للاستماع إلى الدرس

الدرس العاشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: الأصل السادس - ذكر الله - (1)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

مساء الأحد 23 صفر 1447هـ

حقيقة الذكر.. من حركة اللسان إلى حضورِ الرُّوح؛ يوضح الحبيب عمر بن حفيظ كيف يرتقي الذِّكر من جريان اللسان إلى حضور القلب تكلُّفًا ثم طبعًا، مع التنبيه أن كثرةَ الذِّكر واستدامتَه تكشف حُجُبَ المعاني وتفتح للقلب أبواب الملكوت، وأن الذِّكرَ مشروعٌ في كل حال: قائمًا وقاعدًا وماشيًا.

 

نص الدرس المكتوب: 

سأل بعضهم عن الفتح والفهم الذي ليس بالتفسير، وبين عدم الخوض في تفسير كلام الله تعالى مع توفر شروط  الاجتهاد؟

على كلٍّ الواجب علينا أن نتطلب الفهم في كتاب الله -تبارك وتعالى- وخطابه وكلامه على الأساس الذي شُرِع لنا؛ من خلال: 

  • تعظيمنا وإجلالنا لكلام الله تعالى، وتدبرنا لمعانيه. 
  • وتصفية قلوبنا وتنقيتها. 
  • ومعرفتنا بما قال الصحابة والتابعون وتابعو التابعين في التفسير. 

ثم بعد ذلك نطلب أن يفهِّمنا الحق -تبارك وتعالى- من مراده في كلامه، وما يحمله كلامه من معاني.

  • وكل ما جاءنا في ذلك أو وَرَدنا وهو متفق تماماً ومتناسق مع قواعد اللغة، ومع أصول الشريعة، ومع تفسير المفسرين المعتبرين، لم يتناقض مع شيء من ذلك، وصحِبَه مِنَّا إنابة وخشية وخضوع، فهذا يكون من جملة الفتح ومن جملة الفهم في كتاب الله -تبارك وتعالى-. 
  • وما خالف التفسير الوارد عن المعتبرين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، أو ما صحبه كِبْرٌ وعُجب ورياء وما إلى ذلك، فهذا من جملة حديث النفس ووسوستها وادِّعاء بما ليس في القرآن
  • وما كان عن هوى من أجل تأييد شيء مما تميل إليه النفس، فهذا هو القول في القرآن بالرأي بغير علم "ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار". 
    • فلا يجوز أن نقول في القرآن برأينا، يعني: بأهوائنا ومرادات نفوسنا.
    • ولا يجوز أن نعتمد ما خالف قواعد التفسير وما فسره السابقون قبلنا. 
    • ولا نقبل ما صاحبه غرور وكبر وغطرسة. 

وما سَلِمَ من كل ذلك فهو من جملة الفتح ومن جملة الفهم في كتاب الله والذي يختص الله به من يشاء. وقال سيدنا علي: (..إلا فهمًا يؤتاه أحدنا في كتاب الله).

 

قال بعض العارفين: قرأت تفسيراً للقرآن وما شفى غليلي عما أجد من معاني القرآن.. قال: فقرأت الثاني وما شفى غليلي، وقرأت الثالث وما شفى غليلي، حتى قرأت مئة تفسير وما شفت غليلي، حتى فتح الله عليَّ ليلة في قوله تعالى: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) [الأعلى:3]، فشفى غليلي، لا إله إلا هو.. مئة تفسير! قال: قرأها لكن ما شفت غليليه، ما كذَّب بشيء منها ولا رد شيء منها؛ لكن ما شفت غليليه، عاد روحه تشعر هناك معنى للقرآن فوق هذا..؛  حتى فتح الله عليه. 

وكان الإمام أبو بكر بن عبد الله العطاس يقول: لو تكلمت على ما علّمني الله في قوله: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) [الأعلى:3] لأعجزت كَتَبَت الدنيا.

وهكذا كان يقول سيدنا علي بن أبي طالب: لو تكلمت على معاني البسملة لأوقرت سبعين جملاً -كُتُب من معاني البسملة-.

وهكذا كان يقول الامام عمر المحضار بن عبد الرحمن السقاف: لو تكلمت على ما علّمني الله في معنى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:106] وفي قراءة (أَوْ نَنْساهَا) لأوقرت منها حمل سبعين جملاً من معنى هذه الآية وحدها.

وهكذا فالقرآن حمَّال معاني وفيه أمور يفتحُ الله بها على من يشاء؛ ولا سبيل للقول بالرأي، ولا تجاوز ما تقوم به حجة اللغة، وما تقوم به أيضاً حجة الشريعة؛ فلا يُقبل أي معنى مخالف لأي شيء من النصوص الواردة والسنة الواضحة، ولا يُقبل ما صاحبَه العجب والرياء والغرور. ولكن ما سلمِ من كل ذلك فمعاني كلام الله واسعات، والحق يخاطبك.

حتى مرّ بعضهم على قوله: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء:10] ، قال: أنا ذكري في الكتاب؟ فأين ذكرني الله؟ لابد موجود! وأخذ يتأمل في القرآن، يمر على آيات المقربين والصديقين، يقول: ما أنا منهم. مر على آيات المنافقين والكفار يقول: إن شاء الله ما أنا هنا. قال: حتى مررت على قوله تعالى -جلّ جلاله- في سورة التوبة: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) قال: هذا هو ذكري هنا، أنا مذكور في هذه الآية: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [التوبة:102] قال: عرفت ذكري في الكتاب. (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، قال: ذكركم موجود. ولهذا كان يقول بعض العارفين: لا تسأل عن نفسك أحد، بل اسأل القرآن فتعرف نفسك. اسأل القرآن أنت أين؟ الله يفتح علينا في القرآن ويجعلنا من أهل العمل بما في القرآن. 

وأما ما يذكر في معاني التجليات فهذا الذي يسمى بالخاطر الرباني غير لمَّة الملك؛ فللقلب:

  • لمَّةُ مَلَك.
  • ولمَّةُ شيطان.
  • وخاطرُ نفسٍ.
  • وخاطرٌ رباني. 

والخاطر الرباني هذا الذي يكون فيه تجلِّي الرب وإرسال الخاطر من دون واسطة الملك، فهناك أيضاً معاني واسعة لمعاني التجليات، لأن التجلي ظهوره، ظهور ما كان خافياً يقال له تجلي، التجلي لشيءٍ: بروزه وظهوره وبُدُوُّه بعد أن كان خافياً مستتراً، هذا هو التجلي، ومن هنا يأتي الخاطر.

وكذلك يقول أهل السنة والجماعة أن الرؤيا في المنام -في تجلي الحق في المنام- الرؤيا هذه لا تُنكر، ولهذا يُذكر عن سيدنا أحمد بن حنبل أنه قال: رأيت رب العزة تسعاً وتسعين مرة، فقلت: إن رأيته تمام المئة لأسألنه. قال: فتجلى لي -هذا في النوم، أما في اليقظة فممتنع عنك (قَالَ لَن تَرَانِي) [الأعراف:143] كما تقدم معنا-، قال فقلت: يا رب، ما أفضل ما تقَرَّبَ به إليك المتقربون؟ فقال: بكلامي يا أحمد. قلت: بفهم أو بغير فهم؟ قال: بفهم وبغير فهم، كلامي خير ما يقربهم إليَّ، أمثال هذا.

وحتى معنى الرؤية في الآخرة ليس فيها إحاطة ولا فيها إدراك البصر للجبار -جلّ جلاله وتعالى في علاه- ؛ ولكن فيها تجلّي وقرب ومعرفة وانكشاف، عبّر عنها رسول الله بالرؤية وعبّر عنها بالنظر، فعبّر أهل السنة بما ورد في الحديث، وهم يوقنون أن ليس المعنى فيها لا صورة ولا شكل ولا جهة ولا شيء من هذه الأمور التي هي خصائص المخلوقين وصفات المصنوعين والمُكَوَّنِين، وجلَّ المُكَوِّنُ عن أن يُشبه كائناً -جلّ جلاله- (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11].

وما يذكره بعض الصالحين أن غالب فتوح أهل البيت كما يكون لبعض الأولياء في الغالب يكون في القرآن، والفتح: عبارة عن انكشاف الحجب و انتقال المؤمن من علم اليقين إلى عين اليقين، وإذا انتقل من علم اليقين إلى عينه لَفُتِح عليه، وهذا الفتح قد يكون في ساعة صلاح، وقد يكون في ساعة دعاء، وقد يكون في ساعة ذِكر من الأذكار، وقد يكون في ساعة صدقة من الصدقات، وقد يفاجئ بعضهم وهو يمشي في الطريق، وقد يكون في القرآن.  

ومن أعظم الفتح أن يكون في القرآن، فالفتح في القرآن من أعظم فتوحات الحق تعالى، فبعضهم من أثناء التلاوة، وهذا قلنا أن الأكثر من أهل البيت وكثير من أوليائه يكون فتحهم في القرآن، أي: يكون انكشاف الحجاب عنهم وانتقالهم من علم اليقين إلى عين اليقين بواسطة القرآن وتلاوتهم للقرآن، أو يكون بأي واسطة يأتي لمن سبقت له السابقة ولمن تهيأ وتأهل لذلك، يفاجؤه الفتح في أي مكان كان وفي أي زمان كان. وكثيرًا ما يكون في مجالس الصالحين، أو عند التذكير والذِّكر، أو عند الذكر، أو في الخلوة، أو عند تلاوة القرآن، أو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وصحبه وسلم. كثيرًا ما يكون الفتح في هذه الأوقات، وقد يكون في غيرها.

وإذا فُتِحَ عليه، لم يزل يتلقى فتحًا بعد فتح، لكن الخروج من دائرة الانحصار في الماديات والحسيات وما يدرك بالحواس الخمس إلى شهود علم الغيب؛  هذا هو يقال له الفتح. وبعد ذلك، الفتوحات مستمرة دائمة، ما قد خلص فُتح عليه انتهت مسألته، بل لو وقف لكان محجوبًا بواسطة وقوفه عند الفتح؛ بل لا يزال قال الله لأعلى من تجلى له بذاته وأسمائه وصفاته وعرفهم به على الاطلاق (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114] هوأعلم الخلق بالحق، وقال: "زدني"، اطلب الزيادة؛ فلا يزال ﷺ في زيادة.

ولوكان عاميًّا يفقه ما أوجبَ الله وما حرم ويمتثل الأمر ومطهّر القلب يأتيه الفتح بصدق التوجُّه، إذا هو مُصفّى السريرة ومُقبل بكليته على الله، ويعلم ويفقه ما الواجبات والمحرمات يجتنبها، يأتيه الفتح. 

وكان من كبار المفتوح عليهم من أهل البيت سيدنا عبد العزيز الدباغ، وكان أميًّا ما يقرأ ولا يكتب، ولكن يحل إشكالات فطاحل العلماء، إذا تكلم عن الآيات، جاء بكلام عظيم عنها، والعجيب لما جمع نبذة واسعة من كلامه تلميذه أحمد بن المبارك، في الأحاديث سألوه عما يصح وما لا يصح، فيجيب وهو ما قرأ مصطلح الحديث، ولكن عامة الذي ذكره، سبحان الله، متوافق مع ما يقوله المتخصصون. وبعد ذلك يقول له بعض الأحاديث، يقول: هذا ما قاله ﷺ، يقولون له: كيف تعرف؟ قال: الكلام الذي خرج من بين شفتيه ما يخفى، الذي يخرج من بين شفتي النبوة يختلف عن غيره. تجيب لي كلام ما خرج من بين شفتيه وتقول لي قال رسول الله لا يقبل عقلي ولا يقبل روحي هذا الكلام، إلا إذا خرج من بين الشفتين صبغته ثانية، ما يخفى الكلام الذي يخرج من بين شفتي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

وكان واحدٌ عندنا من العوام ما يقرأ ولا يكتب، ولكن يحضر حزب القرآن معهم. يقول: فإذا كان غفلوا أحيانًا غلط القارئ، إما قفز آية أو كلمة أو غيرها، يقول: ردوا عليه، غلط. يحصلون أنه غلط. طيب هذا ما يقرأ ولا يكتب، كيف يعرف؟ ثم قالو له: كيف تعرف أنت أنه غلط؟ قال: نور يخرج من فمه ينقطع، وإذا انقطع النور عرفت أنه قفز كلمة وإلا أبدلها بغيرها، قال أنه يرى على قارئ القرآن النور يخرج من فمه. والله يعطي فضله من يشاء -سبحانه وتعالى- ويفتح على من يشاء.

 

وأما ما يُذكر سواء في كتب التفسير أو غيرها، سواء من الإسرائيليات أو غيرها، قد يذكرونه لمجرد الاستشهاد أو للتنبيه عليه، فلا يكون كله مُقرّ أو معتمد، فينبغي عدم الالتفات إليه والتعويل عليه والتركيز عليه، وخصوصًا ما ظهرت مخالفته، مثل ما يذكرون أحيانًا عن بعض أمراض الأنبياء وأن هذا مما يُنَفِّر الطباع، وهم منزهون عن مثل ذلك، فهذا لا يُقبل.

 

والخطوات للاتصال بالقرآن: تحقيق التوبة بمعانيها، وإخلاص القصد لوجه الرب، والعمل بما ذُكر معنا من التعظيم والإجلال والتدبر والتأمل، والاستعانة بتفاسير المعتبرين من أهل التفسير، وصدق الوجه إلى الله حتى يصلح بيننا وبين القرآن ويجعلنا من أهله.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

 

الأصل السادس

في ذكر الله تعالى في كل حال

 

"قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) [ال عمران:191]. 

وقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأنفال:45]. 

وقال لنبيه ﷺ: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)[المزمل:8]. 

وقال ﷺ: "لَذِكْرُ اللهِ بِالغَدَاةِ والعَشِيِّ أفضلُ مِنْ حَطْمِ السُّيوفِ في سبيلِ الله، ومِنْ إعطاءِ المالِ سَحًّا". 

وقال ﷺ: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الوَرِق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: "ذكر الله عز وجل". 

وقال ﷺ: "سبَقَ المُفَرِّدون، سبَقَ المُفَرِّدون"، فقيل: ومن هم يا رسول الله؟ فقال: "المُسْتَهْتَرونَ بذكر الله، وضَعَ  ذِكر الله عنهم أوزارهم، فوَرَدوا القيامة خِفافًا".

 

واعلم: أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الذكر أفضل الأعمال، ولكن له أيضًا قشور ثلاثة، بعضها أقرب إلى الُّلب من بعض، وله لبٌّ وراء القشور الثلاثة، وإنما فضلُ القشور لكونها طريقًا إليه.

 

فالقشر الأعلى منه: ذكر اللسان فقط.

 

والثاني: ذكر القلب؛ إذ كان القلب يحتاج إلى مراقبة حتى يحضر مع الذكر، ولو تُرك وطبعه.. لاسترسل في أودية الأفكار.

 

والثالث: أن يستمكن الذكر من القلب ويستولي عليه، بحيث يحتاج إلى تكلف في صرفه عنه إلى غيره، كما احتيج في الثاني إلى تكلف في قراره معه ودوامه عليه.

 

والرابع -وهو الُّلباب-: أن يستمكن المذكور من القلب، وينمحي الذكر ويخفى، وهو اللباب المطلوب؛ وذلك بأن لا يلتفت إلى الذكر ولا إلى القلب، بل يستغرق المذكور بجملته، ومهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر.. فذلك حجاب شاغل. 

 

وهذه الحالة هي التي يُعبّر عنها العارفون بالفناء؛ وذلك بأن يفنى عن نفسه حتى لا يحس بشيء من ظواهر جوارحه، ولا من الأشياء الخارجة عنه، ولا من العوارض الباطنة فيه، بل يغيب عن جميع ذلك، ويغيب عنه جميع ذلك، ذاهبًا إلى ربه أولًا، ثم ذاهبًا فيه آخرًا".

 

الله أكبر..

 

يقول -عليه رحمة الله-: "الأصل السادس في ذكر الله تعالى في كل حال" -اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك- وقد أسلفنا أن أنواع العبادات تحتاج إلى اقتصادٍ وأخذ حد منها إلا الذكر؛ بل هو المصاحِب لكل أنواع العبادات، ولا يرتفع قَدر العبادات بأصنافها عند الله إلا بحسب الذكر، ويَشهد له ما صحّ في الحديث أي المصلين أعظم أجرًا؟ فقال: "أكثرهم لله ذكرًا"، أي المتصدقين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، قيل: يا رسول الله، فأي الصائمين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، قيل: فأي المجاهدين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا". لما أجاب السائل بهذا الجواب، وسيدنا أبو بكر قال لسيدنا عمر بجانبه: ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة، سمعهﷺ قال: "أجل، ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة" أخذوه كله -اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك- وهو الذي لم يمنعه الله:

  • لا على جُنُب.
  • ولا على حائض.
  • ولا على صغير، في أي وقت تفوته أذن لك بذكره.

هذا من عظيم تفضُّله على خلقه، ومَن هو أهل أن يَذكُره سبحانه وتعالى؟ ولكن سمح حتى كان   كُلَّما استيقظ من النوم يقول: "الحمدُ لله الذي رَدَّ عليَّ رُوحي وعافاني في جسدي، و أَذِنَ لي بذِكره". 

لأنه في عظَمته وجلاله وأزَلِه وأبَدِه، ولا يحيط به شيء، نذكره بألفاظ محصورة محدودة، ألفاظنا محدودة. من أين نجيب شيئًا غير ألفاظنا المحدودة؟ فهذا إذْن، اذكروني، هذا الذي تَقْدِرون عليه، اذكروني به وأنا سأذكركم، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، فضل العظيم مِن حضرةِ الله العظيم -جلّ جلاله-.

وإلا جَلَّ عن وَصْفِنا؛ وجَلَّ عمّا نقوله؛ وما نفعله؛ وفوق ذلك؛ ولكن هذا مقدورنا؛ ورَضِيَه مِنّا، وأَذِن لنا به، ووَعدَنا عليه:

  • أن يَرفع الدرجات، 
  • وأن يَكشف الحُجُب، 
  • وأن يَرفع الرُّتب، 
  • وأن يَهَب عظيم الهِبات، 

-له الحمد كله، فضْلٌ منه-.

يقول: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، فصار الذكر والفكْر أساسًا في السير إلى الله -تبارك وتعالى-، بكثرة الذكر تنْكشف الحُجُب ويَحصل الأُنس بالله، وبكثرة الفكْر الصافي تُنال المعرفة وتَزداد المعرفة بالله تعالى. 

وأولو الاباب في الآية هذه التي أشار إليها في الآيات، والتي كان يُكررها ﷺ كلما قام من النوم كل ليلة من بعد ما أُنزلت عليه، كلّما قام؛ حتى يستيقظ في بعض الليل مرتين، وثلاثًا؛ يكررها، كلما استيقظ يكررها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران:190-191]. 

فذَكَر أُولِي الألباب؛ العقلاء الذين عقلوا الحقيقة ووعوها فمَن هؤلاء أولو الألباب؟ وصفهم بالوصفين قال:

  •  الذاكرين 
  • والمُفكرين

لهم ذكر وفكر (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) [ال عمران:191].

ومِن هنا قالوا: "الذكر نُور البصيرة، والفكْر كُحْلُها"، كحل البصيرة، ثم أَورَد لنا نموذجًا مِن ذِكرهم وفكرِهم: ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ) مخزي كبير يدخل النار (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)، مهما طغو وبغو واعتدوا وظنوا ما لهم من نصير، فما لهم نصير، نصيرهم هون وبلاء وعذاب وجحيم وعقاب. (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍرَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍرَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا)، ذكروا القدوة والأسوة والمرجع والباب (سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ)، وبمحمد ﷺ (فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) عِلاقة القلب بالصالحين (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِرَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) هذه مجاري ذكرِهم وفكرهم، وبهذا يُفكّرون وبهذا يَذْكُرون والنتيجة: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ[آل عمران:191-196]، كان يقرؤها  كلما استيقظ من النوم، وأول ليلة نَزلت عليه، كان يكررها، وجاء إليه سيدنا بلال يؤذِنه لصلاة الصبح، فوجد آثار البكاء عليه، قال: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: "لقد أُنزلت علي الليلة آيات، وَيلٌ لِمَن قرأها ولم يتفكر فيها، وَيلٌ لِمَن قرأها ولم يتدبرها" وتلا: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…).

وكانت تحكي السيدة عائشة هذه الليلة، لمّا سألوها بعد وفاته ﷺ: "حدثينا بأعجب ما رأيتِ من رسول الله" قالت وبم أحدثكم  كل حاله عجب، أقواله وأفعاله وهديه، ومعاملته وأكله، وشربه، ودخوله، وخروجه، كله عجب ﷺ، قالت: ولقد ورد عليّ في ليلة في ساعة متأخرة من الليل، فعَمَد إلى قربة فيها ماء فتوضأ، ثم قام يصلي، فلم يزل يصلي ويبكي حتى طلع الفجر، وجاءه بلال يؤذّنه فقال له: لم تبكي يا رسول الله؟ فقال: "أنزلت علي الليلة آيات"، الله يجعلنا ممن يتفكر فيها ويتدبرها وينال نورها وسرها وبركتها، ونرتبها عند قيامنا من الليل، نقرأ هذه الآيات من آخر سورة آل عمران.

وقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأنفال:45]، وفي الآية الأخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب- 41:42]، وقال لنبيه ﷺ: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)[المزمل:8].  يعني انقطع انقطاع كامل إليه وحده وتبتل إليه تبتيلا.

 

وقال ﷺ: "لَذِكْرُ اللهِ بِالغَدَاةِ والعَشِيِّ أفضلُ مِنْ حَطْمِ السُّيوفِ في سبيلِ الله، ومِنْ إعطاءِ المالِ سَحًّا". 

فالذين ما عرفوا قدْر الذكر ولا حقيقة الذكر يتجاوزون حدودهم ويقولون: ما فائدة من هذه الأذكار؟ ما الفائدة من هذا الذكر؟ الواجب علينا كذا والواجب نخرجك بحال كذا، وبعد ذلك؟ وذا النبي يفتي، ثم تضع فتاواه وراء ظهرك؟ قال: "أفضلُ مِنْ حَطْمِ السُّيوفِ في سبيلِ الله، ومِنْ إعطاءِ المالِ سَحًّا" ﷺ، يقول: رواه ابن المبارك في (الزهد)، وابن أبي شيبة في (المصنف) موقوفاً على سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، ورواه مرفوعاً من حديث سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما ابن شاهين في (الترغيب في الذكر).

يقول في الحديث الثاني الذي رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، يقول: "وقال ﷺ: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الوَرِق والذهب -أي: الفضة والذهب- وخير لكم من أن تلقَوا أعداءكم -أي: في الجهاد في سبيل الله- فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قالوا: بلى. أخبرنا، ما أفضل من هذا كله؟ فقال: "ذكر الله عز وجل". -اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك-.

 ويقول : "سبَقَ المُفَرِّدون، سبَقَ المُفَرِّدون"، فقيل: ومن هم يا رسول الله؟ فقال: "المُسْتَهْتَرون بذكر الله"، يعني: المستغرقون، استغرقهم ذكر الله -تبارك وتعالى- حتى غلبهم وطواهم "المُسْتَهْتَرون بِذِكْرِ اللهِ وضع ذِكْرُ الله عنهم أوزارهم، فَوَرَدُوا القيامةِ خِفافًا"، أصل الحديث عند مسلم وهذه رواية الترمذي.

 " سبَقَ المُفَرِّدون".

قال: "واعلَم أنه قد انكَشف لأرباب البصائر أن الذكر أفضل الأعمال".

 ولذا وجدناه يربطه بالأعمال كلها سبحانه وتعالى: 

  • (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [ طه:14].
  • (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة:9]. 
  • (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) [الجمعة:10].
  • (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) [البقرة:198].
  • (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة:199-200].

 مطلوب منا الذكر في كل شيء، وفي الطعام جعل لنا ذكر، وفي النوم جعل لنا ذكر، وعند القيام جعل لنا ذكر، وفي الطواف جعل لنا ذكر، وفي القيام ذكر، وفي الركوع ذكر، وفي السجود ذكر، وعند الخروج من البيت ذكر، وفي المشي ذكر، كل الأعمال ربطها بالذكر.

 لكن كما يذكر، قال: "واعلم: أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الذكر أفضل الأعمال، ولكن له أيضًا قشور ثلاثة، -ووراءها اللُّب- بعضها -قشور- أقرب إلى اللُّب من بعض، وله لُب وراء القشور الثلاثة، وإنما فضلُ القشور لكونها طريقًا إليه"، فقط ما هي مقصودة لذاتها-.

  • "فالقشر الأعلى" الأول -منه الأبعد عن اللُّب-: "ذكر اللسان فقط" الذكر باللسان وحده؛ فهذا أول قشر، أبعده عن اللُّب.
  • الثاني: ذكر القلب، أقرب من الوسط هذا بين، ذكر القلب؛إذ كان القلب يحتاج إلى مراقبة حتى يحضر مع الذكر، ولو تُرك طبعه.. لاسترسل في أودية الأفكار"، واللسان يذكر والقلب في محل ثاني، فهذا ذكر اللسان فقط؛ لكن ذكر القلب هذا القشر الثاني أن يكون قلبك ذاكرًا له بإحدى الطريقين: 
    • إما أن تُصغي إلى معنى الأذكار التي تقولها وتَستحضر معناها.
    • وإما في الحال الثاني: تسبق المعاني إلى قلبك قبل أن تنطق ثم ُتَترجم معناها.

قبل ما تقول سبحان الله، يَسبق إلى قلبك معنى التقديس والتّنزيه ثم تعبِّر وتقول: سبحان الله، قبل أن تقول: الحمد لله، يمتلئ باطنك بشهود الإنعام والجلال من الله، وتقول: الحمد لله، لكن الطريق الأول هو الذي يُكتسب ويُمكِن، وهذا وَهب؛ بعد ذلك إذا أَكرم الله العبد بالقوة، تصير معاني الذكر إذا أراد أن يتلو آية، سبق معناها إلى قلبه، فصار اللسان معبّر عن ما في الجنان. الحالة الأولى يتابع القلب ما يقول اللسان يترجمها؛ لكن الحالة الثانية اللسان يترجم عما في القلب، هذا القشر الثاني. 

  • والثالث: "أن يَستمكِن الذكر من القلب ويَستولي عليه، بحيث لا يحتاج إلى تكلُّف في صَرفه عنه -صرف القلب عن الذكر- إلى غيره"، بل لا يحتاج إلى تكلُّف في صَرف قلبه عن الذكر إلى أي شيء آخر؛ "كما احتيج في الثاني إلى تكلُّف في قرارِه معه ودوامه عليه".. لمّا دام ورَسخ عليه؛ صار الذكر حاضرًا في قلبه، ما يحتاج إلى تكلُّف في حضور القلب؛ بل إذا رَسخ في ذلك، يحتاج إلى التكلُّف في الحضور مع الخَلق. كما كان في البداية يَتكلّف الحضور مع الحق، يرجع في النهاية يستغرق شهود الحق عليه؛ فيحتاج إلى تكلُّف في الحضور مع الخلق -يشوف إيش قال؟!- يحضر معهم بتكلَّف؛ لهذا لما ردد السؤال مرة الشيخ أحمد الحساوي على شيخه الإمام الحداد؛ قال له: إذا أعطيناكم الجواب اليسير اكتفوا به منه، ولا تكثر السؤال، فإننا نتكلف الحضور معكم تكلفًا. لهذا لما كان مُستجمِع الحضور، يقول: إذا أحد معه لنا خبر أو سلام من أحد أو رسالة؛ لا يكلمنا ونحن خارجون إلى الصلاة؛ فإنّا نَخرج بكلِّيّة وهمة، حتى خرج مرة وكبّر، ولما كبّر انشق الجدار أمامه من التكبير. الله أكبر.. انشق الجدار.لا إله إلا الله -الله يَقسم لنا بنصيب من الذكر-. "أن يستمكن الذكر من القلب ويستولي عليه، بحيث يحتاج إلى تكلف في صرفه عنه -عن الذكر- إلى غيره، إلى غيره، كما احتيج في الثاني إلى تكلف في قراره معه ودوامه عليه". فهذه كلها قشور والرابع هو اللباب.
  • قال: "والرابع وهو اللُّباب: أن يستمكن المذكورُ من القلب"؛ شهوده وعظمته وجلاله وكبرياؤه وجماله وكماله سبحانه وتعالى يستولي على القلب "ويَنْمَحي الذكر ويَخفى"؛ فلا عاد يحس الذاكر بنفسه ولا بذكره، ويَفنى ولا يحس بفَنائه. لا إله إلا الله."بل يستغرقُ المذكورُ جملتَه"، حتى قال: "مهما ظهر له في أثناء ذلك التفات للذكر"، فقد حُجب، أو: "فذلك حجاب شاغل"، هو مع المذكور وليس مع الذكر. فيجري الذكر، ولكن هو مأخوذ بالمذكور. 

 

قال: "هذه الحالة التي عبر عنها العارفون بالفَناء"، مفتاحها: فَناؤه عن صفاته الذميمة، أن يَفنى عن صفاته الذميمة، فيتهيأ للفَناء عن شهود غير الله تعالى والشعور بما سوى الله، إذا فَنِيت صفاته الذميمة، وما دام فيه الصفات الذميمة التي ذمها الكتاب والسنة فيصعب أن يَفنَى في الحق تعالى؛ تحجزه عن أن يَفنَى في الله؛ لكن إذا فَنِيَ عن صفاته الذميمة وبقي بالصفات الحميدة استطاع أن يَفنَى في الله ويَبقَى بالله.

فهذا مقام الفناء الذي ذكره قال: "يفنى عن نفسه حتى لا يحس بشيء من ظواهر جوارحه، ولا من الأشياء الخارجة عنه، ولا من العوارض الباطنة فيه، بل يغيب عن جميع ذلك، ويغيب عنه جميع ذلك، -إلى أين؟- ذاهبًا إلى ربه أولًا، ثم ذاهبًا فيه آخرًا". قال سيدنا الخليل إبراهيم: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات:99] فإذا صحَّ له الذهاب إلى الله، صار ذاهبًا في الله -جلّ جلاله- يعني تزداد معارفه وانكشاف أسرار جلاله وجماله وكماله له على طول فما هو خارج حتى يذهب إليه؛ ولكنه فيه. 

قال: "فإن خطر له في أثناء ذلك أنه فَنِيَ عن نفسه"، إذًا فقد حضَر مع نفسه، شهِد نفسه، انقطع عن شهود الله تعالى، إذا خطرَ على باله أنه فني عن نفسه بالكلية، فذلك شوْبٌ وكدورة، لأنه حضور مع غير الحق، والتفات لغير الحق -جلّ جلاله- بل الكمال في أن يَفنَى عن نفسه" ويَفنَى عن فَنائه عن نفسه أيضًا؛ لهذا يقول الإمام الحسن بن صالح البحر الجفري -عليه رحمة الله- في قوله ﷺ في الصلاة والدعاء الذي علَّمنا إياه: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا... إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي". 

"مَحياي": تَعلُّقي بأوصافه.

"وَمَمَاتِي": فَنائي فيه، وفَنائي عن شهود فَنائي فيه بوجوده. فَنائي فيه بشهوده، وفنائي عن وجود شهودي بوجوده. خلاص. 

وقالوا للإمام الحداد لمّا زار أول مرة شيخه الحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس: كيف رأيت الحبيب عمر بن عبدالرحمن؟ قال: رأيت قلبٌ ورَب. لا نفس ولا هوى، عبدٌ مع مولاه بكليته من رأسه إلى قدمه، -لا إله إلا الله-.

 قال: "بل الكمال في أن يَفنَى عن نفسه ويَفنَى عن الفَناء أيضًا، فإن الفَناء عن الفَناء غاية الفَناء".

قال هذا الكلام للذي ما طابت نفسه وَصَفت وتَذَوقت معنَى كلام أرباب الروح، يقول: الآن عن ماذا تتكلم؟! أي لسان هذه؟!  وأي لغة هذه؟ ما هذه..؟! .. ما ييجي عليها وما يجوب عليها - لايفهمها-. 

 

الحمد لله رب العالمين، إلى أن قال: 

"وهذا قد يظنه الفقيهُ الرسميّ أنه طامات غير معقولة، وليس كذلك". 

فَناء عن نفسه، وفَناء عن فَنائه عن نفسه..، فيقول: كيف؟ كيف؟! لأنه في شيء رسميّ - ما معنى رسميّ؟ محبوس مع الرسوم، يَعرف الرسوم والظواهر فقط، ذا كذا وشرطه كذا وانتهى، ما يَعرف أسرار الطهارة ولا الصلاة ولا الصوم، ولا يعرف إلا الظاهر-، فإذا جئت تتكلم عن معانيها، يقول: كيف؟! ماهذا؟! ما يستدل عليها.  قال: "يظنه أنه طامات غير معقولة، وليس كذلك"

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:

 "بل هذه الحالة لهم بالإضافة إلى محبوبهم كحالتك في أكثر أحوالك بالإضافة إلى محبوبك؛ من جاه أو مال أو معشوق؛ فإنك قد تَصير مستغرقًا لشدة الغضب بالفكر في عدوك، ولشدة شهوتك بالفكر في معشوقك، حتى لا يكون فيك متسَع لشيء أصلًا. فتُخاطَب فلا تفهم! ويُجتاز بين يديك غيرك؛ فلا تراه وعيناك مفتوحتان! ويُتكلَّم عندك؛ فلا تَسمع وما بأذنيْك صمم! وأنت في هذا الاستغراق غافل عن كل شيء، وعن الاستغراق أيضًا. فإن الملتفت إلى الاستغراق مُعْرِضٌ عن المستغرَق به"

 -لا إله إلا الله-.

قال: أنت تنكر هذا على العارفين والصالحين، وأنت بنفسك في قصورك وحبسك في الماديات، لك استغراق؟ لك استغراق ولك فناء؛ أي فناء!.

 حتى لو أنت مُعلّق قلبك حتى باللعب بالكرة وجيت تشاهد مباراة، تستغرقك بدقة تُتابع، يَدخل ولدك، يَخرج ما تراه. من دخل عندك؟ من دخل؟ ما دخل أحد، ما رأيت أحد! ناس دخلوا وخرجوا ويتكلموا عندك ما تسمع. قلنا لك: قال: متى قلتوا؟ وأنت مأخوذ بالمشاهدة حقك، هو إلا لَعب وأَخذ عقلك. وهؤلاء مع ربهم، -وما بَغيتهم يَغيبون؟ يا أبله، يا بليد!- أنت مع الكرة وغِبت، وهؤلاء مع الرب ما يَغيبون! ما الكلام حقك هذا؟ وأي شيء هكذا أنت تعشّقه؟! أخبارًا مهمة سياسية يستمعها، ومأخوذ عينه وقلبه وبصره، تَدخل حتى زوجته بالعشاء وأولاده وهو لا يدري، وَيبرد العشاء. متى جئت به هذا؟ بعد ما برَد متى جئتي به! تقول:وأنت ما فيك عيون؟! وأنا أدخل وأخرج! وهو مأخوذ بالحالة التي هو فيها. فإذا هذا في الماديات والدنيويات، وهؤلاء عشقوا ربَّ العالمين وتعلَّقوا به، ما تريدهم يَغيبون عنك وعن أمثالك؟ يا بليد! يَغيبوا عن كل شيء وهو أحقُّ بأن يُغاب فيه -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

وقال المصنف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

 "وإنّما سمُّوا هذه الحالة فَناءً وإن كان الشخص والظّلّ باقيين؛ لأن الأشخاص والأظلال بل سائر المحسوسات ليس لها حقيقة الوجود، بل الوجود الحقيقيُّ لعالَم الأمر والملكوت، والقلب من عالَم الأمْر؛ قال الله تعالى: (قُلِ الرُّوحُ مِنٍ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]، والقوالب من عالَم الخَلْق.

 وأعنِي بالقلب: اللَّطيفة الذَّاكرة العارفة التي هيَ مَهبِطُ الأنوار الإلٰهيَّة، دُونَ القلب الظاهر؛ فإنّ ذلك من عالَم الخَلْق. ولا تَفْهم من هذا إشارة إلى قِدَم الرُّوح وحدوث القالب! بل هما جميعًا حادثان.

 وإنما أَعنِي بالخلق: ما تَقع عليه المساحة والتقدير، وهي الأجسام وصِفاتها.

وأَعنِي بعالم الأمر: ما لا يَتطرّق إليه التقدير.

 والعالَم الجسماني ليس له وجود حقيقي، بل هو من ذلك العالَم كالظلّ من الأجسام. وليس لظِل الإنسان حقيقة الإنسان، فليس للشخص حقيقة الوجود، بل هو ظِلّ الحقيقة. والكُل مِن صُنع الله تعالى. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [الرعد :15]. وسجود عالَم الأمرِ لله تعالى طَوع، وسجود عالم الظلال كُرهٌ، وتحته سرٌّ،  بل أسرارٌ تُحرِّكُ أوائلها سلسلة المجانين والحمقى، فضلًا عن أواخرها، فلنتجاوزها".

 

يقول -عليه رحمة الله تعالى-: "سمُّوا هذه الحالة فَناءً" مع أنه شخصه موجود وظِلُّه قائم، قال: لا الشخص ولا الظلال وأمثالها، "بل سائر المحسوسات" هي بنفسها ظِل؛ "ليس لها وجود حقيقي، بل الوجود الحقيقي لعالَم الأمر والملكوت، والقلب من عالَم الأمْر؛ قال الله تعالى: (قُلِ الرُّوحُ مِنٍ أَمْرِ رَبِّي)"، ويقول: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف:54]. 

 

قال: والقوالب -الأجسام- من عالَم الخَلق، "وأعنِي بالقلب: اللَّطيفة الذَّاكرة" -ليست هذه القطعة التي بين الرئتين- "اللطيفة الذاكرة العارفة بالله، التي هي مهبط الأنوار الإلهية، دون القلب الظاهر، فإن ذلك من عالم الخلق. ولا تفهم من هذا إشارة إلى قِدَم الروح -أبدا- وحدوث القالب، بل هما جميعًا حادثان"، وليس من قديم موجود بذاته إلا واحد وهو الله، هذا الموجود بذاته فقط. "كان الله ولم يكن شيء غيره"، "كان الله ولم يكن شيء معه"، فهو الموجود بذاته هو وحده. كل الكائنات هذه أظهرها هو وأوجدها؛ لتدل عليه ورحمة منه -سبحانه وتعالى-.

 

لِذاتي بذاتي لا لَكم أن ظاهَرُ *** وما هذه الأكوان إلا مَظاهرُ

سبحان الله.

 

قال: "أعني بالخلق ما تقع عليه المساحة والتقدير"، هذا عالم الخلق، الأجرام والألوان وما يُدرك بالحواس الخمس، هذا عالَم الخَلق. "وعالم الأمر ما لا يَتطرّق إليه التقدير"، لا شيء فيه؟! لا ميزان ولا مسطرة، عقل وروح ما هذا؟ ليس له لون؛ لا يُدرك بالحواس الخمس، لا تُمسكه بيدك ولا تراه بعينك ولا تَسمعه بأذنك، أمر خارج عن التقديرات هذه، عالَم أمر. (قل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء:85]. 

 

"والعالم الجسماني ليس له وجود حقيقي، بل هو من ذلك العالم -من عالم الأمر- كالظل من الأجسام"

  • فالأسماء والصفات للرحمن -سبحانه وتعالى- كالظل للذّات. 
  • وجميع الروحانيات وعالَم الأمر كالظل للأسماء والصفات.
  • والقوالب والظواهر والأجسام ظِل لهذه الرُّوح. 

فما هي شيء؛ ولكن عالَم الأمر وعالَم الرُّوح له الشأن العظيم بإيجاد الحق له على وجه مخصوص ومَنزِلة لديه خاصة. 

قال: "وليس لظل الإنسان حقيقة الإنسان"، أبدًا، لا يمكن أن تَعتبر الظل حقيقة للإنسان، قال: وأنت ما لك حقيقة وجود لأن وجودك إلا ظل، ليس موجود إلا ذاك، فلا يمكن أن نَنسبك إلى حقيقة وُجود، لا موجود إلا الله. "بل هو ظِل الحقيقة، والكل مِن صُنْع الله"، الرُّوح، والجسم، والظاهر، والباطن، كله خَلْقه وكله إيجاده، بعضها أقرب إليه من بعض. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم..) هُم والظلال، روحه، وقلبه والظلال حق ذا الجسد كله يسجد لله. (بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).

 

قال: وعالَم الأمْر كله طَوع، كله سجود وطَوع لله تعالى. عالَم الظلال هذا كُره. 

فحتى الموجودون عندنا من الملحدين والكفار قاعدين في هذا العالم تحت سماء رفعها وأرض بسَطَها، لا اختاروا آباءهم ولا اختاروا أمهاتهم، ويجري لهم من الأحداث كل يوم ما لا يريدون؛ تشوفهم ساجدين، هم ساجدين له لكن كُرهًا، ليس باختيار منهم؛ ما معهم إلا الإنكار فقط، والمعاندة، وإلا هم ساجدون تحت قهره وتحت أمره -جلّ جلاله-، ولا يَقدر يُبدّل، لا يرُد السماء تحت ولا الأرض فوق، ولا يَقدر يُغيّر شيئًا من ترتيبات الحقّ، هو ساجد مسكين، ساجد لكنه كُرهًا، ما نفعه هذا. إنما ينفع السجود طَوعًا ومَحبة ورغبة -فالله يحققنا بحقائق السجود له.

 

قال المصنف -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "وسجود عالَم الأمرِ لله تعالى طَوعٌ، وسجود عالم الظلال كُرهٌ، وتحته سرٌّ،  بل أسرارٌ تُحرِّكُ أوائلها سلسلة المجانين والحمقى، فضلًا عن أواخرها، فلنتجاوزها"، فكيف بأواخرها؟" قال: خلاص بس، نتجاوز ويكفيه، ونسكت. "وليس هذا بِعُشّك فادرُجي"، "ولِكل مَقام مَقال".

 

وقال المصنف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"فقد أفهمناك ما أرادوه بالفناء، فدع عنك الغيبة والتكذيب بما لم تحط بعلمه، كما قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)[يونس39]. وقال الله تعالى: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)[الأحقاف:11]. 

فإذا فهمت الفناء في المذكور فاعلَم أنه أول الطريق، وهو الذهاب إلى الله تعالى، وإنما الهُدى بعده؛ أعني بالهُدى هُدى الله تعالى، كما قال الخليل عليه السلام(إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الصافات:99].

 

فأول الأمر ذهاب إلى الله، ثم ذهاب في الله؛ وذلك هو الفناء والاستغراق به، ولكن هذا الاستغراق أولًا يكون كبرق خاطف، قلما يثبت ويدوم، فإن دام ذلك وصار عادة راسخة وهيئة ثابتة.. عُرِّج به إلى العالم الأعلى، وطالع الوجود الحقيقي الأصفى، وانطبع فيه نقش الملكوت، وتَجلى له قدس اللاهوت.

وأول ما يَتمثل له من ذلك العالَم: جواهر الملائكة، وأرواح الأنبياء والأولياء في صورة جميلة، يَفيض إليه بواسطتها بعض الحقائق؛ وذلك في البداية، إلى أن تعلو درجته عن المثال، فيُكافح بصريح الحق في كل شيء.

فإذا رُدّ إلى هذا العالَم الحادث الذي هو كالظلال.. نظر إلى الخَلق نظرة مُترحم عليهم؛ لحرمانهم عن مطالعة جمال حضرة القدس، وتَعجب منهم في قناعتهم بالظلال، وانخداعهم بعالم الغرور وعالم الخيال، فيكون معهم حاضرًا بشخصه، غائبًا بقلبه، يَتعجب هو من حضورهم، ويَتعجبون هم من غِيبته.

 

فهذه ثمرة لُباب الذكر، وإنما مبدؤها ذكر اللسان، ثم ذكر القلب تكلّفًا، ثم ذكر القلب طبعًا، ثم استيلاء المذكور وانمحاء الذكر، وهذا سر قوله ﷺ: "من أَحَبَّ أنْ يَرتَع في رياض الجنة؛ فلْيُكثر ذكر الله تعالى"، بل سرّ قوله ﷺ: "يَفضُل الذكر الخفيّ على الذكر الذي تَسمعه الحفظة سبعين ضعفًا".

ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. 

 

قال: "أفهمناك" ما الذي يقصدونه بالفناء، أهل الله وأرباب المعارف؛ "فدع عنك الغيبة"، لا تظل تغتاب أرباب البصائر والنور لأنك قاصر الفهم عن إدراك ما يقولون. 

فدع عنك الغيبة والتكذيب بما لم تحط بعلمه، كما قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)". 

وإذا كنت بالمدارك غرٌّ *** ثم أبصرت حاذقًا لا تماري

وإذا لم تر الهلال فسلِّم *** لأناس رأوه بالأبصار

فإذا فهمت الفناء في المذكور، وقال الله تعالى: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)، لأنهم ما اهتدوا به. (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) . فإذا فهمت الفَناء في المذكور فاعلَم أنه أول الطريق، وهو الذهاب إلى الله تعالى، والهُدى بعده: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ). 

فأول الأمر:

  •  "ذهاب إلى الله"؛ بالإيمان والعمل الصالح والعمل بطاعته، والترك للذنوب والمعاصي. 
  • "ثم ذهابٌ في الله"؛ وذلك هو الفَناء والاستغراق به؛ لكن هذا الاستغراق أولًا يكون كبَرق خاطف يمر عليه بسرعة، يَرتفع عنه، قلّما يَثبت ويأتي بعد ذلك وقت أطول، ويأتي أطول، لحظة تصل إلى دقيقة، تصل إلى دقيقة ونصف، ويروح منه. والقوى العادية لو دام عليها هذا لاضمحلت، ولكن يتدرج الحق بعبده شيئًا فشيئًا فيقوّيه. لهذا يقول: العارفون يشتاقون إلى دوام الجَمع، والحقُّ يَنقلهم عنه رفقًا بهم ولطفًا لهم، لئلا تَضمحلّ قُواهم عن أن يقوموا بحقوق التكاليف التي كلّفهم بها.

قال: "هذا الاستغراق أولًا يكون كبرق خاطف، قلّما يثبت ويدوم -فإذا ترقى فيه- فدام ذاك وصار عادة راسخة وهيئة ثابتة.. عُرِّج به -أي بروحه- إلى العالَم الأعلى، وطالع الوجود الحقيقي الأصفى، وانطبع فيه نقش الملكوت، -(نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الانعام:75]- وتجلى له قدس -طهارة- اللاهوت" -الصفات الإلهية-

 

قال: "وأول ما يتمثل له من ذلك العالم: الأعلى جواهر الملائكة، وأرواح الأنبياء والأولياء في صورة جميلة، يَفيض إليه بواسطتها بعض الحقائق.."، فتكون سببًا لإفاضة المعارف عليه، فيدرك بعض الحقائق بواسطة من حوله من الملائكة ومن أرواح الأنبياء والأولياء، ".. وذلك في البداية، إلى أن تعلو درجته عن المثال؛ فيكافح بصريح الحق في كل شيء"، فيعرف معنى قوله: 

  • أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللَهَ باطِلُ
  • و(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص:88]. 

 

إذا رُدَّ إلى هذا العالم الحادث الذي هو كالظلال، نظر إلى الخلق نظرة مُترحم عليهم"؛ أين ذاهبون هؤلاء بعقولهم ومداركهم؟ ومحبوسون أين؟  لو يَعلم الملوك ما نحن فيه بالليل لجادلونا عليه بالسيوف. يَتعجب منهم ويَترحم عليهم "لحرمانهم عن مطالعة جمال حضرة القدس، وتَعجب منهم في قناعتهم بالظلال" ومحلهم هنا "وانخداعهم بعالم الغرور وعالم الخيال، يكون معهم حاضرًا بشخصه غائبًا بقلبه، يتعجب هو من حضورهم -مع هذه الظلال- وهم يتعجبون من غيبته" عن الظلال حقهم هذا.

 لا إله إلا الله.

لهذا يقول الإمام الحداد:

وَأَنِّي مُقِيمٌ فِي مَوَاطِنَ غُرْبَةٍ ***…………………….

-ما أجدُ الذي أُذاكرُه فيما انتهيتُ إليهِ من المعارفِ والشهود-

وَأَنِّي مُقِيمٌ فِي مَوَاطِنَ غُرْبَةٍ *** عَلَى كَثْرَةِ الأُلاَّفِ فِي جَانِبٍ وَحْدِي.

قَرِيبٌ بَعِيدٌ كَائِنٌ غَيْرُ كَائِنٍ *** وَحيِدٌ فَرِيدٌ فِي طَرِيقي وَ فِي قَصْدِي

لا إله إلا الله.

-ويود أن يجد من يسامره بأخبار هذا الحضور مع الحق. لا إله إلا الله-. 

يقول:

ظن الخَلِيُّ بأن البعد يؤنسني *** فكيف يؤُنسني طردي وإبعادي

أم كيف أسلو عُريباً صار قربهم *** أقصى مرامي ومطلوبي ومُرتادي

أم كيف أنسى لهم عهدًا وقد منحوا *** محض الوداد وجادوا قبل إيجادي

واتحَفوني بسرِّ لو أبوحُ به *** لشاع في الناس لُوّامي وحُسّادي

إنّي ليقلقني هذا النّسيم متى *** ما هبّ من حيث أغوار وأنْجاد

وما تمايل غُصنٌ في حديقته *** إلا تذكّرْت أوْقاتي وأعْيادي

ولا تغنّى بذِكر الغانيات شجٍ *** إلّا جرى الدّمع من عيني على النّادي

يعني كل شيء يذكرني به، كل شيء يجمعني عليه.

قد طال مُكثي بدارِ البُعد مُنتظِرًا *** إذن المصير إليهم طول آمادي

أُقبّل التُّرْب منْ أرضٍ بها نزلوا *** يوم اجتماعي بِهِم في حين إشْهادي

 

يتذكر ساعة الجمع لما مسح الرحمن ظهر آدم فأخرج الذرية كلهم في وادي نعمان وأشهدهم وأكرمهم وأسمعهم: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟".

قال:

أُقبّل التُّرْب منْ أرضٍ بها نزلوا *** يوم اجتماعي بِهِم في حين إشْهادي

يا هلْ ترى تجْمع الأيّام في دعةٍ *** بيني وبين أحْبابي وأسْيادي

وأرتوي من شراب القوم في زُمرٍ *** من عارِفين وأقْطاب وأوتادِ

وأُوقِدُ النّور في مصْباح واضحةٍ *** نورٌ على نورِ من فتْح وأورادِ

نورُ السُّلوك ونُورُ الجذْب قد جُمِعا *** فأشْرقا بين زُهّاد وعُبّادِ

 

يجيء يُلّخص الطريق لمن يرغب، يقول:

 

ها قد علِمتُ ولا شكٌّ يُخالِطُني *** أنّ الطّريقة في خرْقي لمُعْتادي

وترْك مألوف نفسٍ زانه خُلُقٌ *** أنْجو به بين أشْكالي وأضْدادي

وقد تحقّقْتُ أن الخير أجْمعهُ  *** ضمن اتّباعي لجدّي المُصطفى الهادِي

عليه أزكى صلاةِ الله يتبعها *** منه السلام بآزالٍ وآبادِ

 

صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه. حشرنا الله معهم.

وقال:

محبتهم ديني وفرضي وسنتي *** وعروتي الوثقى وأفضل ما عندي

وفي قربهم أنسى ورَوحي وراحتي *** ولست بشيءٍ إن بلوني بالبعد

ومهما سرت لي نسمة من ربوعهم *** يخالطها عرف البشامات والرند

وريح الخزامى والأراك تهيج بي *** شجوناً تدعني لا أعيد ولا أبدي

 

الله أكبر.

فيا سعد سر بي نحوهم وأبلغنهم *** بأني على حفظ المودة والعهد

ونبئهم عن لوعتي وصبابتي *** وكتمي لأسرار الهوى غاية الجهد

وإني مقيم في مواطن غربة *** على كثرة الألّاف في جانب وحدي

قريبٌ بعيدٌ كائنٌ غير كائن *** وحيدٌ فريد في طريقي وفي قصدي

أمورٌ وأحوال تعِنّ ولم أجِد *** عليها معينًا وهي تقعد بالفرد

فكن لي شفيعاً عندهم فلعلهم *** يمنّوا بجمع الشمل فضلاً على العبد

لا إله إلا الله.

أرجي ولي ظن جميل بخالقي *** تعالى عظيم المن مستوجب الحمد

إله البرايا كلها ومليكها *** تنزّه عن شبه ومِثل وعن ندّ

لا إله إلا هو. 

"فهذه ثمرة لُباب الذكر، وإنّما مَبدؤها ذكر اللسان، -هذا البداية- "ثم ذكر القلب تكلّفًا، ثم ذكر القلب طبعًا، ثم استيلاء المذكور وانمحاء الذكر. وذكر بحديث قوله ﷺ: "من أَحب أن يرتع في رياض الجنة فليُكثر ذكر الله تعالى"". 

قال للذي تَعلَّق بسورة الإخلاص وكان يَقرأ بها؛ مرة أَرسل سرية وأمّره عليهم، وكان إذا يُصلي بهم مغرب، وعشاء، وفجر، في كل ركعة -إذا قرأ ما تيسرمن القرآن- يختم بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص:1-2]. في الركعة الثانية كذلك، والعشاء والفجر، كلها يقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). يقول له بعض الصحابة: لازم تقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، ما سمعنا النبي يفعل هذا. قال: أنا هذه صلاتي، وأنا أُحب أن أَختم بها، هل أحد منكم يُصلي...؟. قالوا له: لا، أنت أميرنا، أمّرك النبي علينا. نُصلي خلفك. ولكن لما رجعوا أخبروا النبي، قال: "قولوا له لما يَصنع هذا؟" قال: لما؟ قال: يا رسول الله، إنّي أُحبها لأنها صِفة الرحمن. قال: "حُبُّك إياها أَدخلك الجنة". حُبُّك إياها أدخلك -ليس سيدخلك الجنة؛ هو في جنة المعرفة، من الآن هو في جنة المعرفة-. "حبك إياها أدخلك الجنة". 

"إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا". -حِلَقُ الذِّكْرِ-. 

"من أَحَبَّ أنْ يَرتَع في رياض الجنة؛ فلْيُكثر ذكر الله تعالى" هكذا في رواية الطبراني في المعجم الكبير. 

ويقول ﷺ: " يَفضُل الذكر الخفيّ على الذكر الذي تَسمعه الحفظة سبعين ضعفًا". الذكر إذا استغرق القلب ما عاد تُدرِك معانيه الحَفَظة، الحَفَظة تَسمع ما في ظاهر اللسان؛ لكن إذا غاب وفَنِيَ عن ذكره، الحَفَظة ماعاد يقدرون يكتبون شيء؛ هذا بينه وبين المذكور جلّ جلاله.

 لا إله إلا الله.

نعم، الخطوات ما ذكره: 

  • البداية ذكر اللسان، والمحافظة على الأذكار الواردة في السنة الشريفة، وفي الصباح والمساء، وأخذ نصيب من الذكر، ويستغرق اللسان بالذكر. 
  • بعد ذلك، يذكر بالقلب تكلفًا، يتكلف الحضور مع الله تعالى. 
  • ثم يذكر القلب طبعًا وتلقائيًّا من غير تكلّف.
  • ثم يصل إلى استيلاء المذكورُ عليه وعلى ذكره وعلى فَنائه فيه. 

وهذا، نعم: كثيراً ما يَتعرضون له بالخلوات، وكثرة أذكار معينة، وقد يناسب منها بعد "لا إله إلا الله" والإكثار منها عند القُرب من الفَناء اسم الجلالة: " الله، الله، الله".

 ويَتَلقّون ذلك من المشايخ ومن المربين حتى يخرج من القشور هذه ويصل إلى اللُّب. 

الله لا يَحرمنا خير ما عنده لشر ما عندنا، ويزيدنا من فضله ويمُنّ علينا بِوَصلِه.

اللهم لا تجعل حظنا من هذا الكلام الهذيان ولا لقلقة اللسان، ووصِلنا إليك يا رحمن، وأصلح لنا كل شأن، وحققنا بحقائق ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الفناء فيك وفي حبيبك محمد ﷺ، والبقاء بك فيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، على خيْر الوجوه، وأعلاها وأفضلها، في تمكين مَكين، وصلاح لأحوالنا وأحوال المسلمين. واجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، واجعلنا مذكورين في حضرتك وحضرة حبيبك في جميع الآناء واللحظات؛ بخير ما تَذكُر به المحبوبين والمقربين وأهل التمكين، في عافية تامة. وتحمُل الابتلاءات والامتحانات والاختبارات عنا وعجّل بتفريج كروب أمة حبيبك محمد ﷺ، وارفع البلاء والشر والسوء عنا، وعن أهل غزة والضفة الغربية، وعن أكناف بيت المقدس، وعن الشام، وعن اليمن، وعن الشرق وعن الغرب. واكشف كل كرب يا كاشف الكروب، وادفع البلايا، يا دافع الخُطوب، وعاملنا بما أنت أهله يا برّ يا رحمن، وأصلح لنا شؤوننا بما أصلحت به بشؤون الصالحين. بسرِّ القرآن ومَن أَنزلت عليه القرآن، وبسرِّ الذكر والذاكرين من أهل السماوات والأرضين، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. 

بسرّ الفاتحة

 إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

25 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

18 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام