كشف الغمة 352- كتاب الصيام (29) كتاب الاعتكاف

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 352- كتاب الصيام (29) كتاب الاعتكاف

صباح الإثنين 16 ربيع الأول 1447هـ 

يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:

  •  ما هو الاعتكاف ؟
  •  فضل الاعتكاف في رمضان
  •  الاعتكاف ما بين المغرب والعشاء جماعة
  •  أعمال تجد بها قصر في الجنة
  •  معنى الرباط والجوار
  •  شرط مدة الاعتكاف
  •  كيف كان اعتكاف النبي ﷺ؟
  •  النهي عن اعتكاف المرأة في عدتها
  •  أسطوانة السرير في مسجد النبي
  •  ترجيل شعر النبي وهو معتكف
  •  النذر والنيابة في الاعتكاف
  •  الخروج من الاعتكاف لحاجة
  •  هل يشترط الصوم للاعتكاف؟
  •  الاعتكاف في مصلى البيت واعتكاف المستحاضة
  •  المقصود من الاعتكاف
  •  حكم الاعتكاف في مصلى البيت

 

نص الدرس المكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وبسندكم المتصل إلى الإمام أبي المواهب سيدي عبدالوهاب الشعراني -رضي الله تعالى عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين في كتابه: (كشف الغمة عن جميع الأمة)، إلى أن قال:

كتاب الاعتكاف

"قال الحسين بن علي -رضي الله عنهما-: كان رسول الله ﷺ يقول: "من اعتكف عشرًا في رمضان كان كحجتين وعمرتين"، وكان  يقول: "من اعتكف ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة وقرآن، كان حقًا على الله أن يبني له قصرًا في الجنة". وكان  يقول: "من اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله، جُعِل بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين"، وكان ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عامًا لكونه كان مسافرًا، فلما كان العام القابل اعتكف عشرين، وكان ﷺ إذا أراد الاعتكاف، صلى الفجر ثم دخل معتكفه، وأمر بخبائه فضُرب فدخل معتكفه مرةً فأمرت زينب بخبائها فضُرب، وأمر بقية أزواج النبي ﷺ بأخبيتهن فضُربت فلما صلى رسول الله  الفجر فإذا الأخبية، فقال : آلبر يردن؟ فأمر بخبائه فنزع وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال، وكان ﷺ ينهى الشابة من النساء عن الاعتكاف في المسجد ويرخص في ذلك للعجائز، وكان جابر -رضي الله عنه- يقول: لا تعتكف المطلقة ولا المتوفى عنها زوجها حتى تنقضي عدتها.

وكان ﷺ إذا أراد الاعتكاف يطرح له فراشه ويوضع له سرير وراء أسطوانة، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "كنت أرجل شعر رسول الله ﷺ وأنا حائض وهو معتكف في المسجد وأنا في حجرتي يناولني رأسه ﷺ".

وقال أنس: لما مات عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- اعتكفت عنه عائشة -رضي الله عنها- بعد ما مات، وكان ﷺ إذا كان معتكفًا لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: كنت إذا دخلت البيت للحاجة والمريض فيه فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة خوفًا على اعتكافي، وكانت تخبر أن رسول الله ﷺ كان يفعل كذلك، وكان ﷺ إذا أتاه أحد من أزواجه يزوره وهو معتكف يقوم معها يشيعها إلى البيت ثم يرجع إلى اعتكافه وربما كان البيت بعيدًا عن المسجد، ولما أتته زوجته صفية وهو معتكف في المسجد قام معها ليشيعها فمر به رجلان من الأنصار فقال: على رسلكما إنما هي صفية، فقالا: سبحان الله، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فخفت أن يقذف في قلوبكما شيئًا فتهلكا"، وفي رواية أن صفية هذه عمته أم الزبير ولعلهما واقعتان.

وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه. قال مجاهد -رضي الله عنه-: وكانوا يجامعون وهم معتكفون في المساجد فنزلت: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾[البقرة: 187]، وقال ابن عباس: كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل ثم رجع إلى اعتكافه فنهوا عن ذلك. 

وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "لا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: كل مسجد فيه إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح، وكان ﷺ إذا سأله أحد عن نذر نذره في الجاهلية يقول له: "أوف بنذرك"، وكان ﷺ يقول: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه"، وكان أزواج رسول الله ﷺ يعتكفن معه وهنّ مستحيضات يرين الدم والصفرة يصلين معه ﷺ وربما وضعت إحداهن الطشت تحتها، والله سبحانه وتعالى أعلم". 

 

اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.

 

الحمد لله مكرمنا بالشريعة والعبادة وبيانها على لسان سيد السادة، عبده المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه القادة، ومن اتبعهم بإحسان في الغيب والشهادة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 

وابتدأ الشيخ يذكر ما ورد في الاعتكاف، 

والاعتكاف الذي هو في اللغة: الحبس واللزوم والمواظبة، 

  • وقال تعالى:(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)[الفتح:25] محبوسًا ممنوعًا أن يبلغ محله.
  • وقال تعالى:(وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)[البقرة:187].

وهو شرعًا: اللبث في المسجد على صفة مخصوصة بنية، هذا الاعتكاف.

وذكر لنا في فضله ما جاء عن "الحسين بن علي -رضي الله عنهما-: كان رسول الله ﷺ يقول: "من اعتكف عشرًا في رمضان كان كحجتين وعمرتين"، أخرجه الطبراني في الكبير. 

وأفضلها العشر الأواخر من رمضان؛ فالمعتكف فيها يحصل ثواب حجتين وعمرتين. 

وكان  يقول: "من اعتكف ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة -أي: في مسجد تُقام فيه الجماعة في الصلوات الخمس- لم يتكلم إلا بصلاة وقرآن، كان حقًا على الله أن يبني له قصرًا في الجنة"، قال: أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد. هذا فضل من يعتكف ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة، وعليه كان عمل أكثر السلف الصالحين، يصلون المغرب معتكفين إلى العشاء في المساجد التي تُقام فيها الجماعة، فيحصِّل أحدهم بذلك في كل يوم قصرًا من قصور الجنة، قصور الدنيا على فنائها وآفاتها ما تُبنى في يوم؛ تحتاج منك أيام كثير وجهد كثير وبذل حتى تبني قصر، ولكن في الجنة يبتني قصر في يوم واحد، بل قصور لمن عمل بالطاعات والعبادات مخلصًا لوجه رب الأرض والسماوات، عالم الظواهر والخفيات -جل جلاله-، 

  • فبصلاة اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة دون الفرائض يُبنى قصر في الجنة.
  • وبقراءة سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة يُبنى قصر في الجنة.
  • باعتكاف ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة يُبنى قصر في الجنة. 
  • قال لما ذكر ﷺ: "من قرأ سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة بنى الله له قصرًا في الجنة" قال سيدنا عمر: إذًا تكثر قصورنا يا رسول الله، فقال نبينا ﷺ: "الله أكثر وأطيب، الله أكثر وأطيب". 

خلق الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم.

 

ويقال أيضًا للاعتكاف: الرباط؛ والرباط أصله الحراسة في محل يُخاف منه هجوم العدو، ولكن الاعتكاف يكون في الثغور وغيرها..

والرباط لا يكون إلا في الثغور، يكون مرابط في المسجد وغير المسجد.

بخلاف الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد؛ في الثغور أو في غير الثغور.

 

وكذلك يقال له: الجوار، ففي الحديث: "وهو مجاور" تعني: معتكف في المسجد. وهي في اللغة الملاصقة في السكنى يقال لها: جوار، وأبو سعيد يقول: كنت أجاور هذه العشر -يعني: الأُوسط- ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر. يروي عنه ﷺ: "فمن كان معتكفًا فليثبت في معتكفه" أو قال: في معتكفه معي.

فسماه جوارًا؛ إلا أن الجوار أوسع من الاعتكاف، فيكون لمن يجاور في أحد الحرمين ويأتي في أوقات المسجد ويخرج في أوقات ولكن يقال له: مجاور، أما المعتكف فلا يكون إلا وسط المسجد.

 

يقول: وكان  يقول: "من اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله، جعل بينه -أي: جعل الله بينه- وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين" أي: المشرق والمغرب، المراد كل خندق أبعد مما بين الخافقين أي: ما بين المشرق والمغرب. "من اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله".

  • واشترط المالكية: أن يكون الاعتكاف يومًا أو يومًا وليلة، لا أنقص من ذلك. 
  • وقال الحنفية والشافعية: يكفي الاعتكاف ولو ساعة؛ أي: لحظات.
  • قال الشافعية: ما زاد على قدر الطمأنينة في الصلاة يصح فيه الاعتكاف. 
  • وكذلك يقول الحنابلة: يكفي للاعتكاف ساعة، والأفضل أن يكون يوم وليلة.

 

"وكان ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عامًا لكونه كان مسافرًا، فلما كان العام القابل اعتكف عشرين"،  وكان ﷺ في بعض أسفاره لم يتمكن من الاعتكاف في رمضان، فاعتكف في شوال، وكما جاء في قصة الخباء أنه اعتكف أيضًا في شهر شوال.

 

قال: "وكان ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عامًا لكونه كان مسافرًا، فلما كان العام القابل اعتكف عشرين، وكان ﷺ إذا أراد الاعتكاف، صلى الفجر ثم دخل معتكفه، وأمر بخبائه فضُرب"، فيكون أيضًا في خلوة وفي اعتكاف، إذا كان في خباء، يكون في الخِباء مختليًا بنفسه منفردًا، ويكون في اعتكافه يخرج أوقات الصلوات ويرجع إلى خبائه، ويجمع بين الاعتكاف والخلوة.

ثم في تلك السنة لما تسامع أمهات المؤمنين، "مرةً فأمرت زينب بخبائها فضُرب" لها خباء، فأمرت عائشة بضرب خباء فضُرب لها خباء، فتداعين أمهات المؤمنين، "فلما صلى ﷺ الفجر التفت فإذا الأخبية" سأل: "ما هذا؟" قالوا: أمهات المؤمنين أمرن بضرب كل واحدة بضرب خباء لها، فقال : "آلبِرَّ يردن؟" هل قصدهن في هذا مجرد البر أو تنافس بينهن وتسابق على الظهور بمظهر العبادة؟ "فأمر بخبائه فنزع" وأمر بالأخبية كلها أن تُنزع، وترك الاعتكاف في -ذلك العام- شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال" ﷺ.

 

قال: "وكان ﷺ ينهى الشابة من النساء عن الاعتكاف في المسجد ويرخص في ذلك للعجائز، وكان جابر -رضي الله عنه- يقول: لا تعتكف المطلقة ولا المتوفى عنها زوجها حتى تنقضي عدتها"، أي: تلازم مسكنها في أيام العدة، المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228].

وقال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[البقرة: 234].

"وكان ﷺ إذا أراد الاعتكاف يطرح له فراشه ويوضع له سرير وراء أسطوانة" الأسطوانة التي تلي مدخله إلى البيت، بيته ﷺ ما بين بيته بداية المسجد، الباب الذي يخرج منه إلى المسجد، يأتون يضعون سريره عند الأسطوانة، ومكتوب عليها الآن أسطوانة السرير، الذي كان يوضع عندها سريره للاعتكاف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، مكتوب عليها في الروضة الشريفة أسطوانة السرير.

 

وهكذا عرفنا حكم الاعتكاف أنه بالأصل سنة؛ لا يلزم إلا بالنذر -معلوم- ولكن مرتبته أيضًا في السنية يختلف تعبير الفقهاء عنها:

  • فيقول الحنفية: في العشر الأواخر سنة مؤكدة، وفي غيرها مستحب؛ في غير العشر الأواخر من رمضان.
  • وكذلك يقول المالكية: إنه مندوب مؤكد وليس بسنة. 
  • وابن عبد البر يقول: في رمضان سنة، وفي غيره مندوب مؤكد. 
  • ويقول الشافعية: إنه سنة مؤكدة في جميع الأوقات، وفي العشر الأواخر من رمضان آكد. 
  • كذلك يقول الحنابلة: إنه سنة في كل وقت؛ وآكده في رمضان؛ وآكد أيام رمضان العشر الأواخر.

 

يقول: "وكان ﷺ إذا أراد الاعتكاف يطرح له فراشه ويوضع له سرير وراء أسطوانة، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "كنت أرجل شعر رسول الله ﷺ وأنا حائض وهو معتكف في المسجد وأنا في حجرتي يناولني رأسه ﷺ"،  والمراد: الممر الذي بين حجرتها والمسجد، وهناك موضع السرير، يعني: ملتصق بالمدخل الذي يدخل منه إلى بيته ويخرج منه إلى المسجد. فكانت تجيء السيدة عائشة فيُدني لها رأسه من طرف المسجد وتُرَجِّلُ له شعره ﷺ، ولا تدخل المسجد لكونها حائض. 

وقد واظب ﷺ على هذا الاعتكاف وهو سنة بالاتفاق كما سمعت، مع اختلاف في التعبير عن درجته في السنية والندب. 

وفي الحديث أن سيدنا عمر قال لرسول الله : إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام -من قبل الهجرة، أو من أيام الجاهلية قبل الهجرة- فقال له رسول الله : "أوفِ بنذرك". كما جاء فأمره أن يذهب ويعتكف ليلة في المسجد الحرام ﷺ.

 

"وقال أنس: لما مات عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- اعتكفت عنه عائشة -رضي الله عنها- بعد ما مات"، وفيه هل الاعتكاف مما يقبل النيابة ويصح كبقية العبادات أم لا؟ 

فكان رأي السيدة عائشة أنه يمكن الاعتكاف عن الميت، قال: "اعتكفت عنه عائشة -رضي الله عنها- -اعتكفت عن أخيها- بعد ما مات".

"وكان ﷺ إذا كان معتكفًا لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: كنت إذا دخلت البيت للحاجة والمريض فيه فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة خوفًا على اعتكافي"-فإذا وقفت ينقطع تتابع الاعتكاف فيكون السؤال وهي مارة- "وكانت تخبر أن رسول الله ﷺ كان يفعل كذلك، وكان ﷺ إذا أتاه أحد من أزواجه يزوره وهو معتكف يقوم معها يشيعها إلى البيت ثم يرجع إلى اعتكافه وربما كان البيت بعيدًا عن المسجد، -وهذا في قصة صفية وكان بيتها بعيد- ولما أتته زوجته صفية وهو معتكف في المسجد قام معها ليشيعها فمر به رجلان من الأنصار -فأسرعا فالمشي لما رأيا رسول الله ﷺ قائم مع أهله-  فقال: على رسلكما إنما هي صفية، -زوجته- فقالا: سبحان الله، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فخفت أن يقذف في قلوبكما شيئًا فتهلكا"، -والعياذ بالله- "وفي رواية أن صفية هذه عمته أم الزبير ولعلهما واقعتان".

 

"وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: والسنة للمعتكف أن لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها" -كما حاء في النص في القرآن- (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ فنزلت الآية، "ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، وقال ابن عباس: كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل ثم رجع إلى اعتكافه فنهوا عن ذلك" فنزلت (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾[البقرة: 187]"، حتى تنقضي مدة الاعتكاف التي نويتموها أو نذرتموها. 

 

"وكانت عائشة -رضي الله عنها-  تقول: لا اعتكاف إلا بصوم"، وهو أيضًا عند المالكية والجمهور لا يشترطون الصوم للاعتكاف، وكما سمعت أن أقله لحظة أو ساعة، ولا يجب إلا بالنذر، إلا أنه يلزم عند المالكية بالشروع فيه خلال اليوم، لأن عندهم لا بد من يوم، فإذا شرع فيه وجب عليه أن يكمل اليوم. 

ويعبر الحنفية عن اعتكاف العشر الأواخر من رمضان بأنه سنة مؤكدة، ويعبرون في غير العشر الأواخر من رمضان فيقولون هو مندوب أو مستحب إن شاء الله.

قال: "وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور"، وأجاز ذلك بعضهم واستحبوه، يعني: مكان الصلاة المخصص في وسط الدار، وسط البيت، فهل يصح الاعتكاف فيه أم لا؟ وبعضهم فرَّق بين الرجال والنساء، فقال: للنساء أن يعتكفن في مساجد الدور، وليس ذلك للرجال، وتوسع بعضهم.

"وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: كل مسجد فيه إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح، وكان ﷺ إذا سأله أحد عن نذر نذره في الجاهلية يقول له: "أوفِ بنذرك"، وكان ﷺ يقول: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه"، كما هو مذهب الجمهور، "وكان أزواج رسول الله ﷺ يعتكفن معه وهنّ مستحيضات -يعني: غير حائضات- يرين الدم والصفرة يصلين معه ﷺ" لأن المستحاضة حكمها حكم الطاهر في الأحكام كلها، إلا أنها دائمة الحدث فيلزمها الوضوء لكل صلاة، "وربما وضعت إحداهن الطشت تحتها" حتى لا يصل شيء إلى المسجد، فيجب حفظ حرمة المسجد.

إذًا:

  • فالاعتكاف يتكون من:  
    • معتكِف. 
    • ونية.
    • ومعتكَف فيه.
    • ولُبث.
  • لُبْث:
    • لُبْث فوق قدر طمأنينة الصلاة عند الشافعية. 
    • وكذلك عند الحنفية والحنابلة يطلقون عليه ساعة، ليس المقصود به جزء من أربعٍ وعشرين ساعة، إنما قصدهم  يعني: وقت يسمى فيه معتكف.

 يصح الاعتكاف من الرجل والمرأة والصبي المميز؛ ولا يصح من غير المسلم ولا من حائض ولا نفساء ولا من جُنُب كما هو معلوم. 

 

أركان الاعتكاف:

  • ويقول الحنفية: الركن في الاعتكاف واحد اللبث في المسجد فقط، والبقية  شروط  وأطراف لا أركان. 
  • وزاد المالكية: ركن الصوم، ولا بد أن يكون صائمً. 

رزقنا الله الإقبال عليه.

 

والمعتكف يمنع نفسه عن الاشتغال بالغفلة وأمور وشؤون الدنيا، فالمراد من الاعتكاف التفرغ للإقبال على الله، وملازمة العبادة والطاعة، تعرضًا لرحمات الله تعالى ولزيادة الإيمان واليقين ولطهر الباطن وتنقيته، فيلازم باب ربه -جل جلاله- معتكفًا في المسجد، تاركًا لكل شغل بالقلب أو بالجسد بأمور الدنيا وجميع الفانيات.

رزقنا الله الإنابة والإخبات والعكوف بوادي الفضل مع أهل الفضل، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 

الاعتكاف مسجد الجماعة أو أي مسجد:

  • يقول الحنفية والحنابلة: لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد جماعة، أي: تُقام فيه الجماعة. 
  • ويقول أبو حنيفة: لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تُقام فيه الصلوات الخمس، لأن الاعتكاف عبادة انتظار الصلاة، يختص بمكان تُقام فيه الصلاة. 
  • ولكن أبو يوسف ومحمد -الإمامان عند الحنفية- قالا: يصح الاعتكاف في كل مسجد؛ لكن فرق أبو يوسف بين الاعتكاف الواجب والمسنون، فاشترط للاعتكاف الواجب مسجد الجماعة، وأما النفل قال: يصح في أي مسجد. والمراد بمسجد الجماعة عند الحنفية: ما له إمام ومؤذن. 
  • يقول الحنابلة: لا بد أن يكون المسجد تقام فيه الجماعة في الزمن الذي يعتكف فيه، لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تُقام فيه الجماعة في هذا الزمن الذي يعتكف فيه.
  • ولكن المعتمد عند المالكية والشافعية: يصح الاعتكاف في أي مسجد كان. 
  • وكذلك الجمهور يقولون: إن المرأة كالرجل، لا يصح اعتكافها إلا في المسجد، وفي المذهب القديم للإمام الشافعي يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها لأنه مكان صلاتها.
  • وكذلك الحنفية يقولون: تعتكف المرأة في مسجد بيتها لا الرجل، وذلك إذا كان في البيت مكان مخصص للصلاة. إذا جعلوا مكانًا مخصصًا للصلاة من غرفة ونحوها يصح الاعتكاف فيه للنساء.

 

رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وبلغنا فوق آمالنا من الخيرات في الدارين في عافية، مع صلاح الشؤون الظاهرة والخافية. 

 

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

 إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

 

تاريخ النشر الهجري

29 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

20 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام