الأربعين في أصول الدين - 16 | القيام بحقوق المسلمين وحسن الصحبة معهم (2)

للاستماع إلى الدرس

الدرس السادس عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني:  الأصل الثامن: القيام بحقوق المسلمين وحسن الصحبة معهم (2)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

مساء الثلاثاء 25 صفر 1447هـ

فقه العشرة بين العُرف والشرع.. يعرض في الدرس ميزان التعامل مع الأعراف وما يوافق الشرع وما يُخالفه، وحديثُ درء التُّهمة ومشهد صفية، ومعاني قضاء حوائج المسلمين، ثم وصايا عملية مثل: نصرةُ الأخ في غيبته، زيارةُ المريض والقبور، تشييعُ الجنائز، وآدابُ السلام والبِشر.. 

 

جاءت أسئلة من بعض النساء:

  • تسأل عن حديث افتراق الأمة إلى 73 فرقة؟

وهذه الفرقة لجميع أمته؛ أمته يشملون أمة الإجابة، وأمة الدعوة؛ كلهم أمته ﷺ. فهؤلاء أمة الإجابة وحدهم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهذه فرقة، وجميع فرق الكفر والمخالفين هم -غير المسلمين- 72 فرقة كلهم في غير المؤمنين.

أما المؤمنون فكل من مات وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمآله إلى الجنة؛ وإن كانت عليه ذنوب ومعاصي فيعَذب على ما لم يُسامَح منه فيها ثم ينتقل إلى الجنة، يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان يقول ﷺ،  كل من مات وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان فمَآله إلى الجنة، لكن قد يتعرض للنار والعذاب فيها بقدر الذنوب التي لم يُعفَ عنه فيها، ولم تُقبل له شفاعة فيها، ثم ينتقل إلى الجنة.

وهكذا إذا علمنا ذلك، فأيضًا الحكم عام لجميع المؤمنين، سواء منهم أهل السنة والمبتدعة فيهم ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فإنما يحاسب كل على قدر إصراره على بدعة أو على معصية صغيرة أو كبيرة، كل ما لم يتب منه ومات وهو مكتوب عليه فلا بد أن يحاسب عليه، فإما أن يعفو عنه، وإما أن يعذَّب ويعاقَب بحساب تلك الذنوب.

 

  • وأما السؤال عما يفعله أو ما هو مشهور بين أهل السنة من التوسل إلى الله -تبارك وتعالى- بأحد من خلقه من الأولين أو الآخرين؟

فذلك ما دلت عليه النصوص؛ فليس بواجب على أحد بحيث يأثم بتركه، وليس بمكروه فضلاً عن أن يكون حراماً، فضلاً عن أن يكون بدعة، فضلاً عن أن يكون شِركاً والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، فذلك كله مما يدّعى بغير علم، أو بغير بصيرة، أو بغير حق، فإن الأصل كما يثبته أهل السنة ما جاءنا في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وبارك وكرم عليه وعلى آله. 

ومنه حديث الترمذي الذي جاء بسند صحيح، وهو أيضاً عند غير الترمذي، ما علّمه ﷺ من التوسل والاستغاثة به لما قال للصحابي: "إن كان لك حاجة فافعل مثل ذلك". وذلك أنه جاءه أعمى وطلب منه أن يدعو له، هذا نوع من أنواع التوسل، لكن النبي علّمه توسلاً ثانياً، وهو أن يدعو الله -تبارك وتعالى- متوسلاً برسول الله، ويناجي رسول الله ﷺ متوجهاً به إلى الله فقال له: "توضأ وصلِّ ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد" -وفي رواية: "يا محمد يا أحمد يا أبا القاسم- إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضيها لي"، -وفي رواية: "اللهم فشفعه فيَّ-". قال عثمان بن حنيف: "فما طال بنا المجلس ولا تفرقنا حتى دخل الرجل وهو يبصر"، فتح بصره، ورد الله عليه بصره. قال: فقال له ﷺ: "فإن كان لك حاجة فافعل مثل ذلك".

فالأمور واضحة.. وأما دعوى هذا أو غيره من الأعمال والأقوال؛ دعوى أنه بدعة؛ أو دعوى أنه حرام؛ أو دعوى أنه شرك يحتتاج إلى إثبات في ذلك فلا يجوز بالدعوى. قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ) [النحل: 116] جل جلاله.

 

  • أما السائلة التي تقول: إن بعضهم في الغرب لا يبالي بأكل اللحم غير المذبوح، غير الذي ذُكِّيَ ذكاةً شرعية، فإذا دُعينا إلى عند أمثالهم، هل نأكل بلا بحث؟ 

إذا عُلم هذا من عادتهم، فيمكن أن يكون السؤال: إن كان ما قدَّمه من المذكّى فيجوز تناوله، وإلا فلا. والسؤال عن هذا ليس من باب الإيذاء؛ لأنه هو الذي يقرُّ بأنه يأخذ اللحم من غير أن يكون مذكّى، أو يُعلم ذلك من عادته. 

أما من يُعلم أنه يتورع ويحترز، فهذا الذي إذا جئت عنده لا تسأل، لا تسأل فقد يكون فيه إيذاء؛ أما الذي عُلم من عادته أنه يتساهل ويأخذ اللحم غير المذكّى، فلا تأكل ما عنده حتى تسأل وتطمئن إلى أنه مذكّى، وإلا فرُدَّه. والسؤال هنا ليس محل الإيذاء؛ محل الإيذاء لمن كان يُعرف بأنه لا يأخذ غير المذكّى، إذا سألته آذيته. أما واحد يقول لك: أنا ما أبالي، ما في أذى، قالوا: لا يجوز لك أن تتناول مما قدمه لك حتى تسأله.

 

 

نص الدرس المكتوب: 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبِسَندكم المتّصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

"ومنها: أن تُخالِقَ كلَّ صنفٍ بأخلاقِهِم؛ فلا تَلتمِسْ مِنَ الجاهلِ والغبيِّ ما تَلتمِسُ مِنَ الوَرِعِ العالِمِ.

قالَ داوودُ -صلواتُ اللهِ عليهِ-: (إلهي؛ كيفَ لي أن يُحبَّنيَ النَّاسُ وأسلمَ فيما بيني وبينَكَ ؟ فأوحى اللهُ سبحانَهُ إليهِ: خالِقْ أهلَ الدُّنيا بأخلاقِ الدُّنيا، وخالِقْ أهلَ الآخرةِ بأخلاقِ الآخرةِ).

ومنها: أن تُنزِلَ النَّاسَ منازلَهُم؛ فتزيدَ في إكرامِ ذي المنزلةِ وإن كانَتْ منزلتُهُ في الدُّنيا.

فإنَّ رسولَ اللهِ ﷺ بسطَ رداءَهُ لبعضِهِم وقالَ: "إِذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ.. فَأَكْرِمُوهُ".

ومنها: أنْ تسترَ عوراتِ المسلمينَ.

قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "لَا يَرَى آمْرُؤٌ مِنْ أَخِيهِ عَوْرَةً فَيَسْتُرَهَا عَلَيْهِ .. إِلَّا دَخَلَ ٱلْجَنَّةَ".

وقالَ ﷺ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ؛ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ ٱلْمُسْلِمِ.. تَتَبَّعَ اللَهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ.. يَفْضَحُهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ".

ومنها: أن تتَّقيَ مواضعَ التُّهَمِ؛ صيانةً لقلوبِ النَّاسِ عن سوءِ الظَّنِّ، وألسنتِهِم عنِ الغِيبةِ.

قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "ٱتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ".

وكلَّمَ رسولُ اللهِ ﷺ إحدىٰ نسائِهِ، فمرَّ بهِ رجلٌ فسلَّمَ عليهِ، فلمَّا مرَّ.. دعاهُ فقالَ: "يَا فُلَانُ؛ هَٰذِهِ زَوْجَتِي صَفِيَّةُ"، فقالَ: يا رسولَ اللهِ؛ مَنْ كنتُ أظنُّ فيهِ.. فإنّي لا أظنُّ فيكَ، فقالَ ﷺ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابنِ آدَمَ مَجْرَى ٱلدَّمِ".

ومنها: أن تسعىٰ في قضاءِ حوائجِ المسلمينَ ولو بشفاعةٍ.

قالَ ﷺ: "اشْفَعُوا إِلَيَّ .. تُؤْجَرُوا ؛ فَإِنِّي أُرِيدُ الْأَمْرَ فَأُؤَخِّرُهُ كَيْ تَشْفَعُوا إِلَيَّ فَتُؤْجَرُوا".

وقالَ ﷺ: "مَنْ مَشَىٰ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، قَضَاهَا أَوْ لَمْ يَقْضِهَا.. كَانَ خَيْراً لَهُ مِنِ اعْتِكَافِ شَهْرَينِ".

وقالَ ﷺ: "قِيَامُكَ مَعَ أَخِيكَ سَاعَةً .. خَيْرٌ مِنِ اعْتِكَافِكَ سَنَةً"

ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، الحمد لله، وله الحمد والمنة.

الحمد لله الذي أكرمنا بحسن البيان على لسان سيد الأكوان، ووضح لنا ما يكون به السير إليه والوصول إليه -تبارك وتعالى- بالمقاصد والنيات والأقوال والأفعال في السر والإعلان، وصلى الله وسلم على من به بيّن وأرشد وهدى، وعلى آله وأصحابه السعداء، وعلى من والاهم وبهم اقتدى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوة الرحمن في بريته، وآلهم وصحابتهم وأهل متابعتهم، وملائكة الله المقربين وعباده الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 

يقول: من الحقوق التي جعلها الله تعالى على المسلم لعامة المؤمنين، ما دام يختلط بعامة المؤمنين، يخالط كل صنف منهم بما يناسبه، وأن يعلم تنوع واختلاف طبائع الناس وثقافاتهم وعرفهم وعاداتهم -يعرف ذلك-، فلا يطلب من جميع الناس والأجناس طلباً واحداً في المعاملة، ولا ينتظر منهم انتظار شيء واحد، ولا يعاملهم بخُلق واحد. فإن بعض ما هو في عرف هؤلاء إكرام هو في عرف آخرين إهانة، فما يمكن تستعمل هذا مع هذا؛ وما في عرف هذا مدح، هو في عرف غيرهم ذم، فانتبه؛ فلا تعاملهم معاملة واحدة، "فلا تَلتمِسْ -تنتظر- مِنَ الجاهلِ والغبيِّ ما تَلتمِسُ مِنَ الوَرِعِ العالِمِ"، فرق بين هذا وهذا، وأدب هذا أرفع وأشرف وكيفية مقابلته ومعاملته كذلك.

ويقول سيدنا "داوودُ -صلواتُ اللهِ عليهِ-: إلهي؛ كيفَ لي أن يُحبَّنيَ النَّاسُ وأسلمَ فيما بيني وبينَكَ؟" يعني: لا أكون ملتفت إليهم ولا مرائي لهم ولا منتظر منهم شيئاً؟ فأوحى الله إليه: "خالِقْ أهلَ الدُّنيا بأخلاقِ الدُّنيا، وخالِقْ أهلَ الآخرةِ بأخلاقِ الآخرةِ". 

وفي هذا أيضًا جاءنا الحديث عنه ﷺ لما سأله الصحابي: "دُلَّني على عملٍ إذا أنا عمِلتُه أحبَّني اللَّهُ وأحبَّني النَّاسُ، قال: ازهد في الدُّنيا يحبُّكَ اللَّهُ وازهد فيما أيْدي النَّاسِ يحبُّكَ النَّاسُ"، إذا ما تتشوَّف فيما في أيديهم ولا تنازعهم على شيء من فانياتهم، ما عندك مشكلة معهم. إذا فينبغي أن يلاحظ هذا، وكل هذا تحت مقياس ما لا يخالف الشرع الشريف والهدْي؛ أما مخالفة هديه فلا يعتبر عُرف أحد ولا نظر أحد فيه ما خالف الشريعة وفيه مخالفة للدين. وهكذا، فإذا كان في عرفهم التحية بالسجود، نقول هذا في شريعتنا نُسخ وحُرِّم، كان حلالاً في شرائع الأنبياء من قبلنا أنهم يسجدون للتحية لبعضهم البعض (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ) [يوسف:100]، كما قال الله تعالى سيدنا يعقوب وأولاده وزوجته سجدوا ليوسف، (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ)، كان حلالاً، حُرِّم في الشريعة عندنا، فما يمكن..، وهكذا امرأة أجنبية عندهم في العرف إكرامها أنك تصافحها أو تقبلها في خدها أو في وجهها، هذا ممنوع في شرعك، ولا اعتبار لعرفهم عندئذٍ، ولا يجوز لا تصافحها ولا يجوز تقبلها؛ وإن قال: تعدني أهنتها، فلتعُدَّك ما تعُدَّك، ولا تهِن نفسك بينك وبين الله -تبارك وتعالى-.

إذًا؛ بهذا المقياس تُرَاعى أعراف الناس وعاداتهم وأخلاقهم، ويتخلق مع كل أحد بما يناسبه. 

وقال: "أن تُنزِلَ النَّاسَ منازلَهُم؛ فتزيدَ في إكرامِ ذي المنزلةِ وإن كانَتْ منزلتُهُ في الدُّنيا"، كونه أميراً، كونه حاكماً، كونه قاضياً، أو كونه نافذ الحكم في قومه، أو كونه شيخ القبيلة وما إلى ذلك، فينبغي أن تكرمه كما فعل ﷺ في هديه وسنته، "إِذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ.. فَأَكْرِمُوهُ"، وبسط لبعضهم رداءه ﷺ وهكذا.

 

وفي ذلك أيضاً في كل ما يوافق الشرع والهدْي الشريف، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أن الله رتَّب الناس على منازل في هذه الدنيا ويقول: 

  •  (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ) [الزخرف:32]، يُسَخَّر هذا لهذا وهذا لهذا. 
  • (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:21]. 

فهو الذي رتب هذا، فأنزِل كل شيء في منزلته. ولما كتب لملوك الكفار، كتب: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم"، سماه عظيم الروم لأنه كان هكذا يعظمونه في قومه. وكتب أيضاً إلى النجاشي، وكتب ﷺ إلى كسرى كتب فيه "عظيم فارس"، وما تحرَّج من هذه الكلمة "عظيم فارس" مع أنه كافر وكتب إليهم ﷺ. فكان يُنْزل الناس منازلهم.

بل قالوا له أن هؤلاء الملوك الشؤون الرسمية عندهم في تلك الأيام ما يقبلون كتاباً إلا مختوماً -ما يقبلون كتاباً بغير ختم صاحبه- فأمرهم أن يُنقشوا في خاتمه "محمد رسول الله"، وصار يختم بها، يعني: العرف الدولي لهم في تلك الأيام.. العرف الدولي عندهم ما يقبلون هؤلاء الرسميون إلا كتاباً مختوماً، فختم كتبه وما كان من عادته أن يختم، ويكتب للعرب وما يختم شيء من الكتب. فلما قالوا هذا، صار يختم على كتبه ﷺ، وتماشى مع ذلك العرف لأنه لا يناقض شيئ من أمر دينه.

 

وقال كذلك: "أنْ تُسترَ عوراتِ المسلمينَ"؛ فهذا من أهم الأخلاق في المعاملة؛ وعلى قدر ما تستُرها في ظاهرك وباطنك يستُر الله معايبك التي لو كُشف واحد منها لقلاكَ أقرب الخلق إليك، فالحق تعالى له جميل الستر. 

  • فستْرها بظاهرك: لا تُحدِّث عنها، ولا تُخبِر بها، ولا تقول لأحد. 
  • وسترها بباطنك: أن تعتقد أنه معرض لأن يتوب الله عليه، أو يحول حاله، أو يموت على حال أحسن من هذا الحال، ولا تجزم في باطنك بشقاوَة أحد، لأنك  ما تعلم الخواتيم ولا تعلم حكم الله في عباده يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَن يَشَاءُ. 

وكم من عامل "ليعملُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ حتَّى ما يَكونُ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ ثمَّ يسبِقُ علَيهِ الكتابُ فيُختَمُ لَهُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ فيدخلُها ، وإنَّ أحدَكُم ليعملُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ حتَّى ما يَكونَ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ ثمَّ يسبِقُ علَيهِ الكتابُ فيُختَمُ لَهُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ فيَدخلُها"، فلا تحكم؛ فلا تكشف عورات المسلمين لا في ظاهرك ولا في باطنك. لا إله إلا الله.

قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "لَا يَرَى آمْرُؤٌ مِنْ أَخِيهِ عَوْرَةً فَيَسْتُرَهَا عَلَيْهِ .. إِلَّا دَخَلَ ٱلْجَنَّةَ"..وفي الحديث: "وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ". 

ويقول: وقالَ ﷺ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ"، هذا قالها في خطبته على المنبر تغيّظ على أهل الانحراف هذا في السلوك، قال: "مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ؛ -وفي لفظ: ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه- لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ ٱلْمُسْلِمِ.. تَتَبَّعَ اللَهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ.. يَفْضَحُهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ"، ونعوذ بالله من كشف الفضائح والقبائح، ونسأله ستره الجميل في الدنيا والآخرة.

"ومنها: أن تتَّقيَ مواضعَ التُّهَمِ؛ صيانةً لقلوبِ النَّاسِ عن سوءِ الظَّنِّ، وألسنتِهِم عنِ الغِيبةِ"، فلا تقف موقف تهمة ينسب إليْك سوء، يُنسب إليْك شر، أنت في غنى عن ذلك، لا بأقوالك ولا بأفعالك ولا بوصولك إلى بعض المحلات المحظورة ودخولك فيها، وإن كنت بعيداً عن العمل السيء الذي يعتاد فيها؛ لكن لا تدخلها فتكون عليك التهمة، "ٱتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ" قالَ ﷺ.

إحدى نسائه -وهي سيدتنا صفية- جاءته أيام اعتكافه في المسجد، فدخلت عليه فكلمته، فخرج يقلبها يردها إلى منزلها، كان منزلها بعيداً قليلاً عن المسجد، ما هو من الحُجَر التي حواليه مثل حجرة السيدة عائشة وجمع من النساء جنبه هناك، فخرج يوصلها إلى مكانها فقامت تكلمه، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله ﷺ ومعه المرأة استحييا ومشيا بسرعة -أسرعا- فقال: "على رسلكما"، ناداهما، "إنها صفية بنت حيي"، هذه زوجتي صفية. قالا: يا رسول الله، نظن فيك شيئاً؟ -ما نظن-، فقالَ ﷺ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابنِ آدَمَ مَجْرَى ٱلدَّمِ"، ويقول: "فيقذف الشيطان في قلبكما شيئاً فتهلكان"، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ولهذا يقول: "ٱتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ"

وَمَن دَعا الناسَ إِلى ذَمِّهِ *** ذَمّوهُ بِالحَقِّ وَبِالباطِلِ

بالصدق والكذب... فينبغي أن يصون الإنسان عرضه.

ثم ذكر وصفًا عظيمًا من أوصاف الأخيار وهو السعي في قضاء حوائج المسلمين؛ ولو أن يشفع لأحد عند أحد بوجاهته؛ فإن المسلم يُسأل عن جاهه كما يُسأل عن ماله. 

قال: "أن تسعىٰ في قضاءِ حوائجِ المسلمينَ ولو بشفاعةٍ"، يقول ﷺ: "اشْفَعُوا إِلَيَّ .. تُؤْجَرُوا؛ فَإِنِّي أُرِيدُ الْأَمْرَ فَأُؤَخِّرُهُ كَيْ تَشْفَعُوا إِلَيَّ فَتُؤْجَرُوا"، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. هكذا يحب أن يسعى المؤمن في حاجة أخيه المؤمن.، وذكر في ذلك فوائد وثواب كبير. 

 

يقول: "وقالَ ﷺ: "مَنْ مَشَىٰ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، قَضَاهَا أَوْ لَمْ يَقْضِهَا.. -اجتهد فيها- كَانَ خَيْراً لَهُ مِنِ اعْتِكَافِ شَهْرَينِ"؛ هكذا في رواية الحاكم في المستدرك. 

وجاء في رواية أنه قال: "من مشى في حاجة أخيه -وبلغ فيها- كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين"، وقال لابن عمر: "لأن تمشي في حاجة أخيك فتقضيها خير لك من أن تعتكف في مسجدي هذا عشر سنين". 

فالسعي في قضاء حوائج المسلمين قربة إلى الله من أعظم القرب. "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه". 

"وقالَ ﷺ: "قِيَامُكَ مَعَ أَخِيكَ سَاعَةً .. خَيْرٌ مِنِ اعْتِكَافِكَ سَنَةً".

 

وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"ومنها: أن يُبادِرَ بالسَّلامِ علىٰ كلِّ مسلمٍ ويصافحَهُ ليكونَ لهُ فضلُ البدايةِ.

قالَ ﷺ: "إِذَا الْتَقَى ٱلْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا.. قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا سَبْعُونَ رَحْمَةً ؛ تِسْعٌ وَسِتُّونَ لِأَحْسَنِهِمَا بِشْراً".

 

ومنها: أن ينصُرَ أخاهُ في غَيبتِهِ، فيردَّ عن عِرضِهِ ومالِهِ.

قالَ ﷺ: "مَا مِنِ أمْرِئ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ مُسْلِماً فِي مَوْضِعٍ يُهْتَكُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَتُسْتَحَلُّ حُرْمَتُهُ.. إِلَّا نَصَرَهُ ٱللهُ تَعَالَىٰ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَخْذُلُ مُسْلِماً فِي مَوْضِعٍ تُهْتَكُ فِيه حُرْمَتُه.. إِلِّا خَذَلُهُ الله في مَوْضِعِ يُحِبُّ فيه نُصْرَتَهُ".

 

ومنها: أن يُدارِيَ أهلَ الشَّرِّ ليَسلَمَ منهُم.

قالَتْ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها-: استأذنَ رجلٌ على رسولِ اللهِ ﷺ، فقالَ: "أئْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ أَخُو ٱلْعَشِيرةِ"، فَلمَّا دخلَ.. ألانَ لهُ القولَ؛ حتَّىٰ ظننتُ أنّ لهُ عندَهُ منزلةً، فَلمَّا خرجَ.. راجعتُهُ في ذلكَ، فقالَ: "يَا عَائِشَةُ؛ إِنّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.. مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ آَتِّقَاءَ فُحْشِهِ".

وقالَ ﷺ: "مَا وَقَى ٱلْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ.. فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ". 

وقالَ ﷺ: "خَالِطُوا النَّاسَ بِأَبْدَانِكُمْ، وَزَايِلُوهُمْ بِٱلْقُلُوبِ".

 

ومنها: أن يحذرَ مجالسةَ الأغنياءِ، ويكثرَ مجالسةَ المساكينِ .

قالَ ﷺ: "إِيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ ٱلْمَوْتَىٰ"، قيلَ: ومَنْ هُمْ؟ قالَ: "الْأَغْنِيَاءُ".

وقالَ ﷺ: "اللَّهُمَ؛ أَحْيِنِي مِسْكِيناً، وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ".

وكانَ سليمانُ -عليهِ السَّلامُ- إذا رأى في المسجدِ مسكيناً.. جلسَ إليهِ وقالَ: مسكينٌ جالسَ مسكيناً .

وقالَ موسىٰ -عليهِ السَّلامُ-: (إلٰهي؛ أينَ أطلبُكَ؟ قالَ: عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم مِنْ أجلي).

 

يقول بهذه الآداب: "أن يُبادِرَ بالسَّلامِ علىٰ كلِّ مسلمٍ ويصافحَهُ ليكونَ لهُ فضلُ البدايةِ"؛ وهكذا كان هديه ﷺ، يبدأ من لقيه بالسلام، من كل صغير وكبير، وحر وعبد، وأبيض وأسود، وأحمر وأصفر، يبدأ من لقيه بالسلام ﷺ. فكان يسبق من لقيه؛ حتى من الصحابة ﷺ. وهكذا حتى كان إذا مر على الصبيان سلم عليهم -صلوات ربي وسلامه عليه-.

وأرسل مرة سيدنا أنس إلى حاجة، فلقي صبيانًا يلعبون، جلس يلعب معهم، فمر النبي ﷺ من نفس الطريق الذي فيه أنس يلعب، فجاء إليه من ورائه وغمَّض عينيه، قال: فعرفته بطيبِ رائحته وبَرد يديه، فجعلت أحتك به وأقول: من هذا؟ من هذا؟ قال: فرفع يديه، فإذا به رسول الله. قال فقال لي: "أين الوُصاة يا أيس؟" قلت له: أذهب يا رسول الله.. الآن أذهب.. قال: فما زاد على أن تبسم لي وقال لي اذهب ﷺ، في كريم وخلقه صلوات ربى وسلامه عليه وعلى آله. 

وكان كثير التبسم في وجوه أصحابه.

قالَ ﷺ: "إِذَا الْتَقَى ٱلْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا.. قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا سَبْعُونَ رَحْمَةً؛ تِسْعٌ وَسِتُّونَ لِأَحْسَنِهِمَا بِشْراً"؛ وواحدة للثاني، الذي بِشرُه أحسن وطلْقة وجهه أوسع له تسع وستون، وباقي واحدة للثاني، هكذا جاء في هذه الرواية عند الخرائطي في مكارم الأخلاق. 

جاء في رواية: "إذا التقى المسلمان فتصافحا، قُسمت بينهما مئَة رحمة، تسعون لأكثرهِما بشراً وعشر للآخر". فالذي بِشْره أكثر، حظه أوفر من الرحمة. نعم.

يقول: "ومنها: أن ينصُرَ أخاهُ في غَيبتِهِ" -فإذا تكلم أحد على إخوانه المسلمين وهو غائب- "فيردَّ عن عِرضِهِ ومالِهِ".

يقول: قالَ ﷺ: "مَا مِنِ أمْرِئ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ مُسْلِماً فِي مَوْضِعٍ يُهْتَكُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَتُسْتَحَلُّ حُرْمَتُهُ.. إِلَّا نَصَرَهُ ٱللهُ تَعَالَىٰ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَخْذُلُ مُسْلِماً -يسكت ولا يبالي- فِي مَوْضِعٍ تُهْتَكُ فِيه حُرْمَتُه.. إِلِّا خَذَلُهُ الله في مَوْضِعِ يُحِبُّ فيه نُصْرَتَهُ"؛ يعني: الجزاء من جنس العمل، ويتولى الله نصرة من نَصرَ المسلمين. 

وقال: "ومنها: أن يُدارِيَ أهلَ الشَّرِّ ليَسلَمَ منهُم"؛ فإن ما يُعْمل أمامه من المنكرات لا يتوجه عليه فيه سؤال، وإن إثارة النفوس من دون الحصول على فائدة تقريب أو توبة من الخبل والخطأ، ومما يثير بين الناس الشحناء والبغضاء، قال: "يُدارِيَ أهلَ الشَّرِّ ليَسلَمَ منهُم

إنِّي أُحَيي عَدُوِّي عنْدَ رُؤْيَتِهِ *** لأدفعَ الشَّرَّ عني بالتحياتِ

وأُظْهِرُ الْبِشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضهُ *** كما إنْ قدْ حَشى -ملأ- قَلْبي مَحَبَّاتِ

 

يقول: "استأذنَ رجلٌ على رسولِ اللهِ ﷺ، فقالَ: "أئْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ أَخُو ٱلْعَشِيرةِ" -كان يسيء المعاملة لعشيرته، فحذّر ﷺ من فعلِه ذلك، قالت السيدة عائشة: "فَلمَّا دخلَ.. ألانَ لهُ القولَ؛ حتَّىٰ ظننتُ أنّ لهُ عندَهُ منزلةً"؛ فقالت: يا رسول الله بالأول تكلمت عن الرجل وذكرت وحذّرت من شيء من عيوبه التي كانت بالنسبة له ظاهرة ومتظاهِر بها، ثم ألنت له القول حتى ظننت أن له منزلة عندك! "فقالَ: "يَا عَائِشَةُ؛ إِنّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ آَتِّقَاءَ فُحْشِهِ"؛ أو من أكرمه الناس اتقاء شره، يكرمونه حتى يكفّون شَرِّه؛ وما يكرمونه لكمال يعتقدونه فيه، ولا لخير يجدونه عنده، ولكن ليكف عنهم شره وأذاه. يجيء المؤذي إذا ما أحسنت مقابلته ومعاملته يمسكك بالسوء وبالشَر ويؤذيك بالأذى، فتستَكفي شره بحسن المعاملة،  "مَا وَقَى ٱلْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ .. فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ". 

وقالَ ﷺ: "خَالِطُوا النَّاسَ بِأَبْدَانِكُمْ، وَزَايِلُوهُمْ بِٱلْقُلُوبِ"؛ اجعلوا قلوبكم مع الله -تبارك وتعالى-.

 

"ومنها: أن يحذرَ مجالسةَ الأغنياءِ"؛ قصد مجالسة الأغنياء أو الأمراء وأهل المظاهر في الدنيا؛ لا يتقصَّد مجالسهم ولا يحرص عليها، "ويكثرَ مجالسةَ المساكينِ".

قالَ ﷺ: "إِيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ ٱلْمَوْتَىٰ"، قيلَ: ومَنْ هُمْ؟ قالَ: "الْأَغْنِيَاءُ"، والمرادالأغنياء الذين اغتروا بغناهم وجعلوه غايتهم وتكبروا به على عباد الله، فهؤلاء موتى القلوب، وإن كان في الأغنياء من هو من الأخيار والأبرار، ولكن ما يُقصد للمجالسة من أجل غناه؛ ولكن من أجل وصف فيه، أو من أجل تعلم عليه، أو تعليم له، أو غير ذلك من أمور الخير -نعم- وما لا؛ فلا يقصد من أجل الغنى، "مَنْ تواضعَ لغنيٍّ لأجلِ غِناهُ ذهبَ ثُلثا دينِهِ" يقول ﷺ.

ويقول في دعائه: "اللَّهُمَ أَحْيِنِي مِسْكِيناً، وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ"؛ وهنا أيضًا يتصل المعنى في المساكين بأهل التذلل والمسكنة لله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء هم الذين لهم الشأن. قال: وكفاهم فخراً لو قال: "واحشر المساكين في زمرتي"، فكيف وقد قال: "واحشرني في زمرة المساكين؟، فهذا فخر عظيم لأهل المسكنة والتذلل لله -تبارك وتعالى-، وليس المراد مجرد المعدمين من المال. 

"وكانَ سليمانُ عليهِ السَّلامُ" أيام ملكه (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ)[ص:35]، يخرج إلى بيت المقدس، إذا رأى رجل مسكين يجلس معه وقالَ: "مسكينٌ جالسَ مسكيناً"؛ أو مسكين جالس مساكين؛ في أيام ملكه سيدنا سليمان على نبينا وعليه أضل الصلاة والسلام. 

وقالَ موسىٰ -عليهِ السَّلامُ-: (إلٰهي؛ أينَ أطلبُكَ؟ قالَ: عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم مِنْ أجلي).

وقالَ موسىٰ -عليهِ السَّلامُ-: (إلٰهي؛ أينَ أطلبُكَ؟ -وفي رواية: أين أجدك يا رب؟-  قالَ: عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم مِنْ أجلي)، تجدني عند المنكسرة قلوبهم؛ الذين لهم قلوب منكسرة من أجلي، يرون أنفسهم ضعفاء، ويرون أنفسهم مقصرين، ويرون أنفسهم أذلة لعظمتي -هؤلاء- أنا عندهم، تجدني "عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم مِنْ أجلي". فيا فوزهم!! ويا ما أشرف مكانتهم!!

 

وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"ومنها: ألَّا يُجالِسَ إلَّا مَنْ يفيدُهُ في الدِّينِ فائدةً، أو مَنْ يَستفيدُ منهُ، فأمَّا أهلُ الغفلةِ.. فيحذرُ منهُم.

قالَ ﷺ: "الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ، وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ ٱلْوَحْدَةِ".

فإذا أكثرَ مِنْ مجالسةِ أهلِ الغفلةِ.. فيَنتقِصُ مِنْ دينِهِ بكلّ جَلسةٍ شيءٌ، فليُقدِّرْ أنَّ كلَّ واحدٍ منهُم لو كانَ يأخذُ منهُ في كلِّ جَلسةٍ سِلكاً مِنْ ثوبِهِ، أو شعرةً مِنْ شَعرِ لحيتِهِ.. أمَا كانَ يحذرُهُ؛ خيفةَ أن يصيرَ على القربِ أمردَ عارياً؟! فالحذرُ لأجلِ الدِّينِ أَولىٰ.

ومنها: أن يعودَ مريضَهُم، ويُشيِّعَ جنائزَهُم، ويزورَ قبورَهُم، ويدعوَ لهُم في الغَيبةِ، ويُشمِّتَ العاطسَ، ويردَّ السلامَ، ويُنصِفَ النَّاسَ مِنْ نفسِهِ، وينصحَ إذا استُنصِحَ… إلى غيرِ ذلكَ مِنْ حقوقٍ كثرَتْ فيها الأخبارُ، آثرنا فيها الاختصارَ.

وجملتُها: أن تعملَ في حقِّهِم ما تحبُّ أن يُعمَلَ في حقِّكَ؛ مِنْ إحسانٍ واهتمامٍ، وكفِّ أذىَّ.

الحالةُ الثَّالثةُ: الصُّحبةُ معَ مَن يُدلِي -سوىٰ عمومِ الإسلامِ- بخاصِّيَّةٍ ؛ كجوارٍ، أو قرابةٍ، أو مِلكِ.

قالَ ﷺ: "أَوَّلُ خَصْمَيْنٍ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.. جَارَانِ".

وقالَ ﷺ: "إِذَا رَمَيْتَ كَلْبَ جَارِكَ .. فَقَدْ آذَيْتَهُ".

وقيلَ لهُ ﷺ: إنَّ فلانةَ تصومُ النَّهارَ، وتصلِّي اللّيلَ، وتؤذي جيرانَها، فقالَ : "هِيَ فِي النَّارِ".

وقالَ ﷺ: "أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ ٱلْجَارِ؟ إِنِ اسْتَعَانَ بِكَ .. أَعَنْتَهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ.. أَقْرَضْتَهُ، وَإِنِ ٱفْتَقَرَ.. جُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِن مَرِضَ.. عُدْتَهُ، وَإِن مَاتَ.. أتَّبَعْتَ جِنَازَتَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ.. هَنَّأْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ.. عَزَّيْتَهُ.

وَلَا تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِٱلْبِنَاءِ فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَإِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً.. فَاهْدِ لَهُ، وَإِن لَمْ تَفْعَلْ.. فَأَدْخِلْهَا سِرّاً، وَلَا تُخْرِجْ بِهَا وَلَدَكَ لِبَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ، وَلَا تُؤْذِهِ بَقُتَارِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا.

أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ ٱلْجَارِ؟ وَٱلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَا يَبْلُغُ حَقَّ الْجَارِ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللهُ".

وأمَّا القَرابةُ: فقد قالَ ﷺ: "قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَٰنُ، وَهَذِهِ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسماً مِنِ آسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا.. وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا.. بَتَتُّهُ".

وقالَ ﷺ: "صِلَةُ ٱلرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ".

وقالَ ﷺ: "تُوجَدُ رَائِحَةُ ٱلْجَنَّةِ عَلَىٰ مَسِيرَةِ خَمْسٍ مِئَةٍ عَامٍ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا عَاقٌّ، وَلَا قَاطِعُ رَحِمِ".

وَقالَ ﷺ: "بِرُّ ٱلْوَالِدَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَٱلصِيَامِ، وَالْحَجّ، وَالْعُمْرَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ ٱللهِ عَزَّ وَجَلَّ".

وقالَ ﷺ: "بِرُّ ٱلْوَالِدَةِ عَلَى ٱلْوَالِدِ ضِعْفَانِ!".

وقالَ ﷺ: "سَاوُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ".

 

وأمَّا المَمْلوكُ: فقد قالَ فيهِ ﷺ: "اتَّقُوا اللّٰهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِفُوهُمْ مِنَ ٱلْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ ٱللَّهَ مَلَّكَكُمْ إِيَّاهُمْ، وَلَوْ شَاءَ . . لَمَلَّكَهُمْ إِيَّاكُمْ".

وقالَ ﷺ: "إِذَا كَفَى أَحَدَكُمْ مَمْلُوكُهُ طَعَاماً، فَكَفَاهُ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ، وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ .. فَلْيُجْلِسْهُ، وَلْيَأْكُلْ مَعَهُ، أَوْ لِيَأْخُذْ لُقْمَةً فَلْيُرَوِّغْهَا وَلْيَضَعْهَا فِي يَدِهِ، وَلْيَقُلْ: كُلْ هَذِهِ".

وسُئِلَ ﷺ: كم نعفو عنِ المَمْلوكِ في اليومِ واللَّيلةِ ؟ قالَ : "سَبْعِينَ مَرَّةً".

فجملةُ حقّ المَمْلوكِ: أن يُشرِكَهُ في طُعْمتِهِ وكسوتِهِ، ولا يُكلِّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، ويعفوَ عن زلَّتِهِ، ولا ينظرَ إليهِ بعينِ الكِبْرِ والازدراءِ، ويُعلِمَهُ مُهمَّاتِ دينِهِ.

وأمَّا حقوقُ المنكوحةِ: فتزيدُ على هذا؛ إذ يجبُ لها -معَ

القيامِ بواجباتِها- حسنُ العِشْرةِ والمطايبةِ؛ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي".

وكانَ ﷺ مِنْ أفكَهِ النَّاسِ معَ نسائِهِ وأهلِهِ، والأخبارُ في ذلكَ أكثرُ مِنْ أن تُحصَىٰ".

 

هكذا؛ يقول في بقية الحقوق، وفي من يجالسهم من العامة: أن يختار مجالسة؛ "مَنْ يفيدُهُ في الدِّينِ فائدةً، أو -إذاهو-  مَنْ يَستفيدُ منهُ،، فأمَّا -مجالسة- أهلُ الغفلةِ.." فهي أصل الضرر والشر، وإنما من تعلّمه أو تتعلم منه؛ من يفيدك وتفيده في دينك أو دنياك، فلا بأس بالمجالسة. 

مجالسة الأخيار عمدة في السير إلى الملك الغفار -جل جلاله-، قال فيها نبينا: "المرء مع جليسه"، و"المرء على دين خليله"، ما كَمل إلا من جالس رجال الكمال، ومن لم يجالس الكاملين كيف ينال الكمال؟. 

وهكذا؛ في شأن هذه المجالسة وأثرها:

وَاِصحَب ذَوي المَعروفِ وَالعِلمِ وَالهُدى *** وَجانِب وَلا تَصحَب هَدِيَّتَ مَنِ اِفتَتَنِ

وإياكمُ من صحبة الضد، ومن الضد؟ 

كل من ألهاك عن ذكر الله، أو أوقعك في معصية الله، أو حال بينك وبينه واجب من الواجبات التي فرضها الله، فهو الضد.

وإيــــــاكمُ من صحبة الضدِّ إنني *** رأيت فسادَ المـرء صحبةَ أضدادِ

ففي صحبةِ الأضداد كل رذيــــلةٍ *** تــــــؤدي إلى ضرٍّ وبغيٍ وإفسادِ

وفي صحبة الأخيــــارِ كل غنيمةٍ *** وربحٍ وفوزٍ ليس يحصيه تعدادِي

فدونكمُ فيها ارغبوا ولـــها اطلبوا *** ففيها لمن يبغي الهدى خير مرتادِ

هــــــم العلماء العارفون الذين في *** مجالـــــســـهم للمرء أعظمُ إسعادِ

 

ويقول الحبيب علي الحبشي في بعض قصائده:

أفيدك أنني جالست قومــــاً *** حدوني بالمقـــــــــــال وبالفعالِ
رجالاً ما رأيت لـــهم مثيلاً *** يزعزع حــدْوهم صمّ الجبالِ
فحرّك حــدْوهم قلبي فأبدى *** غرامـــــــاً منه في حب الجمالِ

 

وهكذا؛ ما كان يوُصف الصحابة بشيء أعظم من أنهم صَحِب رسول الله إذا المرء مع جليسه فهؤلاء جليسهم حبيب الرحمن -صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله-. 

ولهذا حذّروا من مجالسة أهل الغفلة، "فإذا أكثرَ مِنْ مجالسةِ أهلِ الغفلةِ.. فيَنتقِصُ مِنْ دينِهِ بكلّ جَلسةٍ شيءٌ"؛ قال: لو فرضنا أنك تجيء عند ناس، إذا جئت عندهم يأخذون خيطاً من ثوبك، أو شعرة من لحيتك، يقولون: كل مرة تجيء عندنا سنأخذ منك شعرة تجيء ثاني مرة، ثالث مرة، بعد ذلك تقول: بيخلونا بلا ثياب، أخرِّب عليّ ثوبي ويجلِّسونا بلا ثوب، ما عاد تجيء عندهم، قالوا: وغيرتك على دينك أولى، هؤلاء يسرقون من دينك شيئ.

 

إيّاك إيّاك من سُرَّاق الأوقات *** فإنهم من عظيمات المصيبات

 

ما يسرق عليك مالك، يسرق عليك عمرك، أغلى شيء عندك يسرقه عليك، يصرفه في غفلة، -لا إله إلا الله-، يقول: "الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ، وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ ٱلْوَحْدَةِ"

وكذلك: "يعودَ مريضَهُم"؛ فإن عيادة المريض لها أجر، ومثل زيارة الأخ في الله تعالى، يُشيَّع عائد المريض وزائر الأخ في الله سبعون ألف ملك، يُصَلون عليه، إن زاره في الصباح إلى المساء، وإن زاره في المساء، أو عاده في المساء إلى الصباح، ما شاء الله. 

"يعودَ مريضَهُم، ويُشيِّعَ جنائزَهُم"؛ وكل من قدر عليهم من أهل مكانه وبلدته وحصلت الوفاة، فتشييع الجنازة فيها قيراط من الأجر، وحضور الدفن قيراط ثانٍ، والقيراط مثل جبل أحد من الثواب والأجر، لمّا سمع بعضهم قال:  ضيعنا قراريط كثيرة. 

"ويزورَ قبورَهُم"؛ بعد وفاتهم، فذلك من حق المسلمين، وإنّ من الجفاء أن تمرَّ على مقبرة المسلمين ولا تسلّم عليهم؛ هذا من الجفاء! سلّم عليهم! أقل شيء تسلّم عليهم، كان ﷺ كل ليلة يذهب إلى المقبرة يزور أهل بقيع الغرقد، وتقول بعض أمهات المؤمنين: ما بات عندي ليلة إلا يأتي فيها أهل البقيع يسلم عليهم ﷺ، كل ليلة كان يمر عليهم ويسلّم عليهم ويرجع -صلوات ربي وسلامه عليه-، وفي الحديث الصحيح: "ما مِن مسلم يَمُرُّ بِقبرِ أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا، إلا عَرَفَه واستأنس به".

وقال: "ويُشيِّعَ جنائزَهُم، ويزورَ قبورَهُم، ويدعوَ لهُم في الغَيبةِ"، فإن من أفضل الرغائب دعاء الغائب للغائب، "من دعا لأخيه بظهر الغيب، قال له الملك: آمين ولك بمثله، وبك يُبدَأ"، هكذا. 

"ويُشمِّتَ العاطسَ"، فإذا عطس يُسنُّ تشميته بقوله: يرحمك الله إن حَمِدِ الله، يتأكد التشميت له -يعني: الدعاء بالرحمة- بعد أن يحمد الله تعالى، فإن لم يحمد الله لم يكن له حق، ولكن يُسنُّ تذكيره أن يتحمّد الله بقوله: الحمد لله، فيحمد الله فتُشَمِّتُه. 

مَنْ يَبْتَدي عَاطِسَا بِالْحَمْدِ يَأْمَن مِنْ *** شَوْصٍ وَلَوْصٍ وَعِلَّوْصَ كذَا وَرَدَا

 إذا كان يسبق العاطس بالحمد، يحمده، يذكّره بالحمد، يأمن من الشوص واللوص والعلوص.

الشَّوْصَ: ألم السن. 

واللَّوْصَ: ألم الأذن. 

والْعِلَّوْصَ: ألم البطن. 

شَوْصٍ وَلَوْصٍ وَعِلَّوْصَ كذَا وَرَدَا

فإذا حمد الله كان من حقه علينا أن نقول: يرحمك الله، وينبغي له أن يجيب بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم.

وقد عطس بعضهم في مجلس سيدنا أنس، فقال: السلام عليكم، قال له سيدنا أنس: السلام عليك وعلى أمك، فكأنه وجد، قال: وجدت في نفسك عليه؟، كنا عند النبي ورجل قال: السلام عليك بعدما عطس، قال له النبي: "السلام عليك وعلى أمك، إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له صاحبه: يرحمك الله، وليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم"؛ لأنه لا دخل عليهم ولا جاء من مكان، هو جالس بينهم ويسلّم! ما هو وقت السلام. 

والثاني خاطب المصلّي وهو في الصلاة بالدعاء بالرحمة، فتبطل صلاته لأنه خاطبه، فجاء يصلي مع النبي ﷺ بعض الأعراب، فعطس رجل في الصلاة فقال: الحمد لله، فرد أحدهم: يرحمك الله -وهم في الصلاة- فتعجبوا الصحابة، شاف نظراتهم، قال: واثُكلَ أُمِّيَاهْ، مالكم تنظرون إلي؟ أشاروا إليه ليسكت فسكت، فأكملوا الصلاة، النبي أحسّ بكلامهم في الصلاة، بعد الصلاة قال: "من المتكلم في صلاته؟" قالوا: هذا يا رسول الله، قال: "تعَال"، قال: فبأبي هو وأمي لقد وجدته خير معلم، والله ما كهرني ولا نهرني ولا شتمني، ولكن قال لي: "إن هذه الصلاة لا تصلح لكلام الآدميين، إنما هي الذكر والتلاوة والدعاء"، فقط هذا؛ القرآن والتلاوة والدعاء، فقط هذا الذكر، فتعلم الأعرابي ولم يأمره بإعادة الصلاة؛ عذره في هذه الكلمات. من هنا قال الشافعية: إذا كان جاهلًا معذورًا بجهله فيُعذر في أربع كلمات، إذا تكلّم في الصلاة لا تبطل صلاته؛ إذا كان معذورًا بجهله، جاء من بادية بعيدة، أو قريب عهد بالإسلام. 

يقول: وإذا كان طفل عطس، ينبغي أن نعلمه يقول: الحمد لله، واستحب بعض العلماء تشميته بقول: بارك الله فيك، طفل بعدُه صغير، إذا قال: الحمد لله، يقول: بارك الله فيك، هذا تشميت الطفل الصغير. إذا كان كبير، يقول: يرحمك الله. 

 

يقول: "ويُشمِّتَ العاطسَ"؛ وفي الحديث أيضًا: "من قال عند كل عطسة عطسها أو سمعها: الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان، لم يجد وجع ضرسٍ ولا أُذنٍ أبداً"؛ سواء عطسها هو أو سمع عطسة، يقول: الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان. 

وكان بعض اليهود يحاولون العطاس، يتعمدون العطاس بين يدي رسول الله ﷺ ويحمدون الله من أجل أن يقول لهم: يرحمك الله، يوقنون أنه رسول، وأن دعاؤه مقبول، ولكن هكذا بعضهم من أجل قومه وأصحابه لا يسلم ويَتبعهم، وبعضهم حسد، فكانوا يتعاطسون، فإذا عطس عنده يهودي وحمد الله يقول له: "يهديكم الله ويصلح بالكم"، ما يقول يرحمكم الله بل يقول: يهديكم الله، لكن اهتدوا الذين قال لهم هكذا وأسلموا، وقعت لهم الهداية والرحمة ﷺ. 

وهو في الغالب عند الحديث مما يدل على صدق الحديث: "أصدق الحديث ما عُطِسَ عنده"، و"إن العُطاس من الرّحمن، وإن التثاؤب من الشيطان"، ويُسن لمن تثاءب أن يغطي وجهه، وأن يخفض صوته.

"ويردَّ السلامَ"؛ فهو واجب وابتداؤه سنة، وأقله: وعليكم السلام، والأفضل: وعليكم السلام ورحمة الله، وأفضل منه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وقال تعالى: (إِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) [النساء:86]. 

"ويُنصِفَ النَّاسَ مِنْ نفسِهِ"؛ ينصف الناس من نفسه ولا ينتصف لنفسه من الناس، هذا وصفه عليه الصلاة والسلام ووصف الأخيار، ينصِفون الناس من أنفسهم، ويرون الحق للغير، ويحاسبون أنفسهم على حق الغير، وينصفون الناس ويعترفون لهم بما كان منهم من تقصير، ويتداركون ما ضيّعوا فيه من حقوق الناس، ويؤدونها لهم. 

"وينصحَ إذا استُنصِحَ"؛ إذا طلب أحد منه نصيحة أو شورى -شاوره في مجلس-؛ فعليه أن ينصح أخاه، "إلى غيرِ ذلكَ مِنْ حقوقٍ كثرَتْ فيها الأخبارُ، آثرنا فيها الاختصارَ"، "وجملتُها: أن تعملَ في حقِّهِم ما تحبُّ أن يُعمَلَ في حقِّكَ..".

الصُّحبةُ معَ مَن يُدلِي -سوىٰ عمومِ الإسلامِ- بخاصِّيَّةٍ ؛ كجوارٍ، أو قرابةٍ، أو مِلكِ.

ثم يقول: "الصُّحبةُ معَ -خاصة- مَن يُدلِي -إليك بنسب- كجوارٍ، أو قرابةٍ، أو مِلكِ" يمين؛ قال: هؤلاء لهم حق خاص.

فمنه الجوار: قالَ ﷺ: "أَوَّلُ خَصْمَيْنٍ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.. جَارَانِ"، حق الجار: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه"، وقال: "إِذَا رَمَيْتَ كَلْبَ جَارِكَ .. فَقَدْ آذَيْتَهُ".

وقالوا: "إنَّ فلانةَ تصومُ النَّهارَ، وتصلِّي اللّيلَ، وتؤذي جيرانَها، -وفي رواية: بلسانها- فقالَ: "هِيَ فِي النَّارِ"، وفي رواية: "لا خير فيها، هي في النار"؛ بسبب إيذائها لجيرانها، روى ذلك الإمام أحمد في مسند الإمام البخاري في الأدب المفرد، "تؤذي جيرانها"، وفي رواية: "بلسانها"، قال: "هي في النار"، وفي رواية "لا خير فيها، هي في النار"؛ بسبب أذى الجيران. 

قال: "وقالَ ﷺ: "أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ ٱلْجَارِ؟ إِنِ اسْتَعَانَ بِكَ .. أَعَنْتَهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ.. أَقْرَضْتَهُ، وَإِنِ ٱفْتَقَرَ.. جُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِن مَرِضَ.. عُدْتَهُ، وَإِن مَاتَ.. أتَّبَعْتَ جِنَازَتَهُ.. وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ.. هَنَّأْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ.. عَزَّيْتَهُ. وَلَا تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِٱلْبِنَاءِ فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِيحَ؛ -ترفع بناءك عليه وتحجب عنه الريح- "وَإِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً.. فَاهْدِ لَهُ، وَإِن لَمْ تَفْعَلْ.. فَأَدْخِلْهَا سِرّاً، وَلَا تُخْرِجْ بِهَا وَلَدَكَ لِبَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ"، فولدك يخرج في الشارع فيراه فيقول له: نحن عندنا هذا، وليس عندكم أنتم، أبي أعطانا هذا، يقول له: لا، فإذا لن تعطي الجيران منها فكلها وسط الدار ولا تدع أحدًا من الأولاد يخرج بها إلى خارج البيت، ومثله ما تجْلبونه من الألعاب وغيرها؛ إذا كانوا الجيران مساكين لا يقدرون يأتون بمثل هذا لأولادهم، لا تدع أولادك يخرجون بها، يغتاظون ويذهبون إلى أبيهم يبكون وأنت السبب، هذا من حق الجار. وهكذا؛ اجعل لها غرفة عندك، وقل لهم: تعالوا هنا العبوا، لا تخرجون بها حتى لا تؤذي الجيران، لا إله إلا الله.

قال: "وَلَا تُؤْذِهِ بَقُتَارِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا"؛ الدخان والرائحة تتصاعد من قدرك وتطبخ، ويَشِمْ رائحة المشوي عندك ويَشِمْ هذا، ولا شيء يصله من ذلك، قال: إلا إذا تعطيه منها شيئًا فلا بأس، ترفع منها شيء، وإلا خصص لك مكان لا تصل الرائحة إلى عند الجيران، لا إله إلا الله. 

"أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ ٱلْجَارِ؟ وَٱلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَا يَبْلُغُ حَقَّ الْجَارِ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللهُ"، وهكذا..

بجيرانها تغلو الدِّيارُ وترخُصُ. 

ويمتد حق الجار إلى أربعين دارًا من الجهات الأربع، ولكن أحقهم؛ الأقرب بابًا إلى دارك فالأقرب، الأقرب فالأقرب، هذا أحقهم، لا إله إلا الله. 

 

وكان بعض الأخيار الأثرياء معهم جار، إذا مرضت عندهم شاة، فصار يجيء كل يوم يقول: كيف حال الشاة؟ وكيف الأولاد؟ لم يعودوا يحصلوا على اللبن، مريضين هم؟ كيف أولادكم؟ ودخل ووضع له تحت الفراش دينارًا، وثاني يوم يأتي، وثالث يوم، كل يوم يجيء ويضع له ويسأل عن الشاة حتى برئت، فقال: تمنينا أنها ما برئت الشاة، الجار الصالح هذا يجلب لهم كل يوم دينارًا -لا إله إلا الله-.

يقول: " القَرابةُ: فقد قالَ ﷺ: "قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَٰنُ، وَهَذِهِ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسماً مِنِ آسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا.. وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا.. بَتَتُّهُ"؛ أي: قطعته -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ويكفي الآية العظيمة: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ) [محمد: 22-23]. 

يَذكروا أن واحدًا من الأخيار كان في مكة، وكان مؤتمنًا ويؤدّي الناس إليه أماناتهم ويؤديها لهم، توفي بعد ذلك، واحد أودع عنده وديعة، فجاء إلى أولاده، كان أولاده أيضًا خِيار؛ ردّوا الودائع التي كانت عند أبوهم كلها، قالوا: ما وجدنا وديعتك هذه، قال: وصفها كذا كذا، بخثرا في البيت ما عثروا على شيء في البيت، ما وجدوا شيئ، قالوا: العفو منك ما وجدنا في البيت، والرجل مشهور بالتقوى والورع، وأولاده كذلك لا أحد منهم يكذب، تعجب! فسأل بعض الصالحين في مكة، قال له: إذا كان ليلة الجمعة اقرأ من الأذكار وادعو، وسيريك الرجل إن كان من الأرواح الطاهرة ففعل، فما رأى شيئًا، قال له: لعله في عذابه، فعمل الدعاء فرآه، قال: جاوب عليه، ناداه قال له: مالك أنت عند الأشرار؟ قال: نعم، عملي كله صالح وأموري طيبة، صلواتي في الحرم، ولكن لي عمة وبنت عمة في الشام لم انتبه لها، ونالها الجوع ونالها العري ولا أدري، فأنا بسببها محبوس هنا، شوف حاجتك وقل لأولادي يبحثون في المحل الفلاني عند الباب الفلاني طرحت وديعتك هناك، ولكن من فضلك اتصل بعمتي هذه واذهب إليها وقل لها: يطلب المسامحة، ممكن تسامحني -الله أكبر-، فجاء إلى أولاده وقال لهم: أنا رأيت والدكم ويقول: أنها في المكان الفلاني، جاؤوا يبحثون ووجدوا الوديعة كما هي وأعطوها له، سافر بعدها للشام وجاء إلى عندها، سأل عنها حتى وجدها فقال لها: كيف بعدها؟ قالت: ما عاد أنا في دربي وهو في دربه، قال لها:  الآن توفي، أنت ترضين لابن أخيك بهذا العذاب؟ قالت: لا، قال: فإني رأيته، قالت: خلاص مسامح في حلٍّ، سامحه الله، فرآه في الليلة الثانية وقال: جزاك الله خيرًا، اُخرجت من عند هؤلاء وأنا الآن مع الأخيار، نُقِل عند أهل الرحمة بسبب الرحم هذه؛ "من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته".

"صِلَةُ ٱلرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ"؛ يعني: يبارك للإنسان في عمره، أو يكون بالنسبة لما في صحف الملائكة يكون عمره خمسين سنة، فإن وصل رحمه؛ يكون سبعين وثمانين سنة، فيزيد بالنسبة لما في صحف الملائكة، وأما العمر فهو قد قُدِّر في الأزل، فهذا هو واحد، ولكنه بالنسبة لما يوصف للملائكة، وبالنسبة للبركة في العمر كذلك، والرزق كذلك، فإنها "مَنسأةٌ في الأجلِ مَثراةٌ في المال"، صلة الرحم. وحتى أن الله تعالى ليكثر الرزق وييسر الأمور لمن يصلون أرحامهم ولو كانوا كفارًا، لو كان حتى كافر يصل رحمه يُبارك له في الرزق. 

صلة الرحم؛ قال: "تُوجَدُ رَائِحَةُ ٱلْجَنَّةِ عَلَىٰ مَسِيرَةِ خَمْسٍ مِئَةٍ عَامٍ ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا عَاقٌّ"؛ أي: لأبويه، "وَلَا قَاطِعُ رَحِمِ"؛ -والعياذ بالله تعالى- "تعرض الأعمال على الله كل اثنين وخميس، فلا يقبل عمل قاطع رحم". 

"بِرُّ ٱلْوَالِدَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَٱلصِيَامِ، وَالْحَجّ، وَالْعُمْرَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ ٱللهِ عَزَّ وَجَلَّ"، "بِرُّ ٱلْوَالِدَةِ عَلَى ٱلْوَالِدِ ضِعْفَانِ!" الوالدة تزيد على الوالد، "سَاوُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ".

 

وأمَّا المَمْلوكُ -قالوا المماليك غير موجودين في عامة البلاد- فقد قالَ فيهِ ﷺ: "اتَّقُوا اللّٰهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِفُوهُمْ مِنَ ٱلْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ ٱللَّهَ مَلَّكَكُمْ إِيَّاهُمْ، وَلَوْ شَاءَ . . لَمَلَّكَهُمْ إِيَّاكُمْ".

 وقال ﷺ: "إِذَا كَفَى أَحَدَكُمْ مَمْلُوكُهُ طَعَاماً، فَكَفَاهُ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ، وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ .. فَلْيُجْلِسْهُ، وَلْيَأْكُلْ مَعَهُ، أَوْ لِيَأْخُذْ لُقْمَةً فَلْيُرَوِّغْهَا وَلْيَضَعْهَا فِي يَدِهِ، وَلْيَقُلْ: كُلْ هَذِهِ""؛ لأنه قد ولي علاجه. 

"وسُئِلَ ﷺ: كم نعفو عنِ المَمْلوكِ في اليومِ واللَّيلةِ ؟ قالَ : "سَبْعِينَ مَرَّةً؛ بعد السبعين حاسبوه. 

"فجملةُ حقّ المَمْلوكِ: أن يُشرِكَهُ في طُعْمتِهِ وكسوتِهِ، ولا يُكلِّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، ويعفوَ عن زلَّتِهِ، ولا ينظرَ إليهِ بعينِ الكِبْرِ والازدراءِ، ويُعلِمَهُ مُهمَّاتِ دينِهِ".

عندما استُملك واستُرِّق سيدنا زيد بن حارثة -عليه رحمة الله- كان أصله من اليمن وفي قتال بين العرب أخذوه، جاؤوا به إلى الشام هنا في معان، قال: بعدها اشتراه حكيم بن حزام لخديجة بنت خويلد؛ يعني: أعطاها إياه، فأهدته للنبي محمد ﷺ، فكان في ملك النبي ﷺ، يسأل عنه أهله أين؟ أين؟ حتى استدلوا أنه موجود الآن في مكة عند شخص اسمه محمد ﷺ، فوصلوا وسألوا الناس، فقالوا لهم: هذا الرجل طيب ولا يضايقكم في ولدكم، وسَيَرد لكم ولدكم إذا أحببتم، ساوموه ليعطيكم ابنكم، الرجل كريم، ففرحوا، فلقوه ﷺ وقالوا له: نحن أقارب زيد، هذا عمه وهذا أبوه، ما تريده منا مقابل، فقال: لا، نحضره فإن اختاركم فاذهبوا به بلا شيء، بلا مقابل خذوه، وإن اختار أن يبقى معنا فما أنا بالذي يُكرِهُه، قالوا: جزاك الله خيرًا أنصفتنا، فماذا نريد فوق هذا؟ دعوا سيدنا زيد فجاء، قال: عرفت هؤلاء، قال: نعم أبي وعمي، قال: إنهم جاؤوا وقالوا كذا وكذا، قال: لا والله لا أختار عليك أحدًا، تعجبوا! هذا زيد تختار ترجع! تختار الرق على الحرية؟ قال: ما وجدت مثل هذا الرجل ﷺ، معاملته له أنسته أبوه وأمه وبلاده وكل شيء، قال: أما أنا فلا أرضى أن أفارقه، واطمأنوا وعانقوه ورجعوا، وقالوا: خلاص، قال: بل هو حر، وتبنّاه قبل أن يحرم الله التبنّي، وقال: هو زيد بن محمد، سموه كذلك إلى أن أبطل الله التبني؛ وأُنزل فيه: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40]. ورجع زيد بن حارثة كما هو. 

وحُرِّم في الشريعة أن يُتبنى غير الابن من الصُلب، يعني: أن يُنسب إليه فلان بن فلان، ما هو يكفله ويربيه، لا بل ينسب إليه في النسب، فشاهد هذا وهو مملوك، رأى من معاملة زين الوجود ﷺ ما آثره على أبيه وأمه وعلى أهل بلده -عليه رضوان الله-، وكان محظوظًا، وأرسله في غزوة مؤتة وجعله أول أمير، وقال: "فإن أصيب فليحمل الراية جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فليحمل الراية عبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتضي المسلمون من بينهم رجلاً"؛ فأصيب الثلاثة -عليهم رضوان الله- وجمعنا بهم في دار الكرامة، وولّوا سيدنا خالد بن الوليد وكانت النصرة.

 

يقول: "فجملةُ حقّ المَمْلوكِ: أن يُشرِكَهُ في طُعْمتِهِ وكسوتِهِ، ولا يُكلِّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، ويعفوَ عن زلَّتِهِ، ولا ينظرَ إليهِ بعينِ الكِبْرِ والازدراءِ، ويُعلِمَهُ مُهمَّاتِ دينِهِ".

قال: "وأمَّا حقوقُ المنكوحةِ: فتزيدُ على هذا؛ إذ يجبُ لها -معَ القيامِ بواجباتِها- حسنُ العِشْرةِ والمطايبةِ؛ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي". "وكانَ ﷺ مِنْ أفكَهِ النَّاسِ معَ نسائِهِ وأهلِهِ، والأخبارُ في ذلكَ أكثرُ مِنْ أن تُحصَىٰ"؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، "كان حسن المعاشرة والمعاملة، كريم الأخلاق، ويصبر علينا كثيرًا" ﷺ. 

كان عنده بعض الضيوف، وأرسلت إليه أم سلمة بشيء من الطعام، واستلمتها وجاءت إلى الرسول واستلمت سيدتنا عائشة وقالت: الضيوف عندي في بيتي وهذه تتكرم بالطعام؟ رمت بالقصعة فانكسرت، التفت ﷺ فقال: "غارت أمكم"، قام وأخذ القصعة التي تستعملها عائشة، وغرف الطعام فيه وقدمه للضيوف وأكل معهم، وبعدها قال: "دعوا المكسورة عند عائشة، ورُدّوا هذه لها"، أي: الصحيحة قال: ردّوها لأم سلمة، قالوا: كانت هذه كلها من ملكه، هذه وهذه القصعة التي كانت تستعملها هي ملكه، فرجع أعطى هذه الصحيحة، وخلّى التي انكسرت، قال: انظري التي كسرتها اتركيها عندك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.

وحتى خاصمته في بعض الأيام، فقال: "من ترتضين يكون بيني وبينك؟" قالت: أبي، قال: "أبوكِ أبو بكر"، دعو أبو بكر، فجاء سيدنا أبو بكر الصديق، فقال له: "كن بيني وبين عائشة"، وقال: "تسمعين مني أو أسمع؟ تتكلمين أو أتكلم؟" قالت: تكلم أنت ولا تقل إلا الحق، فغضب سيدنا أبو بكر فقام ليلطمها فأمسكه النبي ﷺ ورجعت هي وراء النبي تستجير منه، قال ﷺ: "ما دعوناك لهذا"؛ ما أردناك تضربها، لكنه ثار لما سمع هذا قال: كيف تقولين لرسول الله ﷺ هكذا؟ هي عدوة نفسها! تقولين لرسول الله هذا؟ وهل يقول إلا الحق ﷺ! ثم خرج، حتى مر يوم وهو يضحك مع سيدتنا عائشة، قال سيدنا أبو بكر: يا رسول الله، أشركاني في سِلمكما كما أشركتماني في حربكما؛ دخلتوني أفصل بينكم، فأشركوني، وهكذا. 

يقول: إنهن يصنعن مثل ذلك، يعني كانت إحداهن لتهجره، وقال لها مرة، يقول للسيدة عائشة: "أعلم إذا كنت راضية عني وإذا كنت غضبى"، قالت: كيف تعرف؟ قال: "إذا كنت راضية تحلفين تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى تقولين: لا ورب إبراهيم"، قالت: نعم يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

وهكذا؛ كان عظيم الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك يقوّمهن فيه، مرة ذكرت واحدة من أمهات المؤمنين قالت: حسبك، وأشارت بأنها قصيرة، قال: "يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"؛ اغتبتيها، فغضب عليها واشتد عليها، فكان مع الموازنة؛ يصبر في مكان في حقه ﷺ ويسامح، صلوات ربي وسلامه عليه.

حتى ذكرن يوم بعد وفاته؛ اجتمعن كلهن، تسع أمهات المؤمنين، تذكّرن ما يكون بينه وبينهن، وذكرن رسول الله ﷺ وبَكيْن، قُلن: إنه كان يكون بيننا ما يكون بين زوجات الرجل الواحد، تسامحن، فتسامحن -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، وحسبهن أن الله اختارهن لحبيبه وجعل لهن الأمومة على كل من آمن به، كل من آمن به فهن أمهاته: (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب:6] -عليهن رضوان الله-. 

 

ملأنا الله بالإيمان واليقين، ويجعلنا في الهداة المهتدين، وينظمنا في سلك الحبيب الأمين، ويصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، مُتَرقِّين على مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ويبارك لنا فيما أعطانا وما أنعم به علينا، وأن يختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنا،

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

تاريخ النشر الهجري

27 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

20 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام