن له القيامُ اتباعًا له ﷺ.

"وتبتدئَ باليمينِ في تنعُلِكَ"، وكان يلبس اليمنى، وفي الخلع يخلع اليسرى أولًا، فتكونُ اليمنى أولَهما لُبسًا وآخرَهما خلعًا.

"وتأكلَ بيمينِكَ"، وتدخل المصلى بيمينك، وتدخل البيت بيمينك وتخرج بيسارك، وتدخل الخلاء بيسارك وتخرج بيمينك؛ فكلُّها حركاتٌ عادية لمّا تُلاحظ فيها السُّنةُ يرتفع شأنُها.

قال: "وتُقلِمَ أظفارَكَ، وتَبْتَدئ بمُسبِّحةِ اليدِ اليمنىٰ" السبابة؛ المُسَبِّحة من اليد اليمنى وتمشي على الترتيب: بعدَها الوسطى، بعدها البنصر، وبعدها الخنصر، "وتَختِمَ بإبهامِها" اليمنى.

"وفي الرِّجلِ تبتدئَ بخِنصِرِ -الرِّجل- اليمنىٰ" وتمشي على الترتيب: الخِنصرُ فالبِنْصر فالوسطى فالسبابة والإبهام، وتمشي إلى الإبهام؛ من الإبهام إلى السبابة فالوسطى فالبنصر فالخنصر، مثلَ التخليل في الوضوء، من خنصر إلى خنصر بخنصر إصبع يديك، تبدأ من خنصر الرِّجل اليمنى "وتختم بخنصر" الرِّجل "اليسرى"؛ وهذا هو المعتمدُ في تقليم الأظافر.

ويُروى في طريقةٍ أخرى: "من قلَّم أظافرَه مُعكِّسًا مُنكسًا أَمِنَ من البرص" وشيء من هذا، وهو أن تبدأ بالخنصر، ثمّ الوُسطى، ثمّ الإبهام، ثمّ البنصر، ثمّ السبابة. وفي اليسرى تبدأ بالإبهام، ثمّ الوسطى، ثمّ الخنصر، ثمّ السبابة، ثمّ البنصر؛ مُعكِّسًا ومنكِّسًا على ترتيب (خوابِسَ) في اليمنى، أو (خَسب) في اليسرى.

  • خوابس: خنصر، وسطى، إبهام، بنصر، سبابة.
  • أو خَسَب: إبهام، وسطى، خنصر، سبابة، بنصر، على هذا الترتيب.

وينبغي أن يكون ذلك في يوم اثنين، أو يوم خميسٍ أو يوم جمعة، وكان بعضُ العارفين يحب أن يستعد للجمعة به من عصر الخميس، وبعضُهم يجعلونه بعد صلاة الجمعة، ملاحظًا حصولَ الغفران بالجمعة، ثمّ يقلمُ بعدما يرجعُ من الجمعة؛ فالعادات هذه والانضباط فيها مؤثرةٌ على تنوير القلب والرابطةِ بالمُقتدى ﷺ.

وكذلك رأينا الصحابة في حُسن متابعة النبي ﷺ،  حتى في الأمور العاديات والمباحات؛ وكان يتحرّى ابنُ عمر الأماكنَ التي خرج فيها ﷺ في السفر يخرج فيها، ويتحرى في أسفاره أن يتذكر أسفاره مع رسول الله ﷺ في أيِّ يومٍ خرج، ثمّ في أي مكانٍ ظل، ثمّ في أي مكانٍ بات، في أي مكان توضأ، في أي مكانٍ صلى، فيمشي وراءَه، يصلي حيث صلى، وينام حيث نام، وهكذا في سفره.

بل جاوزوا ذلك إلى حدود غريبة في العادة والطبيعة، أنّه لمّا رأى سيدُنا أبو أيوب الأنصاري أنَّه ﷺ ما يأكل الثوم، فقال: هذا فراق بيني وبينه، فما دخل الثومُ بيتنا من يومئذٍ؛ وذلك أنّه كان لمَّا نزل ببيته ﷺ أولَ الهجرة، وكان يرسل العشاء إليه ويتعشى، ثمّ قال: نتبادل أنا وأم أيوب أماكن أصابعه، فنأخذ منها ونأكل منها، قال: فردَّ لنا العشاء تلك الليلة ما هناك أثر، ما أكل شيئًا، قال: ففزعتُ وجئتُ قلت له: يا رسول الله ﷺ لم تتعشَّ؟ قال: إنَّ فيه شيئًا من هذا الثوم، وإنّي أُناجي مَن لا تُناجون، وأكلِّم مَن لا تُكلِّمون، ويحضر عندي مِن الملائكة وغيرهم، وهم يتأذون من هذه الرائحة، كلوه أنتم، قال: فلم يدخل الثومُ بعدها يومًا إلى بيتنا.

قال سيدنا أنس: "وأكلتُ معه ﷺ خبزًا فيه دُبّاء، فرأيته يتتبَّع بأصابعه الدُّبّاءَ في جوانب القصعة، قال: فلم أزلْ أحب الدُّبّاء من يومئذٍ"؛ من ذاك اليوم وأنا أحب الدُّبّاء، حتى مشتهياتِ طعامهم انطوت في متابعته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال: "وكذلكَ في جميعِ حركاتِكَ وسكناتِكَ، فلقد كانَ محمَّدُ بنُ أسلمَ لا يأكلُ البِطِّيخَ" قالوا له: مالك؟ قال: ما بلغنا كيفية أكله، لم أدرِ أهو بقشره يأكله ويترك القشر؟ أو يقشره أولًا، ويُعرَض له بغير قشر فيأكله؟ فالأحسن ليس لي داعي به، لأني ما تمكنت من معرفة كيفية أكله له، فلا آكله -لا إله إلا الله-، وهذا الذي يُؤثَرُ عن الشيخ علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن السقاف؛ أنّه لم يأكل البطيخ، قال لجهله بكيفية أكلِ النبي ﷺ له كيف كان، كيف أكله.

"وسها أحدُهُم، فلبسَ الخفَّ فابتدأَ باليسرىٰ" فقال: ماهذه المصيبة التي عليَّ؟ السُّنةُ الابتداء باليمنى أولًا ثمّ اليسرى، ولكنّه فعلَه ساهيًا، فينزعه ويرده ثاني مرة، ولكن قال: لا بد أن أُؤدِّبَ نفسي، هذه كفارة عليَّ، فأخرج كُرّ، والكُرّ: هذا مكيال عند أهل العراق، يقال إنَّه نحو ستين صاعًا، كرًّا كاملًا أخرجه من الحَبّ صدقة، كفارةً لغَلطِه، لأنَّه قدّمَ اليسرى على اليمنى في اللبس، مخالفةً لسنة ﷺ.

قال: "فلا ينبغي أن تتساهلَ في أمثالِ ذلكَ فتقولَ: هٰذا ممَّا يتعلَّقُ بالعاداتِ، فلا معنى للاتّباعِ فيهِ؛ فإنَّ ذلكَ يُغلِقُ عليكَ باباً عظيماً مِنْ أبوابِ السَّعادةِ"؛ كيف هذا؟

في الفصل الثاني بدأ يبين هذه الأسباب، وكيف يؤثرُ الاتِّباعُ في العادات على قلب المؤمن.

 

وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

فصلٌ

في بيانِ الأسبابِ المُرغّبةِ في اتِّباعِ السنَّةِ 

"لَعلَّكَ تشتهي الآنَ الوقوفَ على السَّببِ المُرغِّبِ في الاتِّباعِ في هٰذهِ الأفعالِ، وتستبعدُ أن يكونَ تحتَ ذلكَ سِرٌّ، أو أمرٌ مُهِمٌّ بقتضي هٰذا التَّشديدَ العظيمَ في المخالفةِ.

فاعلمْ: أنَّ ذكرَ السِّرِّ في آحادِ تلكَ السُّننِ طويلٌ، لا يَحتمِلُ هٰذا الكتابُ شرحَهُ، لكنْ ينبغي أن تفهمَ أنَّ ذلكَ ينحصرُ في ثلاثةِ أنواعٍ من الأسرارِ:

الأوَّلُ: أنَّا نبَّهناكَ في مواضعَ على العلاقةِ التي بينَ المُلكِ والملكوتِ، وبينَ الجوارحِ والقلبِ، وكيفيَّةِ تأثَّرِ القلبِ بعملِ الجوارحِ؛ فإنَّ القلبَ كالمرآةِ، ولا تتجلَّىٰ فيهِ حقائقُ الأشياءِ إلّا بتصقيلِهِ وتنويرِهِ وتعديلِهِ.

أمَّا تصقيلُهُ: فبإزالةِ خبثِ الشَّهَواتِ، وكدورةِ الأخلاقِ الذَّميمةِ.

وأمَّا تنويرُهُ: فبأنوارِ الذِّكرِ والمعرفةِ، ويعينُ على ذلكَ العبادةُ الخالصةُ إذا أُدِّيَتْ على كمالِ الحرمةِ بمقتضى السُّنَّةِ.

وأمَّا تعديلُهُ: فبأن تجريَ جميعُ حركاتِ الجوارحِ علىٰ قانونِ العدْلِ؛ إذِ اليدُ لا تصلُ إلى القلبِ حتَّىٰ تقصدَ تعديلَهُ، فتُحدِثَ فيهِ هيئةً معتدلةً صحيحةً لا اعوجاجَ فيها، وإنَّما التَّصرُّفُ في القلبِ بواسطةِ تعديلِ الجوارحِ، وتعديلِ حركاتِها، ولهذا كانتِ الدُّنيا مزرعةَ الآخرةِ، ولهذا تعظمُ حسرةُ مَنْ ماتَ قبلَ التَّعديلِ؛ لانسدادِ طريقِ التَّعديلِ بالموتِ؛ إذ تنقطعُ علاقةُ القلبِ عنِ الجوارحِ.

فمهما كانَتْ حركاتُ الجوارحِ، بل حركاتُ الخواطرِ أيضاً موزونةً بميزانِ العدلِ.. حدثَ في القلبِ هيئةٌ عادلةٌ مستويةٌ، تَستعِدُّ لقَبُولِ الحقائقِ على نعتِ الصِّحَّةِ والاستقامةِ، كما تَستعِدُّ المرآةُ المعتدلةُ لمحاكاةِ الصُّورِ الصَّحيحةِ مِنْ غيرِ اعوجاجٍ.

ومعنى العدلِ: وضعُ الأشياءِ مواضعَها.

ومثالُهُ: أنَّ الجهاتِ مثلاً أربعةٌ، وقد خُصَّ منها جهةُ القِبلةِ بالتَّشريفِ؛ فالعدلُ: أن تستقبلَ القبلةَ في أحوالِ الذِكرِ والعبادةِ والوضوءِ، وأن تنحرفَ عنها عندَ قضاءِ الحاجةِ وكشفِ العورةِ؛ إظهاراً لفضلِ ما ظهرَ فضلُهُ.

ولليمينِ زيادةٌ على اليسارِ غالباً؛ لفضلِ القُوَّةِ؛ فالعدلُ: أن تُفضّلَها على اليسارِ، وتستعملَها في الأعمالِ الشَّريفةِ؛ كأخذِ المُصحفِ والطَّعامِ، وتتركَ اليسارَ للاستنجاءِ وتناولِ القاذوراتِ.

وقلمُ الظُّفرِ مثلاً تطهيرٌ لليدِ، وهوَ إكرامٌ، فينبغي أن يَبدأَ بالأكرمِ والأفضلِ، وربَّما لا يستقلُّ عقلُكَ بالتَّفطُّنِ للتَّرتيبِ في ذلكَ وكيفيَّةِ البدايةِ، فاتَّبغ فيهِ السُّنَّةَ، وابتدئ بالمُسبِّحةِ مِنَ اليمينِ؛ لأنَّ اليدَ أفضلُ مِنَ الرِّجلِ، واليمنى أفضلُ مِنَ اليسرىٰ، والمُسبِّحةَ التي بها الإشارةُ في كلمةِ التَّوحيدِ أفضلُ مِنْ سائرِ الأصابعِ، ثمَّ بعدَ ذلكَ تدورُ مِنْ يمينِ المُسبِّحةِ.

وللكفِّ ظهرٌ ووجهٌ، فوجهُهُ ما يقابلُهُ، فإذا جعلتَ الكفَّ وجهَ اليدِ.. كانَ يمينُ المُسبِّحةِ مِنْ جانبِ الوسطىٰ، فقدِّرِ اليدينِ متقابلتَينِ بوجهَيهِما، وقدِّرِ الأصابعَ كأنّها أشخاصٌ، فيدورُ المِقراضُ مِنَ المُسبِّحةِ إلى أن يَختِمَ بإبهامِ اليمنىٰ، كذلكَ فعلَ رسولُ اللهِ ﷺ، والحكمةُ فيهِ ما ذكرناهُ

فإذا أنتَ تعوَّدتَ رعايةَ العدلِ في دقائقِ الحركاتِ.. صارَتِ العدالةُ والصِّحَّةُ هيئةً راسخةً في قلبِكَ، واستوتْ صورتُهُ، وبذلكَ نستعِدُّ لقَبُولِ صورةِ السَّعادةِ.

ولذلك قال الله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي  فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29]، فرُوحُ اللهِ مفتاحُ أبوابِ السَّعادةِ، ولم يكنْ نفخُها إلَّا بعدَ التَّسويةِ، ومعنى التَّسويةِ يرجعُ إلى التَّعديلِ، ووراءَهُ سِرٌّ يطولُ كشفُهُ، وإنَّما نريدُ الرَّمزَ إلى أصلِهِ.

فإن كنتَ لا تقوىٰ علىٰ فهمِ حقيقتِهِ.. فالتَّجرِبةُ تنفعُكَ، فانظرْ إلىٰ مَنْ تَعوَّدَ الصِّدقَ كيفَ تصدقُ رؤياهُ غالباً؛ لأنَّ الصِّدقَ حصَّلَ في قلبِهِ هيئةً صادقةً، تَتلقَّىٰ لوائحَ الغيبِ في النَّومِ على الصِّحَّةِ، وانظرْ كيفَ تكذبُ رؤيا الكذَّابِ، بل رؤيا الشَّاعرِ الذي تَعوَّدَ التخييلاتِ الكاذبةَ، فاعوجَّ لذلكَ صورةُ قلبِهِ.

فإن كنتَ تريدُ أنْ تلمحَ جنابَ القدسِ.. فاتركْ ظاهرَ الإثمِ وباطنَهُ، واتركِ الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، واتركِ الكذبَ حتَّى في حديثِ النَّفسِ أيضاً.

السِّرُّ الثَّاني: أن تعلمَ أنَّ الأشياءَ المُؤثِّرةَ في بدنِكَ بعضُها إنَّما يُعقَلُ تأثيرُهُ بنوعِ مِنَ المناسبةِ إلى الحرارةِ والبرودةِ، والرُّطوبةِ واليبوسةِ؛ كقولِكَ: إنَّ العسلَ يضرُّ المَحرورَ، وينفعُ الباردَ مزاجُهُ، ومنها ما لا يُدرَكُ بالقياسِ، ويُعبَّرُ عنهُ بالخواصِ، وتلكَ الخواصُّ لا يُوقَفُ عليها بالقياسِ، بل مبدأُ الوقوفِ عليها وحيٌ أو إلهامٌ، فالمغناطيسُ يَجذِبُ الحديدَ، والسَّقَمُونيا تَجذِبُ خلطَ الصَّفراءِ مِنْ أعماقِ العروقِ لا على القياسِ، بل بخاصِّيَّةٍ وُقِفَ عليها إمَّا بإلهامٍ أو تَجرِبةِ، وأكثرُ الخواصِ عُرِفَتْ بالإلهامِ، وأكثرُ التَّأثيراتِ في الأدويةِ وغيرِها مِنْ قبيلِ الخواصِ.

فكذلكَ فاعلمْ: أنَّ تأثيرَ الأعمالِ في القلبِ ينقسمُ إلىٰ ما يُفهَمُ وجهُ مناسبتِهِ؛ كعلمِكَ بأنَّ اتّباعَ الشَّهَواتِ الدُّنيويَّةِ يُؤكِّدُ علاقتَهُ معَ هٰذا العالَمِ، فيخرجُ مِنْ هٰذا العالَمِ منكوسَ الرَّأسِ، مُولِياً وجهَهُ إلىٰ هٰذا العالَمِ؛ إذ فيهِ محبوبُهُ، وكعلمِكَ بأنَّ المداومةَ علىٰ ذكر اللهِ تعالىٰ تُؤكِّدُ الأُنسَ باللهِ تعالىٰ، وتُوجِبُ الحبَّ حتَّىٰ تَعظُمَ اللَّذَّةُ بهِ عندَ فِراقِ الدُّنيا، والقدومِ على اللهِ سبحانَهُ؛ إذ اللَّذَّةُ علىٰ قدْرِ الحبِّ، والحبُّ على قدْرِ المعرفةِ والذِّكرِ.

ومِنَ الأعمالِ ما يُؤثِّرُ في الاستعدادِ لسعادةِ الآخرةِ أو لشقاوتِها بخاصِّيَّةٍ ليسَتْ على القياسِ، لا يُوقَفُ عليها إلَّا بنورِ النُّبوَّةِ؛ فإذا رأيتَ النَّبيَّ ﷺ قد عدلَ عن أحدٍ المباحينِ إلى الآخرِ، وآثرَهُ عليهِ معَ قدرتِهِ عليهِما.. 

فاعلمْ: أنَّهُ اطَّلعَ بنورِ النُّبوَّةِ على خاصِّيَّةٍ فيهِ ، وكُوشِفَ بهِ مِنْ عالَمِ الملكوتِ، كما قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي، وَأُؤَدِّبَكُمْ مِمَّا أَدَّبَنِي:

"لا يُكْثِرَنَّ أَحَدُكُمُ ٱلْكَلَامَ عِنْدَ ٱلْمُجَامَعَةِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ خَرَسُ الْوَلَدِ".

"وَلَا يَنْظُرَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَى فَرْجٍ أمْرَأَتِهِ إِذَا هُوَ جَامَعَهَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ الْعَمَىٰ".

"وَلَا يُقَبِّلَنَّ أَحَدُكُمُ آمْرَأَتَهُ إِذَا هُوَ جَامَعَهَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ الصَّمَمُ صَمَمُ ٱلْوَلَدِ".

"وَلَا يُدِيمَنَّ أَحَدُكُمُ ٱلنَّظَرَ فِي الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ".

وهٰذا مثالٌ ممَّا أردنا أن نُنبِّهَكَ على اطِلاعِهِ على خواصِّ الأشياءِ بالإضافةِ إلى أمورِ الدُّنيا؛ لتقيسَ بهِ اطِّلاعَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ علىٰ ما يُؤثِّرُ بالخاصِّيَّةِ في السَّعادةِ والشَّقاوةِ.

ولا ترضَ لنفسِكَ أن تُصدِّقَ محمَّدَ بنَ زكريًّا الرَّازيَّ المُتطبِّبَ فيما يذكرُهُ مِنْ خواصِّ الأشياءِ في الحجامةِ والأحجارِ والأدويةِ، ولا تُصدِّقَ سيِّدَ البشرِ محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ صلواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ فيما يخبرُ بهِ عنها، وأنت تعلمُ أنَّهُ ﷺ مُكاشَفٌ مِنَ العالَمِ الأعلى بجميعِ الأسرارِ، وهذا يُنبِّهُكَ على الاتِّباعِ فيما لا تفهمُ وجةَ الحكمةِ فيهِ علىٰ ما ذكرناهُ في السِّرِّ الأوَّلِ".

 

يقول -عليه رحمة الله تعالى- في سرّ المتابعة في العادات، قال: ما هو السَّببِ المُرغِّبِ في الاتِّباعِ في هٰذهِ الأفعالِ؟ في العادات غير العبادات؟

قال: "ذكرَ السِّرِّ في آحادِ تلكَ السُّننِ طويلٌ، -كل سُنَّة  يطول الكلام فيه- لا يحتمل هذا الكتاب شرحَه، لكن ذلك ينحصر" سرّ الاتِّباع "في ثلاثة أنواعٍ من الأسرار".

  • النوع الأول، السر الأول:

قال: "نبَّهناكَ في مواضعَ -من الكتاب- على العلاقةِ التي بينَ المُلكِ والملكوتِ -فهي علاقة- بينَ الجوارحِ والقلبِ"، بين الحس والمعنى، بين الظاهر والباطن، وأنه "يتأثَّرِ القلبِ بعملِ الجوارحِ" كما أنّ القلب مؤثرٌ في إصدار عمل الجوارح وإيقاعها، فبعدَ وقوع العمل؛ يعودُ من ذلك العمل إن كان حسنةً إلى القلب نور، وإن كان سيئةً إلى القلب ظلمة، فيتأثر القلب بما يَصدرُ من الجوارح. "فإنَّ القلبَ كالمرآةِ، ولا تتجلَّىٰ فيهِ حقائقُ الأشياءِ إلّا بتصقيلِهِ -القلب- وتنويرِهِ وتعديلِهِ"، فإذا تصقّل وتنوّر واعتدل، تجلت الحقيقةُ فيه، وأدركَ لطائفَ المعارف، إذا تصقّل وتنوّر واعتدل.

فكيف تصقيلُه؟ قال: 

  • "تصقيلُهُ: فبإزالةِ خبثِ الشَّهَواتِ، وكدورةِ الأخلاقِ الذَّميمةِ."،هذا تصقيلُه كتصقيل المرآة وتنقيتها.
  • "وُأَمّا تنويرُهُ: فبأنوارِ الذِّكرِ والمعرفةِ" يتنور القلب بذكره لله، وما يحصلُ له من نور المعرفة بالله تعالى، "ويعينُ على ذلكَ العبادةُ الخالصةُ إذا أُدِّيَتْ على كمالِ الحرمةِ بمقتضى السُّنَّةِ"، أثّرت في تنوير هذا القلب وفي جلب المعارف.
  • "وأمَّا تعديلُهُ: فبأن تجريَ جميعُ حركاتِ الجوارحِ علىٰ قانونِ العدْلِ"؛ والعدل: موافقةُ الشرع الشريف والسنة الغراء وموافقة العقل، يكون ما يجري على جوارحك قائمًاً على قانون العدل، لأنّ التعديل في القلب ما تصل إليه اليد تُعدِّله لأنّه من عالم الملكوت، لكن "هيئةً معتدلةً صحيحةً -التي- لا اعوجاجَ فيها" تقوم فيه "بواسطةِ تعديلِ الجوارحِ" إذا عَدّلتَ الجوارح في حركاتها، فعندئذٍ يتعدَّلُ وضعُ القلب وهيئته في الباطن ويستقيم.

قال: "ولهذا كانتِ الدُّنيا مزرعةَ الآخرةِ"، تبذر وتزرع هنا، وتجني وتحصد هناك، فكذلك أنت والآخرة من عالم الملَكوت، والدنيا من عالم المُلك، فكذلك ماتعمله جوارحك يؤثر في قلبك، كما أنَّ أعمالك في الدنيا تؤثر في الآخرة، فما تعمله أيضًا وتتصرف به بجوارحك يؤثر في قلبك الباطني المعنوي الذي هو من عالم الملكوت.

يقول: "ولهذا تعظمُ حسرةُ مَنْ ماتَ قبلَ التَّعديلِ" قبل أن يتعدل قلبُه ويستقيم "لانسدادِ طريقِ التَّعديلِ بالموتِ؛" لا يمكن أن يعدِّل بعد الموت، يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، "إذ تنقطعُ علاقةُ القلبِ عنِ الجوارحِ".

قال: "فمهما كانَتْ حركاتُ الجوارحِ، بل حركاتُ الخواطرِ أيضاً موزونةً بميزانِ العدلِ.. -موافقة للشرع- ةحدثَ في القلبِ هيئةٌ عادلةٌ مستويةٌ، تَستعِدُّ لقَبُولِ الحقائقِ على نعتِ الصِّحَّةِ والاستقامةِ،" كما يستعد الجسمُ الصحيح للقيام بالأعمال، والتمتع بالمآكل والمشارب والملابس والمناظر، وما إلى ذلك، فإذا اعْتلَّ الجسم ومرض يتكدرُ عليه ذوقُ المطاعم والمشارب، ولا يستعد للإنصراف ولا التحرك ولا التنزه، ولا شيء من الأشياء التي تتعلق بالجسم، كذلك إذا مرض القلب لا يستعد لإدراك المعرفة، ولا تظهرُ فيه الحقيقة.

قال:" كما تَستعِدُّ المرآةُ المعتدلةُ لمحاكاةِ الصُّورِ الصَّحيحةِ مِنْ غيرِ اعوجاجٍ"، ولكن إذا اعوجّت المرآةُ عن جهة الصورة، فما تظهر فيها الصورة.

قال: "ومعنى العدلِ: وضعُ الأشياءِ مواضعَها".

قال: "ومثالُهُ: الجهاتِ مثلاً -عندنا- أربعةٌ -أمام وخلف ويمين ويسار- خُصَّ منها جهةُ القِبلةِ بالتَّشريفِ؛ فالعدلُ: أن تستقبلَ القبلةَ -عند- الذِكرِ والعبادةِ والوضوءِ -وعند- العبادة -وعند- الوضوء"، عند تلاوة القرآن، مهما قدرت أن تستقبل القبلة فهذا أولى.

فإذا -أردتَ قضاءَ الحاجة الإنسان، ومثل هذه الحالات السيئة، "تنحرفَ عنها" عن القبلة ولا تستقبلها، قال ﷺ: "لا تَستَقبِلوا القِبلةَ ببَولٍ ولا غائِطٍ، ولكنْ شَرِّقوا أو غَرِّبوا".

ثمّ إنّ "ولليمينِ -له- زيادةٌ -في التكريم- على اليسار" -فهو أكرم من اليسار- "لفضلِ القُوَّةِ؛ فالعدلُ: أن تُفضّلَها" أي: تُفضِّل اليمين على اليسار، فتستعمل اليمين "في الأعمالِ الشَّريفةِ؛ كأخذِ المُصحفِ -وتناول- الطَّعامِ، وتتركَ اليسارَ للاستنجاءِ وتناولِ القاذوراتِ"، فهذا من العدل، "العدل: وضعِ الشيء في موضعه".

كذلك تقليم الأظافر، فيه  "تطهيرٌ لليدِ" -ينبغي أن تقدم اليمنى- "وهوَ إكرامٌ، فينبغي أن يَبدأَ بالأكرمِ والأفضلِ، وربَّما لا يستقلُّ عقلُكَ بالتَّفطُّنِ للتَّرتيبِ في ذلكَ وكيفيَّةِ البدايةِ، فاتَّبغ فيهِ السُّنَّةَ، وابتدئ بالمُسبِّحةِ مِنَ اليمينِ؛ لأنَّ اليدَ أفضلُ مِنَ الرِّجلِ، واليمنى أفضلُ مِنَ اليسرىٰ، والمُسبِّحةَ التي بها الإشارةُ في كلمةِ التَّوحيدِ أفضلُ مِنْ سائرِ الأصابعِ"، فإذًا فتبتدئ بها، وهكذا اشتهر أنَّه ﷺ كان يبتدئ في تقليم الأظافر بمسبحة اليمنى. "ثمَّ بعدَ ذلكَ تدورُ مِنْ يمينِ المُسبِّحةِ" قبل اليمين، إذا صورتَهم أشخاصًا أمامك بسطتَهم هكذا،  تمشي على يمينهم على الترتيب.

وأشرنا أيضًا إلى أنّ اختيار الإمام الغزالي أن تُؤخَر إبهامُ اليمنى وتختم بها، وملحظُه: أن البداية باليمين والختمَ باليمين، والذي اعتمده عامة الفقهاء عندنا كما أشرنا إليه، إلا أنه يبتدأ بالخنصر ولكن يختم بإبهام اليمنى وتقليم اليمنى، ثم يرجع إلى اليسرى ويختم بإبهام اليسرى، فيبدأ من عند الخنصر ويمشي على الترتيب إلى أن يختم باليسرى سواء.

قال: "وللكفِّ ظهرٌ ووجهٌ، فوجهُهُ ما يقابلُهُ، فإذا جعلتَ الكفَّ وجهَ اليدِ.. كانَ يمينُ المُسبِّحةِ مِنْ جانبِ الوسطىٰ، فقدِّرِ اليدينِ متقابلتَينِ بوجهَيهِما، وقدِّرِ الأصابعَ كأنّها أشخاصٌ، فيدورُ المِقراضُ مِنَ المُسبِّحةِ إلى أن يَختِمَ بإبهامِ اليمنىٰ"، فيما قال الإمام الغزالي "كذلكَ فعلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، والحكمةُ فيهِ ما ذكرناهُ" تقديمُ اليمنى، ثم المشي على اليمين، كما يُدار الشراب، ويُطعَم من اليمين فاليمين.

قال: "فإذا أنتَ تعوَّدتَ رعايةَ العدلِ في دقائقِ الحركاتِ.. صارَتِ العدالةُ والصِّحَّةُ هيئةً راسخةً في قلبِكَ، واستوتْ صورتُهُ، وبذلكَ نستعِدُّ لقَبُولِ صورةِ السَّعادةِ. ولذلك قال الله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي  فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29]"؛  فقدَّم التسوية.

"فرُوحُ اللهِ مفتاحُ أبوابِ السَّعادةِ، ولم يكنْ نفخُها إلَّا بعدَ التَّسويةِ،"، (فإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي): 

  • فلما تسَوّى الجسد واعتدل واستقام، نَفخَ فيه الروح، فتتقدم التسوية.
  • كذلك إذا استوى القلبُ، أشرقَ فيه نورُ المعرفة، وأدركَ الحقائق، وانكشفت له الأمورُ على ما هي عليه عند استوائه 

"(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)".

"ومعنى التَّسويةِ يرجعُ إلى التَّعديلِ، ووراءَهُ سِرٌّ يطولُ كشفُهُ"، فيكفي الرمز.

قال: "فإن كنتَ لا تقوىٰ علىٰ فهمِ حقيقتِهِ.. فالتَّجرِبةُ تنفعُكَ، فانظرْ إلىٰ مَنْ تَعوَّدَ الصِّدقَ كيفَ تصدقُ رؤياهُ غالباً"، لأنَّه في اليقظة صادقٌ، فرؤياه في النوم تكون صادقة كذلك تبع له، والذي تعوَّد الكذبَ حتى مرائيه تكون كاذبة، لأنَّه أثَّر على نفسه بهذا التعوُّد.

"لأنَّ الصِّدقَ حصَّلَ في قلبِهِ هيئةً صادقةً، تَتلقَّىٰ لوائحَ الغيبِ في النَّومِ على الصِّحَّةِ، وانظرْ كيفَ تكذبُ رؤيا الكذَّابِ، بل رؤيا الشَّاعرِ الذي" أغرق "تَعوَّدَ التخييلاتِ الكاذبةَ، فاعوجَّ لذلكَ صورةُ قلبِهِ"؛ فتكون مرائيه مثله.

"فإن كنتَ تريدُ أنْ تلمحَ جنابَ القدسِ.. فاتركْ ظاهرَ الإثمِ وباطنَهُ" قال تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) [الأنعام:120]، "واتركِ الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، واتركِ الكذبَ حتَّى في حديثِ النَّفسِ أيضاً"، لا تحدِّث نفسك بالخيالات الباطلة ولا بكذب، فإذا استقمتَ كذلك، اعتدلتْ هيئةُ قلبك، فاستعدَّتْ لانجلاء صورة فيها، صور الحقائق، ولإدراك المعارف والأشياء على ما هي عليه.

هذا هو السر الأول في أنَّ متابعَتنا لنبينا في العادات مؤثرةٌ على قلوبنا وعلى معرفتها ونورها، وأن القلب إذا تصقّلَ وتنور واعتدل استعدَّ لإدراك الحقيقة.

  • السِّرُّ الثَّاني: 

قال: "الأشياءَ المُؤثِّرةَ في بدنِكَ بعضُها إنَّما يُعقَلُ تأثيرُهُ بنوعِ مِنَ المناسبةِ إلى الحرارةِ والبرودةِ، والرُّطوبةِ واليبوسةِ؛ كقولِكَ: إنَّ العسلَ يضرُّ المَحرورَ،  -لأنَّه- وينفعُ الباردَ مزاجُهُ، ومنها ما لا يُدرَكُ بالقياسِ، ويُعبَّرُ عنهُ بالخواصِ" من أين نعرف الخواص؟ قال: "لا يُوقَفُ عليها بالقياسِ، بل مبدأُ الوقوفِ عليها وحيٌ أو إلهامٌ، -مثلًا- "فالمغناطيسُ يَجذِبُ الحديدَ، خصوصية "والسَّقَمُونيا" -نوع من النبات هذا الذي ذكره- تَجذِبُ خلطَ الصَّفراءِ مِنْ أعماقِ العروقِ لا على القياسِ، بل بخاصِّيَّةٍ وُقِفَ عليها إمَّا بإلهامٍ أو تَجرِبةِ، وأكثرُ الخواصِ عُرِفَتْ بالإلهامِ، وأكثرُ التَّأثيراتِ في الأدويةِ وغيرِها مِنْ قبيلِ الخواصِ." وتعرف بالتجربة، ولهذا اليوم في الطب يجرِّبون على الفئران، ما الذي يضر؟ وما الذي ينفع؟ وبعد ذلك على ضوء ذلك يُصدِّرون الأدوية، ويجربون! -لا إله إلا الله-.

فهذا مرجعه التجربة، وقبلَها لا يهتدون إليه بعقولهم، لا يهتدون بعقولهم إلى أن هذا يؤثر كذا، لا يأتون عليه بعقولهم، ولكن بالتجربة أو بإلهامٍ من الله؛ وهو ما تحدثَ عنه الأنبياءُ في المنافع، أو أُلهمَه بعضُ الأولياء.

قال: "فاعلمْ: أنَّ تأثيرَ الأعمالِ في القلبِ ينقسمُ إلىٰ ما يُفهَمُ وجهُ مناسبتِهِ -مثلًا أن تعلم- "اتّباعَ الشَّهَواتِ الدُّنيويَّةِ يُؤكِّدُ علاقتَهُ معَ هٰذا العالَمِ،" الدنيوي، فيَشقُّ عليه الخروج ومفارقةُ هذا العالم، "فيخرجُ مِنْ هٰذا العالَمِ منكوسَ الرَّأسِ، مُولِياً وجهَهُ إلىٰ هٰذا العالَمِ؛" لأن محبوباتِه ومألوفاته فيه، وهو ناسٍ للدار الآخرة.

"وكعلمِكَ بأنَّ المداومةَ علىٰ ذكر اللهِ تعالىٰ تُؤكِّدُ الأُنسَ باللهِ تعالىٰ، وتُوجِبُ الحبَّ حتَّىٰ تَعظُمَ اللَّذَّةُ بهِ عندَ فِراقِ الدُّنيا، والقدومِ على اللهِ سبحانَهُ؛" فتحبُّ لقاء الله ويحب الله لقاءك، لأن "اللَّذَّةُ علىٰ قدْرِ الحبِّ، والحبُّ على قدْرِ المعرفةِ والذِّكرِ."

قال: "ومِنَ الأعمالِ ما يُؤثِّرُ في الاستعدادِ لسعادةِ الآخرةِ أو لشقاوتِها بخاصِّيَّةٍ ليسَتْ على القياسِ، لا يُوقَفُ عليها إلَّا بنورِ النُّبوَّةِ، فإذا رأيتَ النَّبيَّ ﷺ، قد عدلَ عن أحدٍ المباحينِ إلى الآخرِ، وآثرَهُ عليهِ معَ قدرتِهِ عليهِما..، -يقدر على هذا وعلى هذا، لكن ترك هذا وعمل هذا- فاعلمْ: أنَّهُ اطَّلعَ بنورِ النُّبوَّةِ على خاصِّيَّةٍ فيهِ ، وكُوشِفَ بهِ مِنْ عالَمِ الملكوتِ، كما قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي، وَأُؤَدِّبَكُمْ مِمَّا أَدَّبَنِي:

"لا يُكْثِرَنَّ أَحَدُكُمُ ٱلْكَلَامَ عِنْدَ ٱلْمُجَامَعَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ خَرَسُ الْوَلَدِ".

"وَلَا يَنْظُرَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَى فَرْجٍ أمْرَأَتِهِ إِذَا هُوَ جَامَعَهَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ الْعَمَىٰ".

"وَلَا يُقَبِّلَنَّ أَحَدُكُمُ آمْرَأَتَهُ إِذَا هُوَ جَامَعَهَا؛ -بل يقدم القبلة وغيرها قبل- فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ الصَّمَمُ صَمَمُ ٱلْوَلَدِ".

"وَلَا يُدِيمَنَّ أَحَدُكُمُ ٱلنَّظَرَ فِي الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ".

قال: "وهٰذا مثالٌ ممَّا أردنا أن نُنبِّهَكَ على اطِلاعِهِ على خواصِّ الأشياءِ بالإضافةِ إلى أمورِ الدُّنيا؛ لتقيسَ بهِ اطِّلاعَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ علىٰ ما يُؤثِّرُ بالخاصِّيَّةِ في السَّعادةِ والشَّقاوةِ".

"ولا ترضَ لنفسِكَ أن تُصدِّقَ محمَّدَ بنَ زكريًّا الرَّازيَّ المُتطبِّبَ فيما يذكرُهُ مِنْ خواصِّ الأشياءِ في الحجامةِ والأحجارِ والأدويةِ، ولا تُصدِّقَ سيِّدَ البشرِ محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ صلواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ فيما يخبرُ بهِ عنها".

الآن لم يعد هناك الرازي، والآن كم من واحد يقول إنَّه علمي وعنده اطلاع وبحث علمي، وقال العلم كذا وقال العلم كذا، ألا تستحي من نفسك تُصدِّق هؤلاء، ولا تصدقُ الذي لا ينطق عن الهوى؟ فتتأثر بكلامهم، إذا قال لك هذا يضر، وأثبت العلم ذلك، عِلمُ مَن؟ وما مقدار هذا العلم؟ وهؤلاء يتجاوزون الحد، وتنكشفُ لهم بعضُ الأشياء، ينقضون بها ما قالوا أولًا، ثم فوق ذلك كله، صاروا يقرُّون وينشرون حتى في منشوراتهم، بعد مرور خمسين سنة، يقولون: الأمر الفلاني هذا يضر الصحة، ثم يقولون: نحن قلنا هذا لأجل الشركة الفلانية والشركة الفلانية حتى لا يخسروا أدويتهم، وكلام كاذب!

نشروا هذا في بريطانيا وفي غيرها، خمسين سنة تكذبون على خلق الله من أجل مقابل، لأن الشركة تعطيهم فلوسًا ليقولوا هذا يضر وهذا ينفع -لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-، ولكن ما جاء من طريق النبوة فحقٌ واضحٌ صريح، ما فيه كذبٌ ولا فيه تدليس -لا إله إلا لله-.

يقول: "ولا ترضَ لنفسِكَ أن تُصدِّقَ محمَّدَ بنَ زكريًّا الرَّازيَّ المُتطبِّبَ فيما يذكرُهُ مِنْ خواصِّ الأشياءِ في الحجامةِ والأحجارِ والأدويةِ، ولا تُصدِّقَ سيِّدَ البشرِ محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ صلواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ فيما يخبرُ بهِ عنها"، تجيب وكالة ناسا، وما يقابلها عند أهل الشرق وعند أهل الغرب وتصدقها، ولا تصدق الذي جاوز السبعَ الطباق؟ الجوَ كله، والسماء الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة، أين يصل هؤلاء؟! هؤلاء ما يصلون تحت حبس؛ يقول: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا) لا يقدرون لكن محمد نفذ (لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)  [الرحمن:33]، وجاوز السبع السماوات إلى سدرة المنتهى، وتخلف جبريل، وطلع فوق سدرة المنتهى وإلى عرش الرحمن، فهو الأصدقُ فيما يقول عن العوالم كلها -صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله-.

"ولا تُصدِّقَ سيِّدَ البشرِ محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ صلواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ فيما يخبرُ بهِ عنها، وأنت تعلمُ أنَّهُ ﷺ مُكاشَفٌ مِنَ العالَمِ الأعلى بجميعِ الأسرارِ، وهذا يُنبِّهُكَ على الاتِّباعِ فيما لا تفهمُ وجةَ الحكمةِ فيهِ علىٰ ما ذكرناهُ في السِّرِّ الأوَّلِ".

 

وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"السِّرُّ الثَّالثُ: أنَّ سعادةَ الإنسانِ في أن يَتشبَّهَ بالملائكةِ في النُّزوعِ عنِ الشَّهَواتِ، وكسرِ النَّفْسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ، ويُبعِدَ عن مشابهةِ البهيمةِ المُهمَلَةِ سُدىً، التي تسترسلُ في اتِّباعِ الهوىٰ حَسَبٍ ما يقتضيه طبعُها مِنْ غيرِ حاجزٍ.

ومهما تَعوَّدَ الإنسانُ في جميعٍ أمورِهِ أن يفعلَ ما يشاءُ مِنْ غيرِ حاجزٍ.. أَلِفَ اتِّباعَ مرادِهِ وهواهُ، وغلبَ على قلبِهِ صفةُ البهيمةِ، فمصلحتُهُ: أن يكونَ في جميعِ حركاتِهِ مُلجَماً بِلِجامٍ بَصدُّهُ عن طريقٍ إلى طريقٍ؛ كي لا تنسى نفسُهُ العبوديَّةَ ولزومَ الصِراطِ المستقيمِ، فيكونَ أثرُ العبوديَّةِ ظاهراً عليهِ في كلّ حركةٍ؛ إذ لا يفعلُ شيئاً بحَسَبٍ طبعِهِ، بل بحَسَبِ الأمرِ، فلا ينفكٌّ في جميعِ أحوالِهِ عن مصادماتِ الزَّمانِ بإيثارِ بعضِ الأمورِ علىٰ بعضٍ.

ومَنْ ألقىٰ زِمامَهُ في يدِ كلبِ مثلاً، حتَّىٰ لم يكنْ تصرُّفُهُ وتردُّدُهُ بحكم طبعِهِ، بل بحكم غيرِهِ.. فنفسُهُ أقومُ، وإلىٰ قَبُولِ الرِّياضةِ حقيقيَّةِ أقربُ ممَّنْ جعلَ زِمامَهُ في يدِ هواهُ، يسترسلُ استرسالَ البهيمةِ .

وتحتَ هذا أيضاً سِرُّ عظيمٌ في تزكيةِ النَّفسِ، وهذهِ فائدةٌ تحصلُ بوضعِ الشَّارع كيفما وضَعَهُ، والفائدةُ الحِكَميَّةُ أوِ الخاصِيَّةُ لا تَتغيَّرُ بالوضعِ، وهٰذا يَتغيَّرُ بالوضعِ؛ فإنَّ المقصودَ:

ألَّا يكونَ مُخلّىً معَ اختيارِهِ، وذلكَ يحصلُ بالمنعِ عن أحدِ الجانبينِ، أيَّ جانبٍ كانَ، وفي مثلِ هٰذا يُتصوَّرُ أن تختلفَ الشَّرائعُ؛ لأنَّهُ ثمرةُ الوضعِ.

فتكفيكَ هٰذهِ التَّنبيهاتُ الثَّلاثةُ على فضلِ ملازمةِ الاتِّباعِ في جميعِ الحركاتِ والسَّكناتِ".

 

رزقنا الله حسن متابعة نبينا في جميع أحوالنا.

  • قال: "السِّرُّ الثَّالثُ": 

أنك بالمتابعة له في عاداتك؛ في لباسك؛ في طعامك، في شرابك؛ في مشيك؛ في دخولك وخروجك تتشبه بالملائكة أنك لست عبدًا للشهوة؛ فأنت في المباحات التي أبيحت لك، تعدلُ إلى جانبٍ معين منها، فلا تألفُ النفسُ الاسترسال حتى في المباحات مقيدة، مع أنَّه جانب أُبيح لك وهو حلال ولكن مع ذلك عندك ترتيبٌ ونظرٌ ومراقبة، فإذا بك كأنك خارجٌ عن الهوى، وخارجٌ عن غلبة الشهوة أصلًا، تقيدتَ حتى في المباحات، فيستحكمُ القيدُ عندك، فتكون على الاستقامة في شؤونك كلها.

لهذا إذا رُئيَ القيدُ في النوم يُؤوَّل بالدين، وإذا قُيّد بقيد قوي، معناه ملتزم بقوة في الدين، هذا التقيد في المباحات يكسبك قوة، في أنك لا تنطلق ولا تتصرف إلا في تبعية، فأنت إذًا أقوى في التحرر من الهوى ومن الشهوات، بخلاف ما إذا أطلقتَ العنان لنفسك في المباحات، فالنفسُ تألف أنَّها تسترسلُ مع هواها من هنا إلى هنا، ولهذا بسرعة إذا ما مسكتها أوقفتك على المكروه، إذا ما مسكتها دخلت في المكروهات كما تدخل في المباحات، إذا ما مسكتها وقفت عند الحرام، إن مسكتها وإلا ألفت الحرام كما ألفت المكروه.

لكنك إذا من البداية قيّدتَها حتى في المباحات، تستقر الاستقامةُ عندك، وتتشبه بالملائكة، كأنك لستَ صاحبَ شهوةٍ ولا صاحبَ هوى، لأنك حتى في المباحات مقيّدٌ وملتزم ومقتدٍ، فصرتَ كأنك من الروحانيين، لا تعمل ولا تتصرفُ فيك الشهوة ولا الهوى، ولكنك في متابعة حتى في المباحات.

قالوا لرسول الله ﷺ: يا رسولَ اللهِ! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟" قالوا: بلى، قال: "فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له أجرٌ"، وتكسب الأجر من حركاتك وسكناتك، ودخولك وخروجك، وكيفيةِ مشيك ومن لباسك، تلبس الكمَ الأيمن قبل الكم الأيسر وهكذا.

لذا رأيناهم يربُّون أولادَهم من الصغر، فإذا دخل الولدُ إلى الغرفة أو إلى البيت باليسرى، يقول: يا ولد، نسيتَ السنة! ارجع، ارجع، اخرج باليسرى وادخل ثاني مرة باليمنى، مرة ومرتين، ويتعود في الصغر، وبعد ذلك، طول عمرهم لا ينسون أبدًا، يتنبهون كيف يدخلون إلى الغرفة، كيف يدخلون إلى البيت، وإذا بالسنَّة ترسخُ فيه من الصغر.

هم أقوامٌ غُذُوا في المحبة من صغرهم *** وعاشوا في مخافات وغابوا في فكرهم

ويسعد كل من كان في عمره نظرهم *** في البكرة صباح أو عشية في مساهم

يقول: "سعادةَ الإنسانِ في أن يَتشبَّهَ بالملائكةِ في النُّزوعِ عنِ الشَّهَواتِ، وكسرِ النَّفْسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ، ويُبعِدَ عن مشابهةِ البهيمةِ المُهمَلَةِ سُدىً، التي تسترسلُ في اتِّباعِ الهوىٰ حَسَبٍ ما يقتضيه طبعُها مِنْ غيرِ حاجزٍ". ومع ذلك فهوى وشهواتُ البهائم محصور بالنسبة للإنسان إذا لم يتهذب، الإنسان أخبثُ من البهيمة في استرسالها في الهوى، حتى في الأطعمة، حتى في المشي، كم مقدار الحيوان، كم يأكل وكم؟ هذا ينوعها أنواع، ويزداد فيها ازدياد حتى الحيوان لا يصل لهذه الدرجة -لا إله إلا الله-.

قال: "ومهما تَعوَّدَ الإنسانُ في جميعٍ أمورِهِ أن يفعلَ ما يشاءُ مِنْ غيرِ حاجزٍ.. أَلِفَ اتِّباعَ مرادِهِ وهواهُ، وغلبَ على قلبِهِ صفةُ البهيمةِ، فمصلحتُهُ: أن يكونَ في جميعِ حركاتِهِ مُلجَماً بِلِجامٍ بَصدُّهُ عن طريقٍ إلى طريقٍ؛ كي لا تنسى نفسُهُ العبوديَّةَ ولزومَ الصِراطِ المستقيمِ، فيكونَ أثرُ العبوديَّةِ ظاهراً عليهِ في كلّ حركةٍ؛ إذ لا يفعلُ شيئاً بحَسَبٍ طبعِهِ، بل بحَسَبِ الأمرِ، فلا ينفكٌّ في جميعِ أحوالِهِ عن مصادماتِ الزَّمانِ بإيثارِ بعضِ الأمورِ علىٰ بعضٍ".

وهكذا استقام بعضُ أرباب الصلاح بقوة، فصار بعد ذلك مع التزامه وتأدبه، صار عظيمَ الاتصال بالجناب النبوي، حتى لا يخرج من مكانه إلاّ بإشارة، حتى رسول الله ﷺ  يُقول له: ضع فراشك في المكان الفلاني، ونم في المكان الفلاني، لكن هذا واصَلَه بعدما استقام هو على المنهج، فترقّى إلى منزلة أعلى.

قال: "ومَنْ ألقىٰ زِمامَهُ في يدِ كلبِ مثلاً، حتَّىٰ لم يكنْ تصرُّفُهُ وتردُّدُهُ بحكم طبعِهِ، بل بحكم غيرِهِ.. فنفسُهُ أقومُ وإلىٰ قَبُولِ الرِّياضةِ حقيقيَّةِ أقربُ ممَّنْ جعلَ زِمامَهُ في يدِ هواهُ"، أيُّ أحدٍ قادك غيرُ الهوى يُضعفُ الهوى، لكن الهوى إذا قادك، يستحكمُ ويتقوى عليك، ويأخذك ويستهينُ بك، ويلعب بك لعب، أمَّا إذا قادك غيرُ الهوى يضعفه؛ ولهذا تجد ناس يستقيمون في كثيرٍ من الأمور أحيانًا حتى تحت سلطات جائرة وظالمة، حتى بقوانين كافرة، لكن يمشي كذا.. ولا يفكر في شيء، إذا راح القانون من فوقه تخلص وعمل المصائب والمشاكل، لكن يوم كان القانون فوقه السلطان قاده وليس هواه، لما السلطان قاده وليس هواه مشى مضبوط، هو تحت نظام، حتى ليس نظام مشايخ ولا نظامًا خالدًا، نظام حكومةٍ جائرة أوظالمة أو كافرة حتى، لكن هواه مضبوط، كلُ واحد مسك زمامه ولا يتعدى القانون فوق نظام وقانون.

وبخلاف ذلك إذا اتبع الهوا، إذا تبعتَ الهوى، يلعبُ بك لعب ويقوى عليك، ولا يجعلُ لك التفات إلا  إلى كل الأسواء وكل الآفات والسواقط -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، قال تبارك وتعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) [النازعات:40-41]، ولهذا سماه الحق تعالى إلهاً: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23]؛ لأنّه ينهاه عمَّا أمر الله، ويأمره بما نهى الله، ويقدم أمرَه ونهيه على أمر الله ونهيه، فجعله إلهًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى- من دون الله، وشرُّ ما عُبدَ من دون الله الهوى.

واعلم هُديت وخير العلم أنفعه *** أنَّ اتِّباع الهوى ضربٌ من الخبل 

فكم وكم ضل بالأهوا وطاعتها *** من عاقلٍ جامعٍ  للعلم والعمل!

عنده نصيب من العقل وعلم وعمل، دخل الهوى عليه انتهى، راح عقله، راح علمه، راح عمله -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف:26]، فما عاد ينفعهم السمع والعقل والأبصار ولا شيء -لا إله إلا الله-، اللهم اجعل هوانا تبعًا لما جاء به هادينا صلى الله عليه وسلم.

قال: "وتحتَ هذا أيضاً سِرُّ عظيمٌ في تزكيةِ النَّفسِ، وهذهِ فائدةٌ تحصلُ بوضعِ الشَّارع كيفما وضَعَهُ، والفائدةُ الحِكَميَّةُ أوِ الخاصِيَّةُ لا تَتغيَّرُ بالوضعِ، وهٰذا يَتغيَّرُ بالوضعِ؛ فإنَّ المقصودَ:

ألَّا يكونَ مُخلّىً معَ اختيارِهِ، وذلكَ يحصلُ بالمنعِ عن أحدِ الجانبينِ، أيَّ جانبٍ كانَ، وفي مثلِ هٰذا يُتصوَّرُ أن تختلفَ الشَّرائعُ؛ لأنَّهُ ثمرةُ الوضعِ.

فتكفيكَ هٰذهِ التَّنبيهاتُ الثَّلاثةُ على فضلِ ملازمةِ الاتِّباعِ في جميعِ الحركاتِ والسَّكناتِ" لزين الوجود، حتى في العادات والظواهر، فنِعْمَ القدوةُ قدوتُنا، ونِعْمَ الأسوةُ أسوتنا.

وآية حب الله منَّا اتباعه *** وبه وعد الغفرانَ بعد المحبة

(فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31]؛ ونحن السعداء باتباعه.

ويقول أهل النحو وأهل علم اللغة: إن التابعَ له حكمُ المتبوع، عندهم توابع أربعة في النحو، إذل تبع المرفوعَ فهو مرفوعٌ، وإن تبعَ المخفوضَ فهو مخفوضٌ، وإن تبع المنصوبَ فهو منصوبٌ، وإن تبع المجزومَ فهو مجزومٌ، بحسب التابع؛ فالتابع له حكم المتبوع، ولا أرفعَ من محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا اتبعتَه فلك حكمُ الرفع، أنت مرفوع، هل هناك رفعةٍ فوق (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)؟! اللهم ارزقنا حسن متابعته.

كان نوره يظهر في الديار والمنازل، حتى شوارع المسلمين ظهر فيها نوره ﷺ، حتى أسواقهم كان يظهر فيها نوره، كان سيدنا علي يقول: "سوق المسلمين كمصلى المصلين"، وظهر من قلوبهم على وجوههم، وعلى ظواهرهم (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح:29]، وهذا من تحقيق السجود لله تعالى، التبعيةُ للنبي محمد حتى في الظواهر، حتى في العادات.

والآن اختلط على أكثر المسلمين أمرَ هذه التبعية، وانحلت عُراها، وصاروا في تبعية أهل الظلمة، تبعيةِ أهل الفسق، وصاروا يشابهونهم حتى في حلاقاتهم، حتى في أزيائهم، فجاءت الظلمة ودخلت في الديار، ودخلت الأسواق ودخلت الأماكن، وبعضُها فاض حتى من القلب على الوجه تشاهد الظلمة عليهم -والعياذ بالله تعالى-.

أيام انتشار الشيوعية عندنا وفكرِها، يقول سائق الحبيب محمد بن علوي -عليه رحمه الله- وهو يسوق في السيارة، رأى رجلًا مقبلًا مِمَّن تأثر بأفكار الشيوعية وغيرها وغطى رأسه، فقال له متعجبًا: حبيب ما عندك صداعٌ ولا شيء؟ قال: لا، قال: رجل يمشي وهو في الدنيا، وأرى النار فوق رأسه تشتعل! وهو لا يزال في الدنيا، ظهرت ظلمةُ إلإلحاد منه، وهو يشاهده، يقول: لا يزال يمشي في الدنيا وأشوف النار فوقه تشتعل! -لا إله إلا الله-.

يا رب ثبتنا على الحق والهدى *** يا رب واقبضنا على خير ملة

وأهل الاتباع يُرى النور من كل جانب يتغشاهم من نور المتبوع؛ وهو نور الله الأكبرﷺ.

أنشد حسين بن حداد:

صفِّ قلبي بذكر الأصفياء والأكابر *** واذكر أوصاف ساداتي خيار العشائر

طيِّب الروح بالذكرى لأهل المسامر *** واغرف من بحورهم عزيز الجواهر

من حضر عندنا اُحضر وقلبك حاضر *** وتطهّر لتدخل في شريف المحاضر

فلنسوح بالمواهب من إله المواطر *** وأن إحسان مولانا لخلقه لغامر

قد ظفر من صدق يظفر مع كل ظافر *** واجعل الصدق سربالك وقم في الدياجر

وانصر أحمد يكون مولاك لك خير ناصر *** قم نسافر مع الأحباب أهل السرائر

سر معي ثم كن يا صاحب الوجد طائر *** في مراقٍ علية قد سمت عن مُناظِر

يا لها من مناظرلاهل نور البصائر *** يا لأرباب تلك الأفئدة من نواظر

لا تمدن عينيك لشيء من مظاهر *** فقرها ثم حقق لاتباعك وحاذر

وتوجه إلى المالك بباطن وظاهر *** واتبع للمشفع خير ذاكر وشاكر

سيد الرسل أسمى كل صافي وطاهر *** تتغشاه دايم بالعشي والبواكر

صلوات المهيمن ما ذكر كل ذاكر *** أو غفل من غفل والآل نور البصائر

والصحابة وتابعهم على الهدي سائر

من حَسُن منه السير يتحول إلى الطيران بعد السير؛ فيكون سائر ثم طائر برحمة الله، قال:

إني سبقت مطاياكم بأطياري

 يقول سيد محمد أمين كتبي: 

تلك الطريق قطعتُها في ليلة *** وسواي يقطع بعضها في أشهر

الله يقربنا إليه ويطوي المسافة ويبعد الآفة، ويوصلنا إليه، ويجعلنا من المقبولين بجاهه والموفقين لمرضاته في عوافي تامة مع المنن والفواضل، ويدفع عنا وعن الأمة البلايا والآفات والرزايا والعاهات في الظواهر والبواطن، ويعجل بالفرج للمسلمين والمسلمات ولأهل غزة والضفة الغربية وأكناف بيت المقدس، لأهل الشام واليمن والشرق والغرب، يكشف كل كرب عنا وعنكم وعن أهل لا إله إلا الله في المشارق والمغارب، ويدفع عنا وعنهم جميع المصائب، ويرفعنا إلى المراتب العلى مع خيار القوم، ممن ضمن له سلك أهل الصدق معه -سبحانه وتعالى- في كل سباحة وعوم، وأنّ الله يقينا الأسواء والأدواء، ويصلح السر والنجوى، ويخلع علينا أسنى خلع التقوى والعافية، ولا ينزعها عنا بجاه سيد النجوى، ويختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنا.

 

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ 

إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

تاريخ النشر الهجري

27 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

20 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام