شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -2- أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى (1)
الدرس الثاني من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، يتحدث فيه عن الآداب بين يديّ الله تعالى، أدب المؤمن بين يدي الله تعالى (1).
فجر الثلاثاء 3 شوال 1438هـ.
أدب المؤمِن بَين يَدي الله تعالى
إطراق الطرف، وجمع الهمّ، ودوام الصمت، وسكون الجوارح، ومبادرة امتثال الأوامر، واجتناب المناهي، وقلة الاعتراض.
الحمد لله مُكرمنا بالأنوار الساطعة، من إرشاده ودلالته وبيانه وتعليمه رحمة بعباده، حمّلها أنبياءه ورسله فكانوا الوسائط الكبرى بينه وبين خلقه في إيصال تعاليم الحق إليهم وإرشادهم وتبيين المسالك لهم، فانقسمت القلوب في استقبال ما جاء به النبيّون والمرسلون إلى أقسام، وتنوّعوا إلى أنواع، باختلاف الإيمان والإقبال والصدق وحسن التطبيق والتنفيذ والعمل؛ وبذلك كانت الجنّة درجات، وكانت النار دركات، ودرجات الجنة على حسب الاستجابة لدعوات الأنبياء والعمل بما جاءوا به والصدق في ذلك والإخلاص فيه لوجه الله الكريم، ودركات النار على قدر مخالفات الأنبياء والخروج عن طاعتهم وعن معرفة قدرهم وحرمتهم.
كذلك حكم الله تعالى في خلق هذه البريّة؛ فالعقول الموجودة على ظهر الأرض التي لا تخوض إلا في الماديّات والمحسوسات وما فيها: ناقصةٌ قاصرةٌ بل ساقطةٌ، فهي عقول جدًا انحصرت في جزءٍ من جزئيات الكون مع نسيان المكوّن فما أجدرهم أن يقولوا عند انكشاف الغطاء (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10-11]، الكتب نزلت، والرسل وصلت وبلّغت، والدعوة جاءت إليهم، ثم أعرضوا واستكبروا وراء شهوات وراء مظاهر وراء سمعة وراء سلطات وراء أنواع هذه الفانيات فما أحقر ما رموا أنفسهم فيه.
الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان، زادنا الله إسلامًا وزادنا الله إيمانًا وقوّانا في ذلك،. والزيادة في الإسلام والإيمان بواسطة هذه الآداب التي سبق الحديث عند ذكر مقدّمة الكتاب للإمام الغزالي عنها، عن معانٍ منها وحقائق متعلقة بها،
-
وأنها كنوز الأمة الغالية في وصلتهم بالرب
-
وهي السياج الذي يحفظ حقائق الإيمان والإسلام
-
وإذا ضاعت الآداب فقد حصل الخراب وقد انفتحت أبواب السوء والشر لأهل الكفر والارتياب ليلعبوا بأسس الدين بين المسلمين والعياذ بالله تبارك وتعالى
فبحسن الأدب تُرتقى الرتب،، بحسن الأدب يرضى الرب،، بحسن الأدب يُتحقق بحقائق الإنابة، وتتم الاستجابة، رزقنا الله الأدب الوافر،.
فقال الإمام الحداد في الذي يلازم ذكر الله الرحمن جل جلاله "بقلبٍ حاضر، وأدبٍ وافر، وإقبالٍ صادق، وتوجّه خارق"؛ يُهتك حجاب قلبه فيبصر غيب ربّه، يهتك عنه الحجاب ويدرك الحقائق، إذا داوم على ذكر الرحمن بقلب حاضر أدب وافر وإقبال صادق وتوجّه خارق؛ وهذا الذي نحتاجه.
وسبق الكلام معنا في الأمس أننا بين يديّ الله أبدًا وسرمدًا؛ في يقظتنا ومنامنا، ودخولنا وخروجنا، وأكلنا وشربنا، نحن بين يدي الله، قال الرب: (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)[الأعراف:6-7]، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) لا أقل ولا أكثر (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[المجادلة:7]، قال وهو معكم أينما كنتم، إذا علمنا ذلك؛ فحقيقة الصحبة، صحبة هذا الإله الذي يصحبك وهو أعلم بك من نفسك، لك من تصحبهم أوقات معينة أو أوقات كثيرة في هذه الحياة الدنيا، كل هؤلاء الذين يصحبونك؛ من زوجة، من أهل، من ولد، من أصدقاء، من زملاء عمل، من زملاء دراسة، من أي نوع من الأنواع… لو علموا منك ما تعلم أنت فقط من نفسك لتنكّروا لك، وتغيّروا عليك ولَمَا كانت صحبتهم بهذا الطريقة! لكن الله، ما هو يعلم منك ما تعلم من نفسك؛ بل فوق ما تعلم من نفسك،، يعلم من عيبك ما لا تعلمه أنت ويعلم من نقصك وضعفك وعجزك وخيانتك ما لا تعلمه أنت من نفسك.. هو أعلم بهذا من نفسك! ومع ذلك، لا قطع عليك الهواء، ولا قطع عليك الماء، ولا قطع عليك الرزق، ولا زلزل بك الأرض، ولا نزّل عليك صاعقة… هذا الصاحب الذي يحتاج أن يُعظّم، الذي يحتاج أن يُقدَر قدر هذه المعيّة منه سبحانه وتعالى.
والآخرون كلهم من مثّلنا لك ما يبقون بالمعية معك لو علموا من العيوب ما تعلمه من نفسك فقط،، ربما صديق من الأصدقاء وتكن له كثير من الخير، لكن نحوه أنت في غيبته وليست معه كهو في حضوره، وربما معك خواطر نحوه لو علمها لقلاك، لكن هذا الرب يصحبك وهو داري من أنت، وأعلم بك من نفسك، ومع ذلك فتح الخير لك، وفتح الأبواب لك.. وزيادة على ذلك قال وأنت يا مُعرض عني يا جاحد بي (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ)[الزمر:53] ارجعوا لي.. تعال سأقبلك،.. إيش هذا الكرم؟ إيش هذا الفضل؟ تراعي صحبة ذا وذا وتنسى هذا؟! لا إله إلا هو!
نحن بين يديّ الله أبدًا سرمدًا، لكن كما أسلفنا في الأمس من فضله وكرمه وجوده علينا، قال بعض ساعاتكم، بعض أوقاتكم، أنا خلقتكم على هيئة فيها ما فيها من الضعف والعجز ولن تقدروا أن تقوموا بحقي كما ينبغي، ولكن أكتفي منكم أوقات صلوات، وأوقات قراءات، وخلوات بيني وبينكم، باقي الأوقات تنصرفون فيها هنا وهنا وهناك، ما تستطيعون أن تستشعروا الأمر كما هو في رقابتي عليكم، وإلا لن تقدروا لا تأكلوا ولا تشربوا ولا تتحركوا… لكن فسحت المجال لكم، وطيّبته لكم، وجعلت هذه الحجب الظلمانية والحجب النورانية، وفي طيّها رحمة عامة لكل الناس، وخصوصيات يخصّ الله بها من يشاء فيما يكشف من هذه الحجب.
ومرّ معنا قول سهل بن عبد الله التستري -رضي الله عنه- متحدثًا بما أنعم ربّه عليه من كشفٍ لكثير من الحجب حتى صار غالب على قلبه وعقله شهود الرب، فصار حتى لا يتكلم مع الناس إلا وهو مشاهد رب الناس، ينظر ما يرضيه فيقوله على حسب ما شرع له، وهو حاضرٌ معه، لا تأخذه صور الخلق، ولا اعتبارهم، ولا هيئاتهم، ولا هيباتهم، عن رسوخ هيبة الرحمن الأعلى والربّ الجليل في قلبه، فقال: لي ثلاثون سنة يحسب الناس أني أتكلم معهم وأنا لا أتكلم إلا مع الله!.. وأن لا أتكلم إلا مع الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- عجب لهؤلاء! إذا كان هذا أحوال الأولياء فكيف أحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؟!
يكفيك الله لما ذكر سيدنا موسى قال له:
-
(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه:39].
-
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه:41]
أحوال النبوة.. جاء لسيد الأنبياء يقول: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور:48]، أنت المنعَم عليه بأجلّ النعم وأنت في هذا المقام الأعلى، صلوات ربي وسلامه عليه.
إذا علمنا ذلك، فيسرد لنا الإمام الغزالي آداب، بعضها تتأكد ويُتوجّه الخطاب بها في مثل الصلاة وعند القراءة وعند الصلاة وعند التلاوة، وبعضها في أوقاتٍ أُخَر. بعض صلحاء الأمة وخيارهم يتعمّد تقليل الطعام واختيار الذي يكون أبعد عن إخراج الرفث، يسألونه، قال: أستحي من الله يكثر دخولي الخلاء! أستحي من الله يراني على هذه الصورة دائم! شأن المعاملة مع الرحمن شأن أيها الأحباب والإخوان، يفيده رمضان لمن أدرك سرّ رمضان، حتى يخرج من رمضان وهو يعرف كيف يتعامل مع الرحمن، الذي أحاط علمًا بكل شيء، ولكن في ساعات يقول اجعل لي ساعةً فيما بيني وبينك، أكفِك ما دونها، اجعل لي ساعة.. ولهذا كان يقولون صلحاء الأمة كنا نخاف على مسلم مؤمن يمر اليوم طول اليوم ما له لحظات وساعات يخلو فيها مع ربه، يحاسب يعاتب يراقب نفسه، ينظر ما الذي يصلح من شأنه مع الله، ما الذي لم يصلح، قالوا: نخاف عليه من سوء الخاتمة، نخاف على هذا ما يثبت على الإيمان ولا يختم له، يوم بعد يوم ما له لحظات يقف فيها محاسب لنفسه، مختلي بربه، يرى كيف حاله مع هذا الإله فيما يتحرّك به في هذه الحياة التي خلقها (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ..) ليختبركم (..لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا..) [الملك:1]، فنخشى على أنه من لا له في خلال اليوم والليلة، وتمرّ الأيام عليه ولا له ساعة بينه وبين الله، نخاف عليه سوء الخاتمة عند الموت.. يا الله بها يا الله بها يا الله بحسن الخاتمة.
وفي الحديث أيضًا فيما جاء في الكتب السابقة: ابن آدم اجعل لي ساعةً من أول نهارك، وساعةً من آخره أكفِك ما بينهما؛ تعال احضر واشهد صلاة الصبح، وإن وفقك الله أيضًا مع جماعة لأذكار وعلم مثل هذا مِنّة من منن الله نعمة، واجعلها ساعة لله.. وساعة آخر النهار، قبيل المغرب اعكف بقلبك في وجهة إلى الله تعالى، قال الذي بينها أكفك إياه، أكفك ما بينهما، اجعل لي ساعة من أول نهارك وساعة من آخره أكفك ما بينهما، جلّ جلاله.
بعد هذا يقول في مثل هذه الساعة التي تجعل له في مثل الصلاة؛ إن من أدب المؤمن بين يدي الله تعالى "إطراق الطرف"؛ لا يتلفت، في حالة الذكر المخصوص، في حالة التلاوة، في حالة الصلاة من باب أولى، ما يلتفت؛ نظره إلى محل سجوده ما يروح هنا وهنا وهنا، وإذا قال أشهد أن لا إله إلا الله في التشهّد.. نظره إلى الإصبع إلى أن يُسلّم وما يلعب بنظره. في الخبر أنه: إذا قام ابن آدم إلى الصلاة فدخل الصلاة وكبّر، أقبل الله عليه بوجهه، فإذا التفت إلى شيء قال الله: ابن آدم التفت إلى غيري، غيري خيرٌ له مني! فإذا التفت الثانية قال الله: ابن آدم التفت إلى غيري، غيري خيرٌ له مني، فإذا التفت الثالثة أعرض الله عنه.
إطراق الرأس، "إطراق الطرف"؛ ما يتحرك، هذا الأدب كان يعمله الصحابة بين يديّ محمد وهو بابهم إلى الله، فكيف حالهم هم في صلواتهم وغيره؟ لمّا يجلسون بين يديه، هذا التمثيل البديع الذي جاءنا في الصحيح: "كأن على رؤوسهم الطير"؛ يجلسون معه دقيقة أو دقيقتين؟! كأن على رأسه الطير إيش من مجلس هذا؟! وكذلك كانت مجالسه، وُصفت مجالسه، قال: "كان مجلسه مجلس حلم وحياء"، ومن هنا جاء في آثار بعض الصحابة يقول: إذا صارت الأمة تجتمع نحو العشرين منهم ليس فيهم من يُستحيا منه فقد حلّ بهم البلاء! لا حياء فيها ولا وقار في المجالس.
يقول: "إطراق الطرف، وغضّ البصر"، ولما مرّ رسول الله ﷺ وجد رجل يلمس لحيته في الصلاة، قال: "لو خشع قلبه هذا لسكنت جوارحه"، وبهذا تعلم ما ضاع علينا من الآداب، تعال إلينا في الصلوات تحصّلنا نحرك عيوننا كذا وكذا، ونحسّ بأي شيء، لو مرّ حتى ذباب جنبه التفت، يا هذا في أي حضرة أنت؟! وتعال بنا في مجالس القرآن ومجالس الذكر ومجالس العلم، لو أدنى صوت من هنا، ولو واحد قام خمسة يلتفتون، عشرة يلتفتون، عشرين، وإن صدر صوت كبير، مئة، مائتين يلتفتون! ماذا تقولون؟ ما يوجد حضور، ولا مظهر لحضور القلب مع الرب جلّ جلاله.
كان يمشي في الطواف سيدنا ابن عباس أو ابن عمر، جاء واحد يكلمه، لم يرد عليه، يمشي ويذكر، بعد الطواف جاء قال تعال كنت تكلمني وأنا أطوف أما تدري أننا في الطواف لنتراءَى لله! لا تكلمني وأنا أطوف، أباح الله فيه النطق لكني أنطق بذكره، وأنطق بدعائه، لا أكلم الناس وأنا في الطواف ببيته، عليه الرضوان.
وهكذا تقرأ بعد ذلك قصة عروة بن مسعود عندما احتيج بآكلة بدت في رجله إلى قطع قدمه، فقالوا تتناول ما يُبعد الحس منك حتى لا تشعر بالألم، قال: معاذ الله أن أتناول ما يغيّب عقلي عن الفكر في عظمة ربي! يعني: أنا مستديم الفكر في هذه العظمة ما أقطعه، تخيبون أنتم! قالوا: كيف نصنع ألم شديد؟ قال: إني إذا دخلت الصلاة انقطع عني الشعور بما في هذا الجسد والعالم، فسأمدّ رجلي في التشهد فاعملوا ما بدا لكم، فلمّا دخل الصلاة قطعوا رجله وضمّدوها وهو ما تحرك ولا أحس ذلك، ثم لمّا سلّم قال: قطعتم؟ قالوا: قطعنا وكملنا، فلما حملوا رجله يدفنوها، قال: اللهم إنك تعلم أني لم أمشي بها إلى معصية منذ أسلمت، من يوم أسلمت ما مشيت بهذه الرجل إلى معصية، وقال: اللهم إنك وهبت لي رجلين أخذت إحداهما، وتركت لي الأخرى فلك الحمد على ما أخذت ولك الشكر على ما أبقيت. ويُذكر أنه لما ذهب وكان عنده ابنان، نادى أحد الابنين فصادف أنه سقط من السطح وتوفي، كان هو وأخوه يتطاردون في السطح، فما دروا ماذا يقولون له، هذا الرجل قُطعت رجله والآن يقولون له ولدك توفي! فلما ألحّ يسأل على الولد ويناديه، قالوا له: جرى عليه القدر، قال: الحمد لله اللهم إنك وهبت لي ابنين أخذت أحدهما وتركت لي الآخر، فلك الحمد على ما أخذت ولك الشكر على ما أبقيت!.. تربية محمدية.
يقول: "إطراق الطرف" بهذا تعلم كيف جلسوا بين يديّ النبي وماذا أحدثت تلك المجالس. ولمّا كان حِسّ الأدب قويًّا سار من الصحابة إلى التابعين إلى تابع التابعين إلى تابع تابع التابعين.. تابع التابعين أيام الإمام مالك كانوا لما يجلسون في المجلس عنده في مجلس الحديث في المسجد النبوي ما تسمع حِس ولا حركة وكأن على رؤوسهم الطير، وهو يتلو حديث النبي ﷺ. وما رضي هو يوم يتحرك للسعة العقرب، أول لسعة، ثاني لسعة، ثالث لسعة، رابع لسعة، خامس لسعة، لسعة عقرب ليست لسعة نملة!! سادس لسعة، سابع، ثامن، تاسع، عاشر…. لكنه كان وهو يلقي الحديث حمّر وجهه، وكمّل الحديث، لما أكمل وانتهى، قال: انظروا ماذا يلسعني في ظهري؟ جاؤوا وحصّلوا عقرب، والعقرب قد لسعه أربعة عشر أو ستة عشر لسعة! قالوا: يا إمام من أول ما أحسست!! قال: كنت في حديث رسول الله! رأيت كيف.. ما رضي يتحرك! كنت في حديث فكرهت أن أقطعه لأي شيء، رضي الله عنه.
أيضًا يُذكر عن سيدنا عباد بن بشر أنه لما انتدبه ﷺ ومعه واحد ثاني يحرسان، خرج من أرض بعض الكفار المقاتلين، فلمّا كانوا في الطريق أرادوا النوم، فقال ﷺ: من يحرسنا من ذاك الجبل لا يلحقنا الطلب من القوم؟ قال سيدنا عباد بن بشر ومعه الثاني، قالوا: نحن، وطلعوا فوق التل، قال: تكفيني أول الليل أو آخره؟ واحد من أول الليل ينتبه واحد آخر الليل، واحد ينام وواحد يقوم، فقال له هذاك: أكفيك آخر ليلة، أنت قم أول ثم أيقظني، قال مرحبا، قام سيدنا عباد يصلي، إلا وصل طلب واحد من المشركين حلف أنه لابد يمسّ المسلمين، فلما وصل وجد هذا قائم، عرف أنه تبع جيش النبي وأنه حارس، خرّج السهم من كنانته وبالقوس رماه، وصل أول سهم فيه في غير مقتل، أخرجه بيده وقعد محله يصلي! بلا انزعاج بلا قلق ولا صاح في المسلمين وصل القوم والجيش والضربة جاءت فيه، لا، تأكد أنه ما من ضرر سيصل للنبي ولا للصحابة وأن هذا واحد تركه، وبقي مكانه يصلي، ثاني سهم خرّجه وبقي يصلي، ثالث سهم… خرج الدم وصل إلى عند صاحبه فانتبه، لمّا انتبه فرّ المشرك، تعجّب كيف ثلاثة أسهم أمامه ومجرّح وهو في الصلاة!! صبر لحين أكمل صلاته وسأله ماذا حصل؟ قال: طلب من القوم جاء واحد…، قال ولمَ لم توقظني على أول سهم؟ قال: كنت أقرأ سورة الكهف فكرهت أن أقطعها! ما طابت نفسي أقطع سورة الكهف لأجل واحد، دعه يرمي! هو مستأنس بسورة الكهف ومعانيها بين يديّ ربه، إيش هؤلاء القوم؟ هذه تربية محمّد، هل صليت صلاة مثل هذه في عمرك؟ فرض أو نفل؟ ما تعرف مثل هذا؟!
يقول: "إطراق الطرف"، فنعلم كم فقدنا، وكم ضيّعنا! وقالوا بعض الذين تسلسل فيهم هذا الخير إلى الأوقات المتأخرة، فكانوا في مجالسهم هكذا، مثل عبد الله بن حسين بن طاهر، بعده الحبيب عيدروس بن عمر الحبشي، بعده الحبيب علي بن محمد الحبشي، كانت لهم من المجالس ما ينزل عليها السكينة والناس كأن على رؤوسهم الطير، يقول بعض جلسائهم كلٍّ منهم: ما شعرت أني في الدنيا إلا لما مات! لما مات هذا وفارقته حسيت أن في الدنيا دار النكد والهموم والأكدار ما كنت أحس أني في الدنيا، ما كنت أشعر بشيء من هموم الدنيا لما يحصل في تلك المجالس، ونعم الجليس!
وإيـاكـمُ مـن صـحبة الضد إنني *** رأيـت فـسادَ المرء صحبة أضدادِ
ففي صحبة الأضداد كل رذيلةٍ *** تـؤدي إلـى ضـرٍ وبـغيٍ وإفسادِ
وفـي صـحـبة الأخيارِ كلُ غنيمة *** وربـحٍ وفـوزٍ ليس يحصيه تعدادِ
فـدونـكـمُ فيها ارغبوا ولها اطلبوا *** ففيها لمن يبغي الهدى خيرُ مرتادِ
هـم الـعـلـماءُ العارفون الذين في *** مـجـالـسِـهـم للمرءِ أعظمُ إسعادِ
ليس في مجالسهم إسعاد فقط، بل أعظم إسعادِ؛ الذين في مجالسهم للمرء أعظم إسعاد!
وكان يقول أنّ القوم الذين جالسهم على هذه الصورة من قبل من شيوخه والكبار الذين أدركهم:
أفيدك أنني جالست قومًا *** حدوني بالمقال وبالفِعال
رجالًا ما رأيت لهم مثيلًا *** يزعزع حَدوهم صمّ الجبال
فحرّك حَدوهم قلبي فأبدا *** غرامًا منه في حبّ الجمال
وهكذا، فتنظر كم فقدت الأمة من هذه الآداب، وهذه الأخلاق، وهذه الأذواق، واستبدلوها بسيانم وأغاني ماجنة وكلام فارغ، وروّحوا فيها.. مساكين.. إيش الذي ضيّعوا وإيش حصلوا؟ إيش حصّلوا من وراء هذا؟ وإيش الذي فاتهم؟ وإش الذي فقدوه؟
وكان يذكر أيام رمضان وما بعده، فيذكر أنهم تركوا هذا الطعام الظاهر والشراب الظاهر في أيام الصوم، فنالوا طعم ثاني، وذوق ثاني،
فيا لله ما طعموا وذاقوا *** طعامًا ليس يشبهه طعامُ
ليهناكم التهجد والقيام *** ويهناكم التعبّد والصيام
ويذكر في حالهم كيف خرجوا من رمضان بأي حال؟ فهذا الأدب.
يقول لك: "جمع الهم"؛ في ساعة الصلاة، في ساعة القراءة، في ساعة الذكر، في ساعة حضور مثل ذا المجلس، اجمع همّك على الرب، لا تبقى مفرّق الهموم هنا وهنا وهناك.. هي إنما لحظات، تعال فيها بكليّتك بكلّك، احضر فيها مع ربك، اجمع همّك على الله! كان الإمام الحداد يقول في بعض وصاياه: أوصيك بوصيةٍ ينفعك الله بها: إذا دخلت في أمرٍ فاجتمع عليه؛ اجتمع عليه، ما تبقى مفرّق هنا وهنا وهنا… لحظة تجتمع فيها خير من عشرات مجالس ما لك جمعية فيها على الله!
"جمع الهم"؛ فإذا دخلت للصلاة: صلاة، وقت القيام: قيام لا شيء ثاني، وقت الركوع: ركوع ولا شيء ثاني ركوع فقط، وقت السجود: سجود ولا أي شيء ثاني، اجتمع.. اجتمع، تعلّم الجمعية على الربّ -سبحانه وتعالى- يأمرك، فهذا من أدب العبد مع ربه؛ أن يجتمع بهمّه وكليّته.
وهكذا سمعتم قصة الذي طلب تعليم الدعاء من سيدنا موسى بن عمران -عليه السلام- لحاجة، فعلّمه الدعاء، وراح يدعو، بعد سنة رجع، قال: يا نبي الله، أنا دعوت بهذا الدعاء سنة ما حصلت الحاجة، قال: إذا كلّمت ربي أسأله عنك، لما كلّم الله وكان نسي سيدنا موسى، قال: ما أرسلك إلينا أحد شيء؟ ما شكى أحد لك شيء يا موسى؟ قال: نعم، عبدك فلان هذا يا رب علمته الدعاء وقال من سنة يدعوك بهذا الدعاء وما رأى أثر الإجابة، وأنا عبد من عبادك لو كانت حاجته بيدي وجاء عندي سأرحمه وأنت أرحم! قال: يا موسى، إنه يدعوني وقلبه عند غنمه، فلو دعاني مرة واحدة وقلبه معي لأجبته! قال لو مرّة واحدة يدعوني وقلبه معي… طول السنة يدعوني الدعاء هذا والقلب مع الغنم.. فهذا الحجاب الذي حجبه، ما اجتمع قلبه على الله تبارك وتعالى، وما كان سِرّ الدعاء إلا جمعية العبد على ربّه؛ هذا سِرّ الدعاء، لهذا قال ﷺ: "الدعاء هو العبادة"، وفي رواية: "مخ العبادة"؛ لأنه فيه جمعية القلب على الرب جلّ جلاله وتعالى في علاه.
ولذا قال الإمام الحداد:
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي *** مِن سُؤالي وَاِختِياري
فَدُعائي وَاِبتِهالي *** شاهِدٌ لي بِاِفتِقاري
علامة أني فقير محتاج مضطّر؛ فيجتمع القلب على الله في الدعاء..
فَلِهَذا السِرُّ أَدعو *** في يَساري وَعِساري
أَنا عَبدٌ صارَ فَخري *** ضِمنَ فَقري وَاِضطِراري
"جمع الهم، ودوام الصمت"، فإذا عَمَر نور الذكر القلب.. بدا الصمت، حتى في أحوال اللسان بالذكر نفسه يصمت اللسان، يتحرّك القلب يذكر بقوّة، حتى أن بعض الذاكرين يسمع ذكر قلبه بإذنه، يسمع تحميده، وتسبيحه، وتمجيده! وبعد ذلك، بقي باطن القلب مع الإنسان روح وسِرّ، حتى القلب يصمت عنده، يتحرك يتكلم السر إذا صمت القلب، ما دام اللسان كثير كلام بغير الذكر فالقلب ما يعرف يتكلّم بالذكر! وقّف اللسان يبدأ القلب يتكلم، وإذا كنت قدام شخص تريده يتكلم وأنت تتكلم، كيف؟ اسكت أول دعه يكلمك، وقلبك هكذا؛ يقول اصمت.. اصمت بذهنك واصمت بلسانك وأنا سأتكلم معك.. متى؟ عند غلبة الذكر، بعد غلبة الذكر على القلب.
وغصت في الفكر بعد الذكر منغمسًا *** في بحر نورٍ سما سِرّي بها وزها
الحمد لله نفسي قد عرفت لها *** والقلب منّي بسِرّ الذكر منتبهًا
وغصتُ في الفِكر بعد الذكر؛ بعد ما امتلأ الذكر، وملأ نور الذكر جوانح قلبه وذاته وكيانه بعدين:
وغصتُ في الفِكر بعد الذكر منغمسًا *** في بحر نورٍ سما سِرّي بها وزها
كنت عبد الهوى واليوم مالكه *** وصرت مولى الورى مذ ذقت سلسلها
"دوام الصمت" قيل: "الصمت حكمٌ"؛ يعني: حكمة "وقليلٌ فاعله"، "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، و "من صَمَت نجا"، "ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ كفّ عليك هذا"؛ اضبط لسانك، فمن الأدب مع الله أن تضبط قولك، تضبط أقوالك مع الصغير مع الكبير.
"وسكون الجوارح" عند الذكر وعند التلاوة وفي مجالس العلم، "ومبادرة امتثال الأوامر" فلك حِسّ يترقب أين محل أمر الله لتنفيذه لتطبيقه كما يحب الله منك، موقن أنك عبده وهو ربك، وأنّه أولى من أطعته وخضعت له، فتترقّب أين أوامره وإيش يحب منك، فتتسابق إليه؛ "مبادرة امتثال الأوامر واجتناب المناهي".
ثم يقول: "قلة الاعتراض"؛ يعني: عدم الاعتراض على الله في أحكامه، وفي حكمه، وفي أقضيته، وفي أقداره.. لا تعترض، هو أعلم، هو أحكم، هو أعظم.. لا أنت ولا عقلك ولا صديقك ولا صاحبك ولا صغير ولا كبير ولا من في الأرض ولا من في السماء، الله أعلم، الله أعظم، الله أحكم.. لا تعترض.
كُن عبد قائم بحق العبودية، لا تنكر إلا ما أمرك بإنكاره على الوجه الذي أمرك به، الوجه الذي أمرك به؛ ما أباح لك عند إنكار المنكر:
-
أن تزكّي نفسك
-
ولا أن تظن أنك تقطع عنك خير من صاحب المنكر
-
ولا أن تقطع له بنار
-
ولا أن تقطع له بعذاب
-
ولا أن تشهّر به
-
ولا أن تغتابه
ما أباح لك شيء من هذا! حتى إنكار المنكر على الوجه الذي أمرك أن تنكره عليه فقط، الباقي ليس لك اعتراض.
وهكذا بدأت الاتجاهات في أيام الفترات السابقة، وقت الشيوعية في البلد، وبدأت تتنكر كثير من الأمور، بدأ يُهدَّد أهل الدين. ومرّ الحبيب علي المشهور والد الحبيب أبوبكر عند الحبيب محمد بن علوي وقال له وقد رأى في الأحوال أمور وتغيّرات، وكأن الأوضاع ما تطمئن.. فذكر له البيتين:
دع الاعتراض فما الأمر لك *** ولا الحكم في حركات الفلك
ولا تسأل الله عن فعله *** فمن خاض لجة بحرٍ هلك
معنى التسليم، أمور سَبَق بها القضاء والقدر وستمضي، ومَضَت بما فيها، والحبيب علي سافر، ويسّر الله له السفر إلى الحرمين، والحبيب محمد في محلّه بقي، وأُريد حبسه فصُرِف، وأُريد أذاه وصُرِف، وبقي عينًا من أعيان الدلالة على الحق، وخلافة الطريقة والوجهة، حتى جاءت ساعة الأجل وهو يدعو إلى الله عزّ وجل، وفي لحظة خرجت روحه، فلتت من بين الناس.
عبَر الحياة مضى للنصح محتضنًا *** لا تعتريه مشقّاتٌ ولا ملل
حتى قضى النحب يدعو الناس محتسبًا *** في حضرة الصِّيدِ مَن للخالق امتثلوا
أكرِم بذا من ختامٍ فيه مفخرةٌ *** وفيه رجوى وفيه القصد والأمل
إذا نظرت إليه في مهابته *** ترى مثالًا لأسلافٍ له رحلوا
قد سار سيرتهم واختطّ خطتهم *** كذاك كان إلى أن جاءه الأجل
تقرأ سطورًا من الأنوار بيّنة *** في قامةٍ قد كساها النُبلُ والوجل
بالأمس قد أخذت من بيننا رجلًا ***
أخذت؛ يعني: المنايا
بالأمس قد أخذت من بيننا رجلًا *** طوى حياته بثوب النسك مشتمل
قضى الحياة بأعمال منزّهة *** يبدو على ظهره من عبئها ثقل
خوفا لمولاه لا في سمعةٍ ورياء *** فبينه والرياء البِيد والقُلَل
بهذا الحال، ولو لم نجالس مثل تلك الذات، وتلك الطلعة والشخصية، لم تتبيّن لنا حقائق في مناهج السلف وطريقتهم ولو قرأنا فيها عشرات الكتب.. لن نعرفها!
أفيدك أنني جالست قومًا *** حدوني بالمقال وبالفِعال
فالله تعالى يرحمهم ويرحمنا بهم، ويجعل الآداب التي تسلسلت فيهم من حضرة النبوة تُحفظ فينا، وفي أهلنا، وفي أولادنا، وفي ذرّياتنا، وفي أهل بلدنا، وفي المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. اللهم لا تقطعنا عن ذاك السبيل، ولا تحرمنا الشرب من ذاك السلسبيل، وألحقنا بذلك الجيل، وارزقنا المتابعة لهم في النية والقصد والفعل والقيل، حتى نجتمع بإمامهم الجليل، وهاديهم والدليل، عبدك المصطفى محمّد أهل التشريف والتبجيل اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، وأهل قربه أجمعين وعلينا معهم وفيهم بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
05 شوّال 1438