شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -38- آداب الصيرفي، والصائغ، وآداب الأكل
الدرس الثامن والثلاثون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1445هـ، آداب الصيرفي، وآداب الصائغ، وآداب الأكل.
فجر الجمعة 3 شوال 1445هـ.
يتضمن الدرس:
- ما هي الصرافة وشروطها
- الحذر من الربا
- لا ينفق الرديئة
- يوفي الوزن ولا يعتقد الغش والغبن
- آداب الصائغ
- الانتباه من الكذب في المواعيد
- ترك التعدي في الأجرة
- آداب الأكل وأهميتها
- غسل اليدين قبل الطعام وبعده
- التسمية ودعاء قبل الطعام
- الاكل باليمين
- فائدة في الأكل بالأصابع
- أدب الأكل مما يليه
- تصغير اللقمة وإجادة المضغ
- تنبيه عن النظر إلى الآكلين وتصويرهم
- لا يأكل متكئا
- ما هو الشبع المنهي عنه؟
- قصة ابوهريرة وأهل الصفّة
- الحمد و دعاء بعد الأكل
-
أمور لا تذكر عند الأكل

آداب الصيرفي
"يعتقد الصحة ويؤدي الأمانة، ويحذر الربا، ويقرب النسيئة، ولا ينفّق الرديئة، ويوفي الوزن، ولا يعتقد الغش والغبن، متفقّدًا لمعياره، خائفًا من نقصان صنجاته ومثاقيله."
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بالإسلام والإيمان، -ثبّت الله قلوبنا على الإسلام والإيمان، ومكّننا فيهما، وزادنا منهما، وتوفّنا عليهما مع اللطف والعافية- الذي بعث إلينا خير الأنام، عبده المجتبى محمدًا، عليه وآله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وعلى من والاهم في الله واتّبعهم إلى يوم القيامة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعليّنا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ونواصل في غَدواتنا هذه التي تجيء عقب شهر رمضان، نواصل التّدبّر للآداب التي دعانا إليها الحقّ على لسان رسوله ﷺ. وقد تقدّم أن ذكرنا بعض "آداب التجارة"، وما يحصل فيها. وأتبعها بـ آداب الصيرفي"؛ وهو الذي يصرف الفضة بالذهب والذهب بالفضة؛ النقد بالنقد، وقد قامت مقامهما الآن هذه العملات لمختلف الدّول. فهذه الصِّرافة قد يقع فيها الربا، وقد تصحّ في الشرع المصون بالشروط التي ذكرها ﷺ في قوله: لا يُباع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا "مِثلًا بمِثْل، سواءً بِسَواء، يدًا بِيَد".
فإذًا، إذا اتفق الجنسان بأن كان ذهب مع ذهب، وكذلك عُملة لأي دولة لها اعتبارها المخصوص بنفس العملة:
-
فلا يجوز التفاضل بينها بل يجب أن تكون متماثلة.
-
وأن تكون غير نسيئة؛ يعني: حالّة.
-
وأن يتقابَضا في المجلس، يقبض هذا ويقبض هذا، كل منهما ما باعه للآخر أو أعطاه الآخر واشترى به من الآخر، وهم في نفس المجلس.
فإذًا، يأتي في هذا أنواع من الربا، وهو ربا الفضل: وذلك إذا كانت عملة واحدة، والعملة الواحدة باع منها مدًا من هذا بمد ونصف، أو مد وثلث، أو مدّين من الآخر.. وهذا حرام وهو من الربا.
ولما جيء له بنوع من التمر جيد من تمر خيبر يقال له الجَنيب، رآه، فتعجّب منه وقال: أكلّ تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا، هذا نوع ممتاز منه، إلا أننا نبيع الصاع من هذا بصاعين من الآخر، قال: لا تفعلوا، فإنه الربا، ولكن بيعوا الصاع من هذا بدرهمين، وبيعوا الصاع الآخر بدرهم، اشتر بدرهم صاعين وبِع الصاع حقك بدرهم لهذا، فيصير دخلت عملة أو أجرة ونقد بين طعام وطعام من جنس واحد.
-
فإذا اتفق الجنس لابد من التماثل
-
وإذا اختلف الجنس يجوز التفاضل، يكون واحد أكثر من الثاني، ولكن؛
-
لابد من التقابض في نفس المجلس
-
ولابد من أن يكون حالًّا غير مؤجل.
-
وأن يتقابَضا في المجلس، يقبض هذا ويقبض هذا.
قال: "ويعتقد الصحة" على ما حُرّر في مذاهب الشرع المصون "ويؤدي الأمانة". فإن الدين المعاملة، وإنما رأس المعاملة الأمانة، وإن من أوصاف المنافق: "إذا اؤتمن خان".
قال: "ويحذر الربا"، وهو:
-
إما ربا الفضل.
-
وإما ربا النسيئة؛ وهو: أن يبيع نقدًا بنقدٍ، وطعامًا بطعامٍ إلى أجل، ما يصح البيع هذا، يصح الدين، ما يصح البيع.
-
وكذلك ربا اليد؛ وهو: أن يتبايعا حالًّا ولكن ينصرفون من المجلس قبل أن يقبض أحدهما الثمن من الآخر. فهذا يسمى: ربا اليد.
بقي النوع الرابع من الربا يسمى:
-
ربا القرض؛ وهو: ما جاء أن: "كل قرضٍ جرّ منفعةً فهو ربا".
إذا أقرض وأعطى أحدًا دينًا، ويرد عليه أكثر، أو يعمل له حاجة، أو يقدّم له معروفًا، أو يقوم معه في مهمة مقابل الدين الذي له ويرد عليه الدين، فهذا هو ربا القرض.. "كل قرضٍ جرّ منفعةً فهو ربا".
وقد كان المُحتاطون لدينهم، لو أقرض أحد شيء من المال ما يرضى يقول له خذ شنطتي هذه، أو امسك الحاجة هذ للبيت.. يتركه، ويعطيه واحد ثاني، أو يأخذها بنفسه، ويقول: أخاف أن يكون هذا مقابل القرض فيكون قرضي إياه ربا! والعياذ بالله تعالى.
ولهذا إذا جاء واحد يستقرض من واحد، قال: أنا محتاج إلى مال كذا كذا، يقول له: طيب، لكن بتأخذ ولدي مع ولدك كل يوم المدرسة؟ يقول: مرحبا! هذا ربا؛ لأنه قرض جرّ منفعة. لأنك ستعطِيه القرض هو يسرّح ولدك معه كل يوم، فهذا كله منفعة بسبب القرض فهو ربا، "كل قرض جر منفعة فهو ربا".
"يحذر الربا"، إن الربا توعّد الله عليه اللعنة في كتابه -والعياذ بالله تعالى- والحرب.
-
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: 278].
-
"لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهديه"، كلهم يدخلون في اللعنة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
-
والربا بضع وستون شعبة، أو بضع وستون بابًا، أدناها -أي: في الإثم- مثل أن ينكح الرجل أمه، وإنّ أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم. والعياذ بالله تبارك وتعالى. فهنا خطر الكلام على المسلمين، ثم خطر هذا الربا -والعياذ بالله تعالى- بشعبه وأبوابه كلها.
قال: "ولا ينفّق الرديئة" بل يبيّن الأمر ويوضح "ولا ينفّق الرديئة". وهكذا ولما جاء بعض الأخيار وسأل موكّله عن التمر وإخراجه الزكاة له، قال له: خرّجناه، إلا أننا خرّجنا زكاة المَديني - نوع عندنا يُعد جيد ممتاز- خرّجناه من الحَمرة؛ نوع ثاني أقل منه. قال: ها؟ عجيب! المديني يصلح لنا ما يصلح للفقراء والمساكين! السّنة هذه احمل التمر كله وخرّجه من البيت وما عاد بغينا شيء، نروح نشتري لنا تمر آخر، وخرّج تمره كله. مع إنه ذاك خرّج الزكاة، وللفقهاء فيه أقوال من حيث كونه كله تمر، لكنه أنواع، قال: خرّج الزكاة لكل نوع من النوع نفسه، أو خرّج الجميع من أحسن الأنواع، فهكذا كانوا يتعاملون.
قال: "ولا ينفّق الرديئة، ويوفي الوزن" حذرًا من الويل؛
-
(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ) ألا يؤمن ويوقن (أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:1-7].
-
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
-
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7,8].
قال: "ويوفي الوزن ولا يعتقد الغشّ والغبن"، ولا يظن أنه إذا وجد مسترسل، "غبن المسترسل حرام". جاء المسترسل واحد ما يفقه، ما يتأكد من الأمور ويعرف دقائقها، يعني يغالَط، سهل مُغالطته. لا تظن أنه ربح تغالطه، "غبن المسترسل حرام".
ولما كان واحد يبيع ويُغبن دائمًا، قال له ﷺ ضع شرط، إذا بعت فقل: لا خلابة؛ يعني: لا غش ولا خديعة، ولك الخيار ثلاثة أيام، إذا تبيّن له أنه ضحك عليه يرجع يقول له رد حقي، خذ فلوسك. قال: "فإذا بايعت فقل: لا خلابة".
فجاء شرط الخيار، ويجوز شرط الخيار لمدة ثلاثة أيام:
-
لكليهما؛ لكل من البائع والمشتري.
-
أو لواحدٍ منهما.
حسب ما يشترطون، يوم أو يومين أو ثلاثة، ولا يزيد على الثلاثة الأيام.
"ولا يعتقد الغش والغبن، متفقّدًا لمِعياره" حتى لا يقع في شيءٍ من التطفيف، "خائفًا من نقصان صَنجاته ومَثاقيله"؛ لأنّ من وراءه محاسب، محاسب عليم بكل شيء، قادر على كل شيء، قويّ متين، فمن وراءه هذا المحاسب ينتبه لنفسه، يعطي كل ذي حقٍ حقه.
آداب الصائغ
آداب الصائغ
"استعمال النصيحة، والاجتهاد في الجودة، وقلة المطل، ووفاء الوعد، وترك التعدّي في الأجرة."
قال: ثم "آداب الصائغ" الذي يصوغ الذهب والفضة ليجعَلهما حليًّا. قال: "استعمال النصيحة" لقول نبينا ﷺ: "من غشّنا فليس منّا"، وكان في تفقّده لأحوال الأمة، مشى يومًا في السوق، ورأى واحدًا يبيع بُرًّا وقد ركمه، فجاء إليه يسأله عن البُر، فأدخل ﷺ يده و إذا به بلل من تحت، قال: ما هذا؟! قال: أصابته السماء؛ يعني: المطر نزل عليه. قال: أفلا جعلته فوق؟ لماذا غطيته بطعام يابس، وتركت هذا من تحت؟ "من غشّنا فليس منّا، من غشّنا فليس منّا".
فكان من مهمة مشيه في الأسواق أن يقيم شرع الله في السوق، وأن يعلّم أهل السوق كيف ينفّذون منهج الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. والكفار قالوا: (وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) [الفرقان:7]. وهو من الشؤون التي جعلها الله تعالى للبشريّة وخواص عباده من البشر، لا يأكلون الطعام ولا يمشون في الأسواق إلا على منهج الله وبنيّات صالحة، وبتجارةٍ ومعاملةٍ مع الرحمن -جلّ جلاله- وبذلك يزدادون رفعةً وعلوًّا وقربًا. (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ:37].
قال: "استعمال النصيحة، والاجتهاد في الجودة"؛ يجيد العمل كما يُحبّه لنفسه، لقوله ﷺ: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
"والاجتهاد في الجودة، وقلة المطل"؛ يعني: عدم المطل، لا يماطل أحد، ويعطي وعد ثم يخلفه، يعطي وعد يكون سيوفيه وبعد ذلك يُخلِف، ها؟ ويلٌ له من غدٍ وبعدَ غدٍ؛ بكرة، تعال بكرة، تعال بعد بكرة، ثم يماطل ويماطل..، لا تعطي موعد إلا في مدة تستطيع أن تنجز فيها شغله، وتؤدّي إليه بضاعته كما أَحَبْ، فهذا مما يجلب الويل لهم، الكذب في المواعيد؛ من غدٍ وبعدَ غدٍ.
ولذا؛ لمّا جاء بعض الأخيار وكان عنده أيضًا صائغ يصيغ له حليّ، فقال له: ارجع بكرة، رجع بكرة، قال له: باقي ما كمّل تعال بكرة، جاء في اليوم الثالث، قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث! جاء بالدعاء عند دخول الخلاء، قال له: لماذا تقول كذا؟!، قال: إيش هذا حقكم! هذا مصوغة محل معصية أشد من الحمّام؛ الحمّام محل قضاء حاجة الإنسان سهل وهذا محل كذب على الناس وغش، فسأقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، بسم الله! فأنجز له شغله وأعطاه إياه. فلا يماطل، ولا يعد ثم يخلف، قال: "والاجتهاد في الجودة، وقلة المطل، ووفاء الوعد".
قال: "وترك التعدّي في الأجرة."؛ يأخذ الأجرة المعقولة، الأجرة المتوسطة، ويكون ذلك أبرك وخير له، فلا يأخذ أجرة زائدة على ما يستحقه. وهكذا المعاملة إذا كانت من المؤمن مع الله -تبارك وتعالى- في عباده صِيْنَ من الآفات وموجبات الندامات والحسرات يوم القيامة.
آداب الأكل
آداب الأكل
"غسل اليدين قبل الطعام وبعده، والتسمية، والأكل باليمين وممّا يليه، ويصغر اللقمة، وإجادة المضغ، وقِلّة النظر إلى وجوه الحاضرين، ولا يأكل متكئًا، ولا يأكل فوق الشبع عند الجوع، ويعتذر إذا شبع حتى لا يخجل الضيف أو من به حاجة، ويأكل من جوانب القصعة ولا يأكل من ذروتها، ويلعق الأصابع بعد الفراغ، ويحمد الله، ولا يذكر الموت عند الأكل لئلا ينغّص على الحاضرين."
يقول: "آداب الأكل"، أما التجارة يختصُّ بها ناس، والصيرفة كذلك، والصياغة كذلك، لكن الأكل كلنا نأكل… فهذا مهمات لكل واحد من المسلمين.
"آداب الأكل" الذي جعله الله تعالى لنا عبرة و آية؛ في تكوينه وفي خلقه، وفي كيفيته وفي تنويعه، وفي إلهامنا وتعليمنا كيف نستعمله، أو كيف نزرعه، وكيف نحصده، وكيف نأكله. ويقول سبحانه وتعالى: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[عبس:24-32].
(أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تقولون: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) خسرنا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)[الواقعة:63-67]؛ ولكنّه يُنبته لكم، ويحفظه لكم، ويوصله إليكم -جلّ جلاله وتعالى في علاه- فينبغي أن نعرف أن هذا الطعام من الله لنا؛
-
فلا نأخذ منه إلا ما أحلَّ لنا.
-
ونأخذه بالنيّة الصالحة.
-
ونحرص على الآداب عند تناول الطعام.
ولهذا رأينا الخليل إبراهيم -عليه السلام- يقول: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:79]؛ ربه سبحانه وتعالى، يشهد طعامه هذا من عند الرب جلّ جلاله.
أوحى الله إلى النبي داود: يا داود، إذا سُقتُ إليك حبّة مُسوَّسة -حبة من الطعام، حبّة مُسوَّسة- فاعلم أني قد ذكرتك بها فاشكرني عليها؛ لا تنظر إلى أنها حبة واحدة ومسوّسة، قل: من جاء بها لي؟ ذكرني، ورحمني، ووصلها لي؟ الله! فاشكرني عليها؛ "فاعلم أني قد ذكرتك بها فاشكرني عليها".
وأنت، مهما كانت الحاجة وصلتك من عند معظّم عندك وعزيز لك، افتخرت بها وفرحت بها، وإن كان غيرها أغلى منها وغيرها أكثر منها.
وهذا المؤمن كالخليل إبراهيم يشهد الإطعام من الحق -سبحانه وتعالى-: (هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)[الشعراء:79]، فكيف حتى طعمه عنده كيف يكون؟ فهُم حتى يتلذذون به في الدنيا ويتلذذون في الآخرة، لأنهم لا يقبلون عليه بشهوة، ولكن يلاحظون هذه القوة والقدرة التي أطعمتهم وسقتهم، والعناية الربانية.
قال: "غسل اليدين قبل الطعام وبعده"؛ وهو المسمى في بعض روايات الحديث بالوضوء: "إن مما يورِِّث الغنى الوضوء قبل الطعام وبعده"؛ قبل الأكل وبعده، المراد بالوضوء: غسل اليدين، اليدين ليس يد واحدة. بعض الناس لمّا يريد يأكل يغسل يد واحدة اليمنى، نعم لا تأكل إلا باليمنى، لكن غسل اليدين؛ لأن الثانية تستعين بها، وتقطِّع بها، وتُرفِّع بها، فاغسل الاثنتين معًا لا يد واحدة، اغسل اليدين معًا، غسل اليدين اليمنى واليسرى ثلاثًا؛ ثلاث مرات، يعني إذا الصَّب متواصل فثلاث صبّات تخرج، هذه ثلاث مرات. "غسل اليدين قبل الطعام وبعده"؛ وهو مما يورِث الغنى، وهذا من السُّنن.
"والتسمية"؛ ذكر اسم الله -تبارك وتعالى-، فإن الله حرّم على قرناءنا من الشياطين أن يَطعموا معنا إذا سمّينا، إذا ذكرنا اسمه سبحانه وتعالى، وإلا أكلوا معنا وقوّيناهم علينا؛ سمّنّاهم حتى يشتغلوا علينا أكثر، دفع الله شرّهم. لأن الله جعل لكل إنسان قرين من الشياطين، يولد بولادته ويموت بموته، يحاول يغويه، غير الشياطين الآخرين، هذا القرين حقه، ويبعث معه بعدين يوم القيامة: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)[ق:21]، (وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ)[ق:23]، (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)[ق:27].
فيصاحب الإنسان هذا الشيطان..
-
ويُمكَّن من الأكل من أكله إذا لم يسمّ الله
-
والشرب من شربه إذا لم يسمّ الله
-
واللبس من لباسه إذا لم يسمّ الله
-
والإدِّهان من دهنه إذا لم يسمّ الله عند الإدِّهان وهكذا..
قال: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)[الإسراء:64]؛ فإذا أتى أهله ولم يسمّ الله شاركه قرينه، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وهكذا يكون الشيطان مسلّط على بني آدم إذا نسي الله، (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)[الزخرف:36]. أمّا إذا سمّى الله يمتنع، وجاءنا في الحديث: "إذا جاء الإنسان إلى بيته"، إذا جاء المؤمن إلى بيته في الليل، يقول: "فإن سمَّى الله عند دخول البيت؛ قالَ الشَّيطانُ -لأصحابه-: لا مَبيتَ لكُم"؛ ما تقدرون الليلة تبيتون وسط هذا البيت، قال: وإذا قُرِّب العشاء فلم يسمِّ الله، يقول: "ثبت العشاء، ولا مبيت"؛ تعشّوا واحملوا أنفسكم أخرجوا، مبيت ما تقدرون لأنه سمَّى الله عند الدخول، ولكن تعشّوا.
-
فإذا لم يسمِّ الله عند الدخول، قال: "ثبت المبيتُ لكم".
-
فإذا سمَّى الله إذا قرّبوا له طعام العشاء، قال الشيطان: "ثبت المبيت ولا عشاء"؛ عشاء ما يوجد، ولكن المبيت وسط فراشه، ناموا عنده؛ لأنه لم يسمِّ الله تبارك وتعالى.
-
قال فإذا سمَّى الله عند دخوله، وسمَّى الله عند طعامه، "قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء" الليلة؛ لا تقدرون تبيتون وسط الدار والعشاء ما لكم.
وجاء أيضًا في الخبر أن شيطانًا سمينًا دهينًا كحيلًا التقى بشيطان آخر نحيل نحيف أشعث، قال: مالي أراك هكذا بهذا الشكل؟ قال: أنا عند رجل موكّل به، إن أكل سمَّى الله فأظل جيعانًا، وإن شرب سمَّى الله فأظل عطشانًا، وإن لبس سمَّى الله فأظل عريانًا، وإن ادّهن سمَّى الله فأظل شعثًا، قال: أما أنا عند رجل لا يذكر اسم الله على شيء من ذلك، فأنا أشركه في طعامه وشرابه ومنامه، حتى إتيانه أهله ولباسه وكل شيء؛ ولهذا سمن، فأنت لا تسمّن شيطانك بالغفلة عن البسملة، سمِّ الله -تبارك وتعالى- عند كل دخول، عند كل خروج، عند كل لباس.
ويمكن الثوب الذي أنت فيه ما سمّيت الله عندما لبسته، فله مشاركة معك في الثوب هذا، فتسمّي الله تعالى:
-
عند اللباس.
-
عند الطعام.
-
عند الشراب.
وبعضهم ينتبه من البسملة عند الطعام والشراب، لكن عند الشاي أو القهوة أو شراب ثاني، ما يسمِّي الله، فيظل يسقي شيطانه من الشاي والقهوة والشراب الآخر، فسمِّ الله عند كل ما تتناول من طعام ومن شراب، أو من لباس، أو من دخول، أو من خروج، تسمّيته، تقول: "بسم الله".
-
أقلّه: "بسم الله".
-
وأكمله: "بسم الله الرحمن الرحيم".
بل وارد مع ذلك من الدعاء عندما يقرّب الطعام وعندما يبدأ في أكل الطعام: "اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وارزقنا خيرًا منه"، إلا إن كان لبنًا فيقول: "وزِدنا منه"، وإن كان حارًّا يقول: "وقِنا عذاب النار"؛ لأنه يتذكر من الحرارة في الدنيا حرارة النار في الآخرة.
قال الله عن نار الدنيا: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً)[الواقعة:71-73]؛ تذكركم بنار الآخرة.
ولهذا حتى البرد والحر:
-
إذا جاء الصيف شديد وحر، وأصبح المؤمن في يوم حر، قال: "لا إله إلا الله، ما أشد حر هذا اليوم، اللهم قِني حر النار"؛ وقاه الله حر النار.
-
وإذا كان في يوم برد شديد وأصبح يقول: "لا إله إلا الله، ما أشد برد هذا اليوم، اللهم قِني زمهرير جهنم"؛ وقاه الله زمهرير جهنم.
فهذه مذكّرات لنا في الحال تذكرنا بالعُقْبَى والمَرجِع والمآل، الله يجعل معادنا خيرًا ومَردَّنا إلى نعيمه وتكريمه وقُربه وغفرانه إنه أكرم الأكرمين.
قال: "والتسمية، والأكل باليمين"؛ يقول ﷺ: "لا يَأْكُل أحدُكُمْ وَلا يَشْرب بِشِمالِهِ، فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ وَيَشْربُ بِشِمالِهِ".
وبذلك يُعلَّم الأطفال من صغرهم؛ لا يتناول شيء من الطعام إلا باليمين، وينهونه عن أن يأكل بشماله أو يشرب بشماله، ولكن باليمين. فإذا كان في يده طعام أو غيره مما يَعْلَق بالإناء وأراد أن يشرب، فإذا أمسكه باليمين سينتقل الذي عليه من أثر الطعام وغيره إلى الإناء، ولكن اليسار لا شيء فيها، فعليه أن يأخذ الكأس ويضعه على ظاهر كفّ اليمنى؛ فيكون محمول باليمنى، ويشرحه من السقوط باليسرى؛ فتكون اليسرى حافظة له فقط من الانحراف والسقوط، والحمل باليمين، ويشرب. لا يقول يدي هذه فيها الطعام ويشرب بالثانية، لا، احمل باليمنى أيضًا، ولا تشرب إلا بيمينك ولا تأكل إلا بيمينك.
قال: "والأكل باليمين"؛ باليمين، وأيضًا بالأصابع الثلاثة هذا أولى، فإذا كان مثل الخبز أمسكه وغيره فبهذه الثلاثة الأصابع، فإن احتاج فالرابع، وإن احتاج فالخامس. وكان ﷺ يأكل بهذه الثلاثة أصابع ثم يلعق أصابعه. ووجدوا أن الأصابع تفرز مادة تساعد على هضم الطعام، ولكن في الثلاثة هذه أكثر -مُركَّز- في الإبهام والسبابة والوسطى. فصلى الله على الهادي إلى سبيل الله.
"والأكل باليمين وممّا يليه"؛ كما علّم عمر بن أبي سلمة؛ ولد أم سلمة عمر بن أبي سلمة كان عنده في البيت فقال: "فكانت يدي تطيش في الصحفة"، فقال: "يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك". فعلّمهم وربّاهم، وكان من مقصد تزوّجه بأم سلمة أن يربّي أولادها، فكانت عنده والأولاد وربّاهم ﷺ وتربّوا في حجره الشريف، وكانت واعية وعاقلة؛ تأخذ عنه وتبلّغ، وترتب بعض الأمور.
يقول: "والأكل باليمين وممّا يليه، ويصغّر اللقمة"؛ أي: تصغيرًا متوسطًا، لا تصغير المتكبّرين، ولا يكبّرها تكبير النهِمين الشرهين، لا.. لا يكبرها كلُقمة أهل الشَرَه والنَهَم، ولا يصغّرها مثل المتكبّرين؛ تكون متوسطة؛ صغيرة متوسطة الصغر.
"ويصغّر اللقمة، وإجادة المضغ"، يجيد المضغ بحيث يتم ما يحتاج إلى قطع وإلى طحن بالمطاحن التي أعطاك الله إياها وقد ركّبها لك حتى تستعملها في محلّها، ومن أجل أيضًا تختلط بالريق فيكون أشفى، وأحسن للمعدة وللجسد.
ويمضغ اللقمة مضغًا محكمًا *** ولا يُسارع أو يُوالي اللقمَا
قال: "ويصغّر اللقمة، وإجادة المضغ، وقلة النظر إلى وجوه الحاضرين"، ما يتأمل وجوههم عند الطعام يجعلهم يستحون، فكيف يصوّرهم؟! حتى ما تنظر فما بالك تصوّر! كيف تصوّر؟ ... هذا يعتادونه بعض النّاس يحبّون يصورون النّاس وهم على الطعام، واحد ماد يده، واحد رافعها، وواحد حاطّها في فمه، وواحد فاتح فمه… قصدك تضحك عليهم أو إيش؟ قصدك تستهزئ؟ عيب، وما يجوز التصوير إلا بإذن، ستصوّر واحد تستأذنه … من دون ما يأذن لك، كيف تصوّره؟ وفي وقت تناول الطعام، مكروه لك تحدّق فيهم وتنظر اليهم أنت بنفسك أصلًا، فكيف تجيب الصورة تثبّتها عليهم، توثّق فتح أفواههم، و إدخال أصابعهم في أفواههم، لماذا؟!
ولهذا لما جاء الشيخ الشعراوي مرّة عند بعض المضيفين، قدّموا طعام، جاء بآلة تصوير، قال له: "لا، لا تصوّر". قال -بلهجته- "ما حننكر!"، بننكر أننا تغدّينا عندك؟ لا.. ستوثّق علينا إننا أكلنا عندك يعني بهذه الصورة؟ قال: "ما حننكر".. أبعد هذا، ونحن لن ننكر أنك غدّيتنا! ليه تصوّر؟
وهكذا، فإذا واحد سيصوّر إنسان، لابد يستأذن منه، وإذا كان الإنسان على هيئة غير مناسبة في اتّكائه، أو في رفع يده، أو غيرها أو فاتح فمه ويأكل، كيف تصوّره؟! يجيئون بالكاميرات يصورون الناس وهم يأكلون!.. وهذا من التجرّؤ والتعدّي على حقوق الناس. ما يجوز.. لهم حق، إلا إذا أذنوا لك. وإذا كان لابد ستصوّرهم، أعطهم خبر إيش قصدكم تصوّرون توثّقون.. وخُذ لك صورة واذهب. وأمّا تظلّ بتصوّر كل شيء، وهم غير منتبهين للكاميرا حقّك، وتصوّر حركتهم كلها، ففي هذا تعدّي على حقوق الآخرين وتجنّي عليهم، ما يجوز إلا بالإذن.
قال: "وإجادة المضغ، وقلة النظر إلى وجوه الحاضرين،. ولا يأكل متّكئًا"، لقوله ﷺ: "لا آكل متّكئًا، إنّما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد،" ونِعمَ العبد هو من بين عباد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولم يعرف العبودية لله والعبدية لله أحدٌ من أهل الأرض والسماء كما عرفها وذاقها حبيبه وعبده محمد ﷺ، ولذا نشر الله الثناء عليه، ووصفه بالعبدية في أرفع المراتب، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) [الإسراء:1]، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ) [النجم:11]، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ) [الفرقان:1]، ﷺ، نِعم العبد محمدٌ ﷺ.
يقول: "لا يأكل متّكئًا"، مائلاً إلى اليمين أو اليسار ولا متّكئًا على شيء، "ولا يأكل فوق الشبع عند الجوع" بل يأكل حتى يكون دون الشِّبع، بحيث يبقى له شهوةٌ للطعام ومرادٌ للطعام، والوسط المعتدل فيه ما أرشد إليه بقوله: "حَسبُ ابن آدَم لُقَيْمَات يُقِمْنَ صُلْبَه، فَإِن كان ولا بُد فَثُلُثٌ لطعَامه، وَثُلُثٌ لِشَرابه، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". حتى قيل: لا يواظب على هذا أحد إلا قلّ مرضه، وعاش بالصحّة حياته كاملة؛ ثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنَفَسه.
يقول: "ولا يأكل فوق الشبع"، يأكل عند الجوع، وقال لمّا أرسل إليه المقوقس من مصر بعض الهدايا ومنها طبيب، ردّوا الطبيب إليه، وقالوا له "إنّا قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع"؛ أي: فلا نحتاج إلى طبيبك هذا. فردّ الطبيب وقبل بقية الهدايا، وقال: إنّا قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لم نشبع. ومن كان هكذا فيكون أقرب إلى الصحة وإلى تمام العافية.
قال: "لا يأكل فوق الشبع عند الجوع، ويعتذر إذا شبع حتى لا يَخجل الضيف، أو من به حاجة"، وكيف؟ بحيث لا يتعمّد القيام قبل، ويكون أول من يقوم إذا كانوا مجتمعين على سفرة وعلى مائدة، لا تكون أول من يقوم، تأنّ بالنّاس، وتأنّ في أكلك حتى يأخذ البقية حاجتهم وكفايتهم، ثمّ تقوم.
ولا تكون آخر من يقوم كذلك، لا أن تقول السُنّة ما أكون أول من يقوم وتقعد محلّك، لمّا يقوموا كلهم وتبقى أنت تأكل من بعدهم، لا!..لا تكون آخر من يقوم ولا أوّل من يقوم، لكن تَوَسَّط في الأمر، ولاتحرجهم إذا أنت اكتفيت، قل: العفو منكم، أو أنا قد أكلت قريب، أو أنا ما أستطيع آكل أكثر، وكُلْ حتى لا تحرجهم، بحيث يتناولوا كفايتهم وحاجتهم. ولا يخجل الضيف أو من به حاجة.
ولهذا يذكرون عندنا في سبب إخراجهم للنوى من التّمر، ويجعل بعضه معجون من التّمر، أنّه ورد بعض الضيوف عند بعض أهل الكرم من أهل البلد، -قالوا إنه من مولى خيله- قدّم له الطعام تّمر، كان أحسن طعامهم التّمر، فأكل منه، كان جائع، جاء من مكان بعيد، فأكل كثير، ثم رآه مستحي من كثرة النوى، ويحاول يخبّىء شيء منها، فشعر به، قال: خرّجوا النّوى من التمر، وقدّموا للضيف تمر ليس فيه نوى، يأكل ما يعترف هل أكل قليل أو كثير، ... هذا لمّا أكل وحطّ النوى، ظهرت كومة كبيرة للنوى، معناه أنه أكل كثير، فخجل الضيف على نفسه، فدعاه ذلك من أجل الإكرام أن ينزع النّوى، ويقدّمون تمر ليس فيه نوى، من أجل يأكل على راحته، ولا يظهر أنه أكل كثير، ولا أقل، يأكل بقدر حاجته.
ويقولوا أيضًا أنّ الشبع المنهي عنه هو المعتاد الدائم، لا ما كان نادرًا، بدليل أنه قال لأبي هريرة: "اشرب"، قال: "قد رويت"، قال: "اشرب"، ثاني مرّة، قال: "اشرب"، ثالث مرّة، قال: لا أجد له مساغًا، كان الريّ يخرج من أظفاري، فتناول منه الإناء وشرب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وذلك في قصته المشهورة أنّه كان يجلس في مع أهل الصّفة، وكان يرأسهم هو في جلستهم، ...وهم يزيدون وينقصون، يكونون ما بين الثمانين وقد يصلون إلى 300، من أهل الصفة مقيمين في المسجد ما عندهم أعمال، وما تيسّر لهم يقنعون به. قال إنّنا في بعض الأوقات يُغمى عليّ من الجوع. وأنّه جاع مرّة فتعرّض في الطريق، مرّ عليه سيدنا أبو بكر، فسأله عن مسألة، قال: فأجابني ومضى، قال: فمرّ عمر، فسألته، فأجابني ومضى، قال: فأقبل رسول الله ﷺ، فجئت أسأله، ... نظر إليّ وتبسم، قال لي: اتبعني، تعال معي، جاء بي إلى بيته، لمّا دخلت البيت، يقول: عندكم شيء؟ قالوا: لبن أرسله لك آل فلان، قال: هاتوه، قال: فرحت لمّا قرّب اللبن وقلت سيعطينا منه شربة الآن ويروح الجوع مني.
قال: أبو هريرة، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: ادعُ لي أهل الصفّة، قلت: مرحبًا! … لا حول ولا قوة إلا بالله، كنت أحقّ بِشَربة من هذا، الآن بيشربونه عليّ أهل الصّفة، وما يبقى لي شيء، ... لابد من امتثال أمر رسول الله، ما من أمر رسول الله بُد، راح دعا أهل الصّفة كانوا ذاك اليوم قليل، منهم، ثمانين هم. قال: له: أدخلْ عليّ عشرة، دخلوا، فكان يسقيهم ﷺ، وسيدنا أبو هريرة ينظر إلى اللّبن، وجده كما هو، تعجّب!
ثاني عشرة شربوا، وهو يقول: اثنين، ثلاثة، خلاص بيكمله الإناء الذي مع النبي ﷺ هذا، شربوا العشرة، وإذا اللّبن في موضعه نفسه الذي كان، جاء له الأمل أنه سيصله شيء منه، دعا عشرة أيضًا وكمّلوا، قال ﷺ: من بقي؟ قال: أنا وأنت، قال: اشرب، قال: أنت اشرب يا رسول الله، قال: "لا، ساقي القوم آخرهم شربًا" اشربْ، شربت، ... شربت حتى رويت، وناولته، قال: اشرب، ... أنت الذي كنت فزعان وخائف أنه لن يصلك شيء،.. اشرب، شرب ثاني مرّة، .. قال: اشرب، فأخذه ثالث مرّة، قال يا رسول الله، لا أجد له مساغًا، خلاص، كأنّ الريّ يخرج من بين أظفاري! ضحك، وأخذ منه الإناء وشرب الباقي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وقد سقاهم كلهم من فضل الله، تنبّه له ومراده، وعرف أنه ما قصده السؤال، وذكر به أهل الصفة الباقين قال له ائت بهم الباقيين؛ لأنّهم كلهم يتعرضون لما يتعرّض له هذا. فما أكرم خلقه، وما أرحمه بالأمة، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
قال: "ويأكل من جوانب القصعة"، ولا يأكل من ذروتها، فإذا أكلوا من الجوانب تنزل البركة على الوسط، وتنتشر لهم، وإذا أكلوا من الوسط تقلّ البركة؛ فيأكلون من جوانب القصعة. قال: "ولا يأكل من ذروتها، ويلعق الأصابع بعد الفراغ"، اتّباعًا للنبي ﷺ.
"ويحمد الله"، فينال مغفرة الله، "من أكل طعامًّا فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوة، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه". يقول: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوة.
يقول: "ويحمد الله تبارك وتعالى، ولا يذكر الموت عند الأكل لئلا يُنغّص على الحاضرين"، وكذلك لا يذكر شيء من القاذورات، فإن النفوس تشمئزّ، فلا يذكر شيء من القاذورات عند الطعام، فإذا حضره عُطاس أو نُخامة وغيره، فليقُم، أو يلوي برأسه عن المائدة، يبعد ويعطس، فلا يعطس، فقد يسبق شيء من فمه أو من أنفه إلى الطعام، فيستقذر ذلك الحاضرون، ولكن يلوي برأسه أو يقوم ويخرج إلى الخارج، وهكذا، ولا يذكر شيء من القاذورات.
قال: "ولا يذكر الموت"، ينغّص على بعض الآكلين أكلهم، لكل مقامٍ مقال. ولكن يذكر شيء من حكايات الصالحين، لأن السُنّة:
-
لا يسكتون سكتة النصارى.
-
ولا يضحكون ضحكة اليهود.
فكثير من اليهود إذا جلسوا على الطعام، يضحكون، والنصارى كل واحد صامت، لا تسمع إلاّ همسًا، فقط يأكل وما يكلم الثاني، لا هذا ولا هذا، ولكن كلام خفيف، لا تُكثر الكلام على الطعام، ولا تسكت صمتة واحدة سكتة، ولكن كلام خفيف، مثل أن يتعارفوا على الطعام، أو يذكروا شيئًا من القصص المناسبة. وكذلك آداب الشراب كما تأتي معنا.
سقانا الله وأطعمنا، وجعلنا من الهداة المهتدين، وبارك لنا فيما أعطانا وما أنعم به علينا، وجَعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأيقِظ قلوبنا من كل غفلة وسِنَة، وثبّّتنا على طريق حبيبه، وسار بنا في دربه، وقرّبنا مع أهل تقريبه، وكفانا الأسواء والأدواء وأصلح شؤون المسلمين في السرّ والنّجوى.
وبارك لأمة حبيبك في هذا العيد، واجعله لهم من أبرك الأعياد، وأمدّهم بأوسع الإمداد، وعجّل برفع البلاء والشرّ والضرّ عن أهل غزة، وعن أهل رفح، وعن أهل الضّفة الغربيّة، وعن أكناف بيت المقدس، وعن المسلمين في السودان، وفي الصومال، وفي ليبيا، وفي العراق، وفي الشّام، وفي اليمن، وفي جميع أقطار الأرض طولها والعرض، حوّل أحوالهم إلى أحسن الأحوال، وقِنا وإياهم البلايا والآفات والأنكال، وحوّل الحال إلى أحسَنه، وانظمنا في سلك من أحببت وقرّبت، وأصلح شؤوننا بما أصلحت به شؤون الصالحين من عبادك، أهل ودادك في عافية، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
04 شوّال 1445