(535)
(339)
(364)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 353- كتاب الصيام (30) فصل في الحث على الأعمال الصالحة في العشر الأخير من رمضان
صباح السبت 21 ربيع الأول 1447هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام أبي المواهب سيدي عبدالوهاب الشعراني -رضي الله تعالى عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين في كتابه: (كشف الغمة عن جميع الأمة)، إلى أن قال:
فصل في الحث على الأعمال الصالحة في العشر الأخير من رمضان
"كان رسول الله ﷺ يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرهـا؛ فكان يحيي ليله ويوقظ أهله ويشدّ مئزره ويعتزل نساءه حتى ينسلخ الشهر"، وفي رواية: "كان رسول الله ﷺ إذا دخل رمضان تغير لونه وطوى فراشه حتى ينقضي الشهر"، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: كان رسول الله ﷺ يخلط من عشرين من رمضان بين صلاة ونوم ولكن كان نومه قليلًا، وكان ﷺ إذا دخل العشر اجتهد من صبيحة الحادي والعشرين، وكان ﷺ يرغِّب في قيام ليلة القدر ويقول: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وكان عبد الله بن أنيس يقول: "قلت: يا رسول الله أخبرني في أي ليلة ليلة القدر، فقال ﷺ: لولا أن تترك الناس الصلاة إلا تلك الليلة لأخبرتك ولكن ابتغها في ثلاث وعشرين من الشهر"، وكان بلال يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ليلة القدر ليلة أربع وعشرين".
وكان ﷺ يأمر من رأى ليلة القدر أن يقول: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"، وسئل رسول الله ﷺ عن علامة ليلة القدر فقال ﷺ: "هي ليلة بلجة لا حارة ولا باردة ولا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح ولا يرمى فيها نجم وتطلع الشمس صبيحتها صعصعة حمراء لا شعاع لها"، وفي رواية: "لقد رأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين"، وفي رواية أنه كان رسول الله ﷺ يخبر أصحابه عن ليلتها وصفتها كل سنة؛ فمرة يقول: لا مطر فيها، ومرة يقول فيها مطر، ومرة يقول في الوتر ومرة يقول في الشفع وهكذا. وإخباراته كلها صدق في كل سنة، ولم يبلغنا أنه ﷺ أخبر أصحابه بها في سنة واحدة في وقتين مختلفين أبداً، والأحاديث الواردة في تعيينها كلها صحيحة لا تناقض فيها، وملخص القول فيها أنها تدور في جميع الأيام ولا يعلمها حقيقة إلا من كشف الله تعالى عن بصيرته والسلام، والله أعلم".
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.
الحمد لله مكرمنا بنفحاته وآمرنا على لسان رسوله بالتعرض لها، وصلى الله وسلم وبارك وكرم على خير خلقه سيد أهل النهى، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربهم في ظاهر الأمور وسرها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، محل نظر الرحمن من البرية، الراقين في الفهم عنه والمعرفة به أعلى محلها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد، فيتحدث الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- عما ورد من تكثير الأعمال الصالحة في العشر الأواخر من رمضان، تعرضاً لنفحات الرحمن ولإدراك ليلة القدر التي هي (خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3]، وذلك أن الله بسط لنا الليل والنهار والأيام والليالي لنتزود ونأخذ من أعظم فوائدها، وهو الادخار للقائه والعرض عليه ولحسن الحال عند المصير إليه -سبحانه وتعالى-، وأن يُعمَر من خلال هذا العمر القصير والأيام المعدودة المحدودة عمرُ الأبد والخلود والدوام، يُعمَر من خلال الاغتنام في الليالي والأيام للصدق مع الله تبارك وتعالى في طاعته وعبادته وما شرع على لسان خير بريته -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
وقال: "فصل في الحث على الأعمال الصالحة في العشر الأخير من رمضان" أي: الإكثار منها والتزود، وذلك من الحِكَم التي جعلها الله تعالى في اختلاف الليالي والأيام وإتيان المواسم، قال -سبحانه-: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:62].
وجعل في خلال اليوم والليلة أيضًا تنبيهات ومحطات وتنشيطات للعبد المؤمن:
ثم جعل في خلال الأسبوع:
ثم جعل لنا الأشهر:
كل ذلك رأفة ورحمة من الله بنا لنحسن التزود ونقوم بالتعهد لأنفسنا فيما نستزيد من البر والخير وموجبات المحبة والود.
ومن أعظم ذلك شهر رمضان المكرم، وكلنا نعلم في حديث قدوتنا وقائدنا أنه: "كان رسول الله ﷺ يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرهـا" -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
وأورد هذا الحديث: "كان رسول الله ﷺ يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرهـا فكان يحيي ليله ويوقظ أهله ويشدّ مئزره ويعتزل نساءه حتى ينسلخ الشهر"، وهذا الذي جاء عنه في عدد من سنواته الكريمة من دخوله إلى معتكفه من ليلة الحادي والعشرين، ويبيت أيضاً ليلة العيد في المسجد ويغدو إلى المصلى -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
ومعنى "يشدّ مئزره":
"وفي رواية: "كان رسول الله ﷺ إذا دخل رمضان تغير لونه وطوى فراشه حتى ينقضي الشهر"، إشارة إلى اجتهاده الذي يزداد عن بقية الأيام.
"وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: كان رسول الله ﷺ يخلط من عشرين من رمضان بين صلاة ونوم ولكن كان نومه قليلًا، وكان ﷺ إذا دخل العشر اجتهد من صبيحة الحادي والعشرين، وكان ﷺ يرغب في قيام ليلة القدر ويقول: "من قام ليلة القدر إيمانًا -تصديقاً بما جاء عن الله ورسوله- واحتسابًا -لا يريد إلا وجه الله-، غفر له ما تقدم من ذنبه".
وهكذا جاءت الروايات، جاءت في قيام رمضان كله، وفي قيام ليلة القدر وحدها على الخصوص: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه".
"وكان عبد الله بن أنيس يقول: "قلت: يا رسول الله أخبرني في أي ليلة ليلة القدر، فقال ﷺ: لولا أن تترك الناس الصلاة إلا تلك الليلة لأخبرتك ولكن ابتغها في ثلاث وعشرين من الشهر، كانت في ذلك العام في ليلة ثلاث وعشرين- وكان بلال يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ليلة القدر ليلة أربع وعشرين"، وكانت في السنة التي قال لبلال فيها هذا الكلام كانت ليلة أربع وعشرين.
وفي هذا إثبات للقول الراجح أنها تتنقل في ليالي رمضان من ليلة إلى أخرى، فتكون في كل سنة في ليلة من الليالي، لهذا جاءت الروايات المتعددة عن ليلة القدر، وجاء أيضًا المنع من تحديدها العام لعموم المسلمين في كل سنة لا يعرفون أي ليلة هي.
فإذاً يقول الجمهور: إن ليلة القدر دائرة مع رمضان (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القدر:1]، و(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة:185].
وعلى قول الجمهور: أنها تختص برمضان، وأنها كثيراً ما تكون في العشر الأواخر، وقد تكون في العشر الأواسط والأوائل.
وكذلك كثيراً ما تكون في الأوتار من العشر الأواخر، وقد تكون ليلة الشفع كما سمعتم في ليلة أربع وعشرين، إلا أنه قد تكون في ليالي الشفع؛ هي وتر بالنسبة لباقي الشهر، لأن الشهر قد يخرج تسعاً وعشرين.
وجاء في رواية: "في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في تاسعة تبقى".
وهكذا، ومن هنا اختلفوا في معنى الأوتار، وهل هو بالنسبة لما يبقى وإلا بالنسبة لما مضى من أيام الشهر.
والمشهور لدى الفقهاء أنه باعتبار الماضي من الشهر، وأن العشر الأواخر تبدأ من ليلة الحادي والعشرين من الشهر، وإن كان الشهر سيخرج تسعاً وعشرين فما تبقى إلا تسع، ولكن يطلق عليه العشر كما يطلق العشر على أيام العشر من ذي الحجة وهي تسع، يقول: يصوم العشر من ذي الحجة، ما أحد يصوم يوم العيد، يصوم تسعة أيام، سميّت ليال العشر وهي تسع أيام (وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر:1-2]، فالعاشرة ليلة العيد.
ورأى بعضهم انحصارها في العشر الأواخر من رمضان:
وجاء أيضاً في أن إنزال القرآن كان ليلة سبعة عشر من رمضان، نزول الوحي على رسول الله ﷺ في غار حراء ليلة السابع عشر من رمضان، وكانت أيضاً يوم الفرقان.
وكان القول الذي تميل إليه السيدة عائشة أن ليلة تسعة عشر تكون ليلة القدر، ومعناه أنها كانت في بعض السنوات كذلك فرأتها أو علمت من النبي ﷺ.
وهي قد صح عنها أنها قالت: "أرأيت إن أدركت ليلة القدر..." وفي رواية قالت: "أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر فماذا أقول؟" قال: "قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني".
وفيه أن من المؤمنين من يميزها ويعلمها، وأقرَّ ﷺ عائشة على ذلك وعلمها الدعاء إذا علمت ليلة القدر أن تدعو به في ليلة القدر .
يقول: "وكان ﷺ يأمر من رأى ليلة القدر -أي: عرفها- أن يقول: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"، بشيء من العلامات:
يقول في هذه الرواية التي أخرجها الشافعي في مسند الشاميين والطبراني في الكبير "وسئل رسول الله ﷺ عن علامة ليلة القدر فقال ﷺ: "هي ليلة بلجة -يعني: مضيئة منيرة- لا حارة ولا باردة يعتدل الجو فيها بالنسبة لمختلف الأماكن، لا يكون فيها شدة حر ولا شدة برد، "ولا سحاب فيها ولا مطر" ولكن ليس ذلك على الإطلاق، وقد يكون المطر ليلة القدر كما أخبر بذلك في روايات صحيحة، ولكن في السنة التي حدثهم بهذا الحديث عن علامة ليلة القدر كانت ليلة القدر كذلك، لا سحاب فيها ولا مطر.
"ولا يرمى فيها بنجم" ما يشاهد فيها نجم يُخرّ من السماء، "وتطلع الشمس صبيحتها صعصعة حمراء" يعني: لا شعاع لها بسبب كثرة الصاعدين من الملائكة من الأرض؛ يملؤون الجو فترى الشمس كأن هناك سحب -وما في سحب- ضعيف ضوؤها لكثرة من في الجو من الملائكة الذين لا يزال يستمر صعودهم من بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس وهم صاعدون، ولا يزالون كذلك حتى يستوعب آخرهم في أثناء اليوم الصعود من الأرض إلى أماكنهم في السماء (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:4].
وقال في رواية: "رأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين"، وصح ذلك. وهذا أيضاً دل على أنها كانت فيها مطر تلك الليلة، كانت مطراً. ففي سنة أراد أن يخبرهم بالعلامة التي يدركون بها ليلة القدر في كل عام فتلاحى اثنان وتشاجرا، فرُفعت، أي: رُفع الإذن له بتعيينها. فهذا معنى رُفعت، يعني رُفع الإذن له بتعيينها، فقال خلاص لعل في ذلك خير: "إني خرجت أريد أن أخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرُفعت"، أي: رُفِع الإذن لي بتعيينها لكم.
ولكن ذكر لهم علامة "رأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين" فلما كانت ليلة الحادي والعشرين ثارت السحب في أثناء الليل وأمطِروا، وخرج يصلي الصبح وأثَر الماء -الذي خرج من خلال السقف إلى الأرض فسجد على ماء وطين-، فلما انفتل من صلاة الصبح رأوا أثر الماء والطين على جبهته الشريفة وأرنبة أنفه، فذكروا قولته، وعلموا أنها البارحة كانت ليلة القدر.
وفي نفس العلامة جاءت في سنة أخرى في ليلة ثلاث وعشرين. وبعض الذين كانوا يأتون من مكان بعيد وقالوا: اختر لي يا رسول الله ليلة آتي إلى مسجدك، فعيّن له ليلة الثالث والعشرين، فكانت تلك السنة ليلة القدر ليلة الثالث والعشرين؛ فهي متنقلة من ليلة إلى ليلة، وكثيراً ما تكون في العشر الأواخر، وكثيراً ما تكون في أوتارها، وقد يكون غير ذلك.
"في الرواية أنه كان ﷺ يخبر أصحابه عن ليلتها وصفتها كل سنة"، مرة يقول: "لا مطر فيها"، ومرة يقول: "فيها مطر"، ومرة يقول: "في الوتر"، ومرة يقول: "في الشفع"، وهكذا. وإخباراته كلها صدق في كل سنة"، ولم يبلغ أنَّهُ رسول الله ﷺ "لم يخبر أصحابه بها في سنة واحدة في وقتين مختلفين أبداً، الأحاديث الواردة في تعيينها كلها صحيحة لا تناقض فيها، وملخصها أنها تدور في جميع الأيام، ولا يعلم حقيقتها إلا من كشف الله تعالى عن بصيرته" فرأى شيئاً من تلك العلامات.
ومنهم كما صح في الحديث من يصافحه جبريل ليلة القدر، ومنهم من يشاهده ومنهم من لا يشاهده.
وفي ثواب من فطر صائماً من مال حلال، صح في الحديث: "من فطر صائماً من مال حلال صلت عليه الملائكة ليالي رمضان، وصلى عليه جبريل ليلة القدر وصافحه"، وفي رواية: "وصافحه جبريل ليلة القدر، ومن صافحه جبريل يرق قلبه وتكثر دموعه". ونزوله مصداق لقوله (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ).
فَيصيرون في تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الشجر والحجر، لكثرة من ينزل من ملائكة السماء إلى الأرض في كل ليلة قدر؛ فيكثرون.
فأرباب البصيرة:
"أرأيت إن أنا علمت ليلة القدر فبماذا أدعو؟" قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
رزقنا الله اغتنام ليالي السنة كلها، وليالي العمر كله، والعمر ما أقصره! كم من سنين يعمر أحدنا على ظهر الأرض وهو قصير جداً، قصير جداً حتى بالنسبة لما مضى منا من عمر الأرض ومن بني آدم، وهو قصير بالنسبة للبرزخ، وهو قصير بالنسبة ليوم القيامة وحده، وهو أقصر بالنسبة لما بعده من الأبد والخلود، ولا يساوي شيئاً. ومن هنا قالوا: الدنيا ساعة فاجعلها طاعة. ما أسرع مرورها! وكم تتعمر؟
وقالوا لامرأة في الأمم السابقة يتعمرون من سبعمائة سنة ثمانمئة سنة إلى ألف سنة، تبكي على ولد لها توفي وهو شاب ولم تزوجه بعد. "وكم عمره؟" قالت: مائتين وخمسين سنة. وهي تبكي على أنه مات شاب ولدها في مائتين وخمسين. فقيل لها: كيف لو أدركتِ آخر الزمان وأمة محمد يعمرون ما بين الستين والسبعين أكثرهم؟ قالت: لو كنت في ذاك الزمان ما احتجت إلى بناء بيت، أكون أسْتظل من الشمس في الصباح يسترني وآتي في جهة المغرب، وأسْتظل في المساء، وآتي بالشيء يظلني وأبقى في جهة المشرق. وإيش سبعين سنة! تمر بسرعة ما تساوي شيئاً. لا إله إلا الله!
ومع ذلك، فالمُغتنم منا لساعات عمره يفوق أهل الأعمار الطويلة من الأمم السابقة، ومنها ليلة القدر خير من ألف شهر، ثلاثة وثمانين سنة وأشهر، تعبد الله فيها في ليلة واحدة لك عبادة ثلاثة وثمانين سنة. قالوا فمن وُفّق للعِبادة في ليلة القدر لمدة أثنى عشر سنة فكأنما عبد الله ألف سنة وزيادة، أكثر من ألف سنة يعبد الله تعالى، وهو في خلال اثني عشر سنة، في اثنتي عشرة ليلة من اثنتي عشرة سنة يفوق عبادة ألف سنة، إلى المضاعفات الأخرى التي جعلها الله لأمة محمد. صلى
كل ليلة يغنم كم؟
أربع بعد العشاء، يعدلن مثلهن من ليلة القدر.
من صلى المغرب ثم صلى بعد المغرب ست ركعات لا يتكلم بينهن بكلام الدنيا، عدلن له عبادة اثنتي عشرة سنة، ثاني ليلة اثنتي عشرة سنة، ثالث ليلة اثنتي عشرة سنة، في ثلاث ليالٍ حصل ستة وثلاثين سنة، ورابع ليلة اثنتي عشرة سنة، فإذا به قد حصل ثمانياً وأربعين سنة في أربع ليالٍ حصَّل عبادة بست ركعات بعد المغرب لا يتكلم بينهن ثمانياً وأربعين سنة، وهكذا.
في العشر الليالي يحصل عبادة مائة وعشرين سنة، عشر ليالٍ واظب على ست ركعات بعد المغرب لا يتكلم بينهن، فإذا به معه عبادة مائة وعشرين سنة، والعشر الثانية مائة وعشرين، فإذا به قد حصل مائتين وأربعين، والعشر الثالثة مائة وعشرين، فإذا به قد حصل ثلاثمائة وستين. ففي الشهر واحد ثلاثمائة وستون، عبادة ثلاثمائة وستين سنة. في الشهر الثاني كذلك، في ثلاثة أشهر يزيد على الألف من الأمم السابقة. وبعده ليلة القدر، وبعده مضاعفات أخرى يحصلها من العبادات. فما أعظم كرم الله لأمة محمد بن عبد الله ﷺ!
ويختص بمزيد من فضلها من أطلعه الله عليها، ولكن من قامها وإن لم يعلمها، أجر وحصَّل الثواب. فلهذا يحسن التعبد في ليالي الشهر كلها. وجاء في الأحاديث في علامات ليلة القدر: "ليلة صافية بلجة كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح، وأن الشمس تصبح صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ"، يأتي مع الشمس مع طلوعها من أجل عبدة الشمس يسجدون له، ولكن في ذاك اليوم لا يستطيع أن يقرب منها.
وجاء أيضًا في صحيح مسلم: "أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها".
وكذلك عند ابن أبي شيبة: "أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر".
ويستحب لمن رآها أن يكتمها، فإن الله تعالى أخفاها لحكمة. ولكثرة استنارة البصائر كانوا يحدّثون أن الناس يصبحون في البلد حتى العجائز بينهن تقول: "شفتِ البارحة؟ شفتِ البارحة؟" ويشعرون بها عوام من الناس. لا إله إلا الله! حتى كثفت الحجابات..
الله يفرج كروبنا وكروب المؤمنين والمؤمنات، ويرزقنا اغتنام الليالي والأيام الفاضلات وجميع الأوقات، ولا يحرمنا بركة ساعة ولا بركة يوم، ولا بركة ليلة، ولا بركة أسبوع، ولا بركة شهر ولا بركة عام، ويضاعف لنا اغتنامها ويبعد عنا الغفلات، ويختم لنا بأكمل وأحسن الخاتمة والله راض عنا.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
28 ربيع الأول 1447