للاستماع إلى الدرس

الدرس الحادي عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: مواصلة شرح الأصل السادس - ذكر الله - (2)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر الإثنين 24 صفر 1447هـ

يوضح في الدرس كيف يرتقي ذكر الله من لسانٍ يلهج إلى قلبٍ يشهد، ويشرح مراتب السير: إيمان ثم علم ثم ذوق، ويجيب عن سؤال التفضيل بين التلاوة والذكر، مع إشاراتٍ لآداب الدوام على الذكر في جميع الأحوال، وما هو اسم الله الأعظم.

 

نص الدرس المكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

وبِسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

"وَاعْلَمْ: أَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ يَشْعُرُ بِهِ قَلْبُكَ.. تَسْمَعَهُ الْحَفَظَة؛ فَإِنَّ شُعُورَهُمْ يُقَارِنُ شُعُورَكَ، وَفِيهِ شِرْكٌ خَفِيٌّ،حَتَّى إِذَا غَابَ ذِكْرُكَ عَنْ شُعُورِكَ بِذَهَابِكَ فِي الْمَذْكُورِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَيَغِيبُ ذِكْرُكَ عَنْ شُعُورِ الْحَفَظَة، وما دَامَ الْقَلْبُ يَشْعُرُ بِالذِّكْرِ وَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.. فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْ شِرْكٍ خَفِيٍّ، حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَغْرِقًا بِالْوَاحِدِ الْحَقِّ، فَذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ. 

وكذلك القول في المعرفة؛ فمن طلب المعرفة للمعرفة.. فقد قال بالثّاني، ومن وجدها كأنّه لا يجدُها، بل يجدُ المعروف بها.. فهو الذي استمكن من حقيقة الوصال، وحلَّ بحبوحة حظيرة القدس".

ما شاء الله لا قوة إلا بالله- الحمد لله عظيم النّوال، جزيل الإفضال، جُوده جارٍ بكلّ حال، لا إله إلا هو الكبير المُتعال، شرَّفنا وكرَّمنا ببِعثة خاتم الإنباء والإرسال، جامع الكمَال ومُفيد النّوال، صلى الله وسلّم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، وعلى مَن والاهم واتّبعهم ومضى على ذلك المنوال على مدى الأيّام واللّيال، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل القرب والوصول والإيصال، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

ذكر لنا الشّيخ حديث أبي يَعْلَى في مسنده والبيهقي في شُعَبه: "يَفْضُلُ الذّكر الخفيّ على الذّكر الذي تَسمَعُه الحَفَظَة سَبْعِينَ ضِعْفًا"؛ وبهذا نعلم أنّ المُراد بالذّكر الخفيّ في هذا الحديث ليس الذي يخفى عن النّاس، وليس الذي يخفى عن جليسك، ولكن الذي يخفى عن الحفظة؛ والحفظة الموكّلون بكتابة أعمالنا وما يصدر منّا غير رقيب وعتيد، رقيب وعتيد يكتبان الحسنات والسّيئات، وغيرهما من الملائكة يتعاقبُون فيكم ملائكة باللّيل وملائكة بالنهار، ومع كلّ فرد منّا عشرة يُرافقونه باللّيل وعشرة يرافقونه بالنّهار، يجتمعون في صلاة الصبح فيصعد ملائكة اللّيل ويبقى ملائكة النّهار، وفي صلاة العصر فيصعد ملائكة النّهار وتبقى ملائكة اللّيل، وهكذا؛ وهؤلاء الحفظة لهم شُعور بما يجري على ظاهرك وعلى باطنك وما يفيض في قلبك، فلهم شعور بذلك، ولكن الذّكر الخفيّ ما لم تسمعه الحفظة.

 قال: "وكُلَّ ذِكْرٍ يَشْعُرُ بِهِ قَلْبُكَ.. تَسْمَعَهُ الْحَفَظَةُ"، كلّ الذي جعل الله لهم سبحانه اطّلاع على النيّات، هذا يكتبون النّياّت ما تَنوي وما تَعزم عليه، فالأمر الحاضر في قلبك مُنكشف لهم، ولكن ما في باطن القلب وما في الرّوح وفي سرّك، هذا يبقى بينك وبين الرّحمن -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

قال: "حَتَّى إِذَا غَابَ ذِكْرُكَ عَنْ شُعُورِكَ"، أنت، "بِذَهَابِكَ فِي الْمَذْكُورِ بِالْكُلِّيَّةِ"، كما ذكر ما يسمّى بالفناء، قال: "فَيَغِيبُ ذِكْرُكَ عَنْ شُعُورِ الْحَفَظَةِ"، فما يدرون ما حقيقة ما بينك وبين المذكور -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، وهذا الذي يتولّى هو جزاؤه -سبحانه وتعالى- وما يدخل في صُحف الملائكة وما يكتبون لكم من الحسنات، فهذا شأنه بينك وبينه -جلّ جلاله-، أجلّ وأكبر ممّا تقيده الملائكة. 

قال: "فيغيب ذكرك عن شعور الحفظة" إذا غاب عن شعورك أنت، غاب عن شعورك بذهابك في المذكور -جلّ جلاله-، "وما دَامَ الْقَلْبُ يَشْعُرُ بِالذِّكْرِ وَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ" قال: "فهو" من وجه "مُعرض عن" المذكور إلى الذّكر ولم يشعر به، وأمّا المقصود الذّكر الذي يُوصلك إلى المذكور وتفنى به، فتغيب عن الذكر وتغيب عن فنائك أيضًا في الذكر كما سمعت فيما مضى، قال: وهذا "وَغَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْ شِرْكٍ خَفِيٍّ، حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَغْرِقًا بِالْوَاحِدِ الْحَقِّ"، كليّة، "فَذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ"، وأهل حقيقة التّوحيد هذه هم الذين يعدِل النَّفَسُ منهم بعمل الإنس والجنّ من غير أهل حقيقة التّوحيد، النَّفَسُ منهم يعدل عمل الإنس والجن عبر الثقلين لِحَالِهم مع الله -تبارك وتعالى- وشأنهم. 

وسمعتَ الوُصول إلى ذلك بالمُواظبة على الذّكر باللّسان والإرتقاء به إلى ذكر القلب بالتّكلّف بداية، ثم يَرسخ الذّكر ويسبق إلى القلب، ثم يأتي بعد ذلك الغَيبة عما سِواك بالفناء في المذكور -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

 

وإن رُمت أن تُحظــى بقلب منــورٍ *** نقيٍ عن الأغيار فاعكف على الذكر

وثابر عليه في الظّلام وفي الضياء *** وفي كــل حــال باللّسان وبــالسّـــرّ

فــإنـــك إن لازمــتــه بتـــوجــــــه *** بــدا لـك نــور ليس كالشمس والبدر

ولــكنـــــه نــــــور مـــن الله وارد *** أتــى ذكره فــي سورة النّور فاستقرِ

وأشغـــل القلــب ذكــرًا لا يُفارقـــه *** فإنّمــا الذّكــر كــالسّلطان فـي القُرَبِ

 

القُرَب والطاعات المُوصلة إلى الله سُلطانها الذّكر، فإنّما الذّكر كالسّلطان في القُرَبِ ، فهو في أنواع القرب، ويقول في الذّكر لله تعالى: 

  • بقلبٍ حاضر. 
  • وأدبٍ وافِر. 
  • وإقبالٍ صادق. 
  • وتوجّهٍ خارق.

فمَن لازم الذّكر بهذه الأوصاف أضمحلَّت عنه الحُجُب وانكشفت عنه السّتائر وبلغ إلى مراتب أهل القُرب، فالله يوفّر حظّنا.

قال: "وكذلك القول في المعرفة، فمن طلب المعرفة للمعرفة"؛ فإذًا مقصوده المعرفة غير المعرُوف، والمعرِفة شيء والمعروف شيء آخر، هو مثل الذي يطلب الذّكر للذّكر فيبقى مع الذّكر ما يصل إلى المذكور، حتّى يطلب الذّكر من أجل المذكور فقط؛ فيغيب عن ذكره في المذكور، كذلك المعرفة بالله -سبحانه وتعالى- تُقصد من أجل الغَيبة في المعروف -سبحانه وتعالى-.

 "فمن طلب المعرفة للمعرفة فقد قال بالثّاني"، وضع واحد ثاني مقصود مع الله، وهو المعرفة، إنّما تراد المعرفة من أجل تَضمحلّ أنت وتَفنى في المعروف -سبحانه وتعالى-، فليست المعرفة مقصودة لذاتها ولكن لِتَغيب بها في المذكور -جلّ جلاله-، وتغيب عمّن سواه، إذًا فلا يكون لك مقصود سواه كائنًا ما كان، فمن طلب المعرفة للمعرفة فقد قال بالثّاني، ولا تقدَّس مّن يقول بثانٍ، ما تطهر من عنده ثاني، لا يوجد إلّا واحد، كَوْنٌ واحد لواحد -جل جلاله وتعالى في علاه-، فتفنى واحديّتك الحادثة المنحصرة في واحديّته الأزلية الداّئمة الباقية المُحيطة. 

وبعد ذلك، وراء الاستغراق في الواحديّة مواهب في الغَيبة عنها استغراقًا بالأحديّة، والمُستغرق بالواحديّة له مطالعات الصّفات والأسماء، لكن المستغرق بالأحديّة ما عاد بقِي له متّسع إنّما استغراقه بالذّات، فيَسْتَغْرِق بالذّات الأحد -جلّ جلاله- 

  • (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1].
  • (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ) [آل عمران:163]. 

وأهل الفناء والغَيبَة في الواحديّة درجات، وأهل الأحديّة كذلك درجات ومراتب، والكلّ من المقرّبين والصّدّيقين يحُومون حول بحور الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- في هذه المعارف والمدارج، والأنبياء يحومون حول بحر المصطفى ﷺ، والمخصوص بحقائق المعرفة السّامية الرّاقية هو عليه الصلاة والسلام؛ فما تعرَّف الله إلى شيء من كائناته وخلقه كما تعرَّف إلى محمّد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، فهو أعظم الخلق عبوديّة وعبديّة لله تبارك وتعالى.  

  • (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) [الإسراء:1]. 
  • (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) [النجم:10]. 
  • (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ) [الفرقان:1].

صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومَن سار في دربه.

 

قال: "ومن وجدها كأنّه لا يجدُها، بل يجدُ المعروف بها.. فهو الذي استمكن من حقيقة الوِصال"، في فضل من ذي الجلال، "وحلَّ بحبوحة حظيرة القدس"، الحظيرة: الدار المحظورة، الممنوعة على غير أهلها، فلا يدخل حظيرة القُدس إلا مَن تقدّس عن الثّاني، فهم الذين يدخلون حظيرة القُدس.

وحظيرة القُدس: سُمّيت بذلك لكونِها لا يدخلها إلا أهل التقديس، وسُمّيت حظيرة: لأنها محظورة على غير أهلها، ما يدخلها سِوَاهم، وأهل حظيرة القدس: هم الذين يجتمعون في مقعد الصّدق. 

  • (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:54-55]، عنده.
  • وَالَّذِينَ (عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:19-20]، عند ربّهم -جلّ جلاله-.

وهكذا كان الشيخ محمّد المجذوب، غاب عن أهلُه وأصحابه مدّة، أين الشيخ؟ أين الشيخ؟ وفي يوم كانوا جالسين مجموعة من أصحابه، إذا وَرَقة تُلقى عليهم من فوق، فتحوها إذا: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد المجذوب إلى أخوانه في الله، صدرت من حظيرة القدس، وقال: إنّه بقي لي كذا في مطالعة كذا وأعود إليكم في يوم كذا"؛ حتى عاد اليهم بعد ذلك، لاإله إلا الله!

 

وقال الحبيب عبد الله الشاطري: 

 

طَابَ لِي فِي حَضَائِرِ قُدْسِ مَوْلَايَ شُرْبِي *** فَانْفَتَحَ بَابِيَ المُغْلَقُ وسَامَرْتُ حِبّي -لا إله إلا الله-، 

اللّهمّ لا تحرمنا خير ما عندك لشرّ ما عِندنا، ولا عَيش إلّا عيش المُحبّين المخلَصين العارفين.

 

قال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

"فإن قلت: فلم اختصت هذه المكاشفات بحال الفناء؟ 

 

فاعلم: أن هذه قصَّةٌ يطول فيها نظر الناظر، ولكن إذا تأمّلت.. لم تَقْصُر عن أن تُدركَ كون الحواسِّ وعوارض الّنفس وشهواتها جاذبةً إلى هذا العالم المحسوس؛ عالم الزُّور والغُرور، ولذلك ينكشف صريح الحقّ بالموت؛ لبُطلان سلطان الحواس والخيالات الموَلِّيَةِ بوجه القلب إلى عالم السُّفل. 

 

فإن قَصُر عنك سلطان الحواسّ بالنّوم.. طُولِعْتَ بشيء من الغيب على قدر استعدادك وقبولك وهمّتك، ولكن بمثال يحتاج إلى التعّبير، وما عندي أنك لم تُصادف من نفسك رؤيا صادقة اطّلعت بها على أمر مستقبل لكن بالمثال؛ إذ الخيال لا يفتُر في النوم وإن رَكَدَت الحواس، فلذلك يضعف الاطلاع ولا يخلو عن شوب المثال. 

 

وأمّا الفناء: فعِبارة عن حالة تركد فيها الحواس ولا تشتغل، ويسكن فيها الخيال فلا يُشوّش، فإن بقِيَت في الخيال بقيّة مغلوبة.. لم تُؤثر إلا في محاكاة ما يتجلّى من عالم القدس، حتى يتمثّل الأنبياء والملائكة والأرواح المقدّسة في قوالب الخيال. 

 

فهذه أمور نبّهتُك عليها؛ لتكون متشوّفا إلى أن تصير من أهل الذوق لها، فإن لم تكن.. فمن أهل العلم بها، فإن لم تكن.. فمن أهل الإيمان بها، و (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍۚ) [المجادلة:11].

 

وإيّاك أن تكون من المنكرين لها؛ فتلقى العذاب الشّديد إذا كُوشفت بالحق عند سكرات الموت الذي كنت منه تحيد، وقيل لك: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22]".

 

الله أكبر!

 

فإذا تساءلت وخَطَرَ على بالك الإدراك للحقائق هذه، ومشاهدة هذه العجائب، لماذا لا يكون إلّا في حال الفَناء؟ ترتيب الخلَّاق المُكوِّن وحِكمته في تركيب الكائنات -سبحانه وتعالى-، قِصّة يطول النّظر فيها، لكن قَرِّب إلى فهمك شيء من المعنى، أنت لا "تَقصُر أنْ تُدرِك كون الحواسّ وعوارض النّفْس وشهواتها جاذِبَة إلى العالم المحسوس" المادّي الصُّورِي؛ وهو عالم الزّور والغرور، مُجرّد ظل للروح؛ فلذلك لَمّا يخِفُّ اتصالك بهذا العالَم المحسوس؛ تَبدو لك عجائب من خصائص هذه الرّوح، ومن الاتّصال بالعالَم الأعلى، ولذلك تَجِد في النوم انكشاف كثير من الحقائق، وتَجِد في النوم في خلال دقائق انتقالك من مكان لمكان، وسفرك من بلاد إلى بلاد، وربّما عَرَجْتَ إلى السماء، وربما في أوقاتٍ يسيرة، هذا ما يحصل في عالَم الحِسّ، لكنّ الروح شاهدت هذا لَمّا خَفَّت علاقتها بالحسِّيات والصُّوَر، استطاعت أن تنفُذ إلى هذه الحدود يقول: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) [الزمر:42]؛ فإذا نام الإنسان فأمّا الرّوح الحيواني هذا يبقى فيه، لكن الرّوح الأمْري هذا ينفصل عن هذا الجسد، ومنه تأتي المرائي والمُشاهدات، ومنه قد يُطاِلع أشياء ستكون أو ستحدث، ولكن في الغالب بمِثال؛ تحتاج إلى تأويل.

إنما يُبادَى بصريح الحقّ خاصّة من الخاصّة، و إلّا في الحقيقة كيف؟ وإلّا الأمور تُعرَض في قوالب تحتاج إلى التّأويل، فالشّاهد أنّه لمّا خَفَّت علاقة الرّوح بالجسد بواسطة النّوم، استطاعت الرّوح أن ترى ما لا ترى في وقت انشغالها بالجسد. إذًا فلا تنكشف هذه الحقائق إلا بعد انقطاع الرّوح عن العلائق التي تجذبها إلى أسفل.

يقول: "شهواتها"، تجذبها، "إلى هذا العالم المحسوس، عالم الزّور والغرور"؛ فلذلك تجد عند النّوم أثر، ولكن عند الموت، إذا جاء الموت السّتائر والحجب التي كانت تمنعها انتهت، وعلاقة هذه الرّوح بهذا الجسد والعالَم الحسِّي والصُّوري والمادّي؛ لذا عند الموت كلٌّ يؤمن حتّى الكافر، كلٌّ يَعلَم صِدق ما قال الله وقال رسوله، تنكشف الحقائق لهم. 

قال: لأنه بَطَل عنها "سلطان الحواس والخيالات الموَلِّيَةِ بوجه القلب إلى عالم السُّفل"، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) [البقرة:148]، فإذا تَولَّت بِوِجْهَاتها إلى عالم السُّفل، بَقِي في الأسفل وما ارْتقى إلى الأعلى، إلّا أن تتوجَّه، التوجّه يصير: 

تَوَجَّه حيثُ شِئْتَ فَأَنْتَ مِمَّا *** لَهُ وُجِّهْتَ فَاخْتَر لِلْمَلِيحِ

 

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) [البقرة:148] 

 

وأنت آدمي جُعِلت، لا أنت ملك، ولا أنت حيوان، أنت في الوسط: 

  • إن توجّهت إلى فوق؛ التَحَقتَ بأُفُقِ الملائكة وصاروا هم أصحابك وهم أهل مُرافقتك ومُقارنتك، وعِشت بينهم فتترقّى إلى العالم الأعلى. 
  • وإن تَوجَّهت إلى تحت، ومُقتضى الحيوانيّة التي فيك نَزَلْت؛ تصير كالأنعام بل أضلّ -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

 فلهذا يقول: عند الموت ينكشف الغطاء للجميع، يقول: "فإن قَصُر عنك سلطان الحواس بالنوم.. طُولِعْتَ بشيء من الغيب على قدر استعدادك وقبُولك وهمّتك، ولكن بمثال يحتاج إلى التعبير" وهكذا.

قال قائلهم لِمُؤوِّل الرّؤيا ابن سيرين: إني رأيتُ أنّي أُأَذِّن، قال: تَحُجّ، قال الثّاني: إنّي رأيت أنّي أُأَذِّن، قال: أنت سارق، أمسكوه، هو الرؤيا ظاهرها واحدة، ولكن الرجل مُؤوِّل يُفرِّق بين الأمور، وقال: 

  • شاهِدُ الأوّل (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) [الحج:27]، 
  • وشاهِدُ الثاني: (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) [يوسف:70]، فَفَرْق بين هذا وهذا، وإن كانت صورة الرؤيا واحدة.

وجاءه آخر يقول: إن رجل تعرُض له رؤيا أنّه يكسر البيضة ويأخذ البَيَاض ويترُك الصَّفار، يُريد منّك التّأويل، قال: هذه ما نُؤوِّلها إلّا له صاحبها بنفسه، قال: سأبلّغه، قال له: لا، قال: أنا، أنت صاحب الرؤيا! متأكد أنت! قال: نعم. قال: ادعوا الشّرطي تعال امْسَكُوه هذا، ماذا به؟، قال: ذا يَنْبُش القبور ويأخذ الأكفان، قال: استغفرالله وأتوب إليه، قال: تُب؛ وتوَّبه، وكان كذلك هو يعمل، وهذه الرّؤيا فيها تأويل، بيضة يكسرها ويأخذ البياض ويترك الأصفر، لكن صاحب الرّؤيا عرَف يُعبِّرها ويؤوّلها، فهي بنوع من التّأويل تأتي فيها.

 ومنه ما جاء في القرآن من رؤيا الملك، (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) [يوسف:43]، يحلّ محلّها سبع يابسات. ولمّا عُرِضَت على يوسف: ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ) -وزاد أيضًا وراء الرؤيا- (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف:47-49] هذه لا يوجد لها خبر في الرّؤيا لكنّه وزادها لأنه بما عَرَف من سنة الله تعالى أنه بعد الشدة يجيء الفرج والمَخرج، وكان الأمر كما أوَّل -عليه صلوات الله تعالى-.

وهكذا يقول: "إِذِ الخيال لا يفتُر في النّوم وإن رَكَدت الحواس، فلذلك يضعُف الاطّلاع ولا يخلو عن شُوب المثال، أما الفَناء" -فهذا أعظم من مسألة النوم-" فعبارة عن حالة تركد فيها الحواس" -ولا يكون لها تأثير على الروح من قريب ولا من بعيد" ويسكن فيها الخيال فلا يُشوَّش، فإن بقيَت في الخيال بقية" -وصارت- "مغلوبة لم تؤثر إلا في مُحاكاة ما يتجلّى من عالم القدس حتى يتمثّل الأنبياء والملائكة والأرواح المقدسة في قوالب الخيال"، ويَمْثلُون له بأنواع من الصّوَر، ولكن إذا بَعُد عن الخيال يَرَاهم على ما هم عليه، على نفس هَيْئاتهم، كما كان يحكي ﷺ عن ليلة الإسراء والمعراج ويصِفهم، يصِف ألوانهم ويصِف أشكالهم عندما لقيَهم في ليلة الإسراء والمعراج ﷺ.

يقول: "فهذه أمور نبهتك عليها لتكون متشوفاً" -متشوقًا- 

  • "إلى أن تصير من أهل الذوق لها". ما هو تَسْمُر بها هكذا، وتمُرّ على ذهنك، وتقول ما شاء الله وتذهب، قال: أريدك تتعلّق وتتقرّب وتتخلّق؛ حتى تتحقّق وتدخل مع أهل الذوق. 
  • "فإن لم تكن" -أقل شيء- "فمِن أهل العلم بها"؛ حتّى تُكرَم بعد العلم بالذوق. 
  • "فإن لم تكن" -فأقل درجة- "فمِن أهل الإيمان بها" والتسليم لأهلها. 

كن عالمًا أو متعلّمًا أو مُحِبًّا أو مستمِعًا، ولا تكن الخامس فَتَهْلَكْ، وفَرْق بين أهل الإيمان بها، وبين أهل العلم بها، وفرق بين أهل العِلم بها وأهل الذّوق لها؛ ولكن الذي لا ذاق ولا علِم ولا آمن ومازال يُنكر، هذا مِن أبعد الناس عن أن تنكشف له حقيقة أو أن يَقرُب من خِيار الخليقة، بل بإنكاره يزداد بُعدًا عن الله وعن إدراك الحقيقة وعن مواطن القُرب كلها -والعياذ بالله تعالى-. 

قال: "(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، في الإيمان والتصديق، ولهذا كان يقول الإمام الجنيد بن محمد في بغداد: التّصديق بعِلْمنا هذا وِلاية، وِلاية صُغرى، التّسليم والتّصديق هو نعمة. أمّا الإنكار هذا مشكلة (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) [يونس:39]، فيشتدّ الحِجاب عليهم والظّلمة والبُعد، لا ذَاقوا ولا عَلِموا ولا صَدَّقوا.

وإيّاك أن تكون من المنكرين لها؛ فتلقى العذاب الشّديد إذا كُوشفت بالحق عند سكرات الموت الذي كنت منه تحيد، وقيل لك: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22]".

 

 "وإياك أن تكون من المنكرين لها؛ فتلقى العذاب الشديد إذا كُوشِفتَ بالحقّ عند سكرات الموت الذي كنت منه تحيد (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:19-22]"، شوف انظر! ما الذي كان يقول للأنبياء؟ ما الذي كان يقول للأولياء؟ انظر ما قدّامك؟ لهذا عند البَعث يقول الكفّار يوم يخرجون من قبورهم: لما ما بَقِينا في الرَّقدة؟ يقصدون الصّعقة ما بين النّفختين، ما عاد رجعنا وقُمْنا لمشاكل الحساب، (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا)، تُناديهم الملائكة يقولون: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، الكلام كلام الأنبياء والرُّسل، اترُكُوا الثاني الذي اغترّيتم به من كلام زيد وعمرو يذهب، انظروا كلام الأنبياء والرّسل (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أين طوائفكم وجماعاتكم وقَرْوَلاتكم وفلسفاتكم، ذهبت؟!  العِلميّين والعَلمانيّين أين هم؟ (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) الخبر كلام الأنبياء وكلام الرُّسل، (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)  [يس:52]، صلوات الله وسلامه عليهم. 

وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"واعلم أن الإيمان والعلم والذّوق ثلاث درجات متباعدة؛ فإنّ العِنِّينَ مثلًا يُتصوّر أن يصدِّق بوجود شهوة الوِقاع لغيره؛ بأن يقبل ذلك ممن يُحسن ظنه به ولا يتهمه بالكذب، وذلك إيمان.

 ويتصور أن يعلم بالبرهان وجوده لغيره، وهو علمٌ، ومأخذه القياس؛ إذ ينظر إلى شهوته للطعام مثلاً، فيَقيس بها شهوة الوقاع، وكل ذلك بعيد عن إدراك حقيقة الشهوة بوجودها له. 

وكذلك المرض، يعرفه المعافى الصحيح ويؤمن به، ويعرفه الطبيب الصحيح بالبرهان، وهو علمٌ، وما لم يَصِرْ مريضًا.. لم يحصل له بالذوق. 

فكذلك القول في الفناء في التّوحيد؛ فالذّوق مشاهدة، والعِلْم قياس، والإيمان قبول بحُسن الظّنّ مع الانفكاك عن التهمة، فاجتهد أن تصير من أهل المشاهدة؛ فليس الخبر كالمُعاينة".

لا إله إلا الله!

يقول: عندك إيمان وعلم وذوق. 

واجْعَلْ العِلْمَ مُقْتَدَانَا بِحُكْمِ الذَّوْقِ***فِي فَهْمِ سِرّ مَعْنَى المَعِيَّة، يا الله!

يقول: "الإيمان"، تصديق، "والعلم"، بُرهان ومعرفة زائدة، "والذّوق"، وراء ذلك، يقول: فهي درجات مُتَبَاعِدة، ثلاث، وضرب مثل ب"العِنِّين": الذي فَقد شهوة الجِماع، عِنِّين لا يوجد عنده هذه الشهوة من أصلها وما يعرفها، بعد ذلك يقول: "يُتَصَوّر"، يمكن، "أن يُصَدّق بوُجود شهوة الوِقاع لغيره، يَقْبَل ذلك مِمَّن يُحسن ظنّه به ولا يُتّهمه بالكذب" 

يقول: أن الإنسان يشتهي الرّجل وِقَاع المرأة ويُعدّ ذلك من عظائم لذائذ الحسّ والدّنيا وما إلى ذلك، هذا فاقد الشّهوة لا يوجد عنده؛ لكنّه يُصدّق، لأنّ الذي يُكلّمه رجل موثوق، صحيح أنا ما أرى ما هو هذا، مَالَهُ معنى هذا الكلام كلّه، لكن ما دام يقولون كذا، لابدّ عندهم شيء، يُحسّون شيء، يَذُوقُون شيء، ومثل ذلك؛ لذا لمّا كتب بعضهم -وكان عِنِّين- لصاحبه يقول له: اشرح لي لذّة الوِقاع، كتب له، قال: كنت أظنّك عِنّين فقط، وإذا بك عِنِّين وأحمق، لأنّ هذه أمور ذوقيّة، طريقك بها التّصديق وانتهت مسألتك، أنت مِن أين نجيء لك بذوقها وأنت فاقد الأصل؟

فمِثل هذا المثال، قال: "يُتصور أن يعلم بالبرهان وجوده لغيره" كذلك شؤون المعارف والأذواق هذه، موجودة لأهلها، "ومأخذه القياس" هو ينظر مثلاً -الِعنِّين هذا- إلى شهوة الطعام ويرى لها لذّة، يقول هذه كذلك من الشّهوات لها لذّة، يقيس بها شهوة الوِقاع، ولكنّ الفَرق ما يقدر يعرفه لأنّه ما وصل إلى الذوق. 

قال: "وكذلك المرض" الإنسان "المُعافى يُؤمن" بالمرَض، هو ما هو مريض ولكن يؤمن المَريض ويُصدّق، الطبيب يعرف من المرض ما لا يعرفه هذا المُصدق، عالم بالمَرض، عنده علم بالمرض، الطبيب  العلّة التي أُصيب بها المريض، عنده بالمرض علم زائد على مجرد التّصديق، ما هو مصدّق أن هذا مريض فقط، مصدق ويعلم أسبابها وِمقدارها وكيفيّتها وما تفعل في الجسد وكيفيّة مُعالجتها، هذا عنده علم، لكن إذا مرض هو يَذوقه الحين، يَذوق المرض صدق، أوّل مصدّق، وبعدين عالم، لكن إذا نازله المرض يصير ذائق، يرى المرض صحيح، ومهما كان عالم بالمرض وما جرى عليه، ما يكون حاله مثل مَن ذاق المرض، الذي ذاقه شيء ثاني. 

وهكذا ولذا يقول: 

لَوْ كِلْتَ أَلْفَيْ رَطْل خَمْر لَمْ تَكُن *** لِتَصِيرَ نَشْوَانًا إِذَا لَمْ تَشْرَبِ 

قال: حتى إن  كِلْت ألفين رطل خمر، كِلْتها بس كلتها، ما تصير نَشوان وما تصير سَكران، إلّا إذا شَرِبت؛ وكذلك هذه الحقائق، إذا وَقَعْت فيها وذُقتها تعرف حقائقها ومعانيها ما لا تعرفه بمُجرّد العلم، وبالعلم تعرف ما لا تعرفه بمُجرّد التّصديق. 

يقول: "فكذلك القول  في الفناء في التّوحيد؛ فالذّوق مُشاهدة، والعِلْم قِياس، والإيمان قَبول بحُسن الظّنّ مع الانفكاك عن التّهمة، فاجتهد أن تصير من أهل المشاهدة؛ فليس الخبر كالمُعاينة"، وإن لا يوجد فأقلّ شيء تَعْلَم بها، وعَجَزْت فصدّق. 

وَإِذَا لَمْ تَرَ الهِلَالَ فَسَلِّمْ *** لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالأَبْصَارِ 

فلا يفوتَك التّصديق. 

  • فإذا لم يَفُتْك التّصديق، لم يفُتك إمّا نفحة من نَفحات تُلحِقك بهم، أو تدخل في شفاعتهم وتقرب منهم بإيمانك بعلمهم ومحبّتهم، وهذا أقل شيء. 
  • وأمّا لا ذوق ولا علم ولا تصديق، تذهب عند الفريق الثاني هناك، ولا عاد تَرَاهُم هؤلاء ولا ترى وجوههم في البرزخ ولا في الآخرة، ما عاد تراهم، تذهب مع الفريق الثاني المكذّبين -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فلا أقلّ من التّسليم لأهلَها والتّصديق بذلك. 

 

وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"فإن قُلتَ: لقد عظّمت أمر الذكر، فهل هو أفضل أم قراءة القرآن؟ 

فاعلم: أنّ قِراءة القرآن أفضل للخلق كلّهم إلا للذّاهب إلى اللّه، فهو أفضل للذّاهب إلى الله في جميع أحوال بدايته، وبعض أحواله في نهايته؛ فإنّ القرآن هو المشتمل على صُنُوف المعارف والأحوال والإرشاد للطريق.

فما دام العبد مُفتقرًا إلى تهذيب الأخلاق وتحصيل المعارف.. فالقرآن أَوْلى به، فإن جاوز ذلك واسْتَولى الذّكر على قلبه؛ بحيث يُرتجى له أن يُفْضِيَ به ذلك إلى الاستغراق.. فمُداومة الذّكر أَوْلى به؛ فإنّ القرآن يُجاذب خاطره، ويسرح به في رياض الجنّة، والمريد الذّاهب إلى الله تعالى لا ينبغي أن يلتفت إلى الجنة ورياضها، بل ينبغي أن يجعل همّه همًا واحدًا، وذِكره ذكرًا واحدًا؛ حتى يذوق درجة الفناء والاستغراق، ولذلك قال الله -عزّ وجلّ-: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45]. 

وكذلك مَن ينتهي إلى درجة الاستغراق ولا يُدَاوم ولا يثبت عليه، فإذا رُدَّ إلى نفسه.. فقد تنفعه تلاوة القرآن، وهذه حالة نادرة عزيزة؛ كالكبريت الأحمر يُتحدّث به ولا يوجد. 

فتكون تلاوة القرآن أفضل مطلقًا؛ لأنه أفضل في كلّ حال، إلّا في حال مَن شغله المتكلّم عن الكلام؛ إذْ لُبابُ القرآن معرفة المتكلّم بالقرآن، ومعرفة جماله والاستغراق به، والقرآن سائق إليه وهادٍ نحوه، ومَن أشرف على المَقصد.. لم يلتفت إلى الطريق".

القرآن مع كونه من أنواع الذكر لله -تبارك وتعالى- ولكن يتحدّث عن الذّكر الذي يجمع على الحقّ حتى يغيب الذّاكر عن شعوره وعن ذِكره وعن فنائه في المذكور -جلّ جلاله وتعالى في علاه-. 

 

يقول: عظَّمْتُم الذّكر هذا، ورفعُه لأهله إلى الدّرجات العُلى، فهل هو أفضل أم تلاوة القرآن؟ 

قال: تلاوة "القرآن أفضل للخلق كلّهم" وأفضل في أكثر الأحوال، لأنّه من أعظم الذّكر كما تقدّم معنا في الكلام؛ لكن في حالة الارتقاء الآن إلى الخروج عن الشّعور بالكائنات إلى الفَنَاء في المُكوّن -سبحانه وتعالى- في هذه الحالة يحتاج أن يتوقّف عن كلّ شيء إلّا عن مطالعة اسمه -سبحانه وتعالى- الأعظم؛ ثم ليَغِيب بذلك عن مُطالعته وعن ذكره فعند إشرافه على حال الفناء يحتاج إلى ذكر اسم الجلالة الله الله الله الله، ويكون مشتغلاً به. 

قال: ثمّ في نهايته إذا تمّ وصوله إلى حظيرة القدس، فيصير القرآن هو الأفضل له، لأن كل آية منه بل كل حرف يجمعه على الحقّ جمعًا ويُشاهد أنوار المتكلّم في كلامه -سبحانه وتعالى-، ولهذا كان يقول سيدنا جعفر الصّادق: إنّ الله تجلّى لِخَلْقِه في كلامه، ولكنّهم لا يشعرون، أولا يُبصرون؛ الله تجلّى لِخَلْقِه في كلامه.

يقول: "فما دام العبد مفتقراً إلى تهذيب الأخلاق وتحصيل المعارف، فالقرآن أولى به"؛ فإذا أشرف على حالة الاستغراق والفناء، فيَحتاج مُداومة الذكر، حتى لا يذهب خاطره إلى قِصص الأمم السّابقة وأخبار الآخرة وما إلى ذلك، فإنّه الآن يحتاج إلى مُساعدة لِيَدخل دائرة الفناء في الله تعالى إلى حظيرة القدس فَيَحتَاج إلى أن يستغرق بالذّكر، ومن هنا جاء: "أفضل ما قُلْتُ أنا والنّبِيّون من قَبْلي: لا إله إلا الله"، يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال: "فمُداومة الذكر أولى به؛ فإن القرآن يجاذب خاطره، ويسرح به في رياض الجنة، والمريد الذاهب إلى الله تعالى" -ماعاد يتعلق بشيء غير الله لا في الدنيا ولا في الآخرة- "يجعل همّه همًا واحدًا، وذكره ذكرًا واحدًا؛ حتّى" -يُدرك- "درجة الفناء والاستغراق، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45]."، يقول جلّ جلاله؛ 

فإذا انتهى "إلى درجة الاستغراق ولا يُدَاوم ولا يثبت عليه، فإذا رُدَّ إلى نفسه.."؛ فيحتاج إلى تلاوة القرآن، "وهذه حالة نادرة عزيزة؛ كالكبريت الأحمر يُتحدّث به ولا يوجد؛ فتكون تلاوة القرآن أفضل مطلقاً، لأنّه أفضل في كلّ حال إلّا في حال مَن شغله المتكلّم عن الكلام" ولم يصل بعد إلى التحقق بالفناء، فإذا وصل إلى التحقق بالفناء فلا شيء يجمعه مثل كلام الله -سبحانه وتعالى-، "إذْ لُبابُ القرآن معرفة المتكلّم بالقرآن"

لذلك يقول: "مَن شغله المُتكلّم عن الكلام إذْ لُبابُ القرآن معرفة المتكلّم بالقرآن، ومعرفة جماله والاستغراق به، والقرآن سائق إليه وهادٍ نحوه ومَن أشرف على المقصد لم يلتفت إلى الطريق"، ثمّ يرجع في جمعيّة على الله -تعالى- بأيّ شيء كان: بالأذكار، بالقرآن، بالصدقات، بأنواع الصّالحات، كل شيء يجمعه على الله تعالى بعد تمكُّنه ونَيْله النّصيب من معاني هذا الفناء في الله -سبحانه وتعالى-.

 

وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 

"فإن قلت: فأيّ الأذكار أفضل؟ 

فاعلم: أنّ الأفضل -كما ذكرناه- استيلاء المذكور على القلب، وهو شيء واحد لا كثرة فيه حتّى تختار أفضله، وذلك عَين الجمع والتّوحيد، وإنّما التّفرقة والكثرة قبل ذلك: ما دُمت في مقام الذكر باللسان أو القلب، وعند هذا قد ينقسم الذّكر إلى الأفضل وغير الأفضل، وفضلُه بحسب الصّفات التي يُعبّر عنها بالأذكار.

 والصفات والأسماء الواردة في حق الله -سبحانه- تنقسم: 

إلى ما هو حقيقة في حق العباد، ومُؤوّلة في حقه سبحانه؛ كالصّبور والشّكور، والرّحيم والمُنتقم. 

وإلى ما هو حقيقة في حقّه سبحانه، وإذا استعمل في حق غيره.. كان مجازاً. 

فمن أفضل الأذكار: "لا إله إلا الله الحي القيوم"، فإنّ فيه اسم الله الأعظم؛ إذ قال ﷺ: "اسم الله الأعظم في آية الكرسي وأوّل آل عمران"، ولا يشتركان إلا في هذا، وله سرّ يدِقُّ عن فهمك ذكره.

والقَدْر الذي يُمكن الرمز إليه: أن قولك: "لا إله إلا الله" يُشعر بالتّوحيد، ومعنى الوّحدانية في الذات والرّتبة حقيقيّ في حقّ الله تعالى غير مُؤوّل، بل هو في حق غيره مجاز ومُؤوّل. 

وكذلك (الحيّ) فإنّ معنى الحيّ: هو الذي يشعر بذاته ويعلم ذاته، -والميت هو الذي لا خبر له من ذاته- وهذا أيضًا حقيقيّ لله تعالى غير مُؤوّل. 

و(القيّوم): يشعر بكونه قائمًا بذاته، وأنّ كلّ شيء قيامه به، وهذا أيضًا حقيقيّ له عزّ وجلّ غير مؤول، لا يُوجد لغيره بل لا يُتصور لغيره. 

وما عدا هذا من الأسماء الدالة على الأفعال؛ كالرّحيم والمُقسط والعدل وغيره.. فهو دون ما يدلّ على الصفات؛ لأنّ مصادر الأفعال هي الصّفات؛ فالصّفات أصل، والأفعال تبع".

نعم، يقول: فإذا قلت هذا الذّكر يحتاج إليه السائر إلى الله تعالى في هذا الحال أكثر، وهو عظيم بالقرآن أيضًا، عظمة الذّكر بالقرآن الكريم:

  • (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152].
  • (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45].
  • (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) [الأحزاب:41]؛ فهو عمل بما في القرآن. 

يقول: "فأيّ الأذكار أفضل" قال: الاستغراق في المذكور هو الأفضل، وعند ذلك ما عاد يوجد ذكر مقدم على ذكر في هذه الحالة، لكن ما دُمت في حال السير، فبعض الأذكار أفضل من بعضها لك وألزمها، وقد يكون التأثير في حقّ واحد دون الآخر، فما يجمع كلّ منهم على الوِجهة إلى الله وجمع الكلية عليه فهو أفضل في حقّه، وفي الغالب كما جاءتنا به السّنة أن "لا إله إلا الله" هو الأفضل، أفضل الأذكار (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19].

قال: "وذلك عَين الجمع والتّوحيد -بالفناء- وإنّما التفرقة والكثرة قبل ذلك: ما دُمت في مقام الذّكر باللّسان أو القلب، -قبل الاستغراق- "ينقسم الذّكر إلى الأفضل" ودونه- وفضله قال: "بحسب الصّفات التي يعبر عنها بالأذكار"، الصفات للرّحمن والأسماء الواردة في حقه -سبحانه وتعالى-  تنقسم: 

  • إلى ما هو حقيقَة في حقّ العباد ولكن في حقّه -تعالى- مؤولة، مثل الصّبور ،الشّكور والرّحيم والمنتقم، هذا في حقّ العباد حقائق، وهي مُؤوّلة في حقّ الحق -تعالى- بما يليق بجلاله وعظمته.
  • والأخرى عكسها، رأينا العليم والحيّ القيّوم والسّميع البصير، رأيناها هي الحقيقة في حقّ الحق -تعالى- ومُؤولة في حقّ العباد بالمجاز والتّأويل الذي أُعطوه، قال: "فمن أفضل الأذكار: "لا إله إلا الله الحيّ القيوم"، (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255]. 

وأورد عندكم الحاكم في المُستدرك من حديث سيّدنا أبو أمامة أنّه قال: سمعت النبي يقول: "اسم الله الأعظم لَفِي ثلاث سور في القرآن: في سورة البقرة وآل عمران وطه"؛ قال: فالْتمست أين الأسماء الموجودة في البقرة وفي آل عمران وفي طه، قال حصّلتها 

  • في البقرة في آية الكرسي: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255]. 
  • وفي سورة آل عمران أوّلها: (الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [ال عمران:1-2] 
  • وفي سورة طه في أواخرها (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه:111]-جلّ جلاله- وتعالى في علاه، لا إله إلا هو.

قال: "ولا يشتركان -يعني: السورتين-إلا في هذا -الإسم-  وله سر يَدِقُّ عن فهمك ذكره"، -فمنه: الذي يمكن- "الرمز إليه أن قولك "لا إله إلا الله" يُشعر بالتّوحيد، ومعنى الوّحدانية في الذات والرّتبة حقيقيّ في حقّ الله تعالى" -وما يُقال عن غيره "واحد" إلا بالتأويل- "بل هو في حق غيره مجاز ومُؤوّل"، فهو الواحد على الحقيقة.

وكذلك (الحيّ)، الذي يشعر بذاته ويعلم ذاته، والميّت هو الذي لا خَبَر له من ذاته"، والحياة في الحقيقة له -سبحانه وتعالى- لأنّ ما هناك حيّ سواه إلا بإحيائه، وكانت كلها عدم، فالحياة بالنّسبة له حقيقة وللخلق مجاز، يُحيِي ويُميت -سبحانه وتعالى-.

قال: "و(القيّوم): يشعر بكونه قائمًا بذاته،"-وقائما على كلّ شيء بذاته- "وأن كل شيء قيامه به"، وهذا حقيقي  بالنسبة لله -عز وجل- والقيّوميّة لغيره ما تُقال إلّا على سبيل المجاز والتّأويل.

كذلك قال: "وما عدا هذا من الأسماء الدّالة على الأفعال؛ كالرّحيم والمُقسط والعدل وغيره.. فهو دون ما يدل على الصفات؛ لأن مصادر الأفعال هي الصفات؛ فالصّفات أصل، والأفعال تبع"، ولذلك كان من أعظم الأسماء اسم الجلالة لأنّه يدلّ على الذّات مع جميع الصّفات، وبقيّة الأسماء منها ما يدلّ على الصّفات ومنها ما يدل على الأفعال، والتي تدل على الصّفات أشرف، فهي تختلف في فضلها من هذه الحيثيّة بالنّسبة للمبتدئ والسائر، وكذلك قد تختلف من واحد للثاني فيكون بعضها أكثر تأثير عليه، أمّا إذا وصل إلى الاستغراق فما عاد شيء أفضل من شيء، خلاص، هو مأخوذ بكليّته مع الله تعالى؛ فكلّ الذكرعنده شيء واحد، فذكره ذكر واحد يجمع معاني الذّكر المفرّقة للملأ الأعلى ومَن سِواهم، فهو جامع لأسرار الذّكر بفنائه في المذكور -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

اللّهمّ لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، وزدنا من فضلك ما أنت أهله، برحمتك يا أرحم الرّاحمين، أعنّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، بها يبتدئ المبتدؤون في سيرهم إلى الله "لا إله إلا الله"، وإليها ينتهي المُنتهون بعد مرورهم بالفناء ووُصولهم إلى البقاء، يرجعون إليها "لا إله إلا الله"، هي الأصل، وهي الخاتمة، والمرجع إليها. 

فثبّتنا الله عليها وجعلنا من خواصّ أهلها، لا إله إلا الله عليها نحيا وعليها نموت وعليها نُبعث إن شاء الله من الآمنين. 

اللّهمّ حققنا بحقائقها وثبّتنا على طرائقها واجْعلنا من أهل رَقائقها وأطلِعنا على أسرارها ودقائقها، ولا تحُلْ بيننا وبين ذلك يا حيّ يا قيّوم يا رحمن يا رحيم.

 

بسرّ الفاتحة

 إلى حضرة النبي مُحمّد 

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

تاريخ النشر الهجري

25 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

18 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام