الأربعين في أصول الدين - 1 | الذات، التقديس، الحياة والقدرة
الدرس الأول للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي .
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الأربعاء 19 صفر 1447هـ
شرح القسم الأول: في جمل العلوم وأصولها (الأصل الأول: الذات، الأصل الثاني: التقديس، الأصل الثالث: الحياة والقدرة)
-
تناول الحبيب عمر في الدرس شرح مقدمة الكتاب وأقسامه الأربعة، وهي:
-
جمل العلوم وأصولها (عشرة أصول).
-
الأعمال الظاهرة (عشرة أصول).
-
الأخلاق المذمومة (عشرة أصول).
-
الأخلاق المحمودة (عشرة أصول).
- الأصل الأول في الذات الإلهية، بيّن أن معرفة الله هي أعظم العلوم، وأنه سبحانه واحدٌ لا شريك له، قديم بلا بداية، وأبدي بلا نهاية، منزَّه عن كل نقص أو مشابهة للمخلوقات، وأن قربه وفوقيته معنويان لا جسمانيان.
- الأصل الثاني في التقديس، أكد تنزيه الله عن الجسمية والحد والمقدار، وعن أن تحويه الجهات أو تحيط به المخلوقات، وأنه كان قبل خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان.
- الأصل الثالث في الحياة والقدرة، أن حياته أزلية أبدية ليست كحياة المخلوقات، وأنه القادر على كل شيء، بيده الخلق والأمر، والسماوات مطويات بيمينه، والخلائق جميعًا في قبضته.
نص الدرس المكتوب :
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الحمدُ لله رب العالمين حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة على رسوله محمد وآله أجمعين، والعاقبة بالفوز والتمكين لِمَنْ بنى الابتداء بالاقتداء على سبيل المتقين .
كتبنا من كتاب (الجواهر في القرآن) القسم الثالث المُصنَّفَ للإمام حُجَّةِ الإسلامِ لقَّاهُ اللهُ رضوانَهُ، وأسكنهُ جِنانَهُ ؛ بعدَ إِذْنِهِ لِمَنْ أراد أن يكتب منه هذا القسم مفرداً؛ إِذْ هو قد أفرده بالاسم، وسمّاه كتاب (الأربعين في أصول الدين)؛ فَإِنَّها مُنقسمة إلى علوم يرجع حاصلها إلى عشرة أصول، وإلى أعمال؛ وهي تنقسم إلى أعمال الظاهر وأعمال الباطن، وإنَّ الأعمال الظاهرة ترجع جملتها إلى عشرة أصول أيضاً، وإنَّ العمل الباطن ينقسم إلى ما يجب تزكية القلب عنهُ مِنَ الصفات المذمومة، وترجع مذمومات الأخلاق أيضاً إلى عشرة أصول، وإلى ما يجب تحلية القلب به من الصفات والأخلاق، وإنَّ محمودات الأخلاق أيضاً ترجع إلى عشرة أصول.
فيشتمل قسم اللواحق على أربعة أقسام: المعارف، والأعمال الظاهرة، والأخلاق المذمومة، والأخلاق المحمودة، وكلُّ قسم يتشعبُ إلى عشرة أصول؛ فهي أربعون أصلاً".
الحمد لله الذي يفتح أبواب المعرفة لمن سبقت لهم منه سوابق السعادة بالتوفيق للعمل والتحقق بحقائق الأعمال والصفات والأخلاق التي بها يتخلقون نشهد أنَّ الله الذي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منه المُبتدأ وإليه يرجعون، يعلم مايُسرون وما يُعلنون، نشهد أنَّ سيٍدنا مُحمدًا عبده ورسوله الأمين المأمون، بعثه بالهدى ودِين الحقِّ ليظهره على الدين كله ولو كَرِه المُشركون. فصلِّ اللهم وسلم وبارك وكرِّم على من جائنا يتلوا علينا آياتك ويزكّينا ويعلمنا الكتاب والحِكمة، إمام الأئمَّة، سيَّد المُرسلين، وخاتم النبيين، مُحمّد بن عبد الله، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم.
وبعدُ،،
فكما سمعتم في هذه الخُطبة، أنَّ الكتاب هذا جزء من كتاب "جواهر القرآن" للإمام -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-، خاطب فيه المؤمن إلى كم يقف على ساحل البحر ولا يغترف من جواهره شيئًا؟ والقرآن البحر الكبير العظيم، وجواهره فيها المعرفة بالله تبارك وتعالى، وحقائق الأشياء، وأمر الحاضر والمستقبل، وأمر المعاش وأمر المعاد، وأمر الظاهر وأمر الباطن، كما قال: ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [سورة الأنعام:38]. فتحدث هناك عن واجب المؤمن نحو هذا الكتاب، وذَكرَ مقاصد القرآن العظيم وأرجعها إلى ثمانية مقاصد.
وتكلَّم عن تلك الجواهر المُتعلِّقة بصفات الحق -تعالى- وأفعالِه وصفاته وأسمائه وذاته العلية -جلَّ جلاله- وأخباره النبوة والرِّسالة والمصير والمرجع إليه جلَّ جلاله.
من جُمّلة ذلك في أثناء الكتاب أذِن أن يُكتب هذا الجزء من الكتاب كتابًا مُستقلًا خالصًا؛ لما حواه من أُسس مُهِمة للسائرين إلى الله -تبارك وتعالى- تكفيهم فيما رتَّبه من هذه الأربعة الأقسام. كل واحدٍ من هذه الأربعة الأقسام يتفرع إلى عشرة أصول، فصارت أربعين أصلًا؛ فهي (الأربعين في أصول الدين) فيشتمل:
- على المعارف؛ والمعارف لها عشرة أصول.
- وعلى الأعمال الظاهرة، وهو يشتمل أيضًا على عشرة.
- والأخلاق المذمومة؛ ويشتمل على عشرة أصول.
- والأخلاق المحمودة؛ ويشتمل على عشرة أصول.
فهو يتحدَّثُ عن ذلك إلى أعمال في الظاهر والباطن، وأعمال الظاهر ترجع جُملتها إلى عشرة، وأعمال الباطن تنقسم إلى ما يجب تزكية القلب عنه من الصفات المذموم؛ ترجع أيضًا مذمومات الأخلاق إلى عشرة أصول، وما يجب تحلية القلب به؛ وهي ترجع إلى عشرة أصول كذلك. والمعارف كذلك، أو أصول الأخلاق أو محمودات الأخلاق؛ ترجع إلى عشرة.
فتبيَّن أنَّه ذكرَ في المعارف عشرة أصول، ثم في الأعمال الظاهرة عشرة أصول، ثم في الأخلاق المذمومة عشرة أصول، ثم في الأخلاق المحمودة عشرة أصول -نفعنا الله بها ومافيها-؛ لأنها عبارة عن شرح لما دُعينا إليه، وأُمرنا به على لسان الحقِّ بلسان رسوله ﷺ، وما رسمه الحقُّ لنا مسلكًا للوصول إليه، وللعمل بشريعته، وللوفاء بعهده على ظهر هذه الأرض.
فالله يوفقنا للفهم والمعرفة وللعمل والذّوق والتحقُّق، إنّه أكرم الأكرمين.
ويسرد لنا الآن فهرسة لهذه الأقسام العشرة والعشرة والعشرة والعشرة.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:
"قال أما قسم المعارف فعشرة أصول: أصل في ذات الحق تبارك وتعالى، وأصل في تقديس الذات، وأصل في القدرة، وأصل في العلم، وأصل في الإرادة، وأصل في السمع والبصر، وأصل في الكلام، وأصل في الأفعال، وأصل في اليوم الآخر، وأصل في النبوّة. وخاتمة في التنبيه على الكتب التي منها تُطلب حقائق هذه الأصول.
القسم الثاني في الأعمال الظاهرة وهي عشرة أصول: أصل في الصلاة، وأصل في الزكاة، وأصل في الصوم، وأصل في الحج، وأصل في قراءة القرآن، وأصل في الأذكار، وأصل في طلب الحلال، وأصل في حسن الخلق مع الناس، وأصل في الأمر بالمعروف، وأصل في اتباع السنة. وخاتمة تنعطف على الجميع في ترتيب الأوراد.
القسم الثالث في أصول الأخلاق المذمومة التي يجب تزكية النفس عنها: وهي عشرة أصول: أصل في شره الطعام، وأصل في شره الكلام، وأصل في الغضب، وأصل في الحسد، وأصل في حب المال، وأصل في حب الجاه، وأصل في حب الدنيا، وأصل في الكبر، وأصل في العُجب، وأصل في الرياء. وخاتمة تنعطف على الجملة في مجامع الأخلاق ومواقع الغرور منها.
القسم الرابع في أصول الأخلاق المحمودة وهي عشرة أصول: أصل في التوبة، وأصل في الخوف والرجاء، وأصل في الزهد، وأصل في الصبر، وأصل في الشكر، وأصل في الإخلاص والصدق، وأصل في التوكل، وأصل في المحبة، وأصل في الرضا بالقضاء، وأصل في ذكر الموت وحقيقته. وأصناف العقوبات الروحانية، وخاتمة تنعطف على الجميع في التفكر والمحاسبة.
فهذه فصول الكتاب وترجمتها، وهو القسم الثالث من أقسام كتاب "الجواهر"، وهو قسم اللواحق.
ولعلك تقول: هذه الآيات التي أوردتها في القسم الثاني تتشتمل على أصناف من العلوم والأعمال مختلطة، فهل يمكن تمييز مقاصدها وشرح جملها على وجه من التفصيل والتحصيل حتى يمكن معه التفكر في كل واحدة منهما على حيالها، ليعلم الإنسان تفصيل أبواب السعادة في العلم والعمل ويتيسر عليه تحصيل مفاتيحها بالمجاهدة والتفكر؟ فأقول: نعم ذلك ممكن، وأنا أميزه لك إن شاء الله تعالى، فإنه ينقسم جمل مقاصدها إلى علوم وأعمال، والأعمال تنقسم إلى ظاهرة وباطنة، والباطنة تنقسم إلى تزكية وتحلية، فهي أربعة أقسام: علوم، وأعمال ظاهرة، وأخلاق مذمومة تجب التزكية عنها، وأخلاق محمودة تجب التحلية بها. وكل قسم يرجع إلى عشرة أصول. واسم هذا القسم (كتاب الأربعين في أصول الدين). فمن شاء أن يكتبه مفردًا فليكتبه، فإنه يشتمل على زبدة علوم القرآن".
هكذا زبدة علوم كتاب الله -تبارك وتعالى- الجامع للخير كله. فالله يرزقنا السِّعه في العلوم والفهوم فيها، ويرزقنا القيام بالأعمال على الوجه الذي يرضيه، ويَخلِّينا -سبحانه وتعالى- عن الأخلاق المذمومة كلها ويصفّينا عنها، ويثبتنا على الأخلاق المحمودة ويُحلِّينا بها، ويجعلنا من الرَّاسخة أقدامهم فيها. اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.
فهذا هو البيان عن (الأربعين في أصول الدين)، فيبدأ في جُمل العلوم وأصولها في المعارف، وهي عشرة أصول.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:
القسم الأول: في جُمل العلوم وأصولها وهي عشرة.
الأصل الأول:
في الذات
"فنقول: الحمدُ لله الذي تعرّف إلى عباده بكتابه المُنزل على لسان نبيه المرسل، بأنه في ذاته واحد لا شريك له، فرد لا مِثل له، صمد لا ضد له، متوحد لا ندّ له.
وأنه قديم لا أول له، أزلي لا بداية له، مستمر الوجود لا آخر له، أبدي لا نهاية له، قيوم لا انقطاع له، دائم لا انصرام له، لم يزل ولا يزال موصوفًا بنعوت الجلال، لا يَقضي عليه بالإنقضاء تَصرُّم الآماد وانقراض الآجال، بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم".
هذا أوّل ما يجبُ على كل مُكلف فيما أرسل الله -تعالى- أنبياءه إلى عباده: أن يعرفوا الله؛ والمعنى: يعرفوا وجود ذاته العليّة وصفاته السنيَّة سبحانه وتعالى. فجعل هذا الأصل الأول فيما يتعلَّق بذات الإله -سبحانه وتعالى- من خلال معرفتنا بالصِفات اللازمة الثابتة المُتعلقة بالذات، وأشار إلى أنَّ الحق تعرَّف إلى عباده بكتابه المنزل على لسان نبيه، وأنَّ أوسع أبواب المعرفة بالله والإهتداء إلى تحصيل النصيب منها هو من خلال الإصغاء والاستماع إلى كتاب الله ووحيه وما أنزله على رسوله، وما بيّن هذا الرسول ﷺ فيما أوحى الله إليه.
- فلا يتوصّلُ إلى اليقين إلا بحُسن الإصغاء والإستماع إلى ذلك والعمل بمقتضاه.
- وغاية العقل أن يهدي أو يدُل صاحبه على أنّ لهذا الوجود مُوجِد، ولهذا الكون مُكوِّن، ولهذا الخلق خالِق ضرورة، فيهتدي إلى ذلك.
- ولكن لا يستطيع أن يعرف ما هي صفات هذا الحق وماهو معنى ذاته وبقية صفاته إلا من خلال تعرُّف الحق نفسه إلى عباده فيما أوحاه على نبيه ﷺ.
وكذلك الأمم من قبلنا فيما أوحاه إلى أنبيائهم، فبإصغائهم إلى ما أُوحيَ إلى أنبيائهم ينالون نصيبًا من المعرفة بالله -تبارك وتعالى- على العموم أولًا، ومنهم من يترقىَّ إلى الخُصوص، فيكون شأنه في المعرفة أدقّ وأحقّ وأوثق وأقوى وأعظم. وجميع ما ينالونهُ من المراتب والمقامات ولذائذ الروح في الدنيا، ثم في البرزخ، ثم في القيامة، ثم في الجنة؛ مُرتبٌ على قدِرِ هذه المعرفة بالله.
فمن كان بالله أعرف؛ فهو أشرف، وهو أذوق، وهو شأنه أحلى في جميع أنواع النعيمّ، وفي جميع ما يواصَل به المؤمنون وهم في الدنيا قبل الآخرة من أذواق القُرب والمعرفة والمحبّة والرِّضا وما تعلَّق بذلك من لذة المناجاة وما يدخل فيها، ثم ما يكون من نتائج ذلك في البرزخ، ثم في مواقف القيامة، وحتى عند العرض عليه -جلَّ جلاله- ثم في دار الكرامة والنّعيم الدَّائم المُقيم؛ النّصيب من كل ذلك على قدر المعرفة بالله، فلا شيء أعلى من المعرفة بالله، ولا شيء يحصّله مخلوق في السماء أو في الأرض أجلّ وأجمل من معرفته بالله، وإنَّ هذه المِعرفة مَعرفة عامة ومعرفة خاصة.
وعلى المَعرفة الأساسية والعامة يقوم الدخول في الدِّين وحقائق الإسلام والإيمان، ويُترقّى بها إلى مراتب الإحسان إذا قام بها على وجهها أفضت به إلى المعرفة الخاصة، وذلك نتيجة للتحقق بهذه المعرفة الأوّلية.
فتحدَّث -عليه رضوان الله- أنَّ الله تعرّف إلينا في كتابه على لسان رسوله بأنَّه في ذاته واحدٌ لا شريك له.
- وقال: (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ) [سورة البقره:163].
- ولما سألوه: صِف لنا ربِّك؟ أنزل: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [ الإخلاص:1-4]
يقول: تعرّف إلينا إلهنا الذي خلقنا "بأنه في ذاته واحد لا شريك له"؛ لم يشاركه في الخلق ولا في الإيجاد ولا في الإبداع شيء من الكائنات. "كان الله ولم يكن شيء غيره" كما جاء في صحيح البخاري: "كان الله ولم يكن شيء معه"، فخلق الخلق، فكل ما سِوى الله ففعل الله، كل ما سِوى الله مخلوق لله. فلذا لا يوجد في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله، وأفعاله جميع الموجودات بأصنافها وصفاتها كلها فعله -سبحانه وتعالى- وكلها خلقهُ وإيجاده. قال تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ) [الزمر:62].
"فهو في ذاته واحد لا شريك له، فردٌ -متفرد: مُتنزه- لا مثلٍ له"؛ لا يُماثله ولا يُناظره ولا يشابهه شيء من الكائنات كلها، من أولها إلى آخرها، لا يُشبهُهُ منها شيء ولا يُشبِهْهُ منها شيءٌ -جلَّ جلاله- فهو أجلّ وأكبر، وهذا من معاني قولنا الله أكبر:
- أكبر من أن يُشابه شيئًا من الكائنات.
- أو أن تشابهه شيء من الكائنات.
- أو أن يحيط به شيء من جميع المخلوقات.
فهو أكبر من كل ذلك -جلَّ جلاله-،وليس المُراد نسبته إلى غيره من الكائنات أنّه أكبر، كيف أكبر؟ أكبر من ماذا؟ من مخلوقاته وكائناته؟ وهل من نسبة بينه وبين الكائنات حتى تقول هو أكبر؟ شيء كبير! وأما المخلوقات في أصلها عدم، ومن الوجه الذي أوجدها وخلقها فهو وجهه، فلا يقال الله أكبر من وجهه؛ ولكن:
- الله أكبر مِن أن يُحاط به.
- الله أكبر مِن أن يشبهه شيء.
- الله أكبر مِن أن يُتخيل بخيال أحد.
- الله أكبر من أن يُحاط بوصفه أو أسمائه فضلًا عن ذاته العلية.
فهذا معنى الله أكبر رزقنا الله حقيقة التكبير له.
"فرد لا مثل له، صمد لا ضد له"؛ يعني: يُصمد إليه أي: يُقصد في الحوائج والشدائد، لا يمكن أن يكون له ضد، فإنّه لا يحدث حدث إلا بإرادته وقضائه وقدره -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-، ولا يملك شيء من مخلوقاته أن يعلو عليه، ولا أن يضاده، ولا أن يكون على غير إرادته -جلَّ جلاله-.
"صمدٌ لا ضد له"؛ فالصّمد: الذي يُصمد إليه، يُقصد على الدوام في الحوائج والشدائد، والأمر له.
"مُتوحد لا ند له"؛ لا يمكن أن يكون له نديد، لا يمكن أن يكون له ضد، لا يمكن أن يكون له مُماثل ولا شبيه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
تعرّف إلينا الحق بهذا في آيات كثيرة وبيانات على لسان رسوله ﷺ، وأخبرنا أنَّه الأول:
- (هُوَ الْأَوَّلُ) وهذا معنى قوله: "وأنه قديم"؛ أي: وجوده ذاتي، لا افتتاح لوجوده، لا ابتداء لأوليته.
- (هُوَ الْأَوَّلُ)؛ الأولية المُطلقة، وجوده ذاتي، موجود بذاته، وهذا وصفه الذي لا يوجد في شيء من جميع الكائنات والمخلوقات، لا علويها ولا سُفليها، لا سماويها ولا أرضيها، لا دنيويها ولا أخرويها، لا شيء من هذه الكائنات إلا وكان عدمًا ثم وُجد، لكن هو موجود بذاته، (هُوَ الْأَوَّلُ).
"قديمٌ لا أول له، أزليٌّ"؛ أي: موجود بذاته لا بداية له.. ماشي له بداية، موجود بلا بداية -سبحانه وتعالى-، فهو أصلُ جميع الكائنات والموجودات، جميعها فعله وليس لها من مُوجد ولا خالق ولا مُصوّر سواه، فهذا معنى قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ) .
ومعنى قوله -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [الحديد: 3]؛ أنّه مُستمر الوجود لا آخر له، أبديٌّ لا نهاية له:
- فكما لا ابتداء لأوليته، فلا انتهاء لآخريته.
- وكما أنّه موجود بذاته، فهو دائم بذاته -سبحانه وتعالى- أبدي لا نهاية له؛ وهذا معنى قوله (وَالْآخِرُ).
وبهذا تعلم أنّه لما يأتي وصف من أوصاف الله أو اسم من أسمائه فيطلق عليه، فيكون معناه غير ما يطلق هذا الوصف على أي كائن من الكائنات، قد يقال: هذا أول، أول في وصوله للمُصلى هنا أو الأول أي: هذا الأول في الاختبار؛ طلع الأول، لكن هذه أولية بعيدة من معنى "الأول" عندما يُنسب الأول لله تعالى، لا قربى من قريب لها بأي وجه من الوجوه، هذا معنى آخر.
فكُل اسم أُطلق على الإله: فمعناه أمر عظيم لائق بذات الإله، لا يشابه الكائنات في شيء؛ فمهما سُمي أي شيء آخر "أول" فأوليته نسبية، إضافية، حادثة، وقد سبقته أشياء كثيرة.
ولكن الأول على الإطلاق هو الله.
- فإذا قلنا الله هو: الأول: فالأول هنا ليس كما نقول لأي شيء "أول".
- وإنْ قيل: القلم الأول، أو العرش الأول، أو الكرسي الأول، أو قلنا: العقل الأول، كلها أولية حادثة، وأولية بمعانٍ تليق بالكائنات والمخلوقات، وهذه الأولية بالنسبة للخلق بعيدة جدًا عن معنى الأولية للحق -جلَّ جلاله-.
وكذلك إذا قلنا الآخِر:
- إذا قلنا الآخِر لأي مخلوق: آخر واحد وصل، أو آخر واحد يقوم، أو آخر واحد في ترتيب الصف في المدرسة، وإلا آخر... لكن أين هذه الآخرية؟
- إذا قلنا "الله الآخر"، يعني: دائمًا مؤبدًا لا نهاية له. وأين هذا؟ هذا ما ينطبق على أحد؛ ما يتأتّى لأحد من الكائنات أن يُوصف بالآخر بهذا المعنى أصلًا.
وهكذا جميع الأسماء والصفات، إذا انطلقت على الحق فمعناها بعيد عما يوصف به الخلق. وإذا انطلقت على المخلوقين فمعناها لائق بذوات المخلوقين وشؤونهم ونقصهم. فلا هناك مشابهة ولا مماثلة وإن كان اللفظ واحدًا: أول وأول، وآخر وآخر، وظاهر وظاهر، وباطن وباطن، وعالم وعالم؛ هذا بمعنى وذا بمعنى ثاني آخر بعيد لا يشابههُ هذا المعنى ولا يماثله قط.
"مستمر الوجود لا آخر له، أبديٌّ لا نهاية له". تعرّف إلينا -سبحانه وتعالى- في كتابه على لسان رسوله أنه قيوم، قال تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255]. قيوم لا انقطاع له:
- قائم على كل نفس بما كسبت.
- قائم على التقديم والتأخير، والنفع والضُر، والرفع والخفض، والإعطاء والمنع، والتصوير، وجميع ما يتعلّق بشؤون الكائنات.
- وما من شيء ولو ذرة في الكون، خارجة عن قيوميته.
ما خلق شيئًا من الكائنات وسيّبه وتركه لغيره.
- (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[المائدة:120].
- (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)[الملك:1].
فهو قيوم -جلَّ جلاله- لا تقديم إلا به، ولا تأخير إلا به، ولا نفع إلا به، ولا ضُر إلا به، ولا عطاء إلا به، ولا منع إلا به، ولا رفع إلا به، ولا خفض إلا به؛ فكل ما يجري في الوجود فالحق قيوم عليه، قائم به لولاه ما كان. فهو قيوم لا انقطاع له.
"دائم لا انصرام له. لم يزل ولا يزال موصوفًا بنعوت الجلال والعظمة والكبرياء، لا يقضى عليه بالانقضاء تصرُّم الآماد والآماد وانقراض الآجال"؛ فالآماد والآجال مخلوقة بخلقه، هو المتحكم فيها، وجعلها مؤثرات على الكائنات، سواءً كانت شجرة أو حيوانًا أو إنسانًا، مرور الوقت عليه يؤثر فيه ويقضي عليه ويبدله؛ لكن الحقّ تعالى منزه عن مثل ذلك، فهو على ما هو عليه كان، لا يغيره شيء، يغيِّر ولا يَتغيّر، ويُبدِّل ولا يتبدل، ويقدِّم ويؤخِّر، ويرفع ويخفض، ويعطي ويمنع، ويُعز ويُذل. (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].
فهذه العوارض العارضة للكائنات من بداية خلقها إلى أي نهاية كتبها لها، قائمة بعينه وإرادته وقدرته ونظره. فهو قيوم عليها -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.
ولا تؤثر فيه مُرور الأيام، هو خالق الليالي وخالق الأيام وخالق الزمن. جعل الأزمنة مؤثرة في الكائنات، تطوّل ذا وتقصّر ذا، وتُحيي ذا وتُميت فيها ذا، ويحيي فيها ذا؛ لكنه لا تمرّ ولا يؤثر عليه شيء، بل هو المؤثر في كل شيء -جلَّ جلاله- بل: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم".
فإذا قيل: إن الله عليم، من وصفه العلم، فلا معنى يقارب أن نصف إنسانًا بأنه عليم أو عنده علم أصلًا لا من قريب ولا من بعيد. عِلم كل عليم من أول الخلق إلى آخرهم:
- حادث.
- ومحصور.
- ومحدود.
- ويقبل الزيادة ويقبل النسيان والنقص.
هذا علم الخلق، كل عالم من خلقه؛ فهذه كل النقائص ليست في علم الله تعالى. وإذا قلنا الله عليم، فليس فيه شيء من هذا قط، علمه أزلي أبدي محيط بكل شيء.
وهكذا تعالى أن يشابه خلقه أو يُشابهُ أحد من خلقه. (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ).
آمنا بالله كما هو.
فهذا الأصل الأول من أصول المعرفة في الذات، نتعرفّ ما ذات ربنا وما صفاته؟ لا نستطيع إلا أن نتعلم من صفاته هذا التقديس، وهذا التعظيم، وهذا الإجلال، وهذه الخصائص التي لا يمكن أن تكون لمخلوق أصلًا كائنًا من كان.
ويواصل لنا -عليه رضوان الله تعالى- معاني هذه المعرفة الأولية بالله -تبارك وتعالى- والعلم بصفاته.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:
الأصل الثاني
في التقديس
"وأنه ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدَّر، وأنه لا يماثل الأجسام لا في التقدير ولا في قبول الانقسام. وأنه ليس بجوهر ولا تحله الجواهر، ولا بعَرَضٍ ولا تحله الأعراض. بل لا يماثل موجودًا ولا يماثله موجود، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، ولا هو مثل شيء. وأنه لا يحدّه المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرض والسماوات".
يقول -عليه رضوان الله تعالى- في التقديس لله، ومعنى التقديس: التنزيه له -سبحانه وتعالى- والتسبيح، تسبيحه وتقديسه وتنزيهه عن كل ما لا يليق بعظمته، فمنها مسألة الأجسام المُصورة، وهذا أمر ملازم لكل جسم مصور، من العرش إلى ما تحت الثرى، كلها أجسام مصورة، فهذا وصف الكائنات الجِسمانية، والحق منزه عن ذلك، "ليس بجسم مُصور ولا جوهر محدود مقدّر".
فإن
- الجوهر: ما قام بنفسه من الكائنات هذه والأجسام.
- والعَرَض: ما لا قيام له بنفسه إلا من خلال ذلك الجوهر.
فمثلًا: جسم الإنسان جوهره، وأمّأ طوله وعرضه هذه أعراض ليست بجواهر؛ ما يمكن شيء طويل من دون جسم.. كيف يعني! بس هو طويل بس ما في جسم..! الطول ما يقوم إلا بجسمانية، فلا بُدَّ من جسم ليقال إنه طويل أو قصير. فالطويل والقصير هذه أعراض، أبيض، أسود، أحمر، أصفر، هذه أعراض؛
- فالعَرض: ما يقوم بغيره.
- والجوهر: ما يقوم بنفسه.
فهذه الجواهر والأعراض في الكائنات والجسمانيات الموجودة بأعراضها في العوالم العلوية والسفلية، لا يشابهها ولا تشابهه، "فليس هو بجسم مصوّر، ولا جوهر محدود مقدّر، لا يماثل الأجسام لا في التقدير ولا في الانقسام"؛ الأجسام تقبل القسمة، وتقبل التعدّد، وهذا شي كله وصف الكائنات والمخلوقات مُنزّه عنه الخالق المكون -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.
لهذا قال: "ليس بجوهر ولا تحله الجواهر"، لا يحل في شيء من الجواهر وهذه الكائنات.
"ولا بعَرَضٍ يقوم بالجواهر ولا تحله الأعراض، بل لا يماثل موجودًا"؛ من جميع ما أوجد "ولا يماثله موجود".
والحال كما وصف نفسه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى: 11].
"ولا هو مثل شيء"، لا إله إلا هو آمَّنا به.
"وأنه لا يحدّه المِقدار"، فهذا شأن المخلوقات، سواء كانت حسيات أو معنويات، لها قدر واحد محدود؛ فسواء جسمك أو وجودك أو سمعك أو بصرك كلها لها حدود ولها مقدار مُحدّد به ما تتجاوزه. فهذه شؤون الكائنات والأجسام، وهو الحق منزه عنه. "لا يحدّه المقدار، "ولا تحويه الأقطار". وما هي الأقطار؟ لم يكن قطر ولا شيء، ولكن هو الذي خلق هذه الأقطار، فهي مُجرد أفعال من أفعاله، هو المحيط بها وبكل شيء، حاشا أن تحويه أو أن يحل في شيء، أو أن يحلّ فيه شيء، تعالى الله عن الحلول في شيء أو عن أن يحلّ فيه شيء،فهو رب كل شيء، وهو المُنزّه عن مشابهة أي شيء.
"ولا تحيط به الجهات"، لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف. هذه حوادث بحدوث هذه الهيئة للإنسان.
ولمَّا خُلق الإنسان:
- جُعِلَ له جانبً قوي، وجانب أضعف غالبًا؛ فسُمي: هذا أيمن وهذا أيسر.
- وجانب بتلقاء وجهه: هذا سُمي قُدّام وأمام.
- وجانب وراء ظهره: يُسمى خلف ووراء.
- وجانب الذي يلي رأسه: يسمى فوق.
- وجانب يلي رجلاه -قدمه-: يسمى تحت.
هذا الآن خلفه كذا يقول كذا، ورجع خلفه كذا، ويقول كذا، ويرجع خلفه كذا، ما هناك شيء اسمه خلف ثابت إلا بوجود الجسم، جاء خلف، وجاء أمام، وجاء قدّام، وجاء وراء، وجاء يمين، وجاء يسار، وجاء فوق وجاء تحت، هذا شأن الكائنات.
أما الحق، لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا قدام ولا وراء؛ الجهات الست كلها هو مُنزّه عنها -جل جلاله-، ولا تحيط به وهو يحيط بها كلها، وهو خالقها والمتصرف فيها. رزقنا الله كمال الإيمان واليقين.
"لا يحدَّ المِقدار ولا تحويه الأقطار. ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرض والسماوات"؛ بل هو المُحيط بها، وهو الماسك لها، وهو المسيّر المدبر لشأنها جلّ جلاله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر:41]؛ أي: ما أمسكهما من أحدٍ من بعده، لا يقدر أحد أن يُمسك الأرض ولا يمسك السماء.
والمغترون على ظهر الأرض مهما اغتروا لا يستطيعون أن يمسكوا بقعة من الأرض عن اهتزاز -عن هزة أرضية-، ولا عن خسف ولا عن زلزال. حتى الدول المتقدمة يجئ فيها زلزال!! لا كرسي حق قائد وحق ملك يجيء زلزال، ما يملكون شيئًا في الأرض ولا تسييرها، ما عدا ما اختبر الله به عباده من هذه الأمور الحسّية (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ)[الملك:2]؛ فيما آتاهم والملك له وحده جل جلاله وتعالى في عُلاه.
فهو الذي يُسيّر هذه السماوات والأرض ويمسكها ويقدّرها ويطورها وينهيها متى ما شاء على ما يشاء -جلّ جلاله-.
وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
"وأنه مستوٍ على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء مُنزّهاً عن المُماسة والاستقرار، والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحَمَلَتُهُ محمولونَ بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته.
وهو فوق العرش، وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربًا إلى العرش والسَّماءِ، كما لا تزيده بعداً عن الأرض والثرى، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أَنَّهُ رفيع الدرجاتِ عن الثرى.
وهو مع ذلك قريبٌ مِنْ كلّ موجود، وهو أقرب إلى العبيد مِنْ حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد؛ إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام.
وأَنَّهُ لا يَحُلُّ في شيء، ولا يَحُلُّ فيه شيء، تعالى عن أن يحويه مكان، كما تَقدَّسَ عن أن يَحُدَّهُ زمان، بل كان قبل أن خلق الزَّمان والمكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وأنَّه بائن عن خلقه بصفاته، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه ذاته.
وأَنَّهُ مُقدَّس عنِ التَّغير والانتقال، لا تَحلُّهُ الحوادث، ولا تعتريه العوارض، بل لا يزال في نعوتِ جلالِهِ مُنزَّهاً عنِ الزَّوالِ، وفي صفات كماله مستغنياً عن زيادة الاستكمال.
وأنَّه في ذاته معلومٌ الوجود بالعقول، مرئيٌّ الذات بالأبصار، نعمة منه ولطفًا بالأبرار في دار القرار، وإتمامًا للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم". جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
يقول فيما جاءنا من تعرُّفه في القرآن، أوصافه في القرآن قوله تعالى:
- (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5].
- (ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف:54]، جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
هذا الاستواء، كما ذكرنا في "الأول"، كما ذكرنا في "الآخر"، كما قلنا في: "القادر"، كما ذكرنا في: "العليم"، كما ذكرنا في "الرحيم"؛ كلها أوصاف لا تشابه صفات الكائنات والمخلوقات.
فإذا قلنا (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]:
فلا معنى للاستواء الذي يكون في الأجسام، لا بالقعود عليها، ولا بالقيام فوقها، ولا بالجلوس، لا شيء من جميع هذه التصورات للجسمانيات؛ استواؤه -سبحانه وتعالى- على الوجه اللائق به وهو بعيد عن تصور الأذهان.
لهذا قال "مستوٍ على العرش على الوجه الذي قاله"، قال: (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).. هل يمكن أن يكون استواؤه كاستواء كائن على كائن! جسم على جسم! استغفر الله العظيم.
لا علمه كعلم المخلوقين، ولا استواؤه كاستواء المخلوقين، ولا أوصافه كشيء من أوصاف المخلوقين. والاستواء على العرش كذلك (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ)[الشورى:11].
قال: "على الوجه الذي قاله، بالمعنى الذي أراده"؛ ولم يكلفنا أن ندرك هذا المعنى ولا نعرفه، يكفينا أن نؤمن أنه كما قال على العرش استوى، وأن هذا الاستواء لائق بجلاله لا يشابه استواء الكائنات من قريب ولا من بعيد؛ هذا يكفينا، وهذا الذي أُمرنا به ولم نكلّف غير ذلك.
لهذا يقول: "استواءً منزهًا عن المماسة والاستقرار"، فهذا بين الأجسام والأجسام، ليس بين مخلوق وخالق.
"عن المُماسة والإستقرار"، هذه شؤون وأوصاف الأجسام.
"والتمكن والحلول والإنتقال"، فالعرش وحملة العرش، ومن فوقه ومن تحت، محمولون بلطف قدرته، وهو الحامل لهم جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، يحمل العرش.. نعم؛ لكن الذات أعلى وأجل وأكبر من أن يكون لها وصف حملٍ وغيرها، هذه أوصاف الكائنات، أوصاف الجسمانيات، والحق مِنزه عن ذلك، (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:4].
فما معنى الاستواء؟
المعنى الذي أراده -سبحانه وتعالى- على الوجه الذي قال، لسنا بمكلفين بإدراكه، كما لا نستطيع أن نحيط بصفات قدرته ولا إرادته ولا علمه، فلا نحيط بمعنى استوائه -جلَّ جلاله-. فهو على الوجه الذي قاله، وهذا الذي كُلفنا به وأُمرنا بالإيمان به.
قال: "لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته".
(مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)[هود:56]. فالذين يريدون أن يمثلوا من استواء العرش تمثيل الأجسام يقولون: "وآخذ بناصيتها"، كيف هذا؟ هاتها على التفسير حقك ورجّعه الآن عند النواصي ولا في العرش؟ يا أبله! يا بليد! الحق أكبر وأجلّ من أن يحل في مكان أو يحل فيه مكان. (هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) على الحقيقة.
وبعضهم ينكر المجاز في اللغة، هذا حقيقة! طيب، على الحقيقة، وبعدين (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) على الحقيقة.!! وبعدين رجع فين؟ هنا عند النواصي آخذ بناصيتها ولا فوق العرش؟ وبعدين يؤول يقول: " بقدرته"، بسم الله الرحمن الرحيم، خلاص سلم بالتأويل وخذه لك، وابعِد لك عن التشبث بأن تشبهه، من التشبث بأن تجسّمه. فالأجسام وأعراضها ومعنويات المخلوقات كلها، هو أجلّ منها وأكبر -جلّ جلاله- ولا يحل فيه ولا تحل فيها، ولا تشابهه ولا يشابهها. هكذا عقيدة الأنبياء وأتباعهم -عليهم صلوات الله وتسليماته-، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11].
يقولُ: "وهو فوق العرش"؛ لكن إيش من فوقية! ليست فوقية مسافة، وفوق السماء وفوقك أو لا؟ (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)[الأنعام:18]، وأنا واحد من عباده، وهو فوقي!..فوقي؟! أين ذِكر الذات أو ذِكر المكان؟! وهذه الفوقية. ويقولون عندهم باللغة التي نزل بها القرآن، لغة العرب: "فلان فوق فلان"، هل يجيء واحد يتصور -يحس كذا فوق رأسه- ينظر، يقول: لا أحد فوقه، لا ليس فوقه؟ وقد يكون هذا الفلان الدي فوقه يقول لك مثلًا: الملك فوق الأمير. يجيء أحد يقول تكذب أنت؟ أنا رأيت الأمير لا أحد فوقه -ملك-، الأمير كان في الطابق الخامس، والملك عند السيارة في الأرض، كيف فوقه؟ هل هذا فوق أم هذا فوق؟ يقول لك: المسافات والجسمانيات، جسم هذا في مكان وهذا في مكان، أما الفوقية المعنوية؛ أبعد لك عن البلاهة حقك والبلادة. هذا فوقه ويكون في أي مكان، فوقية معنوية ليست جسمانية. يقال: لا، انظر! الملك تحت، ماشي تحت، هو في المنزلة فوق، وإن كان ذا صعد للطابق مائة حتى، فوقه.. فوقه في الرتبة، في المكانة. ما دخلنا في هذه الجسمانيات. فإذا أردنا نفسر الفوقية للرب فوقية الجسمانية أعوذ بالله من غضبه-؛ شبّهناه بخلقه، فهو فوق كل شيء، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)؛ كما أنه فوق العباد، وفوق السماء، وفوق الأرض، وفوق العرش، وفوق الملائكة، وفوق الجنة، وفوق النار، وفوق كل شيء سبحانه، -جلّ جلاله-. هذه فوقية معنوية لا دخل لها بالجسمانية ولا بالمسافات.
"فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربًا إلى العرش والسماء، ولا تزيد بعدًا عن الأرض والثرى"، الكل في قبضته، وهو أقرب إلى الواحد منّا من حبل الوريد كما ذكر -سبحانه وتعالى-.
فقُرْبه معنوي، وفوقيّته معنوية، وأخذه بالنواصي معنوي، كلها أمور ليس لها دخل في الأجسام. تريد لك صنمًا أم ماذا ؟ تريد صنم أم تريد ربًّا منزهًا كما وصف نفسه؟ ولا نقدر نعرفه إلا من خلال ما تعرّف إلينا -جل جلاله-.
قال: "بل هو رفيع الدرجات عن العرش"؛ كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، فهو أرفع من كل شيء، وأعلى من كل شيء، وهو أجل وأكبر من أن يحيط به عرش وأن يحدّه عرش، كما أنه أكبر وأجل من أن يحدّه هذا الكأس، تنزّهّ عن أن يحدّه هذا الكأس كتنزّهّ عن أن يحدّه العرش سواء بسواء. هو مُنزه عن هذا تمامًا، لا فرق بين أنه مُنزه عن أن يحدُّه عرشه، أو أن يحدُّه أي شيء في الوجود والكائنات؛ بل هو الذي يحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء، وهو بكل شيء محيط جلّ جلاله.
قال: "وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد".
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق:16]؛ ما هذا القرب العظيم؟ ومع ذا، هذا قرب جسماني أو معنوي؟ ما لك وللأجسام أنت؟ تريد صنم أم ماذا؟ الأجسام كلها مخلوقة، الأجسام من أولها إلى آخرها مخلوقة. نحن نتحدث عن الخالق -جلّ جلاله- ليس بجسم. فالقُرب قُرب معنوي، قربه معنوي -سبحانه وتعالى- فأقرب إليَّ من حبل الوريد. حبل الوريد داخل وسط حلقي وعند قلبي، وكيف هذا؟ هو أقرب إليّ من هذا. ليس مثله، حاشاه عن المثلية! أقرب، يعني قرب لا حدَّ له ولا يتصور. فقال:
- (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) جلّ جلاله.
- (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سبأ:47].
- (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)[الأعراف:6-7]. شهيد على كل شيء -جلّ جلاله-.
"وعلى كل شيء شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام. وأنه لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء -تعالى الله- تعالى عن أن يحويه مكان، كما تقدّس وتنزّه وترفع عن أن يحده زمان. بل كان قبل أن يخلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان".
فالحمد لله القديم الأول **** الآخر الباقي بلا تحوّل
التحولات هذا شأن الكائنات، أن تتحول من حال إلى حال، من طور إلى طور، مسكينة، مصنوعة، كائنة. أما هو؛ على أعلى معاني الكمال من الأزّل إلى الأبد -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-.
قال: "وأنه بائن"؛ يعني: لا يُماثل شيئًا من خلقه.
"بائن عن خلقه بصفاته، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه ذاته"؛ ذاته العليّة لا تحل فيها سواه، وليس سواه يحل في ذاته.
"وأنه مقدَّس عن التغير والإنتقال، لا تحله الحوادث ولا تعتريه العوارض"؛ فما تحلُّه الحوادث فهو حادث.
"بل لا يزال في نعوت جلاله مُنزّهًا عن الزوال، وفي صفات كماله مستغنيًا عن زيادة الاستكمال". فهو رب الكمال، والكمال كله له، وما يقال لغيره من الكائنات كامل إلا كمالًا بمعنى آخر، وهو كمال نسبيٌّ حادثٌ محدود؛ أما إذا قلنا لله كمال فهذا الكمال المُطلق.
وأول نقص لكل من وُصِف بالكمال من خلقه لهم رُتب كمال:
- الشجرة لها رتبة كمال.
- والبيت له رتبة كمال.
- والعرش له رتبة كمال.
- والإنسان له في العلم رتبة كمال.
- والبصر له رتبة كمال ورتبة نقص.
لكن كل هذه الموصوفة بالكمال، كلها فيها نقص الحدوث. ليس منها موجود بذاته كلها؛ لكن كمالهُ هو ما له دخل في هذا؛ كمال مطلق.. كمال مطلق. مهما كان كاملًا في الخلق، لكنه حادث ويقبل العدم، وأصله عدم. إيش من كمال! بس خلاص، كمال نسبي، كمال مقيّد بقيد، كمال بالنسبة؛ أما الكمال الِمطلق فله وحده سبحانه وتعالى.. سبحانه.
قال: فهو ما يحتاج إلى أن يكتسب كمال؛ أما غيره يترقى في الكمال وكماله قابل للزيادة، هذا غيره. أما هو؟ هو في منتهى الكمال أزلًا وأبدًا. لا إله إلا هو.
وقال -رضي الله عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
الأصل الثالث
في الحياة والقدرة
"وأنَّه حيّ قادر جبَّار قاهر. لا يعتريه قُصور ولا عَجْز، ولا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، ولا يعارضه فناء ولا موت.
وأنَّه ذو الملك والملكوت، والعزة والجبروت، له السلطان والقهر، والخلق والأمر، والسموات مطويات بيمينه، والخلائق مقهورون في قبضته.
وأنَّه المتفرَّد بالخلق والاختراع المتوحد بالإيجاد والإبداع، خَلقَ الخَلقَ وأعمالَهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، ولا يشذّ عن قبضته مقدور، ولا يعزُبُ عن قدرته تصاريف الأمور، لا تُحصى مقدوراته ولا تتناهى معلوماته".
جلَّ جلاله.
فهذه أصول ثلاثة من عشرة، كفيلة إذا استشعرنا معانيها وحقائقها أن تملأنا بالإله تعظيمًا، وإجلالًا، وإكبارًا، ومراقبة له في أحوالنا، وأن ننام ليلتنا على حال أحسن مع هذا الإله، ونصبح على حال أجمل معه -جلّ جلاله- في تقديسه وتعظيمه وإكباره.
ذكرَ لنا الأصلين: الأصل الأول في الذات، والثاني في التقديس، وهذا في الحياة والقدرة.
من أوصافه الحياة والقدرة. فتعرّف إلينا في كتابه على لسان رسوله أنه حي قادر؛ وهذه الحياة ليست مثل حياة شجرة، ولا حياة آدمي، ولا حياة حيوان؛ حياتهم طور من أطوار الخلق، يتعلّق بحدوثه في مدة وقابل للزوال، دعك من هذا. الحق حي.. حي.. حيٌّ الحياة الأزلية الأبدية، حياة ليست بسبب، ولا مكتسبة من شيء، فهو حي بذاته -جلّ جلاله-، وما سواه من حي إلا وهو بإحيائه؛ لا شيء غيره حي إلا بإحيائه، ما يوجد حيّ غير الله إلا بإحياء الله، هو الذي يحيي وهو الذي يميت جلّ جلاله.
فإذًا حياة الملائكة والإنس والجن حياتهم حياة قصيرة، ناقصة، حادثة، قائمة بإحيائه هو، ولو لَم يحيهم ما حِيوا، وما أحد منهم حيي إلا بإحياء الله له -جلّ جلاله- على الوجه الذي يرتضيه والرُّتبة التي يرتضيها؛ حتى إحياء الأرض، إحياء الأرض بعد موتها، فلها معنى يقال له حياة. والحياة: حياة الأرض -مثلًا- وحياة الشجرة مثل حياة الإنسان؟ تختلف.. إذا هي بينهما البين، حياة كل مخلوق مع مخلوق تختلف. وأنت تريد أن تنزل حياة الخالق إلى شيء من هذه الكائنات يا مجنون؟ ما يتأتى! أنت لو بنزل حياتك مثل حياة الأرض والشجرة ستزعل. تقول: تمثلني بأرض أنا أو بشجرة أنا؟ حياتي كريمة أكبر من هذا. وأنت تريد تنزل حياة الله، يا قليل الحياء، يا قليل الأدب! حياته أكبر وأجل من كل حياة. فلا معنى للحياة لغيره إلا مجازي حادث بإحيائه هو، بل ولا لموتهم أيضًا، ما يكونون ميتين إلا بإماتته هو، -جلّ جلاله- فلا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ولا يملكون شيئًا من تقديم أو تأخير إلا به -جلّ جلاله-.
"حي قادر جبَّار"، -سبحانه وتعالى- على كل شيء.
"قاهر" (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)[الأنعام:18] جلّ جلاله.
(لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[غافر:16]
"لا يعتريه قُصور ولا عَجْز، ولا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم" (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة:255].
فهذه عوارض للكائنات وللمخلوقات التي تنام من أنواع الحيوانات، ولا يعارضه فناء ولا موت، فهي شؤون خلقها للكائنات التي أوجدها -سبحانه وتعالى-.
"وأنَّه ذو الملك والملكوت"، يعني: خالق الحسّ والمعنى، والأجسام والأرواح، والشهادة والغيب:
- فالمُلك: ما كان من شهادة ومن حس ومن جسم يُقال له مُلك.
- والملكوت: ما كان من معنى، من روح، من غيب، يُقال له ملكوت.
- فعالم الشهادة يُقال له: عالم الملك.
- وعالم الغيب يُقال له: عالم الملكوت.
- عالم الحسّ يُقال له: عالم المِلك.
- وعالم المعنى يُقال له: عالم الملكوت.
فجسد كل واحد مِنّا من عالم المُلك، والروح التي في الجسد من عالم الملكوت. (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء:85] جلّ جلاله.
وقال تعالى عن سيدنا الخليل إبراهيم (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الأنعام:75]؛ ليس مُلك واحد، مُلك السماء والأرض هذا كل واحد يراه، حتى أكّفر كافر مُلحد يراه؛ لكن نريه ملكوت، الغيب الذي انطوى من سرّ عجائب قدرته وإرادته، سيره في الكائنات كان يطالعها الخليل إبراهيم، نريه ملكوت السماوات والأرض. لهذا لما قال (قُل انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [يونس:101].
على ماذا تنطوي؟ ما ملكوتها؟ ما غيبها؟
أما صورتها هذه أمامك صورة كذا، ولكن تدُّل غيبها ومعناها يدُّل على عظمة للخالق المِوجد -جلّ جلاله- فهو ذو المُلك والملكوت.
والعزة والجبروت، له السلطان والقهر، والخلق والأمر، والسموات مطويات بيمينه، والخلائق مقهورون في قبضته.
وأنَّه المتفرَّد بالخلق والاختراع المتوحد بالإيجاد والإبداع، خَلقَ الخَلقَ وأعمالَهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، ولا يشذّ عن قبضته مقدور، ولا يعزُبُ عن قدرته تصاريف الأمور، لا تُحصى مقدوراته ولا تتناهى معلوماته".
جلَّ جلاله.
"والعزَّة والجبروت"، وأيضًا العِزّة المُطلقة الائقة به -جلّ جلاله- في تنزّهه وتقدّسه وترفّعه.
والجبروت ما يكون من معاني أيضا قهره في عالم الملكوت، يُقال له: جبروت.
"له السلطان والقهر" فهو مَلِك كل شيء، والقاهر لكل شيء.
"له الخلق والأمر" (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:54].
- والخَلْق: ما يتعلّق بالمُدَركات بالحواس الخمس؛ يقال له: خَلْق.
- والأمر: ما لا سبيل للحواس الخمس في إدراكه، أمر. (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]، لاتراها بالعين ولا تلمسها باليد. وهذا عالم الأمر.
فارق بين الخلق والأمر (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ). لهذا قال الإمام البُخاري في آخر صحيحه: فبيّن الخلق عن الأمر، فرّق هذا خلق، وهذا أمر (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
قال: الله.. "والخلق والأمر، والسماوات مطويات بيمينه"، تعرّف إلينا بهذا لندرك المعنى، أنها كلها تحت قهره وقدرته ومسيرات بأمره؛ لأن العرب إذا أرادوا أن يعبروا عن قوة استيلاء أحد على شيء وقهره يقولون: هذا في يمين فلان، الأمر الفلاني في يمينه، يعني ماذا؟ يعني: تحت طوعه ويقدر يتصرف فيه تمامًا. فجاء التعبير عن أوصاف الحق بلغة العرب: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر:67]، يعني: جميع السماوات تحت قبضته وقدرته وتصريفه وتدبيره، لا شيء منها يفلِت عنه -جلّ جلاله- وكلها صغيرة له، حقيرة له، بالنسبة له، مدبَّرَة به سبحانه وتعالى.
ولهذا قال على سيدنا إبراهيم لما تسلّط على الأصنام وهدمها وكسرها، قال: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ)[الصافات:93]، يعني: صاروا تحت قدرته وقبضته، ولا عاد ترك واحدًا منهم وانتهى أمرها.
وهكذا (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) "والخلائق مقهورون في قبّضته" جلّ جلاله، فكلهم تحت حُكمه وقهره.
"وأنّه المتفرد بالخلق والاختراع"، فخلق وأوجد واخترع وأبدع -سبحانه وتعالى- وحده، لم يشاركه أحد في خلق أرض ولا سماء ولا عرش ولا كرسي ولا إنسان ولا جان ولا ملك ولا ظاهر ولا باطن، وحده. (قُلْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)[فاطر:3]، قال سبحانه خلق الخلق.
ويقول: "المتوحد بالإيجاد والإبداع"، (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[البقرة:117]. بمعنى مبدعها ومنشئها ومكونها وفاطرها، خلق الخلق وأعمالهم.
قال تعالى على لسان الخليل إبراهيم: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[الصافات:95-96]. فنحن وأعمالنا خلْقُ الإله.
قال: "وقدّر أرزاقهم وآجالهم" كل ما ينفعهم وأعمارهم بالأنفاس معدودة، من حين خروجه من بطن أمه إلى أن تُقبض روحه، أجل محدود بالأنفاس واللحظات، لا يزيد ولا ينقص. ولكل شيء أجل؛ يعني: وقت مُقدّر له فيه بقاؤه في هذه الحياة وينتقل عنها.
"لا يشذّ عن قبضته مقدور، وكل شيء مقدور له. ولا يعزُب عن قدرته تصاريف الأمور" ؛ أي: ما ينفصل عن قدرته تصاريف الأمور، لا تقديم ولا تأخير ولا رفع ولا خفض ولا عطاء ولا منع.
"لا تُحصى مقدوراته وهو على كل شيء قدير. ولا تتناهى معلوماته وهو بكل شيء عليم"، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[ الطلاق:12].
رزقنا الله كمال الإيمان، ورزقنا النّصيب الوافي من المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة في لطف وعافية، وزادنا توفيقًا، وألحقنا -سبحانه وتعالى- بمن وهبهم ذوقًا وتحقيقًا، ولا حرمنا خير ما عنده لشرِّ ما عندنا، وزادنا إيمانًا ومعرفة في كل نفس أبدًا سرمدًا. لا تحرمنا اللهم خير ما عندك لشرِّ ما عندنا، وزِدنا بالإيمان واليقين، ورقِّنا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، مع كمال التمكين في كل مقام من مقامات عِلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، في لطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة.
19 صفَر 1447