(373)
(535)
(606)
الدرس الخامس عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: الأصل الثامن: القيام بحقوق المسلمين وحسن الصحبة معهم (1)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الثلاثاء 25 صفر 1447هـ
توضيح عن أصلٍ يُقيم الدين: القيام بحقوق المسلمين وحُسن الصحبة في 3 أحوال؛ مع النفس (مملكة القلب وجنودُها: الشهوة، الغضب، والعقل)، ثم مع الخاصة من أهلٍ وجيران، ثم مع عموم الخلق، مع لمحاتٍ من "عشرين وظيفة" تُهذِّب السلوك مثل: محبّةُ الخير للناس، طلاقةُ الوجه، وعدمُ الهجر فوق ثلاث… لبناء مجتمعٍ يقرِّب إلى الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الأصل الثامن
في القيام بحقوق المسلمين وحسن الصحبة معهم
"وهو ركنٌ من أركان الدِّين؛ إذ الدِّين معناه السفر إلى الله تعالى، ومن أركان السَّفر حسن الصحبة في منازل السفر مع المسافرين، والخَلْق كلهم سَفْرٌ، يسير بهم العمر سير السفينة براكبها.
واعلم: أن الإنسان في الدنيا إما أن يكون وحده، أو مع خواصِّه من أهل وولد وقريب وجار، أو يكون مع عموم الخلق، فهذه ثلاثة أحوال، وعليه حسن الصحبة وأداء الحقوق في جميع هذه الأحوال.
الحالة الأولى: أن يكون وحده، وليعلم أنه بنفسه عالَم، وأن باطنه يشتمل على أصناف من الخلق مختلفي الطبائع والأخلاق، فإن لم يحسن صُحبتهم، ولم يقم بحقوقهم.. َهلك.
وأصناف جنود الباطن كثيرة؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 31]، وقد استقصينا بعضه في كتاب (عجائب القلب) من كتب (الإحياء).
ونذكر الآن أمراء الجنود ورؤوسها؛ فنقول: فيك شهوة تجذب بها إلى نفسك النافع، وغضَبٌ تدفع به عن نفسك الضار، وعقل تدبر به الأمور، وترعى به الرعية.
وأنت باعتبار غضبك كلبٌكٌ عقور، وباعتبار شهوتك بهيمة؛ كالفرس مثلاً، وباعتبار عقلك ملِك، وأنت مأمور بالعدل بينهم، والقيام بحقوقهم، والاستعانة بهم؛ لتقتنص بمعونتهم سعادة الأبد.
فإذا رُضْتَّ الفرس، وأدّبت الكلب، وسخرتهما للمَلَك تيسر لك الظَّفَرُ بما طلبت.
وإن سخرت العقل في استنباط الحِيَل لتحصيل ما يتقاضاه الكلب بغضبه ولجاجه، والفرس بحرصه وجشعه، أوفيت على العطب، فضلاً عن إدراك مقصود الطلب، فصرت منكوساً معكوساً، فاجراً ظالماً؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
ولو رأيت شخصاً جُعِل في طاعته مَلَكٌ وكلبٌ وخنزير، فلم يزل يَضطرُ المَلِكَ إلى أن يسجد للكلب والخنزير.. فهل تراه ظالماً مستوجباً للعنة؟!
ولو كُوشِفت عن حالك عند منامك، أو عند فنائك عن نفسك؛ كما وصفناه في الاستغراق بالله -عز وجل-.. لرأيت كل من أطاع شهوته وغضبه ساجداً لكلب أو خنزير؛ إذ لم يكن الكلب كلباً لصورته؛ بل لمعناه، وكذلك ترى نفسك بعد الموت؛ لأن المعاني في عالم الآخرة تستتبع الصور ولا تتبعها، فيتمثل كل شيءٍ بصورة توازي معناه، فيُحشر المتكبرون في صورة الذر، يطؤهم من أقبل وأدبر، والمُتواضعون أعزاء.
وأما هذا العالم فعالم التلبيس؛ فقد يودع معنى الخنزير والكلب في صورة إنسان فلا تغتر به؛ فإن ذلك ينكشف (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق: 9].
فعليك أن تحسن صحبة رفقائك الثلاث، فتكسر شَرَهَ الشهوة بسطوة الغضب، وتقلل من غلواء الغضب بخداع الشهوة، وتُسلِّط أحدهما على الآخر، فإن ذلك بليغ جداً في تقويمهما حتى ينقادا للعقل والشرع، فيستعملهما العقل بحيث ينتفع بهما؛ كما يستعمل الصائد الفرس والكلب عند الحاجة ويسكنهما عند الاستغناء.
وشرح هذه الرياضة والصحبة طويل ذكرناه في كتاب (رياضة النفس) من كتاب (الإحياء)".
الحمدلله مكرمنا بنور البيان للسّير إليه على ما يحب في السفر والإعلان، وصلى الله وسلم وبارك وكرم على عبده المختار المنزل عليه القرآن سيد الأكوان عبده المصطفى محمد وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الأدران، وصحبه الغر الأعيان، ومن والاهم في الله واتبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، من رفع الله لهم المكانة والقدر والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين.
ويتكلم الشيخ -عليه رحمة الله- في هذا "الأصل الثامن" -فيما يتعلق بالأعمال الظاهرة- "في القيام بحقوق المسلمين وحسن الصحبة معهم"، ويقول: إن هذا وأداءه والقيام بواجبه "ركن من أركان الدين"، يقصد السير إلى الله تبارك وتعالى، "إذ الدين معناه السفر إلى الله".
فمطلوب منا في أيام دنيانا التي نحن فيها بحكم الاضطرار مسافرون إلى الآخرة، فالجميع الذين فيها في هذا السفر، شعروا أم لم يشعروا، لا مفر لهم منه، فهم مسافرون إلى الآخرة. وفي الآخرة انكشاف الحقائق ولقاء الخالق، فوجب أن نغتنم من خلال هذا السفر إلى الآخرة أن نسافر في أطوار معارفنا وَمداركنا بوسائل النقل والرفع من الأخلاق والأعمال وصدق الوجهة وحسن النية إلى مراتب الوصول إلى الله -تبارك وتعالى-.
فمن أحسن السفر وسط هذه المدة المقدرة التي هي سفرٌ إلى الآخرة، أحسن السفر إلى رب الدنيا والآخرة، فإنه عند السفر إلى الآخرة يلاقي ربه الذي سافر إليه أيام دنياه بمعنى: ترك ما يشغله عنه.
وبعد ذلك مراتب في السفر إلى الله -تبارك وتعالى- يعبر عنها أرباب المعارف من خواص المؤمنين بالوصول إلى الله -جل جلاله وتعالى في علاه-.
إذًا فالقيام بشأن هذا السفر في هذه الدنيا مهم، وهو سفرنا إلى الحق تبارك وتعالى، قال: "ومن أركان السفر حسن الصحبة في منازل السَّفَر مع المسافرين، والخلق كلهم سَفْرٌ"، يعني: مسافرون؛ السَّفْر -المسافرون- ، كان ﷺ أيام كان بمكة يقصر الصلاة، فإذا سلم من الركعتين يقول: "أتموا صلاتكم فإن قومٌ سَفْرٌ"، يعني: مسافرون غير مقيمين في مكة، فيأمر المقيمين أن يتموا الصلاة ﷺ. فمعنى "السَّفَر: المسافرون يسير بهم العمر سير السفينة براكبها" حتى يصل كل منهم إلى ساحل انتهاء آجله، فيدخل إلى العمر الآخر وهو عمر البرزخ، (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 100].
قال: "والإنسان في الدنيا إما أن يكون وحده، أو مع خواصِّه -من الخلق- من أهل وولد وقريب، أو مع عموم الناس يعيش مع عموم الخلق، فصارت ثلاثة أحوال، وفي كلها يحتاج إلى حسن الصحبة وأداء الحقوق".
ولو كان وحده؟ قال: ولو كان وحده، فإذا كان وحده فهو في مملكة، مملكة القلب والأعضاء، هذه المملكة جُعِل فيها مَلِك وهو العقل والقلب، وَجُعِل فيها أعوان وأخدام، وَجُعِل فيها جنود، وَجُعِل فيها سباع ضارية، وفيها أيضاً بهائم شهوانية.
فشهوة وغضب.
فالغضب: مثل السبع، والشهوة: مثل الفرس أو الخنزير،
فالغضب يُسلّط على الشهوات حتى لا تتجاوز حدودها، ويسكَّنُ شأن الغضب بشيء من الشهوات حتى يستقر حاله، ويدير ذلك مع الاستعانة بهذه الحواس الموهوبة له من الجند العقل.
فإذا قام الإنسان بهذا الترتيب على ما هو عليه فقد نجح وأفلح، وإن عكَس الأمر وسلّط الكلب العقور والخنزير على الملك؛ حتى اضطر هذا الملك واضطره هو -اضطره- إلى أن يكون خادماً بدل أن يكون حاكماً قائماً على الشهوة والغضب يؤدبهما ويضبط مسارهما، فلا ينطلق في غضب إلا بميزان العقل والشرع، ولا ينطلق في شهوة إلا بميزان العقل والشرع، فينضبط حاله وتستوي صفاته على الاستقامة، وتنضبط أعضاؤه في تصرفها، فهذا هو المسلك الصحيح.
فإذا عكس الأمر وقال لذلك الكلب والخنزير: أنتم الرؤساء، ماذا تريدون؟ نسخر لكم الأعضاء والملك اللي معهم، هذا العقل يستنبط الحيل لتنال يا كلب مرادك من خرش الناس وعقرهم والاعتداء عليهم، وتنال يا خنزير مرادك من أنواع الشهوات الساقطة البهيمية، وسنسخر العقل تبعاً لكم، ما تصدرونه من أوامر هو تحت الأمر، مسخر بطاقته الكبيرة المهيئة لقيادة الكلب والخنزير على المنهج الصحيح وللوصول إلى المعرفة بالله، سُخِّره بدل هذا كله لأن يكون تابعاً خاضعاً لموجبات البعد عن الله والغضب من الله والطرد والحجاب -والعياذ بالله تعالى-، والوقوع في حمأة الجهل الشديد بالخالق والوعد والوعيد، فحينئذ عكس الأمر وقلبه فمن أظلم منه،... فهو الظالم، وهذا ظلم النفس من أقبح الظلم.
ظَلَمتَ وما إلا لنفسِك يا فتى *** ظَلَمتَ وظُلمُ النفسِ من أقْبَحِ الظُّلمِ
نَعَمْ عالَمُ الأرواحِ خيرٌ من الجِسمِ *** وأعلى ولا يَخفى على كلِّ ذي علمِ
فما لك قد أفنيتَ عُمرَك جاهداً *** بخِدمة هذا الجسمِ والهَيْكَلِ الرَّسمِي
ظَلَمتَ وما إلا لنفسِك يا فتى *** ظَلَمتَ وظُلمُ النفسِ من أقْبَحِ الظُّلمِ
فكل إنسان بما آتاه الله موكَّل بهذه المملكة ليقوم بحقها ويرعاها، يقول:
تنبَّهْ هداكَ اللهُ من نومِ غَفلةٍ *** ولَهْوٍ ولا تَعمَلْ على الشَّكِّ والوَهْمِ
وسِرْ في طريقِ الله بالجِدِّ واستقِمْ *** ولازِمْ وخُذْ بالعزمِ يا صاحبَ العَزمِ
وبادِرْ نُزولَ الموتِ والقبرَ والبِلى *** وبَعثاً إلى الدَّيَّانِ للفصلِ والحُكمِ
ومن بعده إمّا مَصيرٌ إلى لَظَى *** أو الجَنَّةِ العُليا ووُجْدٍ بلا عَدَمِ
حياةٌ بلا موتٍ نعيمٌ بلا شقا *** ومُلكٌ بلا عَزْلٍ شبابٌ بلا هُرْمِ
ورُؤيةُ ربِّ العالمين تَقَدَّسَتْ *** أساميهِ والأوصافُ يا لكَ من قِسْمِ
وفَوزٌ عظيمٌ لا يُسامي وحَظْوةٌ *** وغُنْمٌ كبيرٌ حُبّذا لكَ من غُنْمِ
لمن يحصل هذا؟ من استقام أيام، كان في الدنيا..
لِمَن تَرَكَ الدنيا لِمَنْ خالف الهوى *** لِمَنْ آثر الأخرى لِمَنْ قام بالعلمِ
لِمَنْ لَزِمَ الطاعاتِ والبِرَّ والتُّقى *** وأخلَصَ للمَولَى مع الصِّدقِ والحَزْمِ
وصلّى إلهي مع سلامٍ مضاعفٍ *** على أحمدَ الهادي الأنامَ إلى السِّلْمِ
يقول: "واعلم: أن الإنسان في الدنيا إما…: الحالة الأولى: أن يكون وحده.. "، فإذا كان وحده فمعه هذا العالم، "وليعلم أنه بنفسه عالم، باطنه يشتمل على أصناف من الخلق مختلفي الطبائع والأخلاق، فإن لم يحسن صحبتهم ولم يقم بحقوقهم هلك. وأصناف الجنود في الباطن كثيرة؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 31]، وقد استقصينا بعضه وبعض أخبار هذا الجند في كتاب (عجائب القلب) من كتب (إحياء علوم الدين)".
قال: "ونذكر الآن أمراء الجنود ورؤوسها؛ فنقول: فيك شهوة تجذب بها إلى نفسك النافع، -فهذه مهمة الشهوة فيك أن تجذب النافع- وغضَبٌ تدفع به عن نفسك الضَّار،.." هذه مهمة الغضب، فتقوِّم الأمر حتى يكون عندك الدوافع لجلب المنافع، والمنافع تعلم أنها حاضرة وزائلة، ليست مقصودة لنفسها، يُقصد منها تحصيل النافع الدائم الأبدي، زاداً من هذا السفر للسفر الطويل.
تَبَلَّغْ بِالقَلِيلِ مِنَ القَلِيل *** وَهِيِّ الزَّادَ لِلسَّفَرِ الطَّوِيل
فمهمة هذه الشهوة فيك أن تستخدم المنافع القصيرة لكسب المنافع الكبيرة الدائمة، وتكون راغباً في ذاتك وطامعاً فيه، فتهوى العلا والدرجات العلا وتحصيل المثوبات، والاستعداد للقاء رب الأرض والسماوات من خلال هذه الشهوة التي تُقيم بها الحاجة من الطعام والشراب والمنام، لتستقيم في خلال الليالي والأيام على وجهتك إلى الحق وقربك منه بما شرع لك -جل جلاله وتعالى في علاه-.
فهذه مهمة الشهوة، فإذا عَكست وصارت تجذبك إلى ما يحرِمك شرف الآخرة وما يحرمك نعيم الآخرة، وصارت الشهوة سلاح لعدوك إبليس يقطعك عن إلهك ويقطعك عن الدرجات العلا في الجنة، بل يقطعك عن الجنة كلها ويعرضك للعذاب أو للخلود في النار -والعياذ بالله تعالى بواسطة هذه الشهوات-، فقد ظلمت ظلم كبير، وأسأت فيما اؤتمنت عليه من الأمانة، هذا متصل بالأمانة التي لم تطق حملها السماوات والأرض وحُمِّلتَها؛ فإن قمت بحقها فأنت أعظم من السماوات والأرض، وإن ضيعت حقها فأنت كالأنعام بل أضل، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ) [الأحزاب: 72]، أمانة سياسة هذه الشهوة لتقويمها، حتى يخلُص أقوام من المستقيمين في هذا العالم إلى أن شهواتهم الدرجات العلا من الجنة، وشهواتهم مرافقة النبيين، يعني: ما عادوا يفكرون في شيء من هذه الشهوات هذه الحسية إلا ما يوصلهم إلى هذا، ويمتنعون تماماً عن أي شهوة تقطعهم عن هذا المقام أو تضيع عليهم هذا الأمر العظيم الهام الكبير المنزلة، هؤلاء قاموا بحق الله تعالى فيما يكون في مقتضى الشهوة وكذلك في مقتضى الغضب.
مقتضى الغضب يسلطه على الشهوة إذا أرادت تجاوز حدها أو أن تنزل به إلى ما يفوِّت عليه النعيم في الآخرة أو يوقعه في العذاب، فيسلط عليها الغضب ويقمعها بواسطة الغضب، فيما يقول: اسكتي، ابعدي، فيسلط كلب الغضب على خنزير الشهوة حتى تستقر في محلها ولا تتجاوز حدها، ويبقى هذا الغضب دفاعاً عن المضار والآفات التي تصيبه، سواء من النفس ومن الهوى ومن وسوسة الشيطان، وبها إذا استقامت تكون عنده الغيرة على دين الله والغيرة على العرض والغيرة بواسطة الغضب، ولولا الغضب لم يقم جهاد في سبيل الله ولا قام أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ولكن من الغضب إذا هُذِّب ورُتِّب وهُذِّب واستقام، تأتي الشجاعة والجهاد في سبيل الله والغيرة على دين الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن إذا لم تحسن سياسته والقيام بحقه، فسير الغضب سبب للسرقة والكذب وأخذ حق الغير بغير حق، وضرب الخلق وإيذاء الخلق والاعتداء على الخلق وعلى أموالهم وعلى أعراضهم هذا الغضب المصيبة، مسيّب ما سِيسَ بسياسة الشرع والعقل. وإذا ضيع الأمانة في حق الغضب، صار سبعاً من السباع المفترسة، كلباً من الكلاب في هذا العالم والعياذ بالله تعالى، يظلم هذا ويشتم هذا ويأخذ مال هذا ويسفك دم هذا والعياذ بالله تعالى، بلا بصيرة.
إذاً أنت في مملكة كبيرة وأمانة عظيمة اؤتمنت عليها من قِبَل الخلاق، وأعطاك من العقل ما يسوسها، وشرف العقل بنور الوحي والشريعة، ليستضيء ويتبين له المسلك تماماً، وأن هذا حلال وهذا حرام وهذا واجب وهذا مندوب ومستحب وهذا مكروه وهذا شبهة، فيتبين لك بنور الوحي الشريف، فيستضيء عقلك مثلما يستضيء البصر بضوء الشمس وبضوء السراج، فتتبين له الأشياء. كذلك هذا العقل، تتبين له حقائق الأشياء بنور الوحي والأوامر والنواهي من قِبَل الخالق، فتتوضح له الأمور: هذا أصفر هذا أسود هذا أحمر هذا أبيض، والطريق هنا والممر من هنا والمصعد من هنا وتروح من هنا، فتتبين كيف تمضي.
قال: ".. وعقل تدبر به الأمور وترعى به هذه الرعية.." من الشهوة والغضب والتصرف، الرعية فيها وهي العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليدين والرجلين، هذه أعضاؤك، هذه الرعية حقك، رعية كبيرة تتصرف بالأقوال والمنظورات والمسموعات والكلمات والطعام والشراب والحركات والسكنات، فتسوسها وتقودها بقيادة العقل مع الشرع الشريف إلى ما يوجب الكرامة وما يوجب الرفعة في القيامة والنجاة من أهوالها والفوز بالجنات العلا.
قال: وأنت باعتبار غضبك كلب عقور، -إذا مجرد الغضب- وباعتبار شهوتك بهيمة كالفرس مثلاً - مثل خنزير أو فرس-، وباعتبار عقلك ملِك، -لأنه صاحب قيادة، مهيّئ للقيادة وخلق لها- وأنت مأمور بالعدل بينهم، والقيام بحقوقهم، والاستعانة بهم؛ لتقتنص بمعونتهم سعادة الأبد.
فإذا رُضت -أي روّضت وربيت - الفرس ،وأدّبت الكلب، وسخرتهما للمَلَك تيسر لك الظفر بما طلبت".
ولذا تجده في دعوات الأشرار والكفار، وبعضها ينسبونه إلى الحضارة، وبعضها ينسبونه إلى التقدم، دعوة لأن تفتح المجال للكلب العقور وإلا للخنزير بلا قيود، يدعوننا إلى هذه، هذه دعوة الكفار والفجار والأشرار اليوم على ظهر الأرض، يقولوا: سيّب الكلب هذا، خلّه -اتركه- في الحدود التي تخدم بها شهواتك وآفاتك خذ لك ما تريد، وفك الخنزير حقك هذا وخلّه ودعه ما يترك قاذورة إلا ويروح لها، كشأن ذي الخنازير يبحثن عن القاذورات ويأكلْنَ منها، قال: فكه وخلّه هكذا، هم يدعوننا إلى هذا بما يطرحونه، بعضهم يسمونه حرية، وبعضهم يسمونه تقدم وبعضهم يسمونه حداثة، وبعضهم.. أي اسم كان، القصد أنك لا تسوس الخنزير، واتركه في القاذورات ولا ترفعه؛ فتتحول شهوتك إلى مراتب علا ودرجات وقيم ومكارم وأخلاق، اتركك من هذا..، فهم يدعون إلى هذا، والله يدعوا إلى الجنة بإذنه ويدعوا إلى المغفرة، وهؤلاء يدعون إلى الشهوات، وإلى ما يضيع علينا الملك الكبير.
يقول: "وإن سخرت العقل في استنباط الحِيَل لتحصيل ما يتقاضاه الكلب بغضبه ولجاجه، والفرس بحرصه و جشعه، أوفيت على العطب أي: الهلاك، فالعطب الهلاك فضلاً عن إدراك مقصود الطلب، فصرت منكوساً معكوساً، فاجراً ظالماً؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
ولو رأيت شخصاً جُعل في طاعته مَلَكٌ وكلبٌ وخنزير، فلم يزل يُضطر المَلِك إلى أن يسجد للكلب والخنزير" اخضع: يا هذا أنا ملك بأسوسها وبأصلحها!
قال: أيه تصلحها؟! الذي تريده هي أن تنفذ أنت.. اخضع، فيرد: عيب عليك أنا ملك جئت من أجل أنتبه من فرسك هذا وأروّضه وأقوّمه وأعده للركوب الحسن وللجهاد في سبيل الله.
قال: خلّك تحت أمر الفرس ولا تكلمه في حاجة، الذي يريد اسجد له -لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- ، فيضطر الملك إلى أن يخليه مضطر يسجد للكلب والخنزير، ترى هذا ظالم مستوجب اللعنة؟ وإلا هذا إنسان عاقل؟ هذا ظالم وأكثر الناس في الظلم -والعياذ بالله- واقعين في الظلم، ظلم أنفسهم.
قال: ولو كوشفت بحالك في المنام وإلا عند الفناء، لرأيت هذه الصورة، فإن لم تُكشف لا في منام ولا لك فناء في الله تعالى، فعند الموت بتشوف نفسك كنت ساجد للخنزير وكنت ساجد لكلب، بدل السجود لله، بدل شرف السجود لله وقعت في ذل السجود للخنزير وذل السجود للكلب باتباع الشهوات، (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59] والعياذ بالله تبارك وتعالى.
قال: "لرأيت كل من أطاع شهوته وغضبه ساجداً لكلب أو خنزير؛"
قال: لأن الكلب ما هو كلب لأجل الصورة، بل لمعناه، لما فيه من عقر وشدة واعتداء، وكذلك الخنزير، بل وكذلك ترى نفسك بعد الموت، تنكشف هذه الحقائق، قال: لماذا؟ ؛
لأن عالم الآخرة من البرزخ فما بعده الحقائق والمعاني تستتبع الصور لا تتبعها، يتمثل كل شيء بصورته، والناس يحشرون هذا في صورة كلب وهذه صورة خنزير، هذه صورة سبع وهذه صورة... يعني المعاني هي التي تتشكل معها الصور، أما في الدنيا لا، الصور هي الظاهرة والمعاني من تحت تكون كذا تكون كذا تكون كذا، يتظاهر لك صورة إنسان ويمكن هو كلب، يمكن هو سبع، يمكن هو خنزير؛
لكنه في الآخرة الصورة تتبع المعنى، فتتشكل الصور بالمعاني، أما في عالم الدنيا هذا عالم تلبيس وتدليس، يمشي فيه الكذب ويمشي فيه الزيغ ويمشي فيه النفاق ويمشي فيه وسوسة إبليس، -لا إله إلا الله-.
قال: "لأن المعاني في عالم الآخرة تستتبع الصور ولا تتبعها، فيتمثل كل شيء بصورة توازي معناه، فيُحشر المتكبرون في صورة الذر"؛ لأنهم في الحقيقة في أيام الدنيا لما تكبروا واستعلوا نزّلوا أنفسهم منزلة غير لائقة بهم، ونسوا إنسانيتهم ونسوا خلقيتهم ونسوا آدميتهم ونسوا تكوينهم، فأذلوا أنفسهم باتباع الهوى فتكبروا بغير حق، فما هم إلا ذر هنا، وآدمي كبير، كان سلطان كبير، كان أمير، كان وزير، يجيك في القيامة تشوف وجهه هذا فلان آدمي، لكنه صورة ذرة، يُحبسون في وادي في القيامة يسمى وادي بولس، كل أهل المحشر يمرون عليهم يُدحقونهم -يطؤونهم- ؛ لأنهم تكبروا بغير حق، فلهم الذل اليوم، (فَالْيَوْمَ متُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف:20] فهذا شأن المتكبرين، يطؤهم من أقبل وأدبر، والمتواضعون المتواضع من أجل الله تعالى عرف قدر نفسه وعرف عظمة ربه فأُعِز، فيُحشر عزيز يوم القيامة ويُحشر بالعزة والكرامة؛ لأنه قبل الكرامة في الدنيا، كرم نفسه عن أن تهون للشهوة أو للغضب أو لوسوسة إبليس، -لا إله إلا الله-
قال: "فقد يودع معنى الخنزير والكلب في صورة إنسان.." تشوفه أمامك إنسان وما هو إنسان " فلا تغتر به؛ فإن ذلك ينكشف (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق: 9]."
في ذلك اليوم يُحصَّل ما في الصدور ويبعثر ما في القبور، (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) [العاديات: 9-10] أُبْرِز وظهر، الباطن برز وظهر في ذلك اليوم، -لا إله إلا الله-
الله يسترنا بستره الجميل، ويجعل لنا تحت ستره كل ما يحب.
قال: "فعليك أن تحسن .."
أَبٌنّي إِنَّ مِنَ الرِجالِ بَهيمَةً *** في صورَةِ الرَجُلِ السَميعِ المُبصِرِ
ذكر علامة له: فَطِنٌ بِكُلِّ مصيبةٍ في مالِهِ، أي شي مر.. دقيق وحساب وانتباه، فإذا يصاب بدينه لم يشعرِ..، بهيمة في صورة رجل:
أَبٌنّي إِنَّ مِنَ الرِجالِ بَهيمَةً *** في صورَةِ الرَجُلِ السَميعِ المُبصِرِ
فَطِنٌ بِكُلِّ رَزّيَةٍ في مالِهِ *** وَإِذا أُصيبَ بِدينِهُ لَم يَشعُرِ
بهيمة هذا ما له حقيقة دين، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
قال: "فعليك أن تحسن صحبة رفقائك الثلاث " الملك العقل الذي آتاك الله، والشهوة والغضب، "فتكسر شرَهَ الشهوة بسطوة الغضب وتقلل من غلواء الغضب بخداع الشهوة" تمنيه تقول له: لا إذا ثار الغضب في غير محله، تقول له: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه ) [الشورى: 40]، تمنيه بشهوة، تقول له: خلك كذا..، لا تنتقم لنفسك..؛ فإذا ثار الغضب قل: إن كان لأجل الله، قل: نعم..، وكان صاحب الكمال في ذلك خاتم الإنباء والإرسال ﷺ، لايغضب لنفسه، لايغضب لنفسه، فإذا أُضيع حق الله لم يقم أحد لغضبه، يعفو عن الذنب إذا كان بحقه وسببه، لا يغضب لنفسه أصلًا؛ ولكن لله، يغضب لله ويرضى لرضاه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله؛ ولهذا صار رضاه عين رضا الله تعالى وسخطه سخط الله، حتى قال الله: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 62] ووحّد الضمير؛ لاتحاد الرضا، لم يقل أحق أن يرضوهما (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ)، بس واحد، لأن الرضا واحد لله ولرسوله، ما عاد قال: أن يرضوهما.. أن يرضوه فقط؛ لأن عين رضا المصطفى هو عين رضا الرحمن جل جلاله رضا واحد، (أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) إنْ أرضيت محمدًا فقد أرضيت الرب، إنْ أرضيت الرب فقد أرضيت محمدًا ﷺ، صلوات ربي وسلامه عليه.
قال: "فإن ذلك بليغ جداً في تقويمهما حتى ينقادا للعقل والشرع، فيستعملهما العقل حيث ينتفع بهما؛ كما يستعمل الصائد الفرس والكلب عند الحاجة ويسكنهما عند الاستغناء.
وشرح هذه الرياضة والصحبة طويل ذكرناه في كتاب "رياضة النفس" من كتاب "الإحياء".
فالله يعيننا على القيام بحقها وأداء الأمانة على الوجه الأرضى له والأحب إليه، اللهم آمين، ولا تسلط علينا كلبًا ولا تسلط علينا خنزيرًا واجعلها خاضعة؛ فتتحول بعد ذلك إلى عُدّة للجهاد والاجتهاد والارتقاء للمراتب الرفيعة مع أهل المحبة والوداد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
"الحالة الثانية: صحبتك مع عموم الخلق، وأقل درجات حسن الصحبة كف الأذى عنهم؛ قال النبي ﷺ: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
وفوق ذلك: أن تنفعهم وتحسن إليهم؛ قال النبي ﷺ: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله".
وفوق ذلك أن تحتمل الأذى منهم، وتحسن مع ذلك إليهم؛ وذلك درجة الصديقين؛ قال رسول الله ﷺ لعلي -رضي الله عنه-: "إن أردت أن تسبق الصديقين فصل من قطعك، وأعطِ من حرمك، واعف عمن ظلمك". هذه جملة الأمر.
وتفصيل هذه الحقوق كثيرة، ونقتصر من جملتها على عشرين وظيفة.
فمنها: ألا يحب للناس إلا ما يحب لنفسه.
قال النبي ﷺ: "من سره أن يزحزح عن النار، فلتأته منيَّته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وليأتِ إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه".
ومنها: أن يتواضع لكل أحد ولا يفتخر عليه؛ فإن الله لا يحب كل مختال فخور، وإن تكبر عليه غيره فليحتمل.
قال الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
ومنها: أن يوقر المشايخ ويرحم الصبيان.
قال النبي ﷺ: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا".
وقال ﷺ: "من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم".
وقال ﷺ: "ما وقّر شابٌ شيخًا لسنه، إلا قيض الله له عند سنه من يوقره"، وهذا يبشر بطول الحياة مع الأجر.
ومنها: أن يكون مع كافة الخلق مستبشرًا طلق الوجه.
قال النبي ﷺ: "أتدرون على من حرمت النار؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "على الهين اللين السهل القريب".
وقال ﷺ: "إن الله تعالى يحب السهل الطلق".
ومنها: إصلاح ذات البين…"
يتكلم عليه رضوان الله على الحالتين ..
الحالة الأولى: إذا كان واحد يعيش وحده، منعزل في مكان وحده يعبد الله، عنده هذه المملكة حقه: قلبه وأعضاؤه، وغضبه وشهوته، سبعه وخنزيره وفرسه، وعنده الأعضاء السمع والبصر، فعليه يتقي الله فيها ويقوم بحقها ويسوسها بسياسة العقل والشرع.
الحالة الثانية: المختلط بالناس كعامة المؤمنين، هؤلاء لهم مع عموم الخلق واجبات في الصحبة، أقل درجات حسن الصحبة كف الأذى عنهم، لا تؤذِي أحد، لا تضر أحد لا تخن أحد لا تمكر بأحد، لا تخادع أحد لا تسب أحد، لا تغتاب أحد، هذا أقل شيء، طالما أنت بينهم وهذا تبغضه وهذا تسبه وهذا تغتابه وهذا تؤذيه...، أتَّقِ هنا حقوق مشروعة فرضها عليك الرب جل جلاله، فكف الأذى عنهم. "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، هكذا جاءنا في الصحيحين وغيرها، فأقل شيء يسلمون من شرَّك، لا تضر أحد، وفوق ذلك تنفعهم، تكف الأذى عنهم، وهو في الغالب أنْ من كف أذاه عن الناس تلطف الله تعالى به بلطفٍ خفي في كفِّ أذى الناس عنه.
وَ "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وكان الإمام محمد أحمد الرملي حضر جنازة والده، لما توفي والده أحمد وكان ولده محمد بن أحمد الرملي يقول: اشهدوا علي في الجنازة أن والدي هذا مات يوم مات وقد سلم المسلمون من لسانه ويده، لا قد تكلم على أحد، ولا قد آذى أحد، ولا قد رفع صوته على أحد، ولا أخذ حق أحد طول العمر، هذه حقائق الإسلام.
إلا قال: وفوق ذلك: أن تنفعهم وتحسن إليهم؛ قال النبي ﷺ: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"، يعني: عالةٌ على الله، هو المتكفل بهم، هذا معنى عيال الله، وعيال الإنسان من يتكفل بتربيتهم وتغذيتهم وترتيب أمورهم، والخلق كلهم هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم وهو الذي يدبر أمورهم جل جلاله.
قال: "وفوق ذلك أن تحتمل الأذى منهم،" وتحسن مع أذاهم إليك تحسن إليهم، تحسن إلى من أساء إليك، هذه درجة الصديقين…
قال رسول الله ﷺ لعلي -رضي الله عنه-: "إن أردت أن تسبق الصديقين فصل من قطعك، وأعطِ من حرمك، واعف عمن ظلمك"
يقول رسول الله ﷺ: لسيدنا علي وقد قال لنا الحديث في الطبراني وفي المعجم الأوسط، وعند البيهقي في شعب الإيمان: "إن أردت أن تسبق الصديقين -وهو من الصديقين لكن يرتقي في المراتب العلا في الصديقية- فصل من قطعك، وأعطِ من حرمك، واعف عمن ظلمك". بل وجاء في رواياتٍ أُخَر: "أمرني ربي أن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني، وأن أصل من قطعني، وأن أحسن إلى من أساء إلي، وأن يكون صمتي فكرًا ونطقي ذكرًا ونظري عبرة".
أمرني ربي بسبع: أَنْ أعطي من حرمني، وأَنْ أصل من قطعني، وأَنْ أعفو عمن ظلمني، وأن أحسن إلى من أساء إلي، وأن يكون صمتي فكرًا، ونطقي ذكرًا ونظري عبرة، هذه مسالك الأنبياء ومن أحسن إتباعهم،
يقول لسيدنا علي: "إن أردت أن تسبق الصديقين فصل من قطعك، وأعطِ من حرمك، واعف عمن ظلمك". وكان كعلى هذا المنوال في حياته كلها، وورَّثه، وورَّثه أيضًا لأصحابه وأولاده الحسن والحسين ومن سار بذلك السير،
"هذه جملة الأمر.
وتفصيل هذه الحقوق كثيرة، ونقتصر من جملتها على عشرين وظيفة.
فمنها: ألا يحب للناس إلا ما يحب لنفسه".
وهذه جملة الأمر. وتفصيل هذه الحقوق كثيرة، قال: سنذكر لك عشرين وظيفة من الحقوق التي تلزمك للخلق ما دمت معاشر لهم وعايش بينهم، أن تحب للناس ما تحب لنفسك.
قال النبي ﷺ: "من سره أن يزحزح عن النار، فلتأته منيَّته -يوم يموت- وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، -يعني يتمسك بأسرار الشهادتين وحقائقهما حتى يموت عليهما- ، وليأتِ إلى الناس -يعني يفعل مع الناس ويعامل الناس- ما يحب أن يؤتى إليه" ، والحديث في صحيح مسلم وفي الطبراني، إذا أردت أن تُزَحزَح من النار فهذا طريقك، حافظ على الشهادتين بأسرارهما والقيام بمقتضاهما، واجعل من الميزان الواضح في قيامك بحق الشهادتين أن تأتي إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك، تحب لهم ما تحب لنفسك.
ثانيًا: التواضع، "إنَّ اللهَ تعالى أوحى إليَّ أن تواضَعُوا حتى لا يفخَرَ أحدٌ على أحدٍ" فـ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان:18]، وإن تكبر عليه غيره فليحتمل، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199] فالجاهلون يتكبرون، يأتون بالكلام ومن الكلام ما لا يليق، فأعرض عنهم، قالوا لسيدنا زين العابدين: .. يسبه رءاه ما تغير وجهه ولا ظهرت عليه آثار قال: إياك أعني -أنت أقصدك أنت-، تبسم وقال: وعنك أغضي -وأنا عنك أغضي وإن كنت تقصدني-. وهكذا شأنهم عليهم رضوان الله -تبارك وتعالى- (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34]
قال: "يتواضع لكل أحد..، ومنها: أن يوقر المشايخ، -وكبار السن من جاوز الأربعين يقال له شيخ- ويرحم الصبيان". الأطفال والصغار، وكل من أكبر منك توقره، وكل من أصغر منك ترحمه، وهذا من حقوق معاشرة المسلمين.
قال النبي ﷺ: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا"، وفي رواية: "ويعرف لعالمنا حقه".
وقال ﷺ: "من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم"، من شاخ في الإسلام وشاب حتى صارت شيبة وهو على الإسلام وتوقيره من إجلال الله وإكرامه من إجلال الله، وهكذا.. والفلسفات هذه حقهم والثقافات والحضارات، بعضها بدأت في القرن الماضي يقولون هذا الشايب عنصر أشل في المجتمع -ما ينفع- وفي بعض الدول في أيام الدعوة للتقدم صاروا يصلحون إبر تموت الشيابة، ولا يزال -عاده- في دول الحضارة حقهم أماكن للعجزة والمسنين، والكثير من الشباب المتأثرين بفكر الحضارة الحقيرة يأخذ أبوه أو أمه يقول: ما يصلح.. ماذا افعل به؟ ويحطه في دار العجزة، وقد يزوره في السنة مرة أو ما يزوره -والعياذ بالله- لكن انظروا كيف حالة المسلمين وحالة الدين والمسلك الصحيح الذي أراده الله لخلقه، الذي يخلقهم -سبحانه- أطفال ثم يجعلهم شباب ثم يجعلهم شيوخ وشيبة، ما الذي شرعه -سبحانه وتعالى- يقال لهؤلاء: إذا كان قضى شبابه معكم في خدمة المجتمع، يوم كبر، قلتم: عنصر غير عامل!.
وسيدنا عمر رأى واحداً غير مسلم -يهودي شايب- ورآه يسأل، سأله قال: "ما لك؟ قال: أسأل من أجل الجزية أسلمها. قال: أنت خدمت هنا حتى كبرت! ارجع لا تسأل أحداً، وأسقطَ عنه الجزية من بيت المال، وقال: ما حقنا أن أخذنا منك الجزية وأنت شاب وأن نُحْوِجَك للسؤال وأنت شايب، لا، ارجع.". تأمل كيف نظرة الإسلام؟! هو غير مسلم، ولكن كيف وقّره بسبب الشيبة وقال: أنت اشتغلت معنا في الشباب والآن نسلمك، في الجزية لما شبت صرنا نحوجك للسؤال، لا، لا تسأل أنت، لا يسألك شيء وأنت معفي.
فهكذا نظرات الديانة ونظرات النبوة، وبذلك تجد المجتمعات الصالحة كلما كبر فيها رجل أو امرأة، صارت هالة حواليه تمجده وتعظمه من الأبناء والأحفاد والأسباط، ويرفعون الرأس لهم، والكبير سراج لهم في البيت ومكانة. فيكرم الإنسان في هذه الديانة، وحقوق الإنسان الصحيحة محفوظة في هذه الديانة وفي هذا المنهج الرباني.
يقول ﷺ: "ما وقّر شابٌ شيخًا لسنه، إلا قيض الله له عند سنه من يوقره" رواه الترمذي، وهذا الحديث يبشر الشاب الذي يوقر الشيوخ بأن يطول عمره، وأنه عند كبره في السن يسخر له من يوقره، ففيها البشارة بطول العمر وبصلاح الحال عند طول العمر أن يكون عنده من يوقره، "وهذا يبشر بطول الحياة مع الأجر"
"ومنها: أن يكون مع كافة الخلق مستبشرًا طلق الوجه"، كان ﷺ لا يمنع عن أحد بشره وبشاشته، "يحذر الناس ويحترس منهم دون أن يطوي عن أحد بشره وبشاشته"؛ حتى قال بعض الصحابة: "ما رأيت أحداً أكثر تبسماً في وجوه أصحابه من رسول الله". يقول سيدنا جرير بن عبد الله: "ما رأيت رسول الله منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي"، "من يوم أسلمت، ولا حجبني يوماً عنه، كلما جئت يدخلني عنده "على طول. وهكذا يقول ﷺ: "إن الله تعالى يحب السهل الطلق".
ويقول: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". وهكذا كان شأنه، "تبسمك في وجه أخيك صدقة". "إن الله يحب السهل الطلق"
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
ومنها: إصلاح ذات البين بين المسلمين، ولو بالمبالغة والزيادة في الكلام. قال ﷺ: "لَيْسَ بِكَذَّابٍ منْ أَصْلَحَ بيْنَ الاِثْنينِ فَقال خيراً أَوْ نَمَى خيراً".
وقال ﷺ: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة".
ومنها: ألا تسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض، ولا تبلغ بعضهم ما تسمع من بعض.
قال ﷺ: "لا يدخل الجنة قتات".
وقيل: من نمّ إليك نمّ عليك.
ومنها: ألا يزيد في الهجرة عند الوحشة على ثلاثة أيام.
قال ﷺ: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
وقال ﷺ "من أقال مسلماً عثرته.. أقاله الله تعالى يوم القيامة".
ومنها: أن يحسن إلى كل أحد، كان أهلاً لذلك أو لم يكن.
قال ﷺ: "اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس أهله، فإن أصبت أهله فهو أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله"."
من هذه الحقوق إصلاح ذات البين، هذا من عظم الأخلاق المقربة إلى الخلاق. قال تعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114]. حتى جاء في بعض الأخبار أن السعي في الإصلاح بين اثنين حتى يصلح بينهما أفضل من ثواب ثلاثين حجة مقبولة.
لهذا يقول شاعرهم:
إنَّ الفضائلَ كلَّها لو جُمعت *** رجعت بأجمعِها إلى شيئينِ
تَعظِيمِ أمرِ الله جلَّ جَلَالُهُ *** وَالسَّعْيِ فِي إِصَلاَحِ ذّاتِ الَبيْنِ.
قال ﷺ: "ليس بكذاب من أصلح بين اثنين، فقال خيراً أو نمى خيراً".
وهكذا يقول ﷺ: "لَيْسَ بِكَذَّابٍ منْ أَصْلَحَ بيْنَ الاِثْنينِ فَقال خيراً أَوْ نَمَى خيراً". يعني حتى لو اضطر للكذب، مع أنه مشؤوم وقبيح ويكرهه الله، إلا من أجل الإصلاح. فيما يتعلق بالإصلاح ليقرب بين متخاصمين يجوز له يكذب في الحدود التي يقرب فيها بين هذا وهذا، يدلك على عظمة شأن الإصلاح عند الله -تعالى- حتى أباح فيه الكذب من أجل التقريب بين نفسيات المؤمنين.
وقال ﷺ: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة". قال: "لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين". و-العياذ بالله تبارك وتعالى-.
ثم ذكر "ومنها: ألا تسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض، …"
ما تصدق كل من قال لك عن أحد شيئاً، نقل إليك سوءاً عنه أو عيباً من عيوبهم، ما تصدق، لا تصدق كلام الناس على بعضهم البعض، لأنهم مجبولون على أن يكذبوا على بعضهم وأن يتطاولوا على بعضهم، ولا تمل إلى شيء من ذلك، ألا تسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض، ولا تبلغ بعضهم ما تسمع من بعض.
قال: "لا يدخل الجنة قتات"، القتّات: الذي ينقل كلام هذا إلى الآخر من أجل الفتنة بينهم النمام، لا يدخل الجنة، معنى: نمّام، "من نمّ إليك نمّ عليك"، فإذا نُقِلَتْ إليك نميمة فلا تحملك على تجسس ولا تصدقه، واستتبه وأنصحه وازجره عن النميمة.
قال ﷺ: "لا يدخل الجنة قتات".
قال واحد لسيدنا عمر بن عبد العزيز "أن فلاناً يتكلم عليك يقول كذا وكذا أيام كان في الإمارة. قال: يا هذا، إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم: 11-12]. وإن شئت عفونا عنك هذه المرة ولا تعود. قال: اعفُ عني ولا أعود،-لأن كلها مشكلة، إن كان صادقاً وإن كان كاذباً، واحدة (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)، وواحدة (إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، كلها مصيبة، ولكن خلاص، علمه سيدنا عمر وتُوَبُه خلاص ثاني مرة ما عاد تكلم بكلمة ولا يقول لأحد: قال عنك ولا قال لك-. هذا شأن الأتقياء.
قال ثم إذا وقع شيء ووحشة وثارت نفسك، فالشارع برحمة الله صلى الله عليه وسلم مدة ثلاثة أيام تتهجرون، بعدها ما شي هجر، حرام.
قال ﷺ: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"، قال: تكلم وأنت تكلم عليك، خلاص، راعى نفسيتك صلى الله عليه وسلم وقصورك في التربية، أعطاك يوم، يومين، ثلاثة، خلاص، هذا ما يمكن تهجره. فإذا هجرت فوق الثلاث، يُعرض هذا عن هذا وهذا عن هذا، فإن مات أحدهما فهو في النار معرض عن أخيه، هذا ما يجوز. فلأجل الحقوق التي تتعلق بحقك إذا وقعت وحشة فلا تزد الهجر على ثلاثة أيام.
وقال ﷺ "من أقال مسلماً عثرته.. أقاله الله تعالى يوم القيامة"، وهذا شأن عظيم.
ثم أحسن إلى من يستحق ومن لا يستحق.
قال ﷺ: "اصنع المعروف إلى من هو أهله، وإلى من ليس أهله، فإن أصبت أهله فهو أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله".
فتسدي المعروف لأي أحد، لأنه ما تطلب الجزاء منه، أنت تطلب الجزاء من الخلاَّق. خلاص ما عليك، يكون من أهله أو من غير أهله، إلا فقط من كان يأخذ منك ما يستعين به على معصية أو ظلم، فلا، انتبه منه وابتعد عنه. أمّا ما دام يستفيد من دون أن يستعين به على معصية ولا يضر أحداً، فلا عليك أن تفعل المعروف مع أهله ومع غير أهله، فإن الله ما يضيعك جل جلاله وتعالى في علاه.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، وثبتنا على ما يحب، وجعلنا فيه ممن يحب، فرج كروبنا وكروب المسلمين، وأحيا فينا السنة الكريمة والمنهج القويم والصراط المستقيم ومسلك الحبيب العظيم، وأحيا فينا أخلاقه وسيرته وآدابه، وحمانا من بين شرور الأنفس وسيئات الأعمال، واجعل ديارنا ومنازلنا ومجتمعاتنا محطاً لأنوار الاقتداء والاهتداء والاستقامة على منهج نبي الهدى فيما خفي وفيما بدا، ودفع عنا سلطة الشيطان والنفس والهوى وكل مؤذٍ وكل ضال وكل زائغ وكل مردي، وأصلح شؤوننا كلها بما يصلح به شؤون الصالحين،
وإلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
بسرّ الفاتحة
25 صفَر 1447