الأربعين في أصول الدين - 13 | طلب الحلال (2)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: مواصلة شرح الأصل السابع: طلب الحلال (2)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

مساء الإثنين 24 صفر 1447هـ

يوضح في الدرس معالمِ طلبِ الحلال ومراتبِ الورع، وآدابِ السؤال والقبول، والتنبيهِ على الحِيَل التي تُسقِط مطالبةَ السلطان ولا تُسقِط سؤالَ الديّان.

 

نص الدرس المكتوب: 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسَندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

 

"الرابعةُ: ورعُ الصِّدِّيقين؛ وهوَ الحذر عن كل ما لا يُراد بتناوله القُوَّةُ على طاعة الله تعالى، أو كان قد تطرق إلى بعض أسبابها معصية.

 

فمن ذلك: ما حُكِيَ أَنَّ ذا النُّونِ المصري كان محبوساً جائعاً، فبعثت إليه امرأة صالحة مِنْ طَيِّبِ مالها طعاماً على يد السَّجَّانِ، فلم يأكل منه، واعتذر بأنَّهُ جاءَني على طبق ظالم؛ أي: يد السجان.

 

ومن ذلك: أنَّ بِشْراً الحافي كان لا يشرب الماء مِنَ الأنهار التي حفرها السلاطين. 

 

وأطفاً بعضُهم سراجاً أشعله غلامُهُ مِنْ بيت ظالم.

 

وشربَ بعضُهم دواء، فأشارَتْ عليه امرأته بالمشي والتَّردُّد، فقال: هذه مشيةٌ لا أعرفُ لها وجهاً، وأنا أحاسب نفسي على جميع حركاتها.

 

وهذه رتبة أقوام وفوا بقوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام:91]، فعَدُّوا كل ما لم يكن لله وحده حراماً، وليس هذا مِنْ عُشِكَ وعُشِ ناصحِكَ، فادرج واجتهد أن تفي بورع العدول الذي يفتي به الفقهاء. نعم؛ ينبغي أن تضيف إليه شيئين:

أحدهما: أن تحذر عن مواقع غرورهم، ولا تلتفت إلى قولهم: "مَنْ وهب في آخرِ السَّنةِ مالَهُ زوجته، واستوهب منها مالها سقطَتِ الزَّكاةُ عنهما"، فإنَّهُم إن عنوا بِهِ أَنَّ السُّلطان لا يطالبهما بالزَّكاةِ؛ لأن مطمح نظره ظاهرُ المُلْكِ.. فهو صدق.

 

ودرجة الفقهاء وفتواهم ذكر ما يتعلَّق بالظواهر ؛ فيحكمون بالبراءة عن الزَّكاةِ إذا سقط طلب السّاعي، ويحكمون بصحة الصَّلاةِ إذا امتنع القتل على السُّلطان بجريان صورة الصَّلاةِ؛ إذ ليس بأيديهم مِنَ القوانين إلَّا القانون الذي يستعمله السلطان في السياسة؛ لينتظم أمرُ المعيشة الدُّنيويَّةِ، التي هي منزلُ مِنْ منازل الطريق كما سبق .

 

وأمّا أنت إذا كنت تنظر إلى ما ينفعُكَ غداً عند جبَّارِ الجبابرة وسلطان السلاطين.. فلا تلتفت إلى هذا".

 

-نعم-، يقول عليه رحمة الله، الحمد لله الذي أكرمنا بتذكُّر أحوال أهل الصّدق معه، واستبيان الطّريق لنيل الرّفعة مع من رَفعه. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، مَيَّزه وأكرمه وأجّله، وعلى الجميع فضّله، صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه في كل نفس وحين، وعلى من والاه في الله تعالى واتّبع طريقه وسُبله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم.

 

ذكر لنا الشّيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى -بدرجات الورع: 

  • وأنّ أوّلُها ورع العدول الذّي لا يخرج به المؤمن عن دائرة العدل إلى الفسق. والفاسق لا تَصُحُّ شهاداته في عقود ولا أحكام. وهو الذّي يُفتي الفقهاء بعدم الحُرْمة فيه، فلا يتناول شيئاً في معاملة، ولا مأكل، ولا مشرب، ولا إجارة، ولا بيع، ولا شراء، ولا غيرها.. يقول الفقهاء والشرع أنّه حرام! فهذا الورع الأول، ورع العدول!
  • وراءه ورع الصّالحين، وهو أن يتَجنَّب ما يكون فيه الاحتمال للحرمة قريباً وظاهراً. فهذا ورع الصّالحين.
  • ووراءهم ورع المتقين: وذلك أنْ يتركوا كُلّ ما يتطرَّق إليه الاحتمال، قريباً كان أو بعيداً، ظاهراً أو خفياً. وقالوا في الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذراً مِمَّا به بأس". وقال سيدنا عمر -رضي الله عنه-: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام. 
  • ويذكر لنا وراء هذا كلّه ورع الصّدّيقين: أعالي الأمّة، وأفاضِلهم بعد الأنبياء والصحابة، هم الصدّيقون. 

قال: "وهوَ الحذر عن كل ما لا يُراد بتناوله القُوَّةُ على طاعة الله تعالى، أو كان قد تطرق إلى بعض أسبابها معصية"، ولو من بعيد، ما لها دخل في نفس حل ذلك المطعوم، أو المشروب، أو الملبوس.

 

فذكر لنا من ذلك، وكان ُيذكر عن سيدنا أبي بكر الصّدّيق -عليه رضوان الله- أنّه جاءه غلامه يوماً ومعه من.. عمله، كان يتركه يعمل ويأتيه بنصف الأجرة. فكان من عادته يسأله: من أين؟ عند من اشتغلت؟ ومن أين حتى يطمئن إلى حِلّه. وصادف يوم جاءه بشيء من الطعام، وكان صادف جائعاً سيدنا أبو بكر فتناوله. فقال: ما لك لم تسألني اليوم؟ قال: من أين جئت به؟ قال: مررت على قوم كنت أيّام الجاهلية تكهّنت لهم -صلحت نفسي كاهناً- واليوم مريت عليهم، عندهم زواج، فعرفوني فأعطوني. فهذا ناس عندهم زواج، أي أحد يمر بهم يعطونه، الناس في وقت إكرام. لكن لمّا قال سيّدنا أبو بكر: عرفوني من أيّام كنت متكهناً لهم وقت الجاهلية، قال: تطرّقت إليها شبهة، ما عرفوك إلا من طريق الكهانة. فين هذا؟ الطّعام ما فيه أيّ شبهة، ولكن فشوّش على سيّدنا أبو بكر لما قال، فأدخل إصبعه في فمه يتقيأ ما أكل، حتّى كان يتهوّع، وجاء الجيران قالوا: ما بال خليفة رسول الله ﷺ؟ ماذا حصل؟ فقال: طعام لامس معي لا أهدأ حتّى أخرِجه، لأنّه من شُبهة. رجعوا قالوا له استعن، اشرب من فوقه ماء وهكذا وحاول حتى خرج؛ لما خرج، جلس يستغفر الله للآثار التي تبقى بعد ما يتقيأ. قالوا: كدت تهلك نفسك يا خليفة رسول الله ﷺ! قال: لو لم يخرج إلا بخروج روحي لأخْرَجته، بعدما سمعت رسول الله ﷺ يقول: "كلّ لحم نبت من سُحت فالنّار أولى به"، هذا ورع الصّدّيقين!

 

ويقول ذو النّون المصري، كان سجنه بعض الظلمة، "فبعثت له امرأة صالحة -بعض الطّعام من عندها- مِنْ طَيِّبِ مالها" الحلال. فلمّا وصل إليه، كان حمله السجَّان، حمل الطبق ودخله عنده. قال: "ارجعوا لها!". ورجعوا لها، قالت: "ما لك يا ذا النّون؟ أرسلت إليك من خالص مالي الحلال!" قال: "قد علمت ذلك، ولا أشكُّ في مالك حلال، لكنّه وصلني "على طبق ظالم". كيف على طبق ظالم؟ قال: يد، حملته "يد السجّان"."، السُّجّان يظلمون النّاس بغير حق، ويحبسون النّاس بغير حق، وتمتد أيديهم على النّاس وعلى حقوق النّاس، فلو كان بنفسك وصلتيه أو وصله أحد ممّن لا يُعرف بجور ولا ظُلم، لأقبله وآكله.

شفت هذا الورع العجيب! سيدنا ذو النّون المصري -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.

 

قال: وبشّر الحافي يتجنّب الشُّرب من الأنهار التّي حفرها السَّلاطين، خشية أن يكونوا حفروها بأموال نهبوها من النّاس، أو أخذوا شيئاً من طُرق من أراضي النّاس، فأدخلوها في النّهر. 

 

قال: وبعضهم جابوا له بسراج، قالوا: "من أين أشعَلتم السراج هذا؟ أوقدُّتم النّار فيه؟" قالوا: "من عند آل فلان". قال: "هاه! هذا بيت الظّالم، طفوه!". السراج حقه، لكن بس الضوء جابه من بيت ظالم، قال: "ما أريده". -لا إله إلا الله-.

 

وهكذا، كان بعض الصّالحين عندنا يمشي من السّوق محمل له خضرة يريدها لغَدائهم وكذا، فلقيه بعض النّاس قال: هات بحمل لك وأسَاعدك، أعطاه إيّاه، وصَلوا إلى البيت، قال: جزاك الله خير. راح. قالوا له: عرفت من الذّي جاء حمل معك الحاجة هذه؟ قال: لا، قالوا: هذا واحد من جنود السلطان". قال: هاه! شلوا الخضرة تصدقوا بها وخلوا اليوم غداءنا بلا خضرة ما يحتاج. وخرجها، قال: حملها ظالم أو من يتّصل بالظّلمة، فهذا ورع الصّدّيقين -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.

 

وهكذا، حضر بعضهم وفاة بعض الأشخاص، فلمّا فاضت روحه قال: أطفئوا السراج. قالوا: ما لك؟ هاتوا لنا سراج من خارج، لماذا؟ قال: هذا السِّراج خرج من ملك الرجل لما فاضت روحه، والآن مُلك الورثة، والورثة فيهم أطفال، فيهم حجر، محجور عليهم، كيف نأخذ حقُّهم هذا؟ هاتوا لنا سراج ثاني من الخارج نستضيء به، وأما هذا قد صار ملك لغيره الآن، والورثة فيهم محاجير، من أين نستحل حقُّهم؟.

يقول: "شرِب بعضهم دواء.." قالت له زوجته: عليك تمشي، وتتردد هكذا، لكي يتحرك فيك الدواء و ينفع". "قال: هذه المشية ما أعلم لها وجهًا" كذا أتقرب به إلى الله، ما عندي نية حاضرة فيها، إيش هو هذا؟ "أنا أحاسب نفسي على جميع حركاتي"، شيئ بنية بقوم، ما شي بنية أجلس، كم أتحرك كذا من دون غرض صحيح؟" وهكذا.

 

وكان بعض أخيار أهل التربية والصّلاح مع أهله وأولاده، فإذا بصوت في الشّارع فقام ولد صغير وأشرف، قال: تعَال يا ولَد، لماذا قمت؟ والخطوات التي خَطويتها، خطوتها بأي نية؟ وليش لماذا تشرّفت على هذا؟ عندك فضول أو لك نية صالحة؟، وقعد يحاسبه على نيته، في كيف قام وأشرف من النافذة، هل له نية صالحة ولا هكذا؟

فهؤلاء أهل الصّدّيقيّة 

قال: "وهذه رتبة أقوام وفوا بقوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)"،  كل ما لا يقصد به وجه الله ولا يراد ولا يتقرّب به إلى الله، لعب معهم حولهم، ما يلعبون حوله، بس كلهم جد. ما يعملون، ولا يقولون، ولا يفعلون، ولا ينظرون، إلا قربة إلى الله، ومحبة لله وعبودية له -سبحانه وتعالى-.

 

قال: "فعَدُّوا كل ما لم يكن لله وحده حراماً، وليس هذا مِنْ عُشِكَ وعُشِ ناصحِكَ" أنا اللي أنصحك وأنت يا مخاطب هذا ما هو، مقامنا! ولا درجتنا!، ليس من عشك. واجتهد أن تفي بورع العدول -فقط- الدرجة الأولى، لا تتناول شيء يفتي الفقه فيه بحرمة.

 

قال: -نعم-، أضف إليه شيئين، "ينبغي أن يضيف إليه شيئين. الأول: تحذر عن مواقع الغرور الظاهرة وإن أفتى بها الفقهاء". كيف؟ قال: يقولون من كان عنده مال وجبت فيه الزّكاة، وزوجته كذلك، وبعدين آخر السنة قبل ما يحُول الحول، وهب ماله لزوجته، وزوجته وهبت مالها له، سقطت الزّكاة. وبعدين كل واحد يرجّع للثاني حقّه. قال: لا تصدقون في مثل هذا، لا تمشي مع هذا، هذا غرور واضح. تحيل على أمر الدين والشرع، ما ينفعك فتواهم، ولا تنفع مثل هذا، هذا يسمونه من الفقه الضّار!.

 

قال: فقول الفقهاء "سقطت الزكاة عنهما، فإنهم إن عنوا بِهِ أنَّ السلطان -في الدنيا- لا يُطالبهما بالزكاة؛ لأن مطمح نظره ظاهرُ الملك.. فهو صدق"، أما إن أرادوا أنه ما بيعذبون في الآخرة، من أين يجيبوا هذا الكلام؟ هؤلاء قوم تحيلوا على أمر الله تعالى وتهرّبوا من فريضة الله. 

 

قال: "ودرجة الفقهاء وفتواهم ذكر ما يتعلق بالظواهر، فيحكمون بالبراءة عن الزكاة إذا سقط طلب الساعي، ويحكمون بصحة الصلاة إذا امتنع القتل على السلطان بجريان صورة الصلاة، إذ ليس بأيديهم من القوانين إلا القانون الذي يستعمله السلطان في السياسة، -أي: في ترتيب الأمور- لينتظم أمر المعيشة الدنيوية التي هي منزل من منازل الطريق كما سبق. 

 

"وأمّا أنت إذا كنت تنظر إلى ما ينفعُكَ غداً عند جبَّارِ الجبابرة وسلطان السلاطين فلا تلتفت إلى مثل هذا". -هذا واحد-. يبين قال الله لماذا فرض علينا الزكاة؟ حتى تَعْلم أنّ هذا التّصرف ينجي ولا ما ينجي عند الله تعالى؟

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"واعلم: أنَّ مقصود الزَّكاةِ إزالة رذيلة البخل؛ فَإِنَّهُ مُهْلِك. 

كما قال رسولُ اللهِ ﷺ: "ثَلَاتٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌ مُطَاعٌ، وَهَوى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ.." الحديثَ.

 

وهِبَةُ مالِ الزَّكَاةِ لأجلِ دَرْءِ الزَّكَاةِ تجعلُ الشُّحَّ مُطاعاً؛ فَإِنَّهُ يصير مطاعاً بإجابته إلى ما يقتضيه، وقبل هذا لم يكن مطاعاً، فكيف يكون ذلك منجياً؟!

 

وكذلك مَنْ يسيء معاشرة زوجتِهِ حَتَّى تُبرِئَهُ عن المهر.. فلا يَحِلُّ له المهر بينه وبين الله عزَّ وجل وإن كان الفقيه يفتي بسقوط المهر وصحة الإبراء؛ لأنَّ الله تعالى قال: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) [النساء:4]، وليس هذا طيبةَ النَّفْس، بل طيبة القلب، والفقيه لا يُميّز بين الأمرين؛ لأنَّ شغفه بقطع الخصومات الظاهرة لا غير.

والحجامة وشرب الدواء البشع لا تطيب بهِ النَّفْسُ، بل يطيب به القلب، وكذلك كلُّ ما يأباه الطَّبع، ويريده العقل لمصلحة البدن في العاقبة، وهذا باب طويل، وأَصلُهُ: أَلَّا تَستحِلَّ مَالَ غيرِكَ إلَّا برضاً مُطلَق صافٍ". 

 

 

يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "واعلم: أنَّ مقصود الزَّكاةِ إزالة رذيلة البخل" عن قلبك؛ لهذا فرض الله الزكاة لنوقى شحّ أنفسنا. 

كما قال: "ثلاث مهلكات: شحٌّ مُطاع" شُحٌّ يُتَّبع ويُنفّذ، ولا يعالج لإزالته وتبديله بالسّخاء، "وهوى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه"، فالواحِدة منها مُهلكة، فكيف إذا اجتمعت الثلاث؟

قال: وهذا يَهب ماله للزَّكاة لِكي يتخلّص من الزّكاة في آخرها "تجعل الشُّح مطاع"، عنده شح مطاع، وهو مُهلك -لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- "فَإِنَّهُ يصير مطاعاً بإجابته إلى ما يقتضيه؟ وقبل هذا لم يكن مطاعاً"، لو عنْده شُح وأخرج الزّكاة، تخلّص من الشُّح، لكن الآن صار شُحًا مُطاعًا، لبّى إجابته ودعوته، فَبدل ما يتَعالج من الشُّح قوّى الشح وزاد وصار الشح مطاعًا عنده، كيف تحصل النجاة بهذا؟ قال: "وقبل هذا لم يكن مطاعاً، فكيف يكون ذلك منجياً؟!" من ماذا ينجيه؟ ما ينفعه هذا الكلام عند الله تبارك وتعالى. السلطان نعم ما بيقول له هات الزّكاة، لأنه خرج عن ملكه في ظاهر الشّرح.

 

قال: "وكذلك مَنْ يسيء معاشرة زوجتِهِ" يؤذيها حتّى تسامحه في المهر الذّي لها، تقول: خلاص، خذه وإلّا طلقني و خ المهر لك، خلعته عليه. -لا إله إلا الله-، فالفقَهاء… يقولون لك إذا قالت خلاص سامحتك في المهر، الفقهاء يقولون لك حلال. قال: لكن بينك وبين الله ما تقرأ في القرآن؟!: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) وأين طيبة النّفس هنا؟ نكَّدت عليها وآذيتها حتّى قالت: "خُذ". أسباب مُكرهة ماهي طيبة النَّفس، من أين يحل لك؟ بينك وبين الله بتلقى الحساب قدام. أما الآن ما حد بيطالبك في الدنيا سواء، حكَّام الدنيا والسلاطين ما يطالبونك، لكن شوف الحكم كيف يكون في الآخرة. 

ولهذا قال: "فلا يَحِلُّ له المهر بينه وبين الله عزَّ وجل وإن كان الفقيه يفتي بسقوط المهر وصحة الإبراء؛ لأنَّ الله تعالى قال: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) [النساء:4]، وليس هذا طيبةَ النَّفْس، بل طيبة القلب"، كيف يعني؟ عقلها وقلبها قال لها: خلّي هذا له، تخلّصي من شرّه وأذاه وروحي، ففدَت تعبها ونفسها بالمال هذا، أحسن ولا تتعب وتؤْذى، وأعطته لا عن طيبة نفس، "والفقيه لا يُميّز بين الأمرين لأنّ شغفه بقطع الخصومات الظاهرة لا غير". 

والحجامة وشرب الدواء البشع لا تطيب بهِ النَّفْسُ، بل يطيب به القلب، وكذلك كلُّ ما يأباه الطَّبع، ويريده العقل لمصلحة البدن في العاقبة، وهذا باب طويل، وأَصلُهُ: أَلَّا تَستحِلَّ مَالَ غيرِكَ إلَّا برضاً مُطلَق صافٍ". 

 

قال: "والحِجامة وشرب الدَّواء البشع لا تطيب به النفس، بل يطيب به القلب"، العقل يرضى به لأنّ فيه فائدة، يعلم أن فيه فائدة فيتحمّل، مثل العمليات اللّي يجرونها، هل برغبة النفس؟ النفس ما أرادت حد يقطعها وإلا، لكن من أجل الضرورة يفهم أن فيه فائدة له، فعقله الذي يرضا بها وقلبه الذي يرضا بها، أمّا النّفس لا؛ لكن يُغلّب العقل والقلب على النَّفس؛ "وكذلك كلُّ ما يأباه الطَّبع، ويريده العقل لمصلحة البدن في العاقبة، وهذا باب طويل، وأَصلُهُ: أَلَّا تَستحِلَّ مَالَ غيرِكَ إلَّا برضاً مُطلَق صافٍ"، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ) ]النساء:29] ويقول ﷺ: "إنّما البيع عن تراض".

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

"وينبغي أن لا تأكل من السؤال فإن سألت أحدا فاحذر أن تسأل على الملأ، فربَّما تُعطى بالحياء، وذلك ليس مقروناً بالرضا؛ فإنَّ المستحيي يُؤْثِرُ ألم إزالة المُلْكِ على ألم الحياء، ولا فرق بين أن تأخذ ماله بضرب ظاهرِهِ بالسوط، وبين أن تأخذه بضرب باطنه بسوط الحياء، فالكل مصادرةٌ. 

 

واحذر أيضاً أن يُعطِيكَ بالدِّينِ؛ وذلك بأن يُعطِيكَ لظنِّهِ أَنَّكَ ورع تقي، فتأكل بالدِّينِ؛، ويكونُ مِنْ شرط حِلِّهِ: أَلَّا يكون في باطنك ما لو اطلع عليه المعطي.. لامتنع مِنَ الإعطاء؛ فلا فرق بينَ مَنْ يأخذ بالتصوُّفِ والتَّقوى وهو ليس متصفاً به باطناً، وبين مَنْ يزعم أَنَّهُ عَلَويٌّ ليُعطَى وهو كاذب، فكلُّ ذلك حرام عند ذوي البصائر، وإن أفتى الفقيه بالحل بناءً على الظاهر".

 

قال: ينبغي:

  • ألا تعلق نفسك بسؤال الناس، ولا تأكل من مسألة الناس، وذلك هو الأولى والأليق بالمؤمن في غالب الأحوال. 
  • إنما عند الاضطرار فالمسألة على وجهها قد تباح وقد تندب وقد تجب.
  • ولكن من خاف الهلاك وسأل مقدار الحاجة ولا يملك شيئاً، وهذا نادر يكون؛ فإن المسألة من غير الله تبارك وتعالى نقص، وشرف المؤمن أن يسأل ربه.

 

لا تسألن بني آدم حاجةً *** وَسَلْ الذي أبوابه لا تحجبُ

الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يُسأل يغضبُ

 

قال: "لا ينبغي أن يأكل من السؤال، فإن سألت أحداً، فاحذر أن تسأل على الملأ"، إذا اضطريت واحتجت لشيء من المسائل، فلا تسأله أمام الناس، يستحي من اللي قدامه ويعطيك حياءً؛ فإن المأخوذ بوجه الحياء كالمأخوذ بالسيف، يعني: بالقوة أخذته. لو كان وحده كلمته بيقول لك مافي، يعتذر لك. لكن قدام أحد يستحي منه وإلا قدام ناس، فقال: تفضل، خذ، أعطاك وهو ما نفسه يعطيك. فهذا الأخذ بوجه الحياء.

 

والسؤال باسم الفقر لا يجوز إلا لمن لم يجد قوت يومه وليلته؛ خاف على نفسه الضرر والهلاك، ولا يملك شيئاً. وما عنده قوت يومه وليلته، فبِاسم الفقر يمكن يسأل. 

قال: "فإن المسْتحيي يؤثر ألم إزالة الملك على ما يعطيك على ألم الحياء -من الناس- ولا فرق بين أن تأخذ ماله بضرب ظهره بالسوط أو بضرب باطنه بالحياء، بصوت الحياء، -كلها ضرب؛ هذا وهذا، هذا حسي وهذا معنوي- فالكل مصادرة"، هذا وهذا مصادرة مال بغير حق، فلا تأخذ إلا ما كان عن طيب نفس.

 

"واحذر أيضاً أن يُعطِيكَ بالدِّينِ"؛ يعني لظنه أنك ورع تقي صالح، صار يعطيك. فتكون ممن يأكل بالدين، من شرار الخلق هؤلاء. ويكون من شرط حِلِّه "أَلَّا يكون في باطنك ما لو اطلع عليه المعطي.. لامتنع مِنَ الإعطاء" فإذا كان هكذا، يظنك ورع وأعطاك، وأنت ما أنت ورع، فما يحل لك أخذه، وهكذا.

جاء بعضهم بعطية للحبيب عبد الرحمن المشهور، كان مفتي حضرموت في وقته، قال: لماذا تعطيني هذه؟ إن كنت تتوقع أني عالم، فما أنا متحقق بالعلم، أو تظن أني ولي، فما أنا ولي.. لا تغالط نفسك ولا تعطيني! قال: أنا أعطيك إياه لأنك عبد الرحمن بن محمد المشهور من آل البيت! سيقول لا؟.. ما من وجه يقول لا… وكان ذكي هذا المعطي فقال: لا لأجل علم ولا… فقط لأنك أنت فلان!.. فسكت ورجع وأخذه.

قال: من أخذ بِوصف والوصف ليس فيه فهو كذاب، يأخذ. قال: "وليس فرق بين هذا وبين من يدعي نسب، يقول أنا علوي"، يعني ينتسب لسيدنا علي بن أبي طالب، فيجد في كثير من المؤمنين رقة ورأفة ومحل لإبراز المودة لقرباه ﷺ، فيعطيه على اعتقاد أنه من ذرية علي. فإذا كان هو كذاب في ذلك فما يأخذه حرام؛ كذلك يعطيه على العلم وهو ما هو عالم؛ يعطيه على أنه ورع ما هو ورع؛ يعطيه على أنه قوام بالليل ما هو قوام؛ يعطيه بشيء من الأوصاف ليست فيه، وليس فيه هذا الوصف.

 

قال: "فلا فرق بينَ مَنْ يأخذ بالتصوُّفِ والتَّقوى وهو ليس متصفاً به باطناً، وبين مَنْ يزعم أَنَّهُ عَلَويٌّ ليُعطَى وهو كاذب، فكلُّ ذلك حرام عند ذوي البصائر، وإن أفتى الفقيه بالحل بناءً على الظاهر".

الأصل في العلوي من ينسب إلى علي، واشتهر بين الأمة في من ينسب لسيدنا علي بن أبي طالب. ثم جاءت بعض التخصيصات، منها التخصيص عندنا واحد من ذرية سيدنا علي اسمه علوي بن عبيد الله بن المهاجر أحمد بن عيسى، فسموا ذريته آل علوي، وآل باعَلوى، والعلويين. ومنها تخصيص آخر جاء لفِرقة ضالة من غلاة الشيعة، نصيريَّة، تسموا باسم العلويين، يقولون إنهم علويون، وهذا اصطلاح لهم خاص. وإلا الأصل في العلوي نسبة إلى علي، والمشهور بين الأمة علي بن أبي طالب. فالمُنتسب إليه يقال له علوي. 

 

لا إله إلا الله، أصلح الله أمور المسلمين، صرف الله شر المؤذين، آمين.

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

 إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

 

تاريخ النشر الهجري

25 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

19 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام