(339)
(535)
(364)
الدرس الثاني عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: مواصلة شرح الأصل السادس: ذكر الله - (3) - الأصل السابع: طلب الحلال (1)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الإثنين 24 صفر 1447هـ
كيف ينكشفُ سرُّ الذِّكر حين يُعظَّم المُتكلِّم، مع بيان معاني: "سُبحانَ الله، الحمدُ لله، لا إلهَ إلا الله، اللهُ أكبر. ثم يفتتح الأصل الثامن "طلبُ الحلال" ويبين كيف يُصفّي القلبَ ويُنوِّره، ويشرح ميزان الورع في أربع درجات، مع أمثلة عملية من سِيَر السَّلف.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتّصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين
من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
"وما عداها من الصّفات التي تدل على القدرة والعلم والإرادة والكلام والسمع والبصر.. فذلك ممّا يظن أنّهُ الثّابت منها لله عز وجل مفهموم ظواهرها، وهيهات!! فإنّ المفهوم من ظواهرها أمورٌ تُناسِب صِفات الإنسان وكلامُه وقُدرتُه وعِلمُه وإرادته وسمعُه وبصره، بل لها حقائِق يستحيل ثُبوتها للإنسان، فتُستَخرج هذه الأسامي بنوع من التأويل.
فهذا يُنبِّهك على ما يحتمِلُه فَهمُك من اختصاص هذه الكلمات بكونِها أعظم.
ويقرُب منه قولك: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" لأن "سبحان الله" للتَّقديس، وهو حقيقيٌّ في حقِّهِ؛ فإن القُدُسَ الحقيقي لا يُتَصوَّر إلا لله تعالى.
وقولُك: "الحمد لله" يُشعِر بإضافةِ النِّعمِ كلِّها إليه، وهو حقيقيٌّ؛ إذ هو المُتفرِّدُ بالأفعالِ كلِّها تفرُّداً حقيقيّاً بلا تأويلٍ، وهو تباركَ وتعالى المُستوجِبُ للحمد وحدَهُ؛ إذ لا شِرْكةَ لأحدٍ معَهُ في فعلِهِ أصلاً وألبتةَ، كما لا شِرْكةَ للقلمِ مع الكاتبِ في استحقاقِ المَحمَدةِ عندَ حُسْنِ الخطِّ.
واعلمْ: أنَّ كلَّ مَنْ سواهُ ممَّنْ ترى منهُ نعمةً.. فهو مُسخَّرٌ لهُ كالقلمِ، فهذا مثالٌ ينبِّهُكَ على تفرُّدِهِ باستحقاقِ الحمدِ.
وقولُك: "لا إلهَ إلَّا اللهُ" فقد عرفتَ أنَّهُ التَّوحيدُ الحقيقيُّ.
وقولك: "الله أكبرُ" فليسَ المعنيُّ بهِ أنَّه أكبرُ مِنْ غيرِهِ؛ إذ ليسَ معَهُ سبحانَهُ غيرُهُ حتى يُقالَ: إنَّهُ أكبرُ منهُ، بل كلُّ ما سواهُ فهو نورٌ من أنوارِ قدرتِهِ، وليسَ لنورِ الشَّمسِ مع الشَّمسِ رتبةُ المعيَّةِ حتى يُقالَ: إنَّها أكبرُ منهُ، بل رتبةُ التَّبعيَّةِ.
بل معناهُ: أنَّه أكبرُ مِنْ أن يُنالَ بالحواسِّ، ويُدرَكَ جلالُه بالعقلِ والقياسِ، بل أكبرُ مِن أن يُدرِكَ كُنْهَ جلالِهِ غيرُهُ، بل أكبرُ مِن أن يعرفَهُ غيرُهُ؛ فإنَّهُ لا يعرفُ اللهَ إلا اللهُ؛ فإنَّ منتهى معرفةِ عبادِهِ: أن يعرفوا أنَّه يستحيلُ منهُم معرفتُهُ الحقيقيَّةُ، ولا يعرفُ ذلك أيضاً بِكمالِهِ إلا نبيٌّ أو صدّيقٌ.
أما النَّبيُّ.. فيُعبِّرُ عنه فيقولُ: " لا أُحْصِي ثَنَاءً عليك، أنتَ كَما أثْنَيتَ على نَفسِكَ".
وأمّا الصّدِّيق.. فيقول: العجزُ عن دَرَكِ الإدراكِ إدراكٌ.
فإن تَشوَّفتَ إلى زيادةِ تحقيقٍ في هذا المعنى، واستنكرتَ قولي "لا يعرفُ اللهَ إلَّا اللهُ".. فاطلبْ معرفةَ حقيقتِهِ بالبرهان من كتابِ (المقصدِ الأسنى في شرحِ معاني أسماءِ اللهِ الحسنى).
ويكفيك الآن هذا القدْرُ مِنَ الرُّموزِ إلى أسرارِ الذِّكرِ وأفضلِ الأذكارِ منها."
وبعد..
ما شاء الله.. الحمد لله الذي يذكرُ من ذكَرَه، ويشكرُ من شَكَره ويبسُطُ بساطَ إِحسانِه لأهلِ الوُجهَة إليه، لا إله إلا هو وحدهُ لا شريكَ له، شهادةَ مُتَذلِّلٍ بين يديه. ونشهد أنّ سيدنا ونبيِّنا وقُرَّةِ أعيُنِنا محمّداً عبدُهُ ورسولُه وأكرمُ الخَلقِ عليه. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على أوسع الخَلائق وَجاهةً لديك سيّدنا محمد وعلى آله وصحبِه ومن سارَ في دَربَِه، وعلى آبائِه وإِخوانِه من أنبيائك ورسِلُك وآلهم وصحبِهم وتابِعيهم، وعلى ملائكتِكَ المُقرَّبين وجميع عبادِك الصّالحين وعلينا معهم وفيهم برَحمتك يا أرحم الراحمين.
ويذكُر الشيخ -عليه رحمةُ الله تبارك وتعالى- مَعنى الفَضل في الأذكار بعضها على بعض، وأن ذلك في حقِّ السَّائِرِ والسَّالِك، وأنَّهُ في حالةِ الاستغراق في شُهُود الله تعالى، فكلُّها ذِكرٌ بالجَمْعِيّة بكُل المعاني لا يفضُلُ شيءٌ منها على شيء؛ ولكن بحقِّ هؤلاء السّائرين، ذَكرَ من أسماء الله -تبارك وتعالى- وصفاتِه:
"فذلك ممّا يُظَنُّ أن الثَّابِت منها لله -عز وجل- مفهوم ظواهرها وهيهات! فإن المفهوم من ظواهِرها أمور تُناسب صِفات الإنسان والمخلوقات وكلامُهم وقدرتُهم؛ بل لها حقائقُ يستحيل ثبوتها للإنسان"؛ حقائق السمع والبصر والعلم والقُدرة؛ حقائِقها يَستحيل ثبوتها للإنسان، إنما مع الإنسان قِشَّة من معناها في عالم مَحصورٍ مَقصور، أُمِدَّ فيه بهذا النُّور من السَّمع والبصر والقُدرة والإرادة والعلم والكلام، فليست إلا مُجرَّد إشارة ودلالة.
وأمّا حقيقة ذلك بكل معاني فللّه -سُبحانه وتعالى وحده-، فهو السميع، البصير، المُتكلِّم، العليم، القادر، الذّي بيده ملكوت كل شيء. بل لها حقائق للسّمع وللْبصر ولهذا يستحيل ثبوتُها للإنسان، ما يقدِر عليها أصلاً ولا يصلُ إليها. فالبصر هذا، الأزليَّ القديم، الذي يُحيط بكُلِّ شيء، هو الذي مُرادُه إذا نُسِبَ البصر إلى الحقِّ -تبارك وتعالى- ووُصِف بالبصير، وكذلك بقيَّة الصِّفات.
يقول: "هذا يُنبِّهُك على ما يحتمِلُه فهمُك من اختصاصِ هذه الكلمات بِكَونِها أعظمُ من بعضها"، وختَمَ بذِكر الباقيات الصّالحات، وفي الحديث: "أَحَبُّ الكَلامِ إلى اللهِ أرْبَعٌ: سُبْحانَ اللهِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ". فهي من أعظم ما يُذكَرُ الحقُّ -سبحانه وتعالى- به.
وذكر من أسرارِها أنَّ قولَك "سبحان الله، للتقديس". التقديس والتّنزيه هذا له سبحانه حقيقة، "فإن القُدُس الحقيقي لا يُتصوَّر إلا له سبحانه وتعالى" لأنَّهُ اللّازم الذّي يُوصَفُ به غيرَهُ من النَّقائِص من أوَّلهم إلى آخرِهم، حتى أربابَ الكمال فيهم سَبقُ العَدَم، والعَدَم نَقيصَة، وهذا ثابت للوجود كلّه. إذًا القُدْسُ الكامِل بكُلِّ معنى ما يكونُ إلا له وحده -سبحانه وتعالى-، وهو حقيقيٌّ في حقِّه تعالى، "فإنَّ القُدْسَ الحقيقيّ لا يُتَصوَّر إلا له تعالى"، إلى غير ذلك مما يَعتريهم من النقائص غير كونهم سبقَ لهم العَدم، يعتريهم أنواع من النقائص، وقد يكون في هذا ما ليس في هذا.
وأبعَدُهم بعد ذلك عن النَّقائِص المَنسُوبة إلى الآدميّين والمخلوقين عبدُ الله ورسولِه محمدٌ صلى الله وسلم عليه وعلى آله ، فلَهُ من الطُّهر والنَّقاء والتَّقدِيس ما ليس لغيره من المُكمَّلين، ومن المُقرَّبين، ومن المُطهَّرين، عليهم صلواتُ الله وتسليماتُه. وهؤلاء أبعد الناس عن النَّقائص ساداتَنا الأنبياءُ والمُرسلون صلوات الله تعالى عليهم، النَّقائص التي تلحق بالخلائق. أما النَّقص العام حيث كونَهُم مخلوقون وأصلُهم عدم، فهذا لازِمٌ لِكلّ كائِن ولكلِّ مخلوق كائناً مَن كان في العالم العُلوِيّ والعالم السُّفلي. "كان اللهُ ولم يكن شيءٌ غيره"، "كان الله ولم يكن شيء معَه".
ثم بعد ذلك ذكر "الحمد لله"، قال: "يُشعِر بإضافةِ النِّعمِ كلِّها إليه، -وهو حقيقيّ- إذ هو المُتفرِّدُ بالأفعالِ كلِّها تفرُّداً حقيقيّاً"، فما يجري من العباد من إحسانِ بعضِهم لبَعض وإنعام بعضهم على بعض إنّما هو مَجازِيٌّ مُؤوَّل تحت قُدرةِ القادِر، وتَقديرِ المُقدِّر -سبحانه-، وتوفيق المُوفِّق -جلَّ جلالُه-: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:37]، فالإنعام بالاستقلال من جميع الوجوه لله وحده -سبحانه وتعالى-. والذّي وُصِفَ بأنَّه أنعَمَ على غيره فهي بصورة توفيق الحق -تعالى- له وإعطائِه النّعمة وإجرائِها على يده إلى الغَير، فهي بهذا المعنى تصِحُّ نسبتها، فهي إذًا مقيّدة؛ أمَّا الإضافة الحقيقيَّة المُطلَقة للنِّعَم فهي إليه (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53]. اللهم ما أمْسى بنا من نِعمة أو بأحدٍ من خَلقِك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشُّكر على ذلك.
"وهو تباركَ وتعالى المُستوجِبُ للحمد وحدَهُ إذ لا شِرْكةَ لأحدٍ معَهُ في فعلِهِ أصلاً وألبتةَ"، يقول: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر:3]. "كما لا شِرْكةَ للقلمِ مع الكاتبِ في استحقاقِ المَحمَدةِ عندَ حُسْنِ الخطِّ"، فإذا كتب الكاتب خطّاً جميلاً حسناً يقول واحد: ما شاء الله، ماهذا القلم يا أخي؟ جزاك الله خير يا قلم، أحسنت يا قلم. لا محمدةَ للقلم! الكلام عند الكاتِب. القلم جَمَاد محلُّه لا يتحرَّك ولا يعرِف ما يكتب؛ لكن الكاتب بتَفكِيره وإدارتِه للقلم بيده بين أصابعه، كوَّنَ الخُطوطَ الحسنة الجميلة. وكذلك إنعام الخلائق على بعضهم البعض وإحسانهم، فالمُنعِم الذي فوق هو الذّي أنعم، فما لهم إلا التَّبعِيَّة له -سبحانه وتعالى-، وهو صاحبُ الإنعام الحقيقيّ. وهكذا..
يقول: "واعلمْ: أنَّ كُلَّ مَنْ سِواهُ ممَّنْ ترى منهُ نعمةً.. فهو مُسخَّرٌ لهُ كالقلمِ، فهذا مثالٌ ينبِّهُكَ على تفرُّدِهِ باستحقاقِ الحمدِ"، هذا الذي أسدى إليك معروفاً، قلمٌ كتب هذا الحُسن بالكاتِب، والذي كتب ما هو هو نفسُه، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29] -جلَّ جلاله-.
وقولُك "لا إلهَ إلَّا اللهُ" هو "التَّوحيدُ الحقيقيّ" سبحانه عزَّ وجلّ، خير كلمةٍ يقولها الإنسان. وقولك "الله أكبرُ" فليسَ المعنيُّ بهِ أنَّه أكبرُ مِنْ غيرِهِ، من غيره هذا؟! غيرُه كلّه خلقُه وإيجادُه، فلهم معهُ نِسبة التّبعيَّة كونهم أفعاله وخلقه فقط، ما في مقارنة بينهم وبينه. فما تقول مثلاً: هذا نورُ الشَّمس والشَّمس أكبرُ من نورها، الشمس أكبر من نورها والنور كلُّه تبعٌ للشمس، ولولاها ما ظهر له أثر ولا له خبر، فلها معه حقَّ التَّبعيَّة.
"بل كلُّ ما سواهُ فهو نورٌ من أنوارِ قدسهِ، وليسَ لنورِ الشَّمسِ مع الشَّمسِ رتبةُ المعيَّةِ حتى يُقالَ: إنَّها أكبرُ منهُ، وإنَّما رتبةُ التَّبعيَّةِ"، ما للنُّور وُجود إلا بتِلك الشمس، "بل معناهُ -سبحانه وتعالى-: أنَّه أكبرُ مِنْ أن يُنالَ بالحواسِّ، ويُدرَكَ جلالُه بالعقلِ والقياسِ، بل أكبرُ مِن أن يُدرِكَ كُنْهَ جلالِهِ غيرُهُ"، -الله أكبر-. وكلُّ ما خطَرَ ببالِك فهو مَحْوٌ هالِك، والله بخِلافِ ذلك، فهو أكبر؛ "بل أكبر من أن يعرفه المعرفة الإحاطِيَّة غيره -سبحانه وتعالى-، إنه لا يعرف الله إلا الله"، كما قال سيدنا أبو بكر.
"فإنَّ مُنتهى معرفةِ عبادِهِ: أن يعرفوا أنَّه يستحيلُ منهُم معرفتُهُ الحقيقيَّةُ.." وكل ما كان أعرَف بالله، تمكّنَ في يقِينِه أنَّه لا يُمكن الإحاطة بصِفاتِه وأفعالِه فضلاً عن ذاته -جلَّ جلاله-.
"ولا يعرفُ ذلك أيضاً بِكمالِهِ إلا نبيٌّ أو صِدّيقٌ"، هم الذين يَبلُغون رتبةَ الكمال في المعرفة بالله.
قال: فيُعبِّرُون عن هذا، "أمّا النّبي" -كما جاء في الحديث وهو دعاؤه ﷺ رواه مسلم وغيره- في كل ليلة لمَّا يُصلِّي صلاة الوتر ينادي الحقّ بهذا فيقول: " أعوذُ برضاكَ من سخطِكَ، وبمعافاتِكَ من عقوبتِكَ، وأعوذُ بِكَ منكَ سبحانك..لا أُحْصِي ثَنَاءً عليك، أنتَ كَما أثْنَيتَ على نَفسِكَ"، "لا أُحْصِي ثَنَاءً عليك" وأنت كنت أعرَفُ الخلائق به، يعني: لا يستطيع أن يُحيطَ بمعرفتِك أحد، وهذا الذي انتهت إليه المعرفة بك لذا يقول:"لا أُحْصِي ثَنَاءً عليك، أنتَ كَما أثْنَيتَ على نَفسِكَ". فهذا تعبير النبيّ.
وتعبيرُ الصديق ما نُقِل عن سيدنا أبي بكر الصديق في أبياته التي يقول فيها:
لا يعرف اللهَ إلا اللهُ فاتَّئدوا *** والدِّينُ دينان إيمان وإشراك
وللعقول حدودٌ لا تجاوزها *** والعجز عن درَكِ الإدراك إدرَاك
قال: عبَّر الصديق فيقول: "العجز عن درَكِ الإدراك إدراك"، عَجْزُنا عن الإحاطة بِه هو المعرفة، فلا طريق لمعرفته إلا بتَقوِية إيقانِنا بعجزنا عن الإحاطة به جلَّ جلالُه. وكل من كان أعرَف قَوِيَ هذا اليقين عنده، -لا إله إلا هو-.
"فإن تَشوَّفتَ إلى زيادةِ تحقيقٍ في هذا المعنى واستنكرتَ قولي "لا يعرفُ اللهَ إلَّا اللهُ" فاطلبْ معرفةَ حقيقتِهِ بالبرهان من كتابِ (المقصدِ الأسنى الذّي كتبه في معاني أسماءِ اللهِ الحسنى). قال وهذا الآن يكفيك الآن" لتعرف فضل الذكر بعضه على بعض للسائرين إلى الله.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
الأصل السابع
في طلب الحلال
"قال الله سبحانَهُ وتعالى: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون51]، والحرامُ خبيثٌ و ليس بطيِّبٍ، وقد قرنَ عزَّ وجلَّ أكلَ الطَّيِّباتِ بالعباداتِ.
وقال رسولُ الله ﷺ: "طَلَبُ الحَلَالِ فَرِيضةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَعدَ الفَرِيضَةِ"؛ أي: بعدَ فريضةِ الإيمانِ والصَّلاةِ.
وقالَ ﷺ: "مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أربعين يوماً.. نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ، وأَجْرَى يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"، وفي روايةٍ: "زَهَّدَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا".
وقال ﷺ: "إنَّ للهِ تَعَالَى مَلَكاً عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ: مَنْ أكَلَ حَرَاماً.. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ"، فالصَّرفُ: النَّافلةُ، والعَدلُ: الفريضةُ. وقال ﷺ: "مَنِ اشْتَرَى ثَوْباً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِي ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ.. لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ صَلَاتَهُ مَا دَامَ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ".
وقال عبدُ اللهِ بنُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُما-: "لو صلَّيتُم حتَّى تكونوا كالحنايا، وصُمتُم حتَّى تكونوا كالأوتارِ، لم يَقبَلِ اللهُ ذَلكَ منكُم إلا بورعٍ حاجزٍ".
وقيلَ: العبادةُ معَ أكلِ الحرامِ.. كالبنيانِ على السِّرْجِينِ.
فصل: في بيان درجات الورع
اعلمْ: أنَّ طِيبَ المطعمِ لهُ خاصِيَّةٌ عظيمةٌ في تصفيةِ القلبِ وتنويرِهِ، وتأكيدِ استعدادِهِ لقَبُولِ أنوارِ المعرفةِ، وفيهِ سِرٌّ لا يَحتمِلُ هذا الكتابُ ذكرَهُ، ولكنْ ينبغي أن تَفهَمَ أنَّ درجاتِ الورعِ أربع".
يتكلَّم في هذا الأصل عن ترتيب الإنسان لما يتناولُه ويلبَسُه ويسكُنه ويطعَمُه ويركَبُه مِن المتاع في الدنيا أن يكون حلالاً طيّباً. (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) [النحل:114] كما يقول جلَّ جلالُه، وبعيداً عن الحَرام وعن الشُّبهات، "فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه". وكما قال عندكم في أول الفصلِ الثاني في هذا الأصل يقول في أوَّل الفصل: " طِيبَ المطعمِ لهُ خاصِيَّةٌ عظيمةٌ في تصفيةِ القلبِ وتنويرِهِ وتأكيدِ استعدادِهِ لقَبُولِ أنوارِ المعرفةِ، وفيهِ سِرٌّ.." تفصيله ما يحتمل ذكره في مثل هذا الكتاب.
ولكن تعلم أن الطَّاقة التي يُمِدُّ الله تعالى بها الإنسان في سَمعِه وبَصرِه وحركَتِه ومَشيِه وتعامُلِه في الحياة، هذه الطَّاقة رتَّبها -سبحانه وتعالى- على صِحَّة هذا الجَسد، ولا تقوم صِحَّة هذا الجسد إلا بتَغذِيَتِه، فيصير أصل في الأسباب إمداد الله للإنسان بالقُوّة والحركة:
فإذاً قوله: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون:51]. ويقول: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172] خاطَبَ الرُّسل وخاطَبَ المُؤمنين، وقال ﷺ في الحديث: "وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ: (يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقالَ: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)". فأمَرَ الجميع أن يتحرَّوا في مكاسِبهم في الحياة ويأخذوا ما يحتاجونه من مَلبُوسٍ ومَأكولٍ ومَشروبٍ ومَسكونٍ ومَطعومٍ ومَشمومٍ وما إلى ذلك، يأخذونه من الأوجُه التي شرَعها وجعل فيها الحِلّ، ويتجَّنبوا ما فيه الشبهات.
وقال: "وقد قرنَ عزَّ وجلَّ أكلَ الطَّيِّباتِ بالعباداتِ. وقال رسولُ الله ﷺ: "طَلَبُ الحَلَالِ فَرِيضةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَعدَ الفَرِيضَةِ"، أي: بعد فريضة الإيمان والصلاة والصوم، فهناك فريضةُ طلَبُ الحَلال.
وقالَ ﷺ: "مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أربعين يوماً.. نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ، وأَجْرَى يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"، وفي روايةٍ: "زَهَّدَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا". ونقله أبو نُعَيم في "الحلية" عن سيدنا أبي أيوب -رضي الله تعالى عنه- عن النبي ﷺ، وجاء عند ابن المبارك في كتاب "الزهد" عن مَكحول مُرسَلاً -سقط منه الصحابي-.
وقال ﷺ: "إنَّ للهِ تَعَالَى مَلَكاً عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ: مَنْ أكَلَ حَرَاماً.. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ" ، أي: لا نافلة ولا فريضة، لا إله إلا الله. ولهذا: "إن مِلاكِ دينكُم الوَرع".
وقال ﷺ: "مَنِ اشْتَرَى ثَوْباً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ تِسعَ دراهِم حَلال وَفِي ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ.. لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ صَلَاتَهُ مَا دَامَ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ"، ما دام عليه خيط من هذا الثوب ما تُقبَل الصلوات -والعياذ بالله تعالى- مع أنه عُشره حرام وتسعة أعشار حلال!
وهكذا سيدنا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُما- يُحدِّث يقول: "لو صلَّيتُم -كثرتم صلاة قيام بالليل وصلوات بالنهار- حتَّى تكونوا كالحنايا -حتى انحنت ظهوركم من كثرة الصلاة- وصُمتُم -واصَلتُم الصيام في مختلف الأيام غير أيام العيدين والتشريق- حتَّى تكونوا كالأوتارِ، -نَحلْتُم وصارت أجسادكم كأنها وتَر- لم يَقبَلِ اللهُ ذَلكَ منكُم إلا بورعٍ حاجزٍ". "إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا". وذكر ﷺ : "الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك". إذًا إنَّ الوَرع أساس هذا الدين فأحكِم بناءَه.
يقول: "العبادةُ معَ أكلِ الحرامِ كالبنيانِ على السِّرْجِينِ"، كل البيت الأساس حقُّه تحت سِرْجِين -الزِّبل- يَنهاس -يسقط- كل البيت، ولا يبقى منه شيء لأنه ما مِن أساس له.
وقول ابن رسلان -عليه رحمة الله تعالى-:
وطاعةُ من مال حرامٍ يأكلهُ *** مثلُ البناءِ فوقَ موجٍ يُجعلُ
يجعل مواد البناء حقه فوق البحر، يبني! يبني ماذا؟ كل ما حط شيء غاص في البحر وماعاد له أثر. وهذا الذي يطيعه وأكله من الحرام، تذهب عباداته لأنه تغذّى بالحرام والعياذ بالله تعالى.
وطاعةُ من مال حرامٍ يأكلهُ *** مثلُ البناءِ فوقَ موجٍ يُجعلُ
لا يستقر، يعني لا تقبل العبادة ممن لم يُبالِ من أين أكل. ولذا ورد في الأثر: من لم يُبالِ من أي باب دخل عليه الرزق، لم يُبالِ الله به في أي وادٍ من أودية جهنم أهلكَه. نسأل الله تبارك وتعالى العافية. وهكذا وجَبَ للمؤمنين أن يتجنبوا ما حرَّم الله من رِباً ومن مُعامَلات فاسِدة ومن سَرِقة ومن نَهبٍ ومن أخْذِ حقِّ الغير بغير حق.
ولكن قال هناك أسرار، ولكن نذكر لك أنَّ درجاتِ الورعِ أربع درجات، فيترقَّى المؤمنون إلى درجاتها الرفيعة، فانظر نفسك في أيِّ درجةٍ من هذه الدّرجات.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
"الدَّرجةُ الأُولى: ورعُ العدولِ؛ وهيَ التي يجبُ الفسقُ باقتحامها، وتزولُ العدالةُ بزوالِها؛ وهيَ التي تُحرِّمُها فتوى الفقهاءِ.
الثَّانيةُ: ورعُ الصَّالحينَ؛ وهوَ الحذرُ عمَّا يَتطرَّقُ إليهِ احتمالُ التَّحريمِ، وإن أفتى المفتي بحِلِّهِ بناءً على الظَّاهرِ، وهوَ الذي قالَ فيه رسولُ الله ﷺ: "دَعْ ما يَريبُكَ إلَى ما لَا يَرِيبُكَ".
الثَّالثةُ: ورعُ المتَّقينَ؛ قالَ النَّبيُّ ﷺ: "لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ دَرَجَةَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بهِ مَخَافَةَ مَا بِهِ بَأْسٌ".
وقال عمرُ -رضيَ الله عنهُ-: "كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشارِ الحلالِ مخافةَ الوقوعِ في الحرامِ".
ومِنْ هذا الأصلِ: كانَ بعضُهُم إذا استحقَّ مئةَ درهمٍ.. اقتصرَ على تسعةٍ وتسعينَ، وتركَ الواحدَ حاجزاً بينَه وبينَ النَّارِ؛ لخوفِ الزِّيادةِ.
وكانَ بعضُهُم يأخذُ ما يأخذُ بنقصانِ حبَّةٍ ويعطي ما يعطي بزيادةِ حبَّةٍ.
ولذلكَ أخذَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- بأنفِهِ حذراً مِنْ ريحِ المِسكِ الذي كانَ يُوزَنُ بينَ يديهِ لبيتِ المالِ، وقالَ لمَّا سُئِلَ عن ذلكَ: "وهل يُنتفَعُ إلَّا بريحِهِ؟!"
ومِنْ ذلكَ أن يَتورَّعَ عنِ الزِّينةِ وأكلِ الشَّهَواتِ؛ خيفةً مِنْ أنْ تجمحَ النَّفْسُ فتدعوَهُ إلى الشَّهَواتِ المحظورةِ.
ومِنْ ذلكَ تركُ النَّظرِ إلى تجمُّلِ أهلِ الدُّنيا، فإنَّهُ يُحرِّكُ دواعيَ الرَّغبةِ في الدنيا، ولذلكَ قالَ اللهُ تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [طه:131].
ولذلكَ قالَ عيسى بنُ مريمَ عليهِ السَّلامُ: "لا تنظروا إلى أموالِ أهلِ الدُّنيا، فإنَّ بريقَ أموالِهِم يَذهَبُ بحلاوةِ إيمانِكُم".
ولذلكَ قالَ السَّلفُ: "مَنْ رَقَّ ثوبُه.. رَقَّ دينُهُ".
والحلالُ الطَّلْقُ الطَّيِّبُ: كلُّ حلالٍ انفكَّ عن مثلِ هذه المخافةِ ولم تُوجَدْ فيهِ آفةٌ."
درجات الورع أربعةّ، ذكر هذه ثلاث منها وبعدها الرابعة درجة ورع الصديقين.
الأُولى: "ورعُ العدولِ"؛ أن يكونَ بها الإنسان عَدْلاً، يخرُجُ عن دائرةِ الفسقِ وتصحُّ شهادتَه في المحاكم والقضايا والعقود فيَصحّ أن يكون شاهداً بكونِه عَدلاً.
ورعُ العدولِ؛ وهيَ التي يجبُ الفسقُ باقتحامها، وتزولُ العدالةُ بزوالِها؛ وهيَ التي تُحرِّمُها فتوى الفقهاءِ.
"ورع العدول هيَ التي يجبُ الفسقُ باقتحامها"؛ من اقتَحَمها سقطتْ عدالتَه، "وتزولُ العدالةُ" بزوال هذه الدرجة. وهذا ما تُحرِّمُه "فتوى الفقهاءِ" من المعاملات، فكل ما يفتي به فُقهاء الشريعة أنَّه حرام، فاقتحامُه يُخرجُ إلى الفسق ويُخرجُ عن العدالة.
فالأوّلُ: أن يتورَّع عن الحرام الذي هو ظاهِرٌ في الحرمة يفتي فقهاء الشريعة بأنه حرام: هذا ورع العُدول.
لكن فوقه ورعُ الصَّالحينَ: والصَّالِحون درجات، لهذا ذكر بعد عُموم الصَّلاح درجة الأتقياء، وذكر فوقها درجة الصِّدِّيقين، وهم من الصالحين لكنَّهم مَخصوصون في الصَّلاح.
"فَورعُ الصَّالحينَ؛ وهوَ الحذرُ عمَّا يَتطرَّقُ إليهِ احتمالُ التَّحريمِ"، وإن كان ظاهر الفتوى تُفتي بحِلِّهِ بِناءاً على الظاهر؛ "وهوَ الذي قالَ فيه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "دَعْ ما يَريبُكَ إلَى ما لَا يَرِيبُكَ". أو يُريِبك من رَابَ أو أَرَابَ المعنى واحد، أَدخَلَ عليه الرِّيبَة، رابَهُ شكَّ فيه، كان عنده مُرَاباً أي مَشكُوكاً فيه، فيدَعُ ما يَريبُه، ما فيه شك، ما كان هناك احتمال لِوُصُول التَّحريم إليه من وجه، فيبتعد عنه حذراً؛ فهذا ورع الصَّالحين الذين هم خواصُّ المؤمنين.
ولكن المُتَّقُون من هؤلاء الصَّالحين لهم زيادة في التَّحرُّز؛ ولو كان الاحتمال بعيدًا. فهؤلاء يَحترِزُون عمَّا الاحتمال إليه قويّ، ما يتطرق التحريم إليه قوي وظاهر. ولكنْ الورِعون فوقهم من المُتَّقين يتحرَّزون عمّا كان الاحتمال إليه من أي وجهٍ ولو بعيد، يكون الاحتمال فيه أن تدخُل فيه الشُّبهَة فضلاً عن الحَرَام، فيحتَرِزُون عنه، فهؤلاء هم المُتَّقون.
يقول: "لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ دَرَجَةَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بهِ مَخَافَةَ مَا بِهِ بَأْسٌ". روى الإمام الترمذي وابن ماجه هذا الحديث. "لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ دَرَجَةَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ: أي يترُكَ، مَا لَا بَأْسَ بهِ، حلال واضح، لكنَّه قريب عند تناوُلِه يُوشِك أن يَقرُبَ إلى الشبهة أو تُداخِلُه شُبهَة خفيَّة مَخَافَةَ مَا بِهِ بَأْسٌ.
سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- يقول: "كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشارِ الحلالِ مخافةَ الوقوعِ في الحرامِ". رواه عنه الإمام عبد الرزاق في "المُصنَّف".
قال: "ومِنْ هذا الأصلِ: كانَ بعضُهُم إذا استحقَّ مئةَ درهمٍ.. اقتصرَ على تسعةٍ وتسعينَ، وتركَ الواحدَ حاجزاً بينَه وبينَ النَّارِ؛ لخوفِ الزِّيادةِ". يمكن شيء من هذه الدراهم زاد وزنه قليل، يُخَلِّي واحد للاحتياط بدل أن يحمل المئة كلها يحمل تسعة وتسعين ويُخلِّي واحد. والثاني قال: "بعضُهُم يأخذُ ما يأخذُ بنقصانِ حبَّةٍ ويعطي ما يعطي بزيادةِ حبَّةٍ"، إذا أخذ له وهو يستحقُّ طعاماً يُنقِص منه حبَّة، وإذا هو يعطي أحداً اشترى منه أو دين عليه يزيد حبَّة، ويقول: ما أريد أشتري الويل بحبَّة، (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:1-3]. قالوا: يشتري الويل بحبة! لماذا؟ خلِّي بعد حبة.
حتى كان عندنا السيد محمد عبد المولى من آل طاهر بن حسين، وخرَج إلى السُّوق واشترى مُدّاً من الطعام من البائعين ورجَع، كَالَهُ بمُد عندهم في البيت وَجدَهُ ناقصاً. قال عجيب، هذا إنسان خيِّر ولا يُنقِص! فلمَّا لقِيَهُ قال: يا فلان -هو من البائعين في السوق- اشتريت مِنك مُدّاً ووَجدتُه ناقصاً. قال كيف؟ أنا! أبداً أعطيتك مُدّاً كاملاً. قال: أنا كِلتُه في البيت. قال: أسمع! بيتكم بيت ورع، وأهلك نعرفِهُم وآباءك، عندكم مِكيالان، كيل تُخرِجون وتُعطُون الناس بهما زائداً قليلا، يمكن هو ذا الذي كِلْتَ به، الكيل الثاني مثل الذي عندنا الذي تأخذون من الناس به. رجِع، فوجد كلامه صِدق. قال له: جزاك الله خيراً.
حتى العامِّي كان يعرف بيوتَ الوَرع. قال له لا، الكيل الخاص بي مضبوط، أهلك أهل وَرع، كانوا يأخذون بمكيال ويُخرجون بمكيال ثاني، المكيال الذي يأخذون به صغير جداً يقرُب من مكيال الناس، والمِكيال الذي يُعطون به زائد. فأنت كِلت حقي الذي أعطيتُك بالمِكيال الذي تُخرِجون به، ليس الذي تأخذون به؛ فتنبَّه لهذا. قال: صحيح. فلمّا كالوه بالمكيال الثاني كان سواءً مضبوطا، فكانوا هكذا في ورعهم.
يقول: سيدنا "عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- -يزِنون عنده مِسك لبيت المال، حطَّ يدَهُ على أنفِه لا يريد أن يشُمَّه. قالوا له: ما لَكَ؟- قال: وهل يُنتفَعُ إلَّا بريحِهِ؟!" كيف أنا أشُمَّه قبل المسلمين؟ هذا حقُّ المسلمين! ما لي به حق. قاعد يُغطِّي أنفه حتى لا يشُمَّ المسك الذي لبيت المال. وقام ليلة في الشَّام بردٌ شديد، في أيَّام البَردِ يحتاج إلى الغُسل. قال له الخادم :" نُدفِّئ لك الماء الليلة. فقال له: من أين هذا الماء المَغلي؟ قال: هذا بحَطبِ بيت المال، دفّأتُه بِحَطَب بيت المال. قال: هذا حقُّ الناس، حقُّ المسلمين، ما لي حقّ فيه. قال: يا أمير المؤمنين، إذا اغتسلت بالماء البارد يصبِحُ المُؤمنون بلا خليفة (يعني: ستموت). قال: فما أصنع؟ أنا لا أريد آخذ منها. قال: أُعطِيك طريقة، قال: ما هي؟ قال: نحسِب كم يُكَلِّف الحطب هذا مِن بيتِ المال، ونضع فوقه وزيادة ورُدَّهُ لبيت المال. قال: تمام. فحسَب له أنَّ الحطب يُكلِّف كذا كذا، ومقدار هذا الماء يسخن بكذا وكذا، حطَّ زيادة فوقه، هات دراهم نحُطُّها في بيت المال، واغتسِلْ بالماء الدافئ. فكان هكذا ورَعَهُم عليهم رحمة الله تبارك وتعالى.
ويقول: "وهل يُنتفَعُ إلَّا بريحِهِ؟!" يعني: أن يَتورَّعَ عنِ الزِّينةِ، -أي:الاستِرسَال وَراء مظاهِر الزينة- وأكلِ الشَّهَواتِ؛ خيفةً مِنْ أنْ تجمحَ النَّفْسُ فتدعوَهُ إلى الشَّهَواتِ المحظورةِ". فيَقتَصِر على ما يسَّر الله ولا يُعلِّق نفسهُ بكَثرة الشَّهَوات وإن كانت مُبَاحة، فإذا تراسلت قَوِيَت عليه فيمتَدّ للمكروه ويمتَدّ للحرام.
"ومِنْ ذلكَ تركُ النَّظرِ إلى تجمُّلِ أهلِ الدُّنيا بدنياهم، فإنَّهُ يُحرِّكُ دواعيَ الرَّغبةِ في الدنيا، ولذلكَ قالَ اللهُ تعالى -لأزهد خلقه- (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [طه:131]. وكرَّر في آياته: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ…) [التوبة55]. وهكذا (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ).
ويقول سيّدنا عيسى بنُ مريمَ عليهِ السَّلامُ: "لا تنظروا إلى أموالِ أهلِ الدُّنيا -وفرحَهُم بها وافتخارَهُم بها- فإنَّ بريقَ أموالِهِم يَذهَبُ بحلاوةِ إيمانِكُم". عندكم ما هو أكرم وأجَلّ، فلا تبيعوه برَخيص.
"ولذلكَ قالَ السَّلفُ: "مَنْ رَقَّ ثوبُه.. رَقَّ دينُهُ". يعني: صار همُّه الثوب الرَّقيق ويجلِب له الغالي الرَّقيق ويُبَالِغ في ذلك، ويُذهِب هِمَّته إليه، قال: هذا ما يكون إلَّا ودينَهُ رقيق، دينَهُ ضعيف، لو عِندَه دين قويّ لا يبقى هكذا؛ هِمَّتَه وَرَاء خِرقة. حتى يقول في الحديث من لبس ثوب شهرة في الدنيا كان حقاً على الله أن يذله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
"مَنْ رَقَّ ثوبُه.. رَقَّ دينُهُ". كان ﷺ يَلبَسُ ما وَجَد ويأكُل ما وَجَد، مِن كُلِّ لائقٍ به ﷺ يستعمِل ما وَجَد.
قال: "والحلالُ الطَّلْقُ الطَّيِّبُ: كلُّ حلالٍ انفكَّ عن مثلِ هذه المخافةِ ولم تُوجَدْ فيهِ آفةٌ"؛ فلا يَبقى بعد ذلك إلا ورعُ الصِّدِّيقين، سيُحدِّثُنا عنه ورضي عن الصِّدِّيقين؛ هل بعد هذا ورع؟ أهل الصديقية وهم يَتوَرَّعون، حلال واضِح خالِص ولا فيه شبهة ولا فيه آفة، قال: ما زالوا يُراعون حالهم مع الله، وما لا يُقرِّب إليه لا يُحِّبونه، وما فيه التفات لغير الله أو ما أُوتِيَ به بغير نيّة صالحة لا يُحبِّونه، لهم ورَع خاص أهل الصِّدِّيقيَّة -عليهم رضوان الله- مثل سيّدنا أبو بكر الصِّدِّيق وكِبَار الصَّحابة ومن بَلَغوا رُتبَة الصَّدِّيقيَّة من التَّابعين وتابِعيهم بإحسان عليهم رضوان الله.
الله يُوفِّر حظَّنا مِن رعايَتِه ورعايةِ رسُولِه المُصطفى، ويتولّانا في الظَّاهر ويتولّانا في الخَفا، وأن لا يكِلْنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خَلقه طَرفة عين ولا أقلَّ من ذلك ولا أكثر، ويُثبِتْنا في ديوان أهل الصِّدق معه، ويَهدِنا بِهَديِه، والامتلاء بأنوار تَعظيمِه وجلالِه وكِبريائه وتوحيده، ويجعلنا من الظَّافرين بالتَّمجيد والتَّفريد في مراتب حقيقة التَّوحيد، وأن يُعِيذَنا من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالنا ويُصلِح أحوالنا وأحوال أهلينا وأحوال ذَوينا وأحوال دِيارَنا وأحوال المسلمين، ويُحَوِّل الأحوال إلى أحسَنِها، ويَنظمنا في سِلك أهل الرِّضوان الأكبر، ويُبارِك لنا في ليالينا وأيَّامنا هذه ولِقَاءاتِنا واجتماعاتنا، ويجعلها مذكورة في المَلأ الأعلى بأعلى وأسنى وأشرف ما يذكر به مجالِس ومَجامع محبوبيه والمُقرّبين إليه في الأوّلين والآخرين. وأن يَقِينا الأسواء والأدواء وكُلَّ بَلوى، ويُصلِح السِّر ويُعجِّل بالفرج للمسلمين، والغِياث الشامل الكامل التام، ويَدفَع عنَّا جميع البلايا والرَّزايا في الظواهر والخفايا.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
اللهم صلِّ وسلِّم على سيّدنا مُحمدٍ وعلى آل سيدنا محمد.
أَحْيا وَلَكِنْ حَياتِي عِندَ ذِكْرِ الوِصالْ *** مَتى مَتى في حِمى لَيْلى نَحُطُّ الرِّحالْ
نَنْزِلْ عَلى أُنْسٍ كامِلٍ في ثَخينِ الظِّلالْ *** عَلى هَناءٍ نَشْرَبُ الأَعْذَبَ صافِي الزّلالْ
سَعْفُ الرِّجالِ الَّذِي هُم في الحَقِيقَةِ رِجالْ ***حَيَّا المَنازِلَ وَحَيَّا مَن بِها كانَ حالْ
لا تَذْكُروا القَطيعَةَ لِي وَقَعَ الاتِّصالْ *** مُورِدْ عَلى شَعْبٍ رامَهُ فيهِ مَشْروبُ حالْ
داروا بِهِ الكَأْسَ مِنْ شُرْبِ التَّلاقي حَلالْ *** مَضَتْ لَنا بِهِ لَيالٍ ما كَمِثْلِها لَيالْ
فِيها شَهِدْنا حَبِيبَ القَلْبِ باهِـي الجَمالْ *** نَطْرَبْ إِذا ما سَمِعْنا مِنْهُ لَفْظَةَ تَعالْ
حَضْرَتُهُ جَميلَةٌ وَإِنْ كانَتْ بِوَصْفِ الجَلالْ *** يا لِلَّذِينَ تُحِبّونَ افْهَموا هَذا المَقالْ
مَنْ وَصْفُهُ النَّقْصَ لا يَطْمَعْ بِنَيْلِ الكَمالْ *** الحُكْمُ لِلوَصْفِ لا لِلمَوْصوفِ في كُلِّ حالْ
يا قاصِدينَ الحِمى بالله حُثّوا الجِمالْ *** بالله لا تُكَلِّفوها بالحُمُولِ الثِّقالْ
وَاصِلوا السَّيْرَ في جُنْحِ اللَّيالي الطِّوالْ *** حَتّى تُنِيخوا بِها في رَبْعِ مَوْلى بَلالْ
حَيْثُ العَطاءُ مُنْبَسِطْ وَالجُودُ وَالمَجْدُ حانْ *** يا حَيَّهَا مِنْ مَنازِلْ حَيَّهَا مِنْ مَحالْ
فيها حَيا الجُودُ يُرْذِمْ حَيَّ تِلْكَ السِّبالْ *** دايِمْ وَمُطَّارُها مِنْ فَوْقِهِمْ لا يَزالْ
مَجالٌ في الفَخْرِ واسِعْ حَبَّذا مِنْ مَجالْ *** دَحَقْ عَلى هامَةِ الجَوْزا بِبَطْنِ النِّعالْ
ذا مَجْدٌ طالَتْ غُصونُهْ شو غُصونُهْ طِوالْ *** ذا مَجْدٌ عالٍ وَمَفْخَرْ مُعْتَلى لا يُنالْ
جامِعْ صِفاتِ الشَّرَفْ حايِزْ خِصالِ الكَمالْ *** ما مُرْسَلِ الأُولَهْ مِنْ ذا الرَّسُولِ اتِّصالْ
يا قُرَّةَ العَيْنِ حُبُّكْ وَسْطَ مُهجَتي حالْ *** جُدْ لي بِنَظْرَةٍ إِلى وَجْهِكْ وَلَوْ في الخَيالْ
جُدْ لي بِنَظْرَةٍ إِلى وَجْهِكْ وَلَوْ في الخَيالْ *** وَارْحَمْنِي إِنِّي عَلى بابِكْ عَقَلْتُ الجِمالْ
دايِمْ وَقَلْبِي مَعَكْ مَغْلوبْ ما قَطْ مالْ *** وَالأَبْ لَهُ عَيْنْ بِالرَّحْمَهْ تُراعِي العِيالْ
والحمد لله رب العالمين.
25 صفَر 1447