شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -46- آداب الإخوان، وآداب الجار
الدرس السادس والأربعون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1446هـ، آداب الإخوان، وآداب الجار.
فجر الخميس 5 شوال 1445هـ.
آداب الإخوان
آداب الإخوان
"الاستبشار بهم عند اللقاء، والابتداء بالسلام، والمؤانسة والتوسعة عند الجلوس، والتشييع عند القيام، والإنصات عند الكلام. وتكره المجادلة في المقال. وحسن القول للحكايات، وترك الجواب عند انقضاء الخطاب، والنداء بأحب الأسماء."
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرِمنا بِشَريف الصِّلَة به، عَبرَ الإيمان والعمل الصالح، الذي يَشمل الواجبات والمندوبات والآداب المُستَحبَّات، وأقامَ بفضلِهِ بينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ خُصُوصًا وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الخلائقِ، بَل الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا، عجائب وضَوَابِط من الصِّلاتِ والاتِّصالَاتِ، لا يستقيمُ عليها مُؤمنٌ إلا ظَفِرَ بالسَّعَادةِ في الغيبِ والشَّهَادةِ، وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ مِن تَسْخِيرِ الْكَائِنَاتِ بِأَصْنَافِهَا عُلْوِيِّهَا وَسُفْلِيِّهَا، ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا.
فَمَنْ عَامَلَ الأَوَّلَ الْآخِرَ الظَّاهِرَ الْبَاطِنَ بِحُسْنِ الْأَدَبِ مِنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهِي وَالْحِرْصِ عَلَى السُّنَنِ وَالْآدَابِ، سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ، وَسَخَّرَ لَهُ الدُّنْيَا، وَسَخَّرَ لَهُ الْبَرْزَخَ، وَسَخَّرَ لَهُ الْقِيَامَةَ، وَسَخَّرَ لَهُ الْجَنَّةَ.
ومن أعرض عن الله وتَوَلى عن ذِكرِ الله وعن منهجه وخالف وكَذَّب المُرسَلين، فهو يُشقيه -جل جلاله- ويَبغَضهُ من في السماء ومن في الأرض، وتلعنهم السماوات والأرض، ويلعنهم اللاعنون، ويجعل مئآلهم الجحيم والحميم والزقوم والعذاب المُهين العظيم الأليم الغليظ الشديد، والعياذ بالله جل جلاله، فنسأله أن يوفقنا لقوة الإيمان وكماله والزيادة منه أبدًا، وللعمل الصالح على الوجه الأحب الأرضى له ظاهرًا وباطنًا، اللهم آمين.
وبَيَّنَ ذلك على ألسنِ الرسل الذين خَتَمهُم بسيدهم خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فجاءنا بالهدى ودين الحق (لِيُظْهِرَهُ) جل جلاله (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:9].
وإننا من جملة ما بُعِثَ به إلينا وجاءنا نَستَجلي الآداب التي تَتَصِل بِذَواتنا في معاملة خالقنا -جل جلاله-، لِنَحوز السعادة برضوانه والقُربِ منه.
وذَكَرَ لنا فيما مَضى آداب الولد مع والديه، وآداب الوالد مع أولاده، كذلك يكون مع الأمهات، وفي الخبر: "بِرُ الوالدة على الوَلَد ضِعفان"، فهي أولى بالمُراعاة والرحمة، ولهذا ما كان من باب النفقة والرقة والحنان تُقَدَم للأم، وما كان من باب الإكرام والتوقير يُقَدَم للأب، وكذلك مُعاملاتهم لأبنائهم وبناتهم إذا قامت على ما شَرَع الله تعالى، أثمر ذلك أنواعًا من الصلاح والاستقامة في الأحوال في الدنيا والمآل.
وإذ ذُكِّرنا الآن بآداب الإخوان وآداب الجار، والمؤمنون كلهم إخوان، أخوة مخصوصة غير أخوة الإنسانية التي تَعمُ المؤمنين وغيرهم، لكن أخوة الإيمان والدين أخوة فوق ذلك، أخوة مخصوصة عقد الحق عقدها في كتابه وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات:10]، وقال فيها رسوله ﷺ: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يَحقِرهُ"، وقال: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
ثم من الأخوة العامة للمؤمنين، التي هي خاصة بالنسبة لبقية بني الإنسان، أُخوة أخصّ مما تُعقَدُ بين المؤمن والمؤمن إذا واخاه في الله وأحبه في الله وخالطه وتعاون معه على طاعة الله. "والمتحابون في الله على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم الأنبياء والشهداء"، وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ"، وجبت محبتي يعني: فَرَضتُ لَهُم محبتي، للمتحابين في الله جل جلاله، جعلنا الله وإياكم منهم.
قال: وبعد ذلك، في الأخوة العامة للمؤمنين هذه الآداب، وللأخوة الخاصة أجلّ وأكمل وأعمق، وتَصِلُ إلى غايات ونهايات، ترجمها وقام بحقها في نموذجها الأصفى السابقون الأُوَل من المهاجرين والأنصار، وقال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9] حتى فعلوا ذلك في الحروب والقتل، وفدى بعضهم بعضًا بأنفسهم.
ولما وَشى بعضُ الذين يبتليهم الله تعالى بالوشاية والتطاول عند بعض السلاطين والحكام على جماعة من المنسوبين إلى التصوف، ومنسوبين إلى صفاء القلوب ومعاملة علّام الغيوب، قال: إنهم زنادقة يأتون بكلام يُخالف الشرع، فأمر بحبسهم، حُبسوا، ثم أمر بقتلهم، فلما بُسِط النِّطَعُ تسابقوا وتدافعوا وتقدم بعضهم، تعجب السياف الذي يريد يقتلهم! ما القوم هؤلاء؟! ولما تقدم إليه واحد منهم، وقال له: أتدري لماذا أتَقَدَّم؟ قال: نعم، لماذا تستعجل؟ قال: أُؤْثِرُ إخواني بلحظات في الحياة يبقون بعدي، قال: كيف يكون زنادقة هؤلاء؟! أخلاق عالية وهمم فوق رفيعة! رُفِع خَبرهم إلى السلطان، قال السلطان: قل للقاضي يَجلِس معهم ينظر أمرهم، يناقشهم، هل عندهم زندقة؟ فدعاهم القاضي ووجه إليهم أسئلة، وأجابوا أجوبة عظيمة وأفحموه، وبعدين سألوه أسئلة ما عاد أجاب عليها هو، رَجَع القاضي إلى سلطان قال: إن لم يكن هؤلاء أولياء الله، فليس لله ولي، ليسوا زنادقة ،هؤلاء ناس على الشرع وعلى تقوى، أحسن مني عِلمُهُم بالكتاب والسنة أحسن مني، قال: ماذا تقول؟، قال: هذا ما رأيت، قال: أطلقوهم، فأطلقوهم ورأوا، فالشاهد في هذا التقدم مِن أجِل أن يضرب رأسه وتقطع رقبته قبل إخوانِه من أجل أن يؤثرهم بلحظات في الحياة، وصلوا إلى هذه الحدود -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
يقول: "آداب الإخوان: الاستبشار بهم عند اللقاء"، وهذا الذي يجب أن يكون بين المُتجالِسين في الله والحاضرين في مجالس العلم والساكنين في مواطن العبادة والعلم والخير، أن يكون سِيما البشاشة في وجوههم واضحة في ليلهم ونهارهم، "الاستبشار بهم عند اللقاء"، وقد علمنا هذا من خُلُق الإسلام، وأن قائدنا ومُقتدانا وسيدنا كان من أكثر الناس تبسمًا في وجوه أصحابه، حتى يقول سيدنا جرير بن عبد الله البجلي: (ما رأيته ﷺ منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي، وما حَجَبَني مُنذُ أسلمتُ قط)، يعني: ما جئت إلى عنده فمنعني من الدخول عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهكذا كانت أخلاقه، وكان يَحذَرَ الناس ويَحتَرِسُ منهم دون أن يطوي عن أحد منهم بِشْرَهُ وبشاشته صلى الله عليه وعلى وصحبه وسلم.
والاستبشار بالإخوان عند اللقاء، "والابتداء بالسلام"، عليهم قبل أن يبدأوه، وقد عَلِمنا من سيرة نبينا أنه كان يبدأ من لَقِيَهُ بالسلام، من كل صغير وكبير وحُرٍ وعَبدٍ وذَكرٍ وأنثى من المسلمين، يبدأهم بالسلام ﷺ قبل ما يسبقونه، يسبق هو بالسلام صلوات الله وسلامه عليه يسلم عليهم.
قال: "والابتداء بالسلام، والمؤانسة"، فإن هذا مما يقوي أسس المحبة في الله تعالى والألفة في الله، وجود المؤانسة بينهم بأن يؤانس بعضهم بعضًا؛ بالضوابط والأسس الشرعية والسنية النبوية. فإن في إدخال السرور على قلب أي مؤمن عامة وإخوان في الله خاصة، مثوبةٌ عند الله -تبارك وتعالى-.
بل وبعض ما يقوم فيه المؤمن بإدخال السرور على قلب كئيب ومحزون لوجه الله تعالى، جاء في الأخبار أن الله يخلق من ذلك السرور مَلَكًا يأمره أن يعبده ويكتب مثل ثواب عبادته لهذا الذي أدخل السرور، حتى إذا مات جاء إلى قبره بصورة حسنة، وقال: أتعرفني؟ يقول: لا. قال: أنا السرور الذي أدخلته على قلب فلان في يوم كذا وكذا، ابتغاء وجه ربك، أنقذته مسكين من ورطة وكان فيه كآبة وشدة، وأدخلت السرور على وجه، أنا ذلك السرور، وأنا معك أثبِّتُك في المواقف في القبر، ثم في القيامة حتى أدخل بك الجنة. فيبقى معه يؤنسه، إذا جاء الملكان يسألانه يقول: هذا رقيب وعتيد لا تُفزع، قُل لهم كذا؛ يقولهم -يلقّنه حجته-، ويمشي معه في مواقف القيامة حتى يمر على الصراط إلى الجنة؛ من سرور أدخله على قلب مؤمن، حمد الله له ذلك وقبِل الله منه ذلك، لأنه عمله لوجه الله -جلّ جلاله-.
-
فيعظم الثواب إذا كان إدخال السرور على قلب أخٍ في الله.
-
وكذلك إذا كان إدخال السرور على قلب ولي لله، مقرب عنده.
-
فكيف بإدخال السرور على قلوب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؟! هذا عظيم مِنّه.
لذا لم يكن عند الصحابة شيء أحب إليهم من رؤية البشر في وجهه ﷺ، وكان إذا سُرَّ استنار وجهه فكأنه قطعة قمر، وكانت أحب إليهم من حمر النعم، لأنهم يعلمون أن رضاه من رضا الله تعالى، (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة:62].
وهكذا يقول: "والتوسعة عند الجلوس"، في المجلس يوسِّع لإخوانه في الله تعالى مهما قدر. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) [المجادلة:11] وفي قراءة (فِي الْمَجْلِس) لا يتضايق من أحد من إخوانه جاء يجلس جنبه، ويوسعون له ما استطاعوا، فذلك أقرب لأن يفسح الله لهم:
-
يفسح لهم في خواطرهم.
-
يفسح لهم في آجالهم.
-
يفسح لهم في علومهم.
-
يفسح لهم في أرزاقهم.
(فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) وهكذا.
وبذلك قالوا في التعبير عن محبة المؤمنين الصادقين بعضهم البعض وأهل الألفة والأخوة، يقول:
سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ *** ................................
هو سَمُّ الخِياطِ يعني: مهما كان صغيرًا، ولهذا كنا نعهد الناس من أول غرفة صغيرة وبيوتهم، يجلسون فيها أعداد كثيرة، وحتى يصلحون حلقات للطعام وغيره، الآن إذا جئت: كيف كانت تكفيهم؟! الآن ما عادت تكفيهم! كانت القلوب واسعة والخواطر.
سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ *** رحبُ الفلاةِ مع العدا ضيّقهُ
فلاة كامل لكن مع الأعداء ضيقة.
سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ***
وكان ﷺ يأمر إذا جاء أحد من البدريين وما هناك مكان في المجلس أن يقوم بعض الناس لهم. ولهذا قال: (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا) وفي قراءة (انشِزُوا) (فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11].
مع أنه في غير ما جاء به النص لا يجوز للإنسان أن يُقيم أحدًا من مجلسه ويسيبه حرّم ذلك ﷺ، ولكن لتعظيم أهل بدر كان يأمرهم أن يوسعوا لهم، فإن ضاق المجلس أن يُقام لهم ويُجلسوهم وغيرهم. وأنزل الله في ذلك الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا) قم (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يشير إلى أهل بدر (دَرَجَاتٍ) لأنهم أوتوا من العلم ما لم يؤته غيرهم بشهودهم الموقف الكريم مع النبي الكريم ﷺ، تقديمهم لأرواحهم رغبة في الله ومحبة، أورثهم علمًا تميزوا به عن بقية الصحابة.
حتى قال سيدنا جبريل لسيدنا الرسول ﷺ، بعد بدر: "ما تَعُدُّونَ أهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟" قال: "هم خيرنا". قال: "كذلك من حضر بدرًا -معك- من السماء من الملائكة هم خير من في السماء". الأفضل من الملائكة في السماء الذين حضروا معك بدر، فبان أن الأفضلية عند الله تدور على رأس محمد ﷺ، من كان أقرب إليه فهو أقرب إلى الله، من قام معه فهو أحب إلى الله ﷺ، ورزقنا نصرته.
قال: "والتوسعة عند الجلوس، والتشييع عند القيام" إذا أراد الانصراف يشيعه. "والإنصات عند الكلام"، إذا تكلم يُصغي وينصت.
قال: "وتُكره المجادلة في المقال". بل قال ﷺ: "ما ضلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليه، إلَّا أوتُوا الجدلَ". فينبغي ترك المِراء والجدال.
المِراء: الاعتراض على كلام الغير.
والجدال: أن يرد عليه كلامه ويريد أن يُفحمه بإرادة حجة تدحض قوله.
فهذا الجدال العقيم الذي لا ينفع ولا يفيد ولا يؤدي إلى ظهور الحق. وإنما الجدال بالتي هي أحسن يُحتاج إليه في بعض المواطن محددة:
-
(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت:46].
-
(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
هذا مع جدال المشركين وأهل الكتاب، فكيف بجدال المسلمين؟
ولهذا يقول بعض العارفين من القرون الأولى:
-
إذا أراد الله بعبد خيرًا؛ فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل.. فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل.
-
وإذا أراد الله بعبد شرًا؛ أغلق عليه باب العمل وفتح له باب الجدل. عمل ما هو نشيط فيه، ولا يلتذ بطاعة ولا بعبادة، ويقول: أنا إلا مجاهد، أحسن من العبادات هذه! وفعل فلان، وترك فلان، هذا كذا وهذا كذا؛ يا مخذول! ما هكذا القربة إلى الله، ولا هكذا الجهاد في سبيل الله.
وكان يقول سيدنا الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة: إن من السنة أن تُخبِر بالسنة، لا أن تجادل بها. ليس من السنة أن تجادل بالسنة.
قال: ليس من السنة أن تجادل، لكن تُخبِر بها، تبينها، نعم هذا من السنة. أما تجادل بها، رجعتها فوضى ولعب واستثارة للنفوس، وبها ذهبت خيريتها وروحانيتها ورونقها. إنما تُخبِر بالسنّة، وتبين السنّة.
يقول: "ويُكره المجادلة في المقال".
ومن الأدب "حسن القول للحكايات":
-
ولا يزيد ولا ينقص فيها.
-
ولا يذكر غير الواقع.
-
ويختار من الحكايات ما فيه المنافع.
فإن حكايات الأنبياء والصالحين، كما قال الجنيد بن محمد: جند الله يرسله إلى القلوب.
-
قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف:111].
-
قال: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120].
-
وقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف:3].
-
وقال عن أهل الكهف: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ) [الكهف:13].
قال: "وحسن القول للحكايات".
-
ولذا وجدنا القرآن الكريم يحكي لنا حكايات كثيرة للاعتبار وللإدكار، منها ما حكاهُ عن الأنبياء وعن بعض الصالحين في الأمم السابقة؛ كمثل أهل الكهف، وكمثل مريم بنت عمران، وكمثل ذي القرنين، وأعداد من الذين ذكرهم الحق تعالى وأثنى عليهم في كتابه، وذكر للاعتبار مآلات الكفار وعواقبهم وسوء ما جاءوا به.
-
ووجدنا السنة كذلك نبّأتنا عن أخبار من قبلنا وحدثتنا عنهم وذكرت لنا من قصصهم وأخبارهم، فذكر لنا ﷺ أصحاب الغار الثلاثة، وما استجاب الله من دعائهم بسبب أعمالهم الصالحة، ناس صالحين من بني إسرائيل ما كنا نعرف عنهم، النبي حدثنا عنهم، حدثنا بقصة جريج الراهب وما كان في صومعته، وكثير من القصص حدثنا عنها ﷺ.
-
وكان الصحابة من بعد يروون هذه القصص، وكانوا يروون قصصهم مع النبي، وما حصل لهم في أول الإسلام وما جرى لبعضهم البعض.
-
ورأينا التابعين وهكذا إلى من أدركنا من شيوخنا، كانت مجالسهم معمورة بذكر قصص أنبياء وصالحين وشيوخ والذين مضوا ومن عرفوهم من الأخيار، وكل ذلك يزيد القلوب نور ويقوي الإيمان ويرقق الأفئدة ويقرب إلى الرحمن، وعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.
واجتهد علينا الكفار في الأرض، بثوا لنا قصص من عندهم من أخبث القصص وشغلونا بها، وحتى أطفالنا وحتى نساءنا، وحتى هكذا.. وكثير منها يظلم القلوب ويوقع في ضعف الإيمان إلى غير ذلك. (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة:61].
"وحسن القول للحكايات، وترك الجواب عند انقضاء الخطاب".
-
فلا يستعجل بالجواب حتى ينقضي الخطاب.
-
بل يدعُ الأخ يكمل كلامه حتى ينقضي من كلامه ثم يجيبه.
-
فلا يقاطعه في الحديث.
-
وإذا حدثه بشيء يعرفه لا يقول: أنا قد أعرف هذا.
-
ولا يسابقه فيما يحكيه من رواية.
"والنداء بأحب الأسماء"، أحب ما يحب مما ينادى به يناديه به.
قالوا: كان يأخذ ﷺ بخواطر أصحابه، يَكْنيهم، حتى بعض الذين ما عندهم كُنى سابقة يعطيهم كنية، وبعضهم عاد ما عندهم أولاد يكنيهم ﷺ لأنه العرب كانوا يحبون النداء بالكنية ويعِدُّونها تشريف وفخر، فكان يناديهم بكُناهم ﷺ ويكني بعضهم، وهكذا.
كانت كُنى لسيدنا علي، لكن أحبها إليه "أبو تراب" لأنه كناه بها ﷺ جاء وهو في المسجد وقد أثر التراب فيه، أيقظه وهو يقول: "قم أبا تراب، قم أبا تراب". فكان أحب الكنى إليه لأنها سمعها من فم النبي ﷺ يُكنيه بأبي تراب، وهكذا كنَّى عددًا من الصحابة، حتى كنَّى أم المؤمنين عائشة بأم عبد الله ولم تلد، يروى والأصح أنها لم تحمل أصلًا وقيل أنها أسقطت، وكان يسميها بأم عبد الله، وعبد الله بن الزبير ابن أختها، كناها به: أم عبد الله، فهذه من جملة الآداب مع الإخوان.
ثم رعاية حاجاتهم وتفقدها، ومواساتهم وقت الحاجة، والفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم، تهنئتهم عند الأفراح، وتعزيتهم عند النوائب والشدائد والمصائب، بل تفقد أُسرهم إذا غابوا عنهم أو ماتوا قبلهم.
وهكذا مما ذكروا من جملة حكايات سيدنا إبراهيم بن أدهم، أنه جاء في أرض باردة في وقت الشتاء، ودخل إلى مسجد صلى معهم المغرب والعشاء، وأراد أن يمكث في المسجد، فجاء القائم على المسجد، وقال له: أُخرج.
قال: أنا غريب والأرض باردة وأريد أرقد في المسجد.
قال: أنت تريد تسرق الحصير!.
قال: لا. حتى أقفل الباب إنت من عندك، أقفل الباب من الخارج علي وأنا سأبقى في المسجد.
قال: لا، أُخرج ممنوع تبقى في المسجد، يوم رأى نفسه ما يدري أين يذهب والوقت شتاء والأرض باردة قال: أنا بأضجع هنا، أنت استأمن على المسجد واقفله.
قال: أنت كثير الكلام! فأخذ برجله يسحبها إلى عند باب المسجد، قام ومشى ينظر أين يقضي الليل في عبادته في مكان يكون فيه دفء، فشاهد نار تُوقد وتَنُّور، قال: هناك نقرب بيكون دفء عند النار نعبد الله هناك، فجاء فحصَّل واحد خباز يخبز سلَّم عليه، أشار إليه اقعد محلك واسكت، واشتغل بعمله، وفي نفسه قال: الحين أهل البلد هذا عجيبين! ذاك سحبنا برجلي وذا ما يرد السلام! عسى ما يأتي بالمِحْواش حقه هذا الذي يحوش به التنار، وبقي يذكر الله تعالى حتى أكمل الرجل عمله في الخبْز.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. قال: أنا من أول سلمت عليك. قال: نعم، لكن كنت أنا مستأجَر، هذا عمل ليس لي، وأنا مستأجَر، خفت أن أرد عليك السلام فتكلمني فأغفل عن العمل، فأُضَيِّع حق المستأجِر الذي أجرني. قال: فعلمت أنه من أولياء الله ورِع هذا! فرحتُ.
قال: فجلس إليّ حدثني. قلت له: أنت من هذه البلد؟
قال: لا، من بلد كذا، بلد بعيدة.
قال: ما جاء بك إلى هذه البلد؟
قال: لي أخٌ في الله في هذه البلد توفي وترك صبية أطفال، فجئت إلى هذه البلد وأجَّرت نفسي في هذا المخبز أخبز لهؤلاء في كل ليلة كذا وكذا من أجل أن أنفق على أولاد أخي في الله، ولكن الآن كبروا بحمد الله ويستطيعون القيام بأنفسهم ويكسبون بأنفسهم، وما بقي لي في الدنيا غرض إلاَّ مطلب واحد طلبته من الله تعالى.
قال: ما هو؟
قال: سمعت عن رجل صالح يقال له إبراهيم بن أدهم، فسألت الله ألاَّ يميتني حتى يجمعني به.
قال: أنت سألت هذا؟!
قال: نعم.
قال: ها هو جاءك مسحوبًا على رجله! يعني: هيأ الله ذاك الرجال بالطبع ذا الغريب، وإلاَّ يرق لواحد غريب جاء ويتركه في المسجد قام يسحبه من شأن دعوتك هذه، وقام اعتنقه، وقال: الحمد لله. فتذاكر هو ويّاه، وأخذ منه الوصية والدعاء.
قال: خلاص، أنا في الغد أرد العمل لأصحابه وأرجع إلى بلدي مستعد للقاء الله، ما عاد لي غرض في الحياة الدنيا.
حبس نفسه للعمل في بلد غير بلده من أجل أولاد أخيه في الله حتى كبروا! ..لا إله إلاَّ الله...
آداب الجار
آداب الجار
"ابتداؤه بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عليه السؤال، ويعوده في مرضه، ويعزّيه في مصيبته، ويهنيه فى فرحه، ويتلطّف لولده وعبده في الكلام، ويصفح عن زلّته، و معاتبته برفق عند هفوته، ويغضّ عن حرمته، ويعينه عند صرخته، ولا يديم النظر إلى خادمته."
يقول: "آداب الجار"..
-
والجار لو لم يكن مسلمًا لكان له حق الجوار؛ إن كان ذميًا، أو معاهد، أو مُأمّن فله حق الجوار.
-
أما إذا كان مسلم له حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
-
أما إذا كان قريب فله ثلاثة حقوق:
-
حق الإسلام.
-
وحق الجوار.
-
وحق القرابة.
-
يقول: "آداب الجار. ابتداؤه بالسلام، ولا يطيل معه الكلام"، خصوصًا فيما لا يأنس به ولا يستبشر به ولا يميل إليه؛ ولكن يكلمه بما يدخل الأنس والسرور،
"ولا يكثر عليه السؤال، ويعوده في مرضه"، وإن كان هذا حق عام للمسلمين؛ ولكن للجار آكد.
يعوده في مرضه، من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله شيعهُ سبعون ألف ملك، إن عاده في الصباح أو زاره في الصباح صلوا عليه إلى المساء، وإن عاده في المساء صلوا عليه إلى الصباح.
"من زار أخًا له في الله ناداه ملك: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة نُزلًا".
يقول: "ويعُوده في مرضه". وعائد المريض ينبغي أن:
-
لا يطيل الجلوس عند المريض.
-
وأن يدعو له، ومما جاء في السنن أن يقول: "أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك" سبع مرات، ويضع يده على رأسه ويمسح عليه مهما تيسر مثل ذلك.
-
ويُرجِّيه في الله تعالى؛ إن ظهرت عليه علامات أنه في الغالب يموت من ذالك المرض وينتقل، يفسح له باب الرجاء في الله -سبحانه وتعالى-، ويذكره بعظمة جوده وكرمه ورحمته.
قال: "ويعزيه في مصيبته"، فإن من عزّى. -معنى عزَّى المصاب يعني: ثبته في مصيبته وهونها عليه واستبعث منه الرضى والطمأنينة - ما معنى عزاه؟
عزَّاه يعني: هون عليه المصيبة وثبت قلبه وخفف عليها شدتها، وذكَّره بفضل الله عليه ووجود الأجر فيما أصابه، فإنه "ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ"؛ إلاَّ كان له فيها أجر.
قال: "ويعزيه في مصيبته"، "مَن عزَّى مُصابًا فلَهُ مثلُ أجرِهِ"، إذا صبر، فله مثل أجره.
معنى يعزِّيه: يصبره، يثبته على الصبر والرضا، ويدعوه إلى الرضا بقضاء الله -تبارك وتعالى-.
قال: "ويهنيه في فرحه"، لذا قال سيدنا كعب بن مالك -رضي الله عنه- لما نزلت توبته ودخل عليهم المسجد فقام إليه من الصحابة من المهاجرين طلحة بن عبيد الله يهنئه، قال: فما نسيتها لطلحة. لما قام يهنئه بتوبته.
وهنأه النبي ﷺ، وقال له: "أبْشِرْ بخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ"، قال: أحسن يوم الذي نزلت فيه توبتك من السماء في القرآن. (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 118]، جلّ جلاله.
قَالَ: "قُلتُ: أمِنْ عِندِكَ يا رَسولَ اللَّهِ أمْ مِن عِندِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مِن عِندِ اللَّهِ. قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ أنْخَلِعَ مِن مَالِي صَدَقَةً إلى اللَّهِ وإلَى رَسولِ اللَّهِ، قَالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ؛ فَهو خَيْرٌ لَكَ"، وأنفقِ البعض في سبيل الله -جلَّ جلاله-.
يقول: وكان يحكي في ثباته أنه في الأيام التي أمر النبي باعتزالهم -هؤلاء الثلاثة المؤمنون- عدد من المنافقين تخلفوا وجاءوا بأعذار كذب وسكت عنهم النبي ﷺ ووكلهم إلى الله، لكن هؤلاء مؤمنين صادقين، قالوا: ما لنا عُذر في التخلف عنك في غزوة تبوك.
فقال: "اتْرُكُوهُمْ حَتّى يَقْضِي الله فِي أَمْرِكُمْ"؛ ثم أمرهم بأن يعتزلوهم ولا يُكلّمهم أحد، ضاقت عليهم الأرض.
قال: يَأمر الناس ما أحد يتكلم معي، أُسلِّم فلا أَسمع ردّ السلام، الناس متغيرون. قال: حتى أدخل إلى المسجد النبي ﷺ فأُسلّم، قال: ما أسمع صوت أحد. أنظر إلى النبي ﷺ هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ قال: وكنت أجلس فكنت أُسارقه النظر، وإذا نظرت إليه صرف وجهه عني، وإذا أعرضت عنه نظر إليّ، لم يزل يراعيهم في تربيتهم هذه. قال في ثباته -عليه رضوان الله-: خرجت يومًا إلى السوق وإذا بنَبَطيٍّ يُنادي: أين كعب بن مالك؟ فأشاروا إليه جاء لعنده وإذا معه رسالة من الفُرس، ويقول له مَلِك الفُرس: بلغنا أن صاحبك قلاك، فَالْحَق بنا نُواسِيك. دولة عظمى، تستدعيه، نريد أن نكرمك! ، قال: قلت هذا من البلاء، فتيمّمت بها التّنور فَسجّرتُها، ذهب الى التنور في بيته حرق الرسالة وما جاء فيها، ولا الْتَفت إلى إغرائهم ولا إلى إغوائهم ولا إلى ما عندهم، وهكذا حتى بعد خمسين ليلة نزلت آية التوبة فتاب الله عليهم -عليهم رضوان الله تعالى-، وهذا منشور من الحق نقرأه في التوبة عليهم وسط القرآن ، وفي الصلاة نقرأه، الله! الله! الله!، ففيه التهنئة بالفرح، ومنه التهنئة بالعيد، وأيام العيد.
كان يقول: شهر شوال كله عواده، أي: تهنئة بالعيد، وترون في البلدة، يقول العوام: رمضان الصغير، يُلحقون الست من شوال متابعة، ثم يجعلون في اليوم الثامن من شوال يوم العوّادات ويوم العيد ويوم التهاني، وهكذا التهنئة بكل خير.
"ويتلطّف لولده وعبده في الكلام"، مراعاة لأُخوّة والده أو سيده، "ويصفح عن زلّته، ومعاتبته برفق عند هفوته"، بالحرص والشفقة، وما يجلب الرجوع إلى الحق.
"ويغضّ عن حرمته"، ولا يمد عينه إلى داخل بيته ولا إلى أحد من نسائه.
"ويعينه عند صرخته"، عند استغاثته، عند حاجته، ولا يتنصّت إلى كلام أهله ولا أولاده في البيت.
"ولا يديم النظر إلى خادمته" ونحوها؛ بل يتحلى بالحياء والحشمة زيادة مع مَن يتصل بأخيه في الله، زيادة على ما يقوم به مع الجميع. ثم يذكر آداب المالك مع من يملكه.
آداب السيّد مع عبده، والعبد مع سيّده
آداب السيد مع عبده
"لا يكلفه ما لا يطيق من خدمته، ويرفق به عند ضجره، ولا يكثر ضربه، ولا يديم سبه فيجرأ عليه، ويصفح عن زلته، ويقبل معذرته، وإذا أصلح له طعاما أجلسه معه على مائدته، أو أعطاه لقما من طعامه".
آداب العبد مع سيده
"يأتمر لأمره، وينصحه في غيبته، ويبذل له خدمته، ويحفظه في حرمته، ويرق على ولده، ولا يخونه في ماله".
يقول: "لا يُكلفه ما لا يُطيق من خدمته، ويرفق به عند ضجره"، قالوا: كم نعفوا عن الخادم يا رسول الله في اليوم؟ قال: "سبعين مرة". من يغلط سبعين مرة في اليوم الواحد؟ قال: "سبعين سامحوه فيها"، صلى الله على سيدنا محمد وآله.
"ولا يكثر ضربه"، لأن الضرب يكون للأدب، والضرب للأدب:
-
لا يتجاوز تسعة عشر ضربة.
-
وقيل عشر.
-
وقيل ثلاث ضربات، لا يزيد عليها.
ويجب أن يكون الضرب للأدب:
-
غير مبرح، المبرح: الذي يسيل دمًا أو يكسر عظمًا، هذا ممنوع.
-
وأن يكون في غير الوجه، ولا يجوز الضرب في الوجه حتى البهيمة، حتى البهيمة إذا استعصت، حتى إذا ضُربت يُحرم ضربها في الوجه، ما يُمكن في وجهها.
هذا كان في وجه البهيمة، فكيف وجه بني آدم؟ ما يجوز الضرب في الوجه.
يقول: "ولا يديم سبِّه فيجرأ عليه، ويصفح عن زلته، ويقبل معذرته، وإذا أصلح له طعاما أجلسه معه على مائدته، أو أعطاه لقما من طعامه" الذي ولِيَهُ كما أمر ﷺ.
وقال: وعلى المملوك أن "يأتمر لأمر سيده، وينصحه في غيبته، ويبذل له خدمته، ويحفظه في حرمته، ويرِقّ على ولده، ولا يخونه في ماله".
فهذه من المهمات والواجبات بين الإخوان وبين المتعاملين كذلك ببيع أو شراء أو إجارات أو غيرها من أنواع التعامل.
ويذكر -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- آداب وُلاة الأمور مع الرّعايا، والرّعايا مع وُلاة الأمور، كما سيأتي إن شاء الله معنا.
رزقنا الله التأدّب بأحسن الآداب والتخلّق بأحسن الأخلاق، حتى يسعدنا بأعلى السعادات التي يرفع إليها أحبابه من أهل الصدق وأهل الإقبال الكلي عليه، ممن يسخّر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه -جل جلاله وتعالى في علاه-، ويسكنهم الفردوس الأعلى من جناته، اللهم ألحقنا بهم، يا ربنا! يا أرحم الراحمين!
فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ الَّذِي قَدْ أَشْرَقَتْ *** أَنْوَارُهُ بِالعِنْدِ يَا لَكَ مِنْ سَنَا
وَالمُتَّقُونَ رِجَالُهُ وَحُضُورُهُ *** يَا رَبِّ فَالْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا
يَا رَبِّ فَالْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا!
يَا رَبِّ فَالْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا!
يَا رَبِّ فَالْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا!
يا أكرم الأكرمين! ويا أرحم الراحمين!
يقول في خطابه لأهل الدرجات العُلا من المقربين والعارفين، وكنّى عنهم بعُرب نجد:
إِنِّي لَأرْثَى مَنْ بُلِيَ بِبِعَادِكُمْ *** مِثْلِي وَأَغْبِطُ مَنْ إِلَيْكُمْ قَدْ دَنَا
وَأَرَى الحَيَاةَ إِذَا خَلَتْ عَنْ وَصْلِكُمْ *** أَنَّ المَمَاتَ أَسَرُّ مِنْهَا وَالفَنَا
هكذا محبة الحق ورسوله والصالحين.
مَنْ لِي وَهَلْ لِي أَنْ أَرَاكُمْ سَادَتِي فَضْلًا *** وَإِلَّا مَنْ أَكُونُ وَمَنْ أَنَا
لا مُغتر بعلمه، ولا بوعيه وفهمه، ولا بنوره وولايته، ولا بما أتاه الله تعالى من الأوصاف ولا من المعارف واللطائف، يقول: من أكون ومن أنا؟
يقول: إذا لم يُلحقني الله بكم ويجمعني معكم، فمن أكون ومن أنا؟
وكان قبله الإمام المحضار بن عبد الرحمن السقاف يقول: من أنا؟ من أنا؟ من أنا لَولَاكم؟ الله! الله! الله!.
وربَّى النبي ﷺ أصحابه يقولون:
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدّقنا ولا صلّينا
يقول:
أَنْتُمْ مُرَادِي لَا أُبَالِي بَعْدَ مَا *** تَرْضَوْا عَلَيَّ بِمَنْ أَحَبَّ وَمَنْ شَنَا
بِوِدَادِكُمْ تَحْيَا القُلُوبُ وَحُبُّكُمْ *** نُورُ السَّرَائِرِ خَيْرُ شَيْءٍ يُقْتَنَى
وَبِقُرْبِكُمْ وَوِصَالِكُمْ تَتَنَعَمُ الْـأَرْوَاحُ *** فِي رَوْضِ المَسَرَّةِ وَالهَنَا
فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ -(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].
فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ الَّذِي قَدْ أَشْرَقَتْ *** أَنْوَارُهُ بِالعِنْدِ....
(عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) هنا الخصوصية- يَا لَكَ مِنْ سَنَا
فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ الَّذِي قَدْ أَشْرَقَتْ *** أَنْوَارُهُ بِالعِنْدِ يَا لَكَ مِنْ سَنَا
وَالمُتَّقُونَ رِجَالُهُ وَحُضُورُهُ *** يَا رَبِّ فَالْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا
يَا رَبِّ الْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا.
يَا رَبِّ الْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا.
يَا رَبِّ الْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا.
وثبتنا على الاستقامة، وأتحفنا بالمنن والمواهب والمزايا والمنح والكرامة في الدنيا، وعند الموت وفي البرزخ ويوم القيامة، وفي دار الكرامة ومستقر الرحمة وأنت راض عنا من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب.
وفرّج كروب المسلمين، وارحم المستضعفين والمظلومين من أهل الدين في المشارق والمغارب، رُدَّ عنهم كيد الظالمين المعتدين الباغين، واخذل أولئك الظالمين الباغين المعتدين واهزمهم، ومزقهم كل ممزق مزقته أعداءك في نصرة أنبيائك ورسلك وأولِيائك.
وأصلح شؤون الأمة واجمع شملهم على ما تحب، واجعلنا من أهل الإيمان الخالص الكامل التام، وزدنا إيمانًا في كلّ لمحةٍ ونفس، وخلِّقنا بأحسن الأخلاق وأدبنا بأحسن الآداب.
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. ثبتنا على ما تحب منا في القول والفعل والنية والعمل، ثبتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
05 شوّال 1446