(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب ما جاء في الجدال والمِراء، وباب النهي عن دعوى العلم والقرآن
الأحد 17 شوال 1444هـ
- الدعوة بالتي هي أحسن
- ما معنى المراء والمجادلة، وماذا يتسبب به؟
- دأب أهل الصلاح في البيان والتوضيح
- أهل الخسران المعجبين بعلومهم
- جزاء من ترك الجدال وهو محق
- غضبه ﷺ من كثرة المراء والجدل
- علامة الضلال محبة الجدال
- أبغض الرجال إلى الله
- حاجة الأمة لأن تكون على قدم البيان والتوضيح والبعد عن الخصام
- من ظن أنه علم فقد جهل
- قصة موسى مع الخضر، والعِبر منها
- خطر التظاهر بالقرآن مع الخلو عن سر التزكية
بسم الله الرحمن الرحيم
رضي الله عنكم وبسندكم المتصل إلى الإمام عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه كشف الغمّة عن جميع الأمّة إلى أن قال:
"باب ما جاء في الجدال والمراء"
"كان أبو أمامة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله ﷺ: «من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتاً في ربض الجنة ومن تركه وهو محق بنى الله له في وسطها، ومن حسن خلقه بنى له في أعلاها.
وفي رواية عنه : "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو محق، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وهو مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسنت سريرته " ، وربض الجنة هو ما حولها.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: خرج علينا رسول الله ﷺ يوماً ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب علينا رسول الله ﷺ غضباً شديداً لم يغضب مثله ، ثم انتهرنا وقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ذروا المراء لقلة خيره فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا المراء فكفى العبد إثماً أن لا يزال ممارياً، ذروا المراء فإنه أول ما نهاني الله عز وجل عنه بعد عبادة الأوثان".
وكان يقول ﷺ: " ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدال، ثم قرأ قوله تعالى: {ما ضربوه لك إلا جدلا}"
وكان يقول: "أن أبغض الرجال إلى الله عز وجل الألد الخصم" والألد: هو الشديد الخصومة، والخصم هو الذي يحج من خاصمه.
"وكان ﷺ ينهى عن الأغلوطات" يعني: صعاب المسائل.
وكان ﷺ يقول: "كفى بالمرء إثماً أن لا يزال مخاصماً".
وكان يقول ﷺ : "قال عيسى عليه الصلاة والسلام: إنما الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه" . والله أعلم"."
الحمد لله مُكرمنا بنوره وإرسال عبده صلى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وأتباعهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
وذكرَ الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ما جاء في الجدال والمراء والنهي عنه في سنة المصطفى ﷺ، ووجوب ترفع الأمة عنه؛ فإن فتح أبوابه يورث أنواعًا من الشتات والفرقة والتباعد، وأنواع من الأضرار لهم في أفكارهم وفي اعتقاداتهم، وفي علاقاتهم بينهم البين إلى غير ذلك من أنواع الآفات التي تترتب على الجدال والمراء. وقد قرأنا في القرآن أمر الرّحمن أن لا يُجادَل من يحتاج إلى إقامة الحجة والدليل من أهل الكتاب والمشركين إلا بالتي هي أحسن، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..} [العنكبوت:46]، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..} [سورة النحل:125]، فعند الحاجة إلى إقامة الحجج وإيضاح البراهين في مسألة يُرجى أداء الواجب وحصول النفع بإقامة تلك الحجَج؛ يُختار الأسلوب الأمثل في الجدال الذي عبّر عنه الحق بقوله: {..بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..} وما عدا ذلك فإن الاسترسال وراء المراء والجدال يُورث كثيرًا من الآفات والأهوال.
فقال الإمام الغزالي -عليه رحمة الله-: المراء كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خللٍ فيه: إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم فهذا هو المراء. ترك الإنكار والاعتراض: هو ترك المراء، يقول: فما سمعته من كل كلامٍ إن كان حقًا فصدّق به، وإن كان باطلًا وكذبًا ولم يكن متعلقًا بأمور الدين فاسكت عنه، وإن تعلق بأمور الدين فأوضح وبيّن بالتي هي أحسن، فالمجادلة أيضًا يقول عبارة عن: قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه إما بالقدح في كلامه ونسبته للقصور أو الجهل أو إلى غير ذلك، فالجدال بهذه الطريقة يبعث عليه الترفع بإظهار العلم والفضل، أوالتهجم على الغير بإظهار نقصه وما إلى ذلك.
قال سيدنا الغزالي: هما شهوتان بطانتان، فبقي البيان المأمور به والتوضيح وإقامة الحجة والدليل والبرهان ما جاء من ذلك بلطفٍ وحكمةٍ وطمانينةٍ وسكينةٍ هو دأب الأنبياء ودأب الصالحين والمصلحين من ورثتهم عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، ولذا كان يقول بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا برأيه فقد تمت خسارته.
وهكذا، جاء عن سيدنا عمر يقول: لا تتعلمه لثلاث، ولا تتركه لثلاث؛ لا تتعلمه لتمارِي به ولا لتباهِي به ولا لترائي به، ولا تتركه حياءً من طلبه ولا زهادةً فيه ولا رضًا بالجهل منه. ويُروى عن سيدنا عيسى يقول: من كثر كذبه ذهب جماله، ومن لاحى الرّجال سقطت مروءته، ومن كثر همه سَقِمَ جسمه، ومن ساء خُلقه عذّب نفسه. ومن ساء خلقه عذّب نفسه! أي: يتعب نفسه في الحياة الدنيا قبل الآخرة ويفوته الخيرات الكثيرة.
يقول: قال رسول الله ﷺ: "من ترك المراء وهو مبطل.." هو على باطل؛ ولكنه آثر أن لا يثير النفوس وأن لا يماري من ينازعه فترك ذلك فبتركه لذلك قال: "..بنى الله له بيتاً في ربض الجنة ومن تركه وهو محق بنى الله له في وسطها،" بيتًا في وسط الجنة، ومن فوق ترك المراء حسّن خلقه: "ومن حسّن خلقه بنى له في أعلاها." وجاء في روايةٍ: "أنا زعيمٌ بثلاثة بيوتٍ: بيتٌ في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو مبطل، وبيتٌ في وسط الجنة لمن ترك المراء وهو محق، وبيتٌ في أعلى الجنة لمن حسّن خلقه"، معنى زعيمًا: ضامن، وهذا إذن الله لنبيه بالضمان بالجنة لمن عَمِل هذه الأعمال، جعلنا الله وإيّاكم من أهل جنته. "أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو محق، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وهو مازح، وببيت في أعلى الجنة لمن حسنت سريرته "، ذكر أنه رواه: أبو داود والطبراني.
"ويقول سيدنا أبو الدرداء: خرج علينا رسول الله ﷺ يومًا ونحن نتمارى في شيءٍ من أمر الدين" وفي رواية في القدر، يذكرون القدر، "قال: فغضب علينا رسول الله .." لا إله إلا الله! "غضبًا شديدًا لم يغضب مثله ثم انتهرنا وقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا ذروا المراء؛ لقلة خيره فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا المراء فكفى العبد إثمًا أن لا يزال مماريًا، ذروا المراء فإنه أول ما نهاني الله عزّ وجل عنه بعد عبادة الأوثان". يقول: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.
وكان ﷺ يقول: ما ضلّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال، وفي رواية إلا أوتوا الجدل ثم قرأ" {وَقَالُوۤا۟ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَیۡرٌ أَمۡ هُوَۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ* إِنۡ هُوَ إِلَّا عَبۡدٌ أَنۡعَمۡنَا عَلَیۡهِ وَجَعَلۡنَـٰهُ مَثَلࣰا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ} [الزخرف:58-60]، "{ما ضربوه لك إلا جدلًا}" إلّا جدلًا؛ فعلامة الضّلال محبة الجدال، علامة الضلال محبة الجدال وما ضلّ قوم إلا والعلامة بارزة فيهم إذا ضلوا بعده ودخل عليهم يكثر الجدال فيهم، لا إله إلا الله.
"وكان ﷺ يقول: "أن أبغض الرجال إلى الله عز وجل الألد الخصم" قال: الألد : شديد الخصومة، والخصم : الذي يحج من خاصمه"؛ بأسلوبه وقوة طرحه، قال: فهذا من أبغض الناس إلى الله فقد رواه الإمام البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والإمام أحمد في مسنده: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم،" ففسّر الألد: بشديد الخصومة، والخصم: الذي يخصم ويحجُّ من خاصمه "وكان ﷺ ينهى عن الأغلوطات" يعني: صعاب المسائل؛ لاتخاذها لتحدي الغير ولإظهار التميز، فيكون شغله يجمع ما يخفى ويدق؛ من أجل يغلط به الرجال؛ ولأجل يتميز ولأجل يظهر فضله، فهولاء من الفاعلين لما نُهوا عنه. "ينهى عن الأغلوطات" يعني: صعاب المسائل، "كان ﷺ يقول: "كفى بالمرء إثماً أن لا يزال مخاصمًا"،" هنا قال في التعليق لم أعثر عليه، لكن قد تقدّم معنا في الحديث "فكفى العبد إثماً أن لا يزال مماريًا"، وكذلك جاء في سنن الترمذي بلفظ: "كفى بأحدكم إثمًا أن لا يزال مخاصمًا" فالحديث إذًا وقد تقدّم معنا هنا بمعناه، وهو أيضًا في سنن الترمذي.
"وكان ﷺ يقول: إن عيسى، - قال عيسى عليه الصلاة والسلام-: إنما الأمور ثلاثة :أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختُلِف فيه فردّه إلى عالمه". هنا محل التوقف ومحل الاحتياط فيما أشبه وأشكل عليك، وأما ما كان واضح الرشد فعليك بالاتباع. ويتعلق بهذا البواعث على الجدال وعلى المحاجّة وعلى المخاصمة وهي دعوى العلم ودعوى الاطّلاع ودعوى التقدم في ذلك على غير بيّنة وبصيرة؛ تحتاج الأمة فيما بينهم البين وفيما يخاطبون به غير المسلمين أن يكونوا على قدم البيان والتوضيح والهداية إلى سواء السبيل اقتداءً برسول الله ﷺ والأنبياء وصلحاء الأمة، ويُبعدوا من بينهم هذا الخصام والتنازع والجدال الذي لا يورثهم إلا بغضاء وشحناء وتباعد وتفرّق وما إلى ذلك، نظر الله إلينا وإلى المؤمنين.
فجاء لنا في الباب الثاني: بالنهي عنها عن دعوى العلم والقرآن وقد وقع فيها من وقع من طوائف الأمة، أنواع المبتدعة وأنواع أهل الزيغ في الأمة قاموا بالدعوى وادّعوا لأنفسهم علم الكتاب والسنة إلى غير ذلك مما يتشدقون به؛ وهو ما نهى عنه ﷺ.
"باب النهي عن دعوى العلم والقرآن"
"قال أبي بن كعب: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قام موسى ﷺ خطيبًا في بني إسرائيل فسئل أيّ الناس أعلم ؟ فقال : أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه؛ فأوحى الله تعالى إليه إن عبدًا من عبيدي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا ربّ كيف لي به؟ فقيل له احمل حوتًا في مكتل فإذا فقدته فهو ثمَّ . فذكر الحديث في اجتماعه بالخضر إلى أن قال: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما فَعُرِف الخضر فحملوهما بغير نول فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر فقال الخضر : يا موسى ما نقص علمی وعلمك من علم الله تعالى إلا كنقرة هذا العصفور في هذا البحر ، وكان ﷺ يقول: يظهر الإسلام حتى يختلف التجار في البحر حتى يخوض الخيل في سبيل الله ثم يظهر قوم يقرءون القرآن يقولون: من أقرأ منا من أعلم منا من أفقه منا، ثم قال ﷺ لأصحابه : هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أولئك منكم من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار ، وكان ابن عمر كثيرًا ما يقول : من قال إني عالم فهو جاهل."
"يقول: أن سيدنا موسى عليه السلام قام خطيبًا في بني إسرائيل" قومه يبلغهم عن الله تبارك وتعالى كما جاء أيضًا في صحيح البخاري وغيره يقول… "يقول: قام موسى النبي خطيبًا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم" يعني: الموجودين الآن على ظهر الأرض؟ ومن غير شك أنه كان في ذاك الوقت من الناس الأعلم بعظمة الله تبارك وتعالى وفي معرفته الخاصة هو؛ ولكن الحق ما أحب منه أن يجزم بذلك ويسارع إلى جوابه في ذلك ولكن يرد العلم إليه سبحانه وتعالى. فلما "قال أنا فعتب الحق تبارك وتعالى عليه" أي: لم يرضَ منه بهذا الجواب، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه وأقام له سبحانه وتعالى هذا الشاهد في تكميله للمراتب العلى سيدنا الكليم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وقال إن هناك: "عبد من عبادنا أعلم منك" أي: في جانب من جوانب العلم، ولهذا كما قال له أنك على علم ليس عندي وأنا على علم ليس عندك، فكل واحد منهم عنده خصوصية ولكن الحق أحب من عباده أن يردوا العلم إليه، ولذا كان جواب الملائكة لما قال: {..أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:31-32]
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً *** حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ
وقال ﷺ في هذا الحال:"إذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل"، وقع في الجهل وارتطم؛ ولكن لا بد أن يفقه ويوقن بأنه مهما علم فما جهله أكثر مما علمه، وأنه قد يوجد في أي مسألة وفي أي حال من هو أعلم منه أو من يستفيد منه ومن علمه؛ فيجب أن يكون كذلك حاله مع الله سبحانه وتعالى.
"إن عبدا من عبادي" يقول الله لسيدنا موسى "بمجمع البحرين هو أعلم منك قال يا ربي وكيف لي به" مجرد ما عاتبه الحقُّ، قال: خلاص وأنا تلميذ من تلاميذه، أنا أتعلم عنده يا رب واربطني به، "وكيف لي به؟ قال احمل حوتا في مكتل" زنبيل يسع عدد من الآصع، "احمل حوت فإذا فقدته" قال إذا خرج عليك هذا الحوت من المكتل في أي مكان وأنت عند مجمع البحرين فاعلم أن هناك الخضر، "فإذا فقدته فهو ثمَّ"، انطلق بفتاهُ يوشع بن نون الذي نُبِّي بعده، وحمل حوتًا في مكتل حتى وصلوا للمكان الذي وصفهم الله، كان عند الصخرة، ووضعا رؤوسهما فناما، فانسل الحوت من المكتل، وكان يقول ليوشع إذا تحرك هذا الحوت وخرج فأنبئني وأخبرني فإنّا هناك نجد من وصف الله لنا الخضر، قال مرحبا؛ ناموا وخرج الحوت، وقام حصّل -وجد- الزنبيل وقد خرج منه الحوت ورآه يمشي إلى البحر ومشى في البحر، أحياه الله تعالى بعد موته، ونسي ما يكلم موسى، مشى سيدنا موسى مشى وراءه، فقال وكان لموسى وفتاه عجبا فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح قال موسى لفتاه آتنا غداءنا، من أين الغداء؟ من هذا الحوت اللي بيحيى! بيأكلون منه وبيحيى ويمشي بعد ذلك، {قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا} [الكهف:62].
وسيدنا النبي ﷺ يقول: ما وجد موسى مسَّ النصب إلا بعد ما جاوز المكان الذي أُمِرَ به، وما كان يحس بالتعب لما يمشي إلا لما جاوز المحل الذي أُمِر به؛ نزل عليه التعب وشاف التعب وأحس به، وقال له: إلا أنا نسيت ما أقول لك أمس نحن نمنا في المكان عند الصخرة؛ خرج الحوت من الزنبيل أمام عيني ومشى، قال: ما تخبرني؟! قال: نسيت {..وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥ..} [الكهف:63]، قال: ارجع، فرجع إلى ذاك المكان {قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ..} [الكهف:64] {قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا * قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا} [الكهف:63:64] ولما رجعوا إلى عند الصخرة إذا لرجل مسجى بثوب، سلَّم عليه موسى قال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟ من أين تأتي بالسلام، ما أحد هنا في المنطقة هذه يحيّي هذه التحية، قال موسى: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، {قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا} [الكهف:66] في قراءة: {رَشَدَا}، {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا} [الكهف:67]، نوع العلم الذي عندي ثاني يختلف عن مهمتك في الحياة من تبليغ الناس وإرشادهم والقيام معهم، أنا معي طريقة ثانية وعندي علم آخر يختلف عن منهجك، {إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا} يا موسى إني على علمٍ من علمِ الله علمنيه لا تعلمهُ أنت، وأنت على علمٍ علمكهُ لا أعلمه، {قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا..} آخذ آداب المريد كلها، آداب سلوك المريد؛ قال: أصبر معك على الذي تقول وأتبعك {..وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا} [الكهف:69]
قال: هيا إذا بتمشي هكذا {فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ} [الكهف:70] ، اسكت ساكت، تراني أتصرف وأعمل أي أعمل وأنت تسكت حتى أناقشك أنا وأذكر لك الأمر، أقعد تلميذ سواء، بسم الله الرحمن الرحيم، "فانطلقا يمشيان على ساحل البحر" يريدون سفينة، مرت بهم سفينة كلموهم أن يحملوهما عُرِفَ الخضر، أهل السفينة قالوا لهم تفضلوا تفضلوا ادخلوا ببلاش (بدون أجرة) لسبب معرفتهم به، قال أنت وصاحبك بلا نول ما نأخذ منكم شيء، وبينما هم يمشون في السفينة وقف عصفور وقع على طرف السفينة حرفها، "..نقر نقرة أو نقرتين في البحر، قال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة العصفور في هذا البحر"؛ يعني كم نقص من البحر؟ ربع خمس سدس عشر ولا شيء ولا له أثر! إذًا فجميع معلوماتنا ومعلومات الملائكة معنا بالنسبة لعلم الله لا شيء، لا إله إلا الله.
قد كان يقول بعض أهل المعرفة في علوم المعرفة بالله تعالى والفهم عنه أن علوم جميع المؤمنين بمن فيهم من الصديقين غير الأنبياء بالنسبة لعلوم الأنبياء كقطرة من بحر، وعلوم الأنبياء بالنسبة لعلم خاتمهم سيدهم ﷺ كقطرة من بحر، وعلومه ﷺ بالنسبة لعلم الله كلا شيء، ﷺ، فهو أعلم الخلق بالله وأتقاهم بالله وأعرفهم بالله ﷺ. ومضى، فعَمِدَ الخضر إلى لوح من ألواح السفينة نزعه، قال له سيدنا موسى: ها؟ عرفوك وحملونا من غير نول وتجازيهم وتكافيهم تخرِّق السفينة حقهم؟ ها؟ عمدت إلى السفينة فخرقتها لتغرق أهلها؟ اصبر، قال:ها! ألم أقل لك{قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا} قال قلت لك أنت ما بتصبر؟ قال: نسيت.. نسيت، {قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا} [الكهف:71].
قال كانت الأولى من موسى نسيانا يقول ﷺ، مضوا وإذا غلام يلعب مع الغلمان جاء سيدنا الخضر عنده أخذه برأسه واقتلعهُ؛ قتل الغلام، لا حول ولا قوة إلا بالله، هنا ما عاد صبر سيدنا موسى، ما نسي لكنه هنا ما عاد صبر، {قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ..} [الكهف:74] لا آذاك ولا قتل نفسًا، كيف تقتل نفساً من غير نفس؟ {قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا} [الكهف:75] أنت ما تقدر تصبر، لا إله إلا الله. قال له أعطني هذه الفرصة {إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا} [الكهف:76] انطلقوا ووصلوا إلى قرية وهم جائعين تعبانين من الطريق، {.. حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا..} حصّلوهم بخلاء مانعين ما عندهم، ولا رضوا يُضيّفون ولا يُطعمون، وإذا بجدار من جدران بيوتهم يكاد أن يسقط، كما قال {..يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ..} سوّاه -أصلحه- سيدنا الخضر قال له كذا، وصلُح وقام واستقام، قال له سيدنا موسى هنا؛ علم أنه لا يوجد له حاجة لأن يطول الوقت مع سيدنا الخضر وأنه عَلِمْ أنّ هذا العلم لا يحتاج إليه في مهماته وأنه يريد أن يرجع فتعمَّد، قال له الثالثة تعمَّد {قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا} [الكهف:77] قاعد تصلح الجدار كذا والجماعة ما رضوا يضيفونا هنا، ونحن جائعين! خذ لك أجرة على تصليح الجدار وبيصلحونه، وبيكون أكل لنا، {قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا} [ الكهف:78]، ويقول النبي ﷺ: يرحم الله موسى لوَددنا لو صبر حتى يقصّ الله علينا من أمرهما، أي: عجبًا.
يقول: "وكان ﷺ يقول: "يَظهَرُ الإسلامُ حتى تَختَلِفَ التُّجَّارُ في البَحرِ" " قد حصل هذا و" "حتى تَخوضَ الخَيلُ في سَبيلِ اللهِ" " وقد عُرِضَ عليه من أمته وكان فيهم من صحابته من يمشي على السفن في البحر للجهاد في سبيل الله تعالى، ورآهم في بيت أم حرام عليها رضوان الله تعالى، بينما كان ينام عندها عرض عليه طائفة من أمته وانتبه ﷺ يضحك، قالت: ما يضحكك؟ قال: عُرِضَ عليَّ قومٌ من أمتي يركبون ثَبَجْ هذا البحر، ملوكًا على الأسِرَّة أو كالملوك على الأسِرَّة، قالت: ادعوا الله يجعلني منهم، قال: أنتِ منهم، ثم عُرِضَ عليه طائفة أخرى أيضًا يُسافرون في البحار لنصرة الله ورسوله، فاستيقظ يضحك، قالت: ما لك؟ قال: قومٌ من أمتي عُرِضوا عليّ يركبون ثبج البحر كالملوك على الأسِرَّة، قالت:ادعو الله يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، هؤلاء ناس آخرين، أما أنت من الذي ذكرنا أولًا، فخرجت وركبت معهم البحر وكان أن استشهدت عليها الرضوان معروف قبرها في قبرص.
يقول: " "وحتى تَخوضَ الخَيلُ في سَبيلِ اللهِ، ثم يَظهَرُ قَومٌ يَقرَؤُونَ القُرآنَ" " ويصلحون ترنُّمات عليه وشيء من التظاهر به وحفظه، وشيء من المظاهر والمسابقات وغير ذلك ويقولون: " "من أقرأ منا من أعلم منا من أفقه منا" " أعوذ بالله! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من أين جئتوا؟ أنتم عالة على من قبلكم، إن كان لكم قرآن فبسند إلى من أنزل عليه مِن مَن مضى. وإن كان لكم سُنّة فبسند إلى من مضى ومن قبلكم هم الأعلم وهم الأفضل، ويقولون من أعلم منا؟ من أقرأ منا؟ من أفقه منا؟ والنبي ﷺ أنكر على أولئك تصوراتهم هذه الباطلة وفكرهم هذا، وخُلوُّهُم عن سرّ التزكية، وعن سر الأدب مع الله ومع رسوله ﷺ، " "ثم قال ﷺ لِأصحابِه: هل في أولئك من خَيرٌ؟" " هم قرّاء ويحفظون القرآن،" "ثم قال ﷺ لِأصحابِه: هل في أولئك من خَيرٌ؟ قالوا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ. قال: أولئك منكم مِن هذه الأُمَّةِ، وأولئك هم وَقودُ النارِ"." أعوذ بالله من غضب الله.
فما يكون الذي يدّعي القرآن ويسب خلق الله! يدّعي القرآن ويُكفّر خلق الله! يدّعي القرآن ويذم أصفياء الرحمن وخيار الأمة! إنا لله وإنا إليه راجعون، يدّعي القرآن ويستحل دماء المسلمين! يدّعي القرآن ويهتك حرمات المؤمنين! وإنا لله وإنا إليه راجعون، فما تنفعهم مجرد قراءة القرآن، وقد جاء في وصفهم في الصحيحين أنه: "يَحْقِرُ أحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِ، وقراءته عند قراءتهم، لئنْ أدركتُهم لأقتُلَنَّهم قتْلَ عادٍ"، "يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ" بس كله من مخارج الحروف هنا ليس في أجوافهم من نوره شيء، ولا من سره شيء، والعياذ بالله تبارك وتعالى. مع أنه: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدَرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ" لمن قام بحق القرآن، ولِمَن صدق مع الرحمن جل جلاله. "كان ابن عمر كثيرا ما يقول: من قال إني عالم فهو جاهل."، وشاهد ذلك في الحديث: "فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل".
الله يصلح أحوال المسلمين ويُعيذنا من الدعوى، ويرزقنا العمل على التقوى في السرّ وفي النجوى، ويرزقنا الأدب معه، ويزيدنا علمًا وفهمًا، ويرزقنا معرفة قدر أهل العلم والفهم وحسن الاستمداد، ويتولّانا بما تولّى به أهل الإخلاص له -سبحانه وتعالى- في الخافِ والباد، ورزقنا العبودية المحضة الخلصاء، وزادنا سبحانه وتعالى علمًا وزادنا بكل علم خشيةً منه ومحبّةً له ورجاءً فيه وعبوديةً له وتذلّلاً بين يديه وإقبالًا صادقًا عليه، إنه أكرم الأكرمين،
بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
17 شوّال 1444