(364)
(535)
(339)
الدرس السابع عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: الأصل الثامن: القيام بحقوق المسلمين وحسن الصحبة معهم (3)، الأصل التاسع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
فجر الأربعاء 26 صفر 1447هـ
يتحدث الحبيب عمر بن حفيظ عن أصل اتخاذ الإخوان في الله ومعالم المحبّة والبغض في الله: منازلُ المتحابّين يوم القيامة، ودرجات المحبّة؛ خلاصةُ عمليّة لبناء أخوّةٍ لله تُصلِح القلب والمجتمع.. ثم ينتقل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: حدوده ومراتبه، أدبُ الرفق، ومفارقة مجالس المعصية، مع إشاراتٍ لقصصٍ نبويةٍ ومواقفَ من السلف..
بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب (الأربعين في أصول الدين) وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- إلى أن قال:
فصل
في اتخاذِ الإخوانِ في اللهِ تعالىٰ
"مِنْ أصولِ الدِّينِ في أمرِ الصُّحبةِ.. اتِّخاذُ الإخوانِ في اللهِ تباركَ وتعالىٰ.
قالَ اللّٰه تعالىٰ لبعضِ أنبيائِهِ: (أمَّا زهدُكَ في الدُّنيا .. فقدِ استعجلتَ الرَّاحةَ، وأمَّا انقطاعُكَ إليَّ.. فقد تعزَّزتَ بي، فهل واليتَ فيَّ وليّاً؟ وهل عاديتَ فيَّ عدوّاً؟).
وقالَ ﷺ: "يَقُولُ ٱللَهُ تَعَالَىٰ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ: أَيْنَ ٱلْمُتَحَابُونَ بِجَلَالِي؟ ٱلْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي".
وأوحى اللّه تعالى إلى عيسى -عليهِ السَّلامُ-: (لو أنَّكَ عبدتَني بعبادة أهل السَّماواتِ والأرضِ، وحبُّ في اللهِ ليسنَ، وبغضٌ في اللهِ ليسَ.. ما أغنى عنكَ ذلكَ شيئاً).
وقالَ ﷺ: "إِنَّ حَوْلَ الْعَرْشِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَلَيْهَا قَوْمٌ لِبَاسُهُمْ نُورٌ، وَوُجُوهُهُمْ نُورٌ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، بَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَٱلشُّهَدَاءُ"، فقالوا: يا رسولَ اللهِ؛ حَلِّهِمْ لنا. فقالَ: "الْمُتَحَابُّونَ فِي اللهِ ، وَٱلْمُتَجَالِسُونَ فِي اللهِ، وَٱلْمُتَزَاوِرُونَ فِي ٱللَّهِ".
واعلمْ : أنَّ كلَّ حُبِّ لا يُتصوَّرُ دونَ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ .. فهوَ حبٌّ في اللهِ ، ولكنَّهُ علىٰ درجتينِ:
- إحداهُما: أن تُحِبَّهُ لتنالَ منهُ في الدُّنيا نصيباً يُوصِلُكَ إلى الآخرةِ؛ كحبِّكَ أستاذَكَ وشيخَكَ، بل تلميذَكَ الذي ينمو علمُكَ بتعليمِهِ، بل خادمَكَ الذي يُفرِّغُ قلبَكَ عن كنسِ بيتِكَ وغسلِ ثوبِكَ لتتفرَّغَ بسببِهِ لطاعةِ اللهِ تعالىٰ، بلِ المُنفِقَ عليكَ مِنْ مالِهِ إذا كانَ غرضُكَ مِنْ ذلكَ فراغَ القلب لعبادةِ اللهِ تعالىٰ.
- الثَّانيةُ -وهيَ أعلى درجةً-: أن تُحِبَّهُ لأنَّهُ محبوبٌ عندَ اللهِ تعالىٰ، ومُحِبٌّ للهِ تعالى، وإن لم يَتعلَّقْ به غرضٌ لكَ في الدُّنيا والآخرةِ؛ مِنْ علمٍ أو معونةٍ علىٰ دينٍ أو غيرِهِ، وهذا أكملُ؛ لأنَّ الحبَّ إذا غلبَ.. تعدَّى إلى كلِّ مَنْ هوَ مِنَ المحبوبِ بسببِ، حتَّىٰ يحبَّ الإنسانُ محبَّ محبوبِهِ، ومحبوبَ محبوبِهِ، بل يُميِّزُ بينَ الكلبِ الذي يكونُ في سِكَّةِ محبوبِهِ وبينَ سائرِ الكلابِ، وإنَّما سِرايةُ الحبِّ بقدرِ غلبةِ الحبِّ.
ومَنْ أحبَّ اللهَ.. لمْ يمكنْهُ إلَّا أن يحبَّ عبادَهُ الصالحينَ المرَضيِّينَ عندَهُ، إلَّا أنَّ ذلكَ قد يَقوىٰ حتَّىٰ يَحمِلَ على أن يَسلُكَ بهم مَسلكَ نفسِهِ، بل يُؤثرَهُم علىٰ نفسِهِ، وقد يقصُرُ عن ذلكَ، وفضلُهُم عندَهُ بقدْرِ درجتِهِ وقُوَّتِه.
وكذلكَ يُبغِضُ -لا محالةَ- مَنْ يعصيهِ ويُخالِفُ أمرَهُ، ويُظهِرُ أثرَ ذلكَ في مجانبتِهِ ومهاجرتِهِ لهُ، وتقطيبِهِ الوجهَ عندَ مشاهدتِهِ، ولذلكَ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "اللَّهُمَّ؛ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيَّ يَداً فَيُحِبَّهُ قَلْبِي"؛ حذراً مِنْ أن يقدحَ ذلكَ في البغضِ في اللهِ تعالىٰ .
وبالجملةِ: مَنْ لا يُصادِفُ مِنْ نفسِهِ الحبَّ في اللهِ والبغضَ في اللهِ بهٰذهِ الأسبابِ.. فهوَ ضعيفُ الإيمانِ، وهذا لهُ تحقيقٌ وتفصيلٌ؛ فاطلبْهُ مِنْ (كتابِ الصُّحبةِ والأُخوَّةِ في اللهِ تعالىٰ) مِنْ كتبِ (إحياءِ علومِ الدِّينِ)".
الحمد لله الذي يؤلف بين قلوب أهل المحبة منه والمحبة له، ويجعلهم على صدقٍ في الوجهة إليه يُفضي إلى العشق والوله، ونشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أحبِّ محبوبٍ إليه، وأكرم كريم عليه، وأعظم الخلق منزلة لديه، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرَّم على عبدك المختار سيدنا محمد، أعظم من يُحَب من أجلك، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه قاصدًا لوجهك، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك محل نظرك في بريتك، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وارزقنا محبتهم فيك ولك ومن أجلك، واحشرنا في زمرتهم وأنت راضٍ عنا.
عقد هذا الفصل -عليه رحمة الله تعالى- "في اتخاذِ الإخوانِ في اللهِ تعالىٰ"، وقال: "مِنْ أصولِ الدِّينِ في أمرِ الصُّحبةِ.. اتِّخاذُ الإخوانِ في اللهِ تباركَ وتعالىٰ.
مظاهرة الإخوان أمرٌ مقرر *** عليه يدور الشأن فاستوصِ بالخلِّ
فما عيش من يمسي ويصبح فاقدًا *** أخًا ثقةً مأمونًا في الجد والهزل
يؤازره في كل أمر يرومه *** ويحفظه في النفس والمال والأهل
فالأخوة في الله -تبارك وتعالى- من أعظم ثمرات المحبة لله، والمحبة من الله تبارك وتعالى للعبد، فإنه يقول في الحديث القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ"-الله لا إله إلا الله-.
يقول: إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: ماذا عملت لي؟ يقول: يا رب، زهدت في الدنيا وتعبدت. قال: "أمَّا زهدُكَ في الدُّنيا.. فقدِ استعجلتَ الرَّاحةَ،" وفي لفظٍ: "فقد تعجلت لنفسك الراحة" -وكُفيتَ كثيراً من المشاكل التي تصحب وتقارن الذي يحب الدنيا- "وأمَّا انقطاعُكَ إليَّ.. فقد تعزَّزتَ بي"، قال: يا رب، ما أعمل لك؟ قال: "فهل واليتَ فيَّ وليّاً؟ وهل عاديتَ فيَّ عدوّاً؟" يعني: تحب من أجلي وتبغض من أجلي، فيكون هذا هو الميزان، قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "نُحِبُّ بحبِّكَ النَّاس، ونُعَادِي بعَدَاوتِكَ مَن خالفك مِنْ خَلقِك".
وقالَ ﷺ: "يَقُولُ ٱللَهُ تَعَالَىٰ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ: -ينادي منادٍ في الجمع- أَيْنَ ٱلْمُتَحَابُونَ بِجَلَالِي؟ ٱلْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي"، والحديث في صحيح مسلم، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، إذا نادى: أين المتحابون فيَّ؟ نقوم ونمشي معهم إن شاء الله تعالى.
"وأوحى اللّه تعالى إلى عيسى -عليهِ السَّلامُ-: (لو أنَّكَ عبدتَني بعبادة أهل السَّماواتِ والأرضِ، وحبُّ في اللهِ ليسَ وبغضٌ في اللهِ ليسَ.." -وفي لفظ: وحبُّ فيَّ ليسَ وبغضٌ فيَّ ليسَ-، يعني: ما تقيم ميزان المحبة في الله والبغض في الله تعالى، ولا تكون علاقتك بالخلائق إلا على قدر إسلامهم وإيمانهم وقربهم من الله، أو كفرهم وبعدهم عن الله، فتحب مَنْ والى الله -سبحانه وتعالى- وتبغض من عادى الله، إذا لم يكن ذلك فالعبادة كلها لو كانت عبادة أهل السماوات والأرض لا تغني عنك شيئاً، يعني حتى تحب من أجلي أحبابي وتبغض من أجلي أعدائي.
وقالَ ﷺ: "إِنَّ حَوْلَ الْعَرْشِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَلَيْهَا قَوْمٌ لِبَاسُهُمْ نُورٌ، وَوُجُوهُهُمْ نُورٌ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، بَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَٱلشُّهَدَاءُ"، فقالوا: يا رسولَ اللهِ؛ حَلِّهِمْ لنا"، -أي: صِفهم وانعتهم وبيِّنهم لنا- "فقالَ : "الْمُتَحَابُّونَ فِي اللهِ ، وَٱلْمُتَجَالِسُونَ فِي اللهِ ، وَٱلْمُتَزَاوِرُونَ فِي ٱللَّهِ"، جاء في رواية عند النسائي في السنن الكبرى وفي رواية غيرها، يقول: "ليبعثنَّ اللهُ أقوامًا يومَ القيامةِ في وجوهِهم النورُ على منابرِ اللؤلؤِ -لباسهم نور، وجوههم نور- يغبطُهم الناسُ ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ قال: فجثا أعرابيٌّ على ركبتيه فقال: يا رسولَ اللهِ حَلِّهم لنا -حتى- نعرفْهم قال: هم المتحابُّون في اللهِ من قبائلَ شتّى وبلادٍ شتى يجتمعون على ذكرِ اللهِ يذكرونه".
والله نسأل أن يجعل أهل هذه الدورة ومن يتابعهم منهم، متحابين في الله من بلاد شتى وقبائل شتى يجتمعون على ذكره يذكرونه، متحابين في الله -تبارك وتعالى-، فلهم المنازل الرفيعة في يوم القيامة.
يقول: شأن المحبة في الله عظيم، والأخوَّة في الله تعالى شأنها كبير، يقول ﷺ: "رجُلانِ تحابَّا في اللهِ؛ اجتمَعا على ذلك وَتفرَّقا عليه"، وإن أهل الجنة لينظرون إلى منازل رفيعة يتراؤونها كما يتراءى الكوكب الدري الغابر في السماء، ويقولون: يا رب لمن هذا؟ أهذه المنازل لملكٍ مقربٍ أو نبي مرسل؟ يقول: لا، هذه منزلة المتحابين فيَّ، جعلنا الله من المتحابين فيه والمقبلين بالكلية عليه.
قال: "كلَّ حُبِّ لا يُتصوَّرُ دونَ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ .. فهوَ حبٌّ في اللهِ" المحبة الطبعية التي تُتصور حتى من دون الإيمان بالله واليوم الآخر هذه ليست في الله -سبحانه وتعالى-، محبة طبعية، محبة نفسية، محبة تصدر منه؛ لكن التي ما يمكن أن تقوم إلا على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر فهي حب في الله.
فكل ما أحببت من الأعمال الصالحة ومن العباد الصالحين من أجل الله تعالى فهذا هو الحب في الله -سبحانه وتعالى-، قال: "ولكنَّهُ علىٰ درجتينِ":
إمَّا أن تحب شيئاً لله لأنك تنال منه فوائد تنفعك في السير إلى ربك، وتنفعك في الدار الآخرة، قال: "لتنالَ منهُ في الدُّنيا نصيباً يُوصِلُكَ إلى الآخرةِ؛ كحبِّكَ أستاذَكَ وشيخَكَ" لأنَّه يدلك على الحق ويهيأك للتخلي عن الرذائل والمساوئ، وكذلك محبتك لـ "تلميذَكَ" من حيث أنَّه "ينمو علمُكَ بتعليمِهِ"، ويكون لك أجر تعليمه، ثم كل من علَّمه لك مثل أجره وأجر المعلم الذي تعلم على يديك؛ فهذا أيضًا محبة في الله -تبارك وتعالى-، لكن في الدرجة أولى وفوقها درجة أعلى. قال: "بل خادمَكَ" الذي بسببه تفرغ قلبك عن بعض المهام مثل كنس البيت وغسل الثوب، "لتتفرَّغَ بسببِهِ" في هذه الأوقات "لطاعةِ اللهِ تعالىٰ" ويكفيك هو هذه الأشياء، فأنت تحبه لأنَّه دفع عنك شُغلًا اغتنمته بالحضور مع الله تعالى والعبادة لله، فيكون محبوبًا في الله تعالى. "بلِ المُنفِقَ عليكَ مِنْ مالِهِ إذا كانَ غرضُكَ مِنْ ذلكَ فراغَ القلب لعبادةِ اللهِ تعالىٰ"، فمحبتك له من المحبة في الله تبارك وتعالى؛ وهذه الدرجة الأولى أن تكون في محبته له مُلاحظٌ فائدة تعود منه عليك تنفعك عند الله وفي الدار الآخرة.
"وهي أن تُحِبَّهُ لأنَّهُ محبوبٌ عندَ اللهِ تعالىٰ، ومُحِبٌّ للهِ تعالى،" لأنَّه مؤمن صالح تقي، "وإن لم يَتعلَّقْ به غرضٌ لكَ في الدُّنيا والآخرةِ؛ مِنْ علمٍ أو معونةٍ علىٰ دينٍ أو غيرِهِ، -قال:- وهذا أكملُ؛" ويعبِّرون عنه أحيانًا بمحبة الذات؛ تحبه لذاته، وقصدهم أنَّك لم يدفعك إلى محبته شيءٌ يعود عليك من الأغراض، لا ظاهر ولا باطن، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فيقول: أحببته لذاته.
وأمَّا إطلاق المحبة للذات فلا يصح إلا محبتنا لله سبحانه وتعالى، فهو المحبوب لذاته، ومحبتنا لما يحب ولمن يحب قربة إليه سبحانه وتعالى، يُقصد بها وجهه سبحانه وتعالى، فغيره يُحب من أجله عند من آمن به على قدر إيمانه، وأمَّا هو فهو المحبوب لذاته -سبحانه وتعالى-، وإن كان يلحظ بعض المحبين لله إنعام الله عليه، ويلحظ بعض المحبين لله العوائد، ولكن كلمَّا كمُلت المعرفة أيقن أنَّه هو الأحق بالمحبة من كل شيء، وأنَّه المحبوب لذاته، فهو رب الجلال والجمال والكمال والإنعام والإفضال سبحانه وتعالى.
يقول: "لأنَّ الحبَّ إذا غلبَ.. تعدَّى إلى كلِّ مَنْ هوَ مِنَ المحبوبِ بسببِ،" أي باتصال، أي له اتصال بالمحبوب، مهما صدقت حتى في حب إنسان؛ أنَّك تحب حتى ثيابه، حتى سيارته، حتى دراجته، حتى بيته، حتى قريته، حتى ولده، حتى الحيوانات التي حوالي بيته في المزرعة، على قدر محبتك له، كلمَّا صدقت في المحبة تعدت المحبة، حتى قالوا عن هذا الذي أسموه مجنون ليلى رأى كلباً أسود واهتز، قالوا: مالك؟ قال:
رأيت في حيِّ ليلى كلبًا أسودًا *** فأحببتُ لحبها سود الكلاب
أي كلب أسود يهزني عندما أشوفه، لأني رأيت مرة في حيها كلب أسود، فإذا كان هذا حتى في محبة المخلوقين بينهم، فكيف بمن صدق في محبة الله؟ ولهذا من أحب الله بصدق لا يقدر إلا أن يحب أنبياءه ويحب أولياءه، يحب أحبابه، يحب كائناته من حيث ما شرع وعلى ما شرع -جلَّ جلاله-، "نُحِبُّ بحبِّكَ النَّاس، ونُعَادِي بعَدَاوتِكَ مَن خالفك مِنْ خَلقِك".
قال: " حتَّىٰ يحبَّ الإنسانُ محبَّ محبوبِهِ، ومحبوبَ محبوبِهِ، بل يُميِّزُ بينَ الكلبِ الذي يكونُ في سِكَّةِ محبوبِهِ وبينَ سائرِ الكلابِ، وإنَّما سِرايةُ الحبِّ بقدرِ غلبةِ الحبِّ. ومَنْ أحبَّ اللهَ.. لمْ يمكنْهُ إلَّا أن يحبَّ عبادَهُ الصالحينَ".
قال: "لو أنَّكَ عبدتَني بعبادة أهل السَّماواتِ والأرضِ، وحبُّ في اللهِ ليسنَ، وبغضٌ في اللهِ ليسَ.. ما أغنى عنكَ ذلكَ شيئاً".
"يحبَّ عبادَهُ الصالحينَ المرَضيِّينَ عندَهُ،، إلَّا أنَّ ذلكَ قد يَقوىٰ حتَّىٰ يَحمِلَ على أن يَسلُكَ بهم مَسلكَ نفسِهِ، بل يُؤثرَهُم علىٰ نفسِهِ"، قالوا لسيدنا علي: كيف كانت محبتكم لرسول الله؟ قال: "كان أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا، ومن الماء البارد على الظمأ" -صلوات ربي وسلامه عليه- أحب من ذلك كله، يا رب صلِّ عليه وعلى آله، بل بسبب تربيته انبثت بينهم محبة في الله، آثر كل واحد منهم أخاه حتى بروحه -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، "بل يُؤثرَهُم علىٰ نفسِهِ، وقد يقصُرُ عن ذلكَ، وفضلُهُم عندَهُ بقدْرِ درجتِهِ وقُوَّتِه"، فضل المتحابين في الله عند الله بقدر القوة في المحبة "ما تحابَّ اثنانِ في اللهِ إلَّا كان أحبهما إلى الله أشدُّهما حبًّا لصاحبِه".
قال: "وكذلكَ يُبغِضُ -لا محالةَ- مَنْ يعصيهِ ويُخالِفُ أمرَهُ، ويُظهِرُ أثرَ ذلكَ في مجانبتِهِ ومهاجرتِهِ لهُ، وتقطيبِهِ الوجهَ عندَ مشاهدتِهِ"، قال سبحانه وتعالى: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].
ويقول: "وتقطيبِهِ الوجهَ عندَ مشاهدتِهِ، ولذلكَ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "اللَّهُمَّ؛ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيَّ يَداً فَيُحِبَّهُ قَلْبِي"؛ حتى كانوا يميلون إذا وجد الطبيب المسلم ألا يتطبب عند طبيب كافر، لأنَّه تميل النفس إليه إذا أجرى الله الشفاء على يده، ويخافون أن يكون هناك ميل إلى الكافر والفاجر على غير الوجه الذي يحبه الله ويرضاه -سبحانه وتعالى-، الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.
قال: "حذراً مِنْ أن يقدحَ ذلكَ في البغضِ في اللهِ تعالىٰ. وبالجملةِ: مَنْ لا يُصادِفُ مِنْ نفسِهِ الحبَّ في اللهِ والبغضَ في اللهِ بهٰذهِ الأسبابِ.. فهوَ ضعيفُ الإيمانِ، وهذا لهُ تحقيقٌ وتفصيلٌ؛ فاطلبْهُ مِنْ (كتابِ الصُّحبةِ والأُخوَّةِ في اللهِ تعالىٰ) مِنْ كتبِ (إحياءِ علومِ الدِّينِ)".
اللهم اجعلنا متحابين فيك، متآخين فيك، ومجتمعين على ما يرضيك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
الأصل التّاسع
في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
"قالَ الله تعالىٰ: (وَلْتَكُن منكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِّ وَأَوْلَئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104]
وقالَ تعالىٰ: (وَالمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ..) [التوبة:71].
وقالَ تعالى: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهْ لَيِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة:79].
وقالَ أبو بكر الصّدِيقُ -رضيَ الله عنهُ- في خُطبتِهِ: أيُّها النَّاسُ؛ إنَّكُم تقرؤونَ هذهِ الآيةَ، وتُؤوّلونَها على خلافِ تأويلها؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ) [المائدة:105]، وإنّي سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: "مَا مِنْ قَوْمٍ عَمِلُوا بِالْمَعَاصِي وَفِيهِمْ مَنْ يَقْدِرُ أَن يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ.. إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ".
وقالَتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "عُذِّبَ أَهْلُ قَرْيةٍ فِيهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفا، أَعْمَالُهُمْ أَعْمَالُ الْأَنْبِيَاءِ"، قالوا: يا رسولَ اللهِ؛ وكيفَ ذلكَ؟ قالَ: "لَمْ يَكُونُوا يَغْضَبُونَ لِلُهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ".
فصلٌ
في بيانِ واجبٍ مَنْ رأى منكراً
كلُّ مَنْ شاهدَ منكراً ولم يُنكِرْهُ وسكتَ عنهُ.. فهوَ شريكٌ فيهِ؛ فالمستمعُ شريكُ المغتابِ، ويجري هذا في جميعِ المعاصي؛ حتَّىٰ في مجالسةِ مَنْ يلبسُ الدِيباجَ، ويَتختَمُ بالذّهبِ، ويجلسُ على الحريرِ، والجلوسِ في دارٍ أو حمَّامٍ علىٰ حيطانِها صورٌ، أو فيها أوانٍ مِنْ ذهبٍ أو فضَّةٍ، أو في الجلوسِ في مسجدٍ يسيءُ النَّاسُ الصَّلاةَ فيهِ؛ فلا يُتمُّونَ الرُّكوعَ والسُّجودَ، أو الجلوسِ في مجلسٍ وعظٍ يجري فيهِ ذكرُ البدعةِ، أو في مجلسٍ مناظرةٍ ومجادلةٍ يجري فيهِ الإيذاءُ والإفحاشُ بالسَّفهِ والشَّتمِ.
وبالجملةِ: مَنْ خالطَ النَّاسَ.. كثُرَتْ معاصيهِ وإن كانَ تقيّاً في نفسِهِ، إلَّا أن يتركَ المداهنةَ، فلا تأخذَهُ في اللهِ لومةُ لائمِ، ويشتغلَ بالحِسْبةِ والمنعِ، وإنَّما يسقطُ عنهُ الوجوبُ بأمرينِ:
أحدُهُما: أن يعلمَ أنَّهُ لو أنكرَ.. لم يُلتفَتْ إليهِ، ولم يُترَكِ المُنكَرُ، ونُظِرَ إليهِ بعينِ الاستهزاءِ، وهذا هوَ الغالبُ في مُنكَراتٍ يرتكبُها الفقهاءُ ومَنْ يزعمُ أنَّهُ مِنْ أهلِ الدِّينِ، فها هنا يجوزُ السُّكوتُ، ولكنْ يُستحَبُّ الزَّجرُ باللِّسانِ؛ إظهاراً لشعائرِ الدِّينِ مهما لم يَقدِرْ على غيرِ الزَّجرِ باللِّسانِ.
ويجبُ أن يفارقَ ذلكَ الموضعَ؛ فليسَ يجوزُ مشاهدةُ المعصيةِ بالاختيارِ، فمَنْ جلسَ في مجلسِ الشُّربِ.. فهوَ فاسقٌ وإن لم يشربْ، ومَنْ جالسَ مغتاباً، أو لابِسَ حريرٍ، أو آكِلَ ربا أو حرامٍ.. فهوَ فاسقٌ، فليقمْ مِنْ موضعِهِ.
الثَّاني: أن يعلمَ أنَّهُ يَقدِرُ على المنعِ مِنَ المُنكَرِ؛ بأن يرىٰ زجاجةً فيها خمرٌ فيرميَها فيكسرَها، أو يسلبَ آلةَ الملاهي مِنْ يدِ صاحبِها ويضربَها على الأرضِ، ولكنْ يعلمُ أنَّهُ يُضرَبُ أو يُصابُ بمكروه، فها هنا تُستحَبُّ الحِسبةُ؛ لقولِهِ تعالى: (وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17] ولا تجبُ، إلَّا أنَّ المكروه الذي يصيبُهُ لهُ درجاتٌ كثيرةٌ يطولُ النَّظرُ فيها، ذكرناها في (كتابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عنِ المنكرِ) مِنَ (الإحياءِ).
وعلى الجملةِ: فلا يسقطُ الوجوبُ إلَّا بخوفِ مكروهِ في بدنِهِ بالضَّربِ، أو في مالِهِ بالاستهلاكِ، أو في جاهِهِ بالاستخفافِ بهِ بوجهٍ يقدحُ في مروءتِهِ.
فأمَّا خوفُ استيحاشِ المنكَرِ عليهِ، وخوفُ التَّعرُّضِ لهُ باللِسانِ وعداوتِهِ لهُ، أو توهُّمُ سعيِهِ في المستقبلِ بما يسوءُهُ، أو يحولُ بينَهُ وبينَ زيادةٍ خيرٍ يَتوقَّعُها.. فكلُّ ذلكَ موهوماتُ وأمورٌ ضعيفةٌ لا يسقطُ الوجوبُ بها".
وصف الله هذه الأمة بهذا الوصف في كتابه، يقول تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم) [آل عمران:110]، ثم أمر أن يهتم بهذا في الأمة في كل زمان وفي كل قطر أقوّام يتخصصون ويتفرغون للقيام بهذه المهمة، وإن كان ذلك لا يُسقِط الأمر على كل فرد قَدِر على إزالة أيّ منكر أو الدعوة إلى أيّ معروف، ولكن على وجه العموم يختص هؤلاء بمنزلة عند الله.
قال الله تعالى:
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ وأخذ بعضهم من قول ﴿أُمَّةٌ﴾ أنَّه يُحتاج أن يقوم بهذا جماعة، فيهم العالم وفيهم التاجر وفيهم الصانع وفيهم ذو الحرفة وفيهم..، أمَّة، "﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾".
وقال في وصف المؤمنين -جعلنا الله منهم- والمتحققين بحقائق الإيمان، وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ -يتوالون في الله تعالى- ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
وقال:(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:79-78]."
ولهذا وقالَ أبو بكر الصّدِيقُ -رضيَ الله عنهُ- في خُطبتِهِ: أيُّها النَّاسُ؛ إنَّكُم تقرؤونَ هذهِ الآيةَ، وتُؤوّلونَها على خلافِ تأويلها؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ) معناه: لا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! قال: لا، لا، لا، أدِّ ما عليك ثم بعد ذلك ما عليك منهم، يقول: "وإنّي سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: "مَا مِنْ قَوْمٍ عَمِلُوا بِالْمَعَاصِي وَفِيهِمْ مَنْ يَقْدِرُ أَن يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ.. إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ". ولا تكون من الذين اهتدوا حتى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أمَّا تتعمد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقول: ما يضرني إذا اهتديت؟ بعدك ما اهتديت! متى اهتديت؟
ما يضرك إذا اهتديت؟ هل أديت أمر الله عليك؟ أنت تركت الأمر كله، وتقول ما يضرني إذا اهتديت!؟ اهتدي وما عليك، كن مهتديًا مقيمًا لما طلب منك ومؤديًا لما فرض عليك، عندها لن يضرك كفر كافر ولا فجور الفاجر إذا أديت الذي عليك، وأمَّا أن تهمله وتتركه وتقعد عن الأمر والنهي وتقول: (لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ)، فإنَّه إذا عُملت المعصية سرًا لم تضر إلا صاحبها، فإذا جُهر بها ضرت كل من قدر على الإنكار ولم ينكر، ضرتهم كلهم.
ولهذا قال: أرسل الله تعالى إلى بعض القرى من بني إسرائيل ملكًا بالعذاب فقال: "إنَّ فيهم فلانًا لم يعصك طرفة عين"، قال: "به فابدأ" أبدأ به وأهلكه أول واحد، قال: ربِّ لِمَ؟ قال: "إنَّه رآني أُعصى فلم يتمعر وجهه فيَّ قط" ما بالى!.
ويقول: في رواية عن سيدتنا "عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "عُذِّبَ أَهْلُ قَرْيةٍ فِيهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفا، أَعْمَالُهُمْ أَعْمَالُ الْأَنْبِيَاءِ"، قالوا: يا رسولَ اللهِ؛ وكيفَ ذلكَ؟ قالَ: "لَمْ يَكُونُوا يَغْضَبُونَ لِلُهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ".
وأورد هنا: "أوحى اللّٰه عز وجل إلىٰ يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم ، وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب؛ هؤلاء الأشرار، ما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم"، فلابد من الغضب من أجل الله سبحانه وتعالى والغَيرة على دين الله وعلى شريعته.
ثم من رأى منكرًا، ماذا عليه؟ واجب عليه أن ينكره:
يقول: "كلُّ مَنْ شاهدَ منكراً ولم يُنكِرْهُ وسكتَ عنهُ.. فهوَ شريكٌ فيهِ؛ فالمستمعُ شريكُ المغتابِ"، يغتابون الناس عنده وهو يتسَّمع، وربَّما تبسم أو ضحك، ماذا؟ قال: أنا ما اغتبت ولكن هم! هم وأنت استمعت، المستمع شريك للقائل. ازجره قل له: لا تغتب المسلمين أمامي، لا تتكلم على الناس، اخرج إلى كلام ثاني.
"ويجري هذا في جميعِ المعاصي؛ حتَّىٰ في مجالسةِ مَنْ يلبسُ الدِيباجَ، -من الرجال- "ويَتختَمُ بالذّهبِ" وهو رجل، "ويجلسُ على الحريرِ، والجلوسِ في دارٍ أو حمَّامٍ علىٰ حيطانِها صورٌ، أي مجسمة، منحوتة أو فيها أوانٍ مِنْ ذهبٍ أو فضَّةٍ، أو في الجلوسِ في مسجدٍ يسيءُ النَّاسُ الصَّلاةَ فيهِ؛ فلا يُتمُّونَ الرُّكوعَ والسُّجودَ" وأنت تتشوفهم وتقعد، انصحهم! قال: جلوسك في مسجد فيه من يسيء الصلاة فيه إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تشاركهم في الإثم، لكن أقل شيء تنبههم وتذكرهم.
قال: "أو الجلوسِ في مجلسٍ وعظٍ -مجلس وعظ كيف؟- يجري فيهِ ذكرُ البدعةِ، -والدعوة إليها فلا يجوز لك أن تجلس معهم- أو في مجلسٍ مناظرةٍ ومجادلةٍ يجري فيهِ الإيذاءُ والإفحاشُ بالسَّفهِ والشَّتمِ"، وسب كل واحد للثاني بعضها، بعضها ينشرونها حتى في وسائل التواصل الاجتماعي، بعضها في بعض القنوات تسمعونها، مسابَّة ومشاتمة، لا يجوز أن تجلس معهم ولا تسمعهم.
إذًا؛ فلا يجوز إقرار أحد على معصية الله ولا على ترك فرض وأنت تقدر على تعليمه أو توجيهه أو تنبيهه.
قال: "مَنْ خالطَ النَّاسَ.. كثُرَتْ معاصيهِ وإن كانَ تقيّاً في نفسِهِ، إلَّا أن يتركَ المداهنةَ، فلا تأخذَهُ في اللهِ لومةُ لائمِ، ويشتغلَ بالحِسْبةِ والمنعِ"، يقولوت في سيدنا عمر بن الخطاب: قوله الحق ما ترك له للناس من صديق؛ يقول الحق ولو كان مرًا، وهكذا.
قال: "وإنَّما يسقطُ عنهُ الوجوبُ بأمرينِ" وجوب الأمر والنهي في حالتين:
ولهذا قال: "بأن يرىٰ زجاجةً فيها خمرٌ فيرميَها فيكسرَها، أو يسلبَ آلةَ الملاهي مِنْ يدِ صاحبِها ويضربَها على الأرضِ، ولكنْ يعلمُ أنَّهُ يُضرَبُ أو يُصابُ بمكروه، فها هنا تُستحَبُّ الحِسبةُ" -لمن أراد أن يضحي ولا تصير واجبة- "لقولِهِ تعالى: (وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)" فهي من المستحبات "ولا تجبُ، إلَّا أنَّ المكروه الذي يصيبُهُ لهُ درجاتٌ كثيرةٌ يطولُ النَّظرُ فيها"، ما هو أي مكروه؟ سأنهى وأزجر عن المنكر، أو سآمر بالمعروف ولكن سيتكلمون علي؟ خلهم يتكلمون عليك، مالك؟ أردتهم يمدحونك أم ماذا؟ دعهم يتكلمون عليك، فمثل هذا ما يكون عذرًا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولهذا يقول: "وعلى الجملةِ: فلا يسقطُ الوجوبُ إلَّا بخوفِ مكروهِ في بدنِهِ بالضَّربِ، أو في مالِهِ بالاستهلاكِ، أو في جاهِهِ بالاستخفافِ بهِ بوجهٍ يقدحُ في مروءتِهِ".
"فأمَّا خوف استيحاش المنكَر عليه،" لن يكلمنا لاحقًا، لن يبسط في وجهي، لن يأتي عندي، ثمَّ ماذا؟ لا يأتِ عندك ما الذي سيحصل؟ هذا ليس بعذر. قال: سنأمرهم وننهاهم سيتحاملون علينا، ثمَّ ماذا بعد ذلك؟ دعهم يتحاملون عليك، ما الذي ضرَّك؟ من أجل الله تعالى دعه يتحامل عليك. قال: سيسبونا، أنا سآمر وأنهى ولكن سيسبونا، أنت ما أردت أن يسبك أحد أم ماذا؟ هم سبُّوا الأنبياء والرسل وأنت لا تريد أحد أن يسبُّك؟ خلهم يسبُّوك، ما دام سبُّوك إلا لأجل الله فلك الشرف ولك الكرامة.
قال: الآن إذا كلمناهم، لاحقًا لن يتوسطوا لنا في الحاجة الفلانية، "أو توهُّمُ سعيِهِ في المستقبلِ"، قال: لاحقًا يحصِّلوا فرصة وينتقموا مني، أمثال هذا.
"أو يحولُ بينَهُ وبينَ زيادةٍ خيرٍ يَتوقَّعُها.. " لن يكلمِّوا الجمعية تأتي لنا بمواد غذائية؛ إذا كلمتهم..!! -لا حول ولا قوة إلا بالله-. قال: "فكلُّ ذلكَ موهوماتُ وأمورٌ ضعيفةٌ لا يسقطُ الوجوبُ بها".
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فَصْلٌ
في بيانِ عمدةِ الحِسْبةِ
"عمدةُ الحِسْبةِ شيئانِ:
أحدُهُما: اللُّطفُ والرِفقُ، والبدايةُ بالوعظِ على سبيلِ اللِّينِ، لا علىٰ سبيلِ العنفِ والتَّرفُّعِ والإدلالِ بدلالةِ الصَّلاحِ؛ فإنَّ ذلكَ يُؤكِّدُ داعيةَ المعصيةِ، ويحملُ العاصيَ على المناكرةِ وعلى الإيذاءِ.
ثمَّ إذا آذاهُ ولم يكنْ حَسَنَ الخُلُقِ.. غضبَ لنفسِهِ، وتركَ الإنكارَ للهِ تعالىٰ، واشتغلَ بشفاءِ غليلِهِ منهُ، فيصيرُ عاصياً، بل ينبغي أن يكونَ كارهاً للحِسْبةِ، يودُّ لو تركَ المعصيةَ بقولِ غيرِه؛ فإنَّهُ إذا أحبَّ أن يكونَ هوَ المُتعرِّضَ.. كانَ ذلكَ لِمَا في نفسِهِ مِنْ دالّةِ الاحتسابِ وعزَّتِهِ.
وقالَ ﷺ: "لَا يَأْمُرُ بِٱلْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَىٰ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ.. إِلَّا رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَىٰ عَنْهُ، حَلِيمٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، حَلِيمٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ، فَقِيهٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَقِيهٌ فِيمَا بَنْهَىٰ عَنْهُ".
ووعظَ المأمونَ -رحمَهُ اللهُ- واعظ بعنفٍ.. فقالَ: يا رجلُ؛ ارفقْ؛ فقد بعثَ الله تعالىٰ مَنْ هوَ خيرٌ منكَ إلىٰ مَنْ هوَ شرٌّ منِّي فأمرَهُ بالرِّفقِ، فقالَ تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) [طه:44].
وروىٰ أبو أمامةَ -رضي اللهُ عنهُ-: أنّ غلاماً شابّاً أتى النَّبيَّ ﷺ، فقالَ: أتأذنُ لي في الزِّنا؟ فصاحَ النَّاسُ بهِ، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: "أَقِرُّوهُ أَقِرُّوهُ، آدْنُ مِنّي"، فدنا منهُ ، فقالَ النبيُّ ﷺ: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟، فقالَ: لا، جعلَني الله فداكَ، قالَ: "كَذَلِكَ ٱلنَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأَبْنَتِكَ؟" قالَ: لا، قال: "كَذَلِكَ ٱلنَّاسُ لَا يُحِبٌّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ" حتَّىٰ ذكرَ الأختَ والعمَّةَ والخالةَ، وهوَ يقولُ: "كَذَٰلِكَ ٱلنَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ"، ثمَّ وضعَ يدَهُ على صدرِهِ وقالَ: "اللَّهُمَّ؛ طَهِّرْ قَلْبَهُ، وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ"، فلم يكنْ بعدَ ذلكَ شيءٌ أبغضَ إليهِ مِنَ الزِّنا.
وقالَ بعضُهُم للفضيلِ: إنَّ سفيانَ بنَ عيينةَ قَبِلَ جوائزَ السُّلطانِ، فقالَ: ما أخذَ منهُم إلَّا دونَ حقِّهِ، ثمَّ خلا بهِ وعاتبَهُ بالرِّفقِ، فقالَ سفيانُ: يا أبا عليٍّ؛ إن لم نكنْ مِنَ الصَّالحينَ.. فإنَّا نحبُّ الصَّالحينَ.
الثَّاني: أن يكونَ المُحتسِبُ قد بدأَ بنفسِهِ فهذَّبَها، وتركَ ما ينهى عنهُ أوَّلاً.
قالَ الحسنُ البصريُّ: إذا كنتَ تأمرُ بالمعروفِ.. فكنْ مِنْ آخذِ النَّاسِ بهِ، وإلَّا.. هلكتَ.
فهذا هوَ الأَولىٰ حتَّىٰ ينفعَ كلامُهُ، وإلَّا.. استُهزِئَ بهِ، وليسَ هَذا شرطاً، بل يجوزُ الاحتسابُ للعاصي أيضاً.
قالَ أنسٌ: قلنا: يا رسولَ اللّهِ؛ ألا نأمرُ بالمعروفِ حتّىٰ نعملَ بهِ كلِّهِ؟ ولا ننهى عنِ المنكرِ حتَّى نجتنبَهُ كلَّهُ؟ قالَ ﷺ: "بَلَىٰ، مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِهِ، وَأَنْهَوْا عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ".
وقالَ الحسنُ البصريُّ: يريدُ أن يظفرَ الشَّيطانُ منكُم بهذهِ الخَصلةِ؛ وهوَ ألَّا تأمروا بالمعروفِ حتَّىٰ نأتيَ بهِ كلِهِ، يعني: أنَّ هٰذا يُؤدِّي إلى حَسْمِ بابِ الحِسْبةِ؛ فمَنْ ذا الذي يُعصَمُ عنِ المعاصي؟!.
يقول من الحِسبة: الإحتساب في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رجاء الثواب عند الله تعالى، وأن يقوم بالتبرع بذلك، فأمَّا إن كان ذو الحسبة بتغيير الأمر بالفعل؛ فهذا ما يكون إلا من جهة الحاكم أو من يقيمه الحاكم في ذلك.
وما بقي؛ إلا الإنكار بما يُستطاع إليه، ممن كان من ذوي الوجاهات، أو كان تغييره لذلك المنكر بالفعل لا يؤدي إلى شر ولا إلى فتنة أكبر ولا إلى ضر، فكذلك تجوز الحسبة في مثل ذلك.
وهذه الحسبة معناها: القيام بالأمر والنهي احتساباً لله تبارك وتعالى.
قال: عمدتها شيئان:
وأن يبتدئ بالموعظة "على سبيلِ اللِّينِ، لا علىٰ سبيلِ العنفِ والتَّرفُّعِ والإدلالِ بدلالةِ الصَّلاحِ" وأنَّه هو صالح وأنَّ هذا الذي ينهاه ويأمره غير صالح، ليس هذا الأمر كذلك، فإنه إذا تصرف بالعنف وبالترفع "يُؤكِّدُ داعيةَ المعصيةِ -عند العاصي- ويحملُ العاصيَ على المناكرةِ وعلى الإيذاءِ" وإذا جوَّب عليه العاصي ونكره، يصل الشيطان إلى هذا الآمر والناهي ويقول له: انظر كيف يتكلم عليك هذا الشيطان! سبه كما سبك، لا تخليه يزيد عليك، ويرده إلى سبَّاب وشتَّام، لا آمرٌ بالمعروف ولا ناهٍ عن المنكر، بل واحد من المنكر ويرجع، ويرجع وهو من العصاة يلزمه من يأمره وينهاه، "ثمَّ إذا آذاهُ ولم يكنْ حَسَنَ الخُلُقِ.. غضبَ لنفسِهِ، وتركَ الإنكارَ للهِ تعالىٰ" والغضب لله تركه وصار غضبه لنفسه؛ هؤلاء قليلي حياء كلمناهم ونصحناهم ومازالوا يفعلون كذا، فعل أبوهم ترك أبوهم -شتائم وسباب-، ورجع وهو واحد من المتسابين والمتشاتمين يلزمه أحد يأمره وينهاه. قال: "واشتغل بشفاء غليله منه، فيصير عاصياً،" هو نفسه عاصي، ما عاد آمرٌ بمعروف ولا ناهٍ عن منكر؛ هو عاصي، "بل ينبغي أن يكونَ كارهاً للحِسْبةِ، يودُّ لو -أن هذا- تركَ المعصيةَ بقولِ غيرِه" لا يكون إلا للضرورة وفرض الله عليه، "فإنَّهُ إذا أحبَّ أن يكونَ هوَ المُتعرِّضَ.. كانَ ذلكَ لِمَا في نفسِهِ مِنْ دالّةِ الاحتسابِ وعزَّتِهِ" في نفسه أنَّه أنا، أنا، أنا، أنا، أنت من أنت يا مغرور؟ أمر من أوامر الله تعالى نتمنى أن تسقط كلفته علينا بوجود من يقوم به وينهى، أو لا يوجد المنكر من أصله، وإلا فهو ضرورة من الضرورات، ما هو لأنَّنا أفضل، ولا لأنَّنا أعظم، وما هو لأنَّنا معصومين، ولا هو لأنَّنا فوق الخلق، وهكذا.
وقالَ ﷺ: "لَا يَأْمُرُ بِٱلْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَىٰ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ.. إِلَّا رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَىٰ عَنْهُ، حَلِيمٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، حَلِيمٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ، فَقِيهٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَقِيهٌ فِيمَا بَنْهَىٰ عَنْهُ". وإلا أدَّى أمره ونهيه إلى ترك واجبات أكبر وفعل منكرات أكبر، وإذا بالنتيجة غلط في غلط. وفساد في فساد.
وقال: "وعظَ المأمونَ رحمَهُ اللهُ -وكان أميرًا- واعظ بعنفٍ.. فقالَ: يا رجلُ؛ ارفقْ؛ -لِن بالكلام- فقد بعثَ الله تعالىٰ مَنْ هوَ خيرٌ منكَ إلىٰ مَنْ هوَ شرٌّ منِّي فأمرَهُ بالرِّفقِ، -بعث موسى وهارون، أأنت أفضل أم موسى وهارون؟ هؤلاء أنبياء- "إلىٰ مَنْ هوَ شرٌّ منِّي" -فرعون، ما أنا بأشَّر من فرعون؟ فرعون أشَّر منِّي وموسى وهارون أفضل منك- فقالَ تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) [طه:44]. وأنت لماذا تتكلم هكذا؟، ورجع هو الذي وعظ، ورجع هو الأمير وذاك الذي أراد نفسه عالمًا وما عرف كيف الوعظ -لا إله إلا الله-.
قال: "فقال تعالى: (فَقولا لَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشى)" مع أنَّ الله يعلم أنَّه لن يتذكر ولكن هذه عبادة الخلق، واجب عليهم أن يتعبّدوا الله بإرادة هداية الخلق، وهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
وهذا الشاب دخل في مجلس النبي وقال: "أتأذنُ لي في الزِّنا؟"، الناس صاحوا به، قال: اتركوه، اقرب إلى هنا، قربه لعنده، "فقالَ النبيُّ ﷺ: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟، فقالَ: لا"،والذي بعثك بالحق، كيف أمي؟! حرك فيه الضمير، وكان الناس عندهم، حتى العصاة فيهم والفسَّاق الضمير فيهم قويم وسليم، ما وصلوا إلى حد الدياثة، قال: "قالَ: "كَذَلِكَ ٱلنَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ،"، قال: أترضاه لأختك؟" قال: أختي! لا يا رسول الله، كيف أختي؟ قال: "كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لابنتك؟" قال: ابنتي! كيف؟ قال: "قال: "كَذَلِكَ ٱلنَّاسُ لَا يُحِبٌّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ"، أترضاه لعمتك؟ قال: كيف عمتي يا رسول الله! ما أرضاه! "كذلك الناس لا يرضونه لعماتهم، وأوقفه وجعله يكره الزنا وداواه، ثمَّ وضعَ يدَهُ -الشريفة- على صدرِهِ وقالَ: "اللَّهُمَّ؛ طَهِّرْ قَلْبَهُ، وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ"، قال: فما رفع يده إلا وأبغض شيء لي في الدنيا الزنا، وابتعد عنه، فما أوقفه بالتعليم والعقل؛ ولكن زكّاه وداواه ﷺ بيده الكريمة ودعاؤه له فصار رجلاً آخر -صلوات ربي وسلامه عليه-.
"وقالَ بعضُهُم للفضيلِ: إنَّ سفيانَ بنَ عيينةَ قَبِلَ جوائزَ السُّلطانِ، فقالَ له: -اسكت- "ما أخذَ منهُم إلَّا دونَ حقِّهِ" هو يستحق في المال أكثر من هذا "ثمَّ خلا بهِ " وحده "وعاتبَهُ بالرِّفقِ، فقالَ سفيانُ: يا أبا عليٍّ؛ إن لم نكنْ مِنَ الصَّالحينَ.. فإنَّا نحبُّ الصَّالحينَ". وله مندوحة -يعني: سعة في الأمر- في قبول ذلك على وجهه، يختلف في قبول حقوق السلاطين، وإن كان الأمر أنَّ لمثل هؤلاء في بيت المال ما لم يوصل إليهم، ولهم فيه حق؛ نعم، ولكنهم لا يغشون أنفسهم ولا يفتحون على أنفسهم الباب، ولكن في بعض الأحوال قد يكون الأخذ فيها من مال السلطان وإيصاله إلى من يستحقه خير من تركه بيد السلطان، في شيء من الأوجه يعرفونها بمقاييسهم الصحيحة.
وهذا وإن كان ما هو شرط، لكنَّه هو اللائق والذي هو أولى، "(إذا كنتَ تأمرُ بالمعروفِ.. فكنْ مِنْ آخذِ النَّاسِ بهِ.." يعني تأخذه أنت بقوة وتقوم بحقه هذا المعروف، وإلا يقول الله تعالى: (أَتَأمُرونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلونَ الكِتابَ أَفَلا تَعقِلونَ) [البقرة: 44].
سيدنا الجنيد بن محمد أُمِر بأن يبرز للناس لتربيتهم الخاصة ولأجل الأمر والنهي، قال لهم: يمنعني ثلاث آيات:
فبقي حتى رأى النبي ﷺ يأمره بالقيام بتعليم الناس، فبعد الرؤيا جاء إلى عند خاله السري السقطي الذي كان يأمره، فلمَّا دخل عليه قال: ما رضيت حتى يأتيك بنفسه؟ -اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه-، قال: قد جاءني وأمرني، فقام بحق التربية -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
قال: "فهذا هوَ الأَولىٰ حتَّىٰ ينفعَ كلامُهُ،" وإن لم يكن شرطاً، لأنه إذا لم يكن ممتثلًا هو بحد ذاته "استُهزِئَ بهِ" وإن كان "، بل يجوزُ الاحتسابُ للعاصي"، يقول: حتى واجب على شارب الكأس أن ينهى الجُلاّس.
"قالَ أنسٌ: قلنا: يا رسولَ اللّهِ؛ ألا نأمرُ بالمعروفِ حتّىٰ نعملَ بهِ كلِّهِ؟ ولا ننهى عنِ المنكرِ حتَّى نجتنبَهُ كلَّهُ؟ قالَ ﷺ: "بَلَىٰ، مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِهِ، وَأَنْهَوْا عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ"، حتى لا يُقفل باب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
"وقالَ الحسنُ البصريُّ: يريدُ أن يظفرَ الشَّيطانُ منكُم بهذهِ الخَصلةِ؛ وهوَ ألَّا تأمروا بالمعروفِ حتَّىٰ نأتيَ بهِ كلِهِ، يعني: أنَّ هٰذا يُؤدِّي إلى حَسْمِ بابِ الحِسْبةِ؛ فمَنْ ذا الذي يُعصَمُ عنِ المعاصي؟!"؛ يعني: يؤدي إلى سد باب الحسبة، وكل واحد يقول أنا عاصي، فما عاد أحد يأمر ولا عاد أحد ينهى، وانتشر الفساد بين الناس، ولكن يجب أن يتراجعوا بعضهم البعض، وأن يأخذوا بيد بعضهم البعض.
جعلنا الله وإياكم من خواص المقبلين عليه والمقبولين، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ،
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
27 صفَر 1447