(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: مواصلة شرح: كتاب الطهارة وأحكام المياه
الأحد: 21ذو الحجة 1444هـ
حكم الماء إذا تغير بنجس ولو يسيرأ، وإذا اختلط بنجاسة ولم يتغير
تابع: "كتاب الطهارة وأحكام المياه"
"وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتطهّرون بالماء المسخّن بالنار، ويكرهون التطهر بالماء المشمّس، وكان عمر يقول: لا تغتسلوا بالماء المشمّس فإنه يورثُ البرص، وكانوا يتطهرون من ماء البئر .
قال أنس رضي الله عنه : وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: یا رسول الله إنه يُستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يُطرح فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض وعذر الناس والنتن، فقال رسول الله ﷺ : "الماء طهور لا ينجسه شيء" وزاد في رواية أخرى: "إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه" . قال قتيبة بن سعيد رضي الله عنه : وسألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها فقال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة، قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة، وكان عرضها ستة أذرع.
وكان ﷺ يعاف الماء إذا نتن من غير قذر يخالطه، قال علي رضي الله عنه: ولما رُميَ النبي ﷺ في وقعة أحد وشُجّ وجهه أتيته بماء في درقتي من المهراس، فلما أراد أن يشرب منه وجد له ريحًا فلم يشرب منه، ولكن تمضمض وغسل عن وجهه الدم وصبَّ منه على رأسه.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما سئل رسول الله ﷺ عن الماء يكون في الأرض فترده الدواب والسباع فقال ﷺ: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وفي رواية: "لم ينجس" وفي رواية فقال رسول الله ﷺ للسائل : "لا تسأل عن مثل هذا فإنه تكلّف".
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : إذا كان الماء قدر أربعين دلوًا لم ينجسه شيء. وتوضأ عمر رضي الله عنه مرة من حوض فقيل له : إن الكلب ولغ فيه آنفًا، فقال : إنما ولغ بلسانه فاشربوا منه وتوضئوا، وتوضأ رضي عنه مرة أخرى من جلد لم يدبغ وقال: إن الله تعالى جعل الماء طهورًا، وتوضأ كثيرًا من أواني النصارى."
اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم عدد معلوماتك ومداد كلماتك كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون. (3 مرات)
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة والدِّين والبيان على لسان حبيبه الأمين خاتم النبيِّين سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ.. فيُـواصل الشيخ -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالمياه والطهارة، قال: "وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتطهرون بالماء المسخن بالنار، ويكرهون التطهر بالماء المشمس، وكان عمر يقول: لا تغتسلوا بالماء المشمس فإنه يورث البرص وكانوا يتطهرون من ماء البئر". أما ماء البئر فهو أحد المياه المطلقة التي يكون بها الطهارة كماء البحر وكماء النهر وكماء السماء وكماء العين كما تقدّم معنا. وكذلك ما كان من الثلج والبَرَد وفي الحديث في دعائه ﷺ: "وطهرني من خطاياي واغسلني وطهرني بالماء والثلج والبرد". وذكرنا الفرق بين الثلج والبَرَد؛ أن ما نزل أو كان أصله مائعًا ثم جُمِّد فهو: ثلج؛ تجمد، وما كان جامدًا في نزوله من السماء ثم يذوب في الأرض فذلك البَرَد. ومن المعلوم أيضًا الثلج والبَرَد أن ماءهما مما يُتوضأ به؛ لكن بشرط الذوبان والسيلان أن يكون سائلًا أن يكون مذابًا، وأما إذا متجمد صلب فلا يصح به الطهارة؛ لأنه لا يسيل منه الماء؛ هذا في المغسولات، أما في الممسوح فيمكن أن يمسح به نحو: الرأس أو الجبيرة مما يجب مسحه فيمكن أن يمسح بالثلج، وأما ما كان من المغسولات فلا يصحُ إلا بما كان ذائبًا، بأن كان رخوًا أو كان لشدة الحرارة يتذاوب فيسيل على الأعضاء فيصحّ الوضوء به.
وذكر الماء المسخّن بالنار وذلك ما يُحتاج إليه في أيام البرد، فإذا سُخِّن بالنار سخونةً مقبولةً ليست شديدة لم تنتهي إلى الشدة، أما إذا انتهت إلى الشدة فإن شديد السخونة وشديد البرودة يُكره الوضوء به؛ لكونه يمنع الإسباغ، يمنع إسباغ الوضوء أن يتوضأ بماء شديد السخونة أو شديد البرودة، ولكن إذا سُخِّنَ سخونةً غير شديدة بالنار فلا يضر ذلك وإن لم يؤثر عنه ﷺ، لكن ذكر الأثر عن الصحابة ويظهرُ أن ذلك في عهده وأنه يطّلع على مثل ذلك ولا يُنكر عليهم، وأما هو فما ثَبَت أنه سُخّن له شيء من الماء، فكان في أيام البرد والشتاء في المدينة وغيرها يتوضأ من الماء غير مسخّن، يتوضأ من الماء البارد ﷺ.
ثم قد يكون التسخين بواسطة الشمس وهو الذي يقال له: المُشَمَس، وهذا هو المختلف فيه، فقائلون:
أن ذلك جائزٌ من دون كراهة سواء استُعمل في البدن أو في الثوب وفي قُطرٍٍ حار أو بارد وفي أي مكان وبهذا يقول الحنابلة وأكثر الحنفية، يقولون: أنه لا يكره الوضوء بالماء المشمس.
وبعض فقهاء المالكية بل هو المعتمد عندهم والشافعية يقولون: بكراهة ذلك.
اختار النووي والروياني من الشافعية عدم الكراهية، كذلك اختار بعض علماء المالكية عدم الكراهة.
والمعتمد عند المالكية والمذهب عند الشافعية أنه يُكره المشمس لكن بشروط:
إذا كان في قُطرٍ حار وفي أيام الصيف والحر
وكان مشمسًا في إناء منطبع
وكان استعماله لبدن الحيٍّ دون بدن الميت ودون نحو الثوب
فبهذه الشروط قالوا بكراهة استعمال الماء المشمّس.
ويذكرعن الشافعي أنه قال: إني أكره ذلك من حيث الطب، إن كان يضر في الطب. ويروى كما نقرأ في الأحاديث عن سيدنا عمر وغيره: "فإنه يورث البرص" فلذلك اشترطوا للكراهة أن لا يتيقن الضرر به، أما إذا تيقن الضرر به فيصير حرام، يحرم استعماله، فهذه الكراهة في ما يتعلق بالماء المشمّس، قال: "ويكرهون التطهر بالماء المشمّس،.." فالذين قالوا بالكراهة مثل: المعتمد عند المالكية والمذهب عند الشافعية وعند بعض الحنفية، قالوا: اشترطوا أن يكون ذلك في قُطرٍ حار وفي وقت حرٍ وفي إناءٍ منطبعٍ وما ذكرنا وأشرنا إليه من هذه الشروط؛ فحينئذ يُكره الوضوء به.
"وكان عمر يقول: لا تغتسلوا بالماء المشمّس فإنه يورث البرص، وكانوا يتطهرون من ماء البئر" وماء الآبار أحد المياه السبعة المعروفة التي فيها الماء على أصل خِلقته؛ فهو يرفع الحدث ويُزيل النجاسة.
"قال أنس رضي الله عنه: وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: یا رسول الله إنه يُستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يُطرح فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض وعذر الناس والنتن، فقال رسول الله ﷺ: "الماء طهور لا ينجسه شيء" وزاد في رواية أخرى: "إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه" "؛ وذلك أن الماء في بئر بضاعة كان كثيرًا. وكما يأتي سؤاله القيِّم عنها وعن الماء الذي يكون فيها، فيقول: "قال قتيبة بن سعيد رضي الله عنه: وسألت قيّمَ بئر بضاعة" أي: القائم عليها والمشرف على ترتيبها "عن عمقها فقال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة"؛ إلى نصف قامة الإنسان، قال: "قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة، وكان عرضها ستة أذرع." فهي كبيرة، فمقدار هذا في ستة أذرع قُللٌ كثيرة، فهو كثير مادام لم يتغيّر لا يضر.
وقال أهل العلم: أن الماء إذا كان كثيرًا لم يضرّ وقوع النجاسة فيه إلا أن يتغيّر وقال في ذلك الحنفية والحنابلة والشافعية.
وقال الحنفية: أن الماء الكثير أن يكون عشر في عشر؛ يعبّرون به عمّا يمتد في الأرض بحيث لو حركت طرفه لم يتحرك الطرف الآخر؛ فهذا ماءٌ كثيرٌ عندهم لا يتنجّس إلا إذا تغير.
وعند الشافعية: ما كان من قلّتين فأكثر فهو كثير، وما كان دون القلتين فهو قليل، كما جاء في روايات: "إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث". والقّلتان: عشر من التنك الكبير الذي كانوا يأتون بالسمن فيه والزيت فيه؛ التنك الكبير، وهو يستغرق في المساحة في الأرض إذا كان الأرض مربعة، يستغرق الذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا؛ وإذا كان مُدور فذِراعان ونصف عمقًا وذراعٌ عرضًا؛ يكفي لأن يسع هذا المقدار القلّتين فإن القلّة هي: الجرّة الكبيرة.
وجاء في بعض الروايات: "هذه من قلالِ هجر" وأن بعض أهل العلم سألوا أهل هجر: كم تسع القلة من هجر؟ قالوا: مئتين رطل بالبغدادي وشي؛ فاحتاط الشافعي للشيء فجعله نصف، فجعل مائتين وخمسين ومائتين وخمسين؛ خمسمائة رطل هي ماءٌ كثير وما دون ذلك: قليل. قال المالكية: الماء كله سواءً كان قليلًا أو كثيرًا لا يتنجس إلا إذا تغير وإن لم يتغير فلا ينجس؛ وإن وقعت فيه النجاسة، ولكن إذا حصل التغيّر حصل التنجس وإن لم يحصل فلا، بينما قال غيرهم: إن كان قليلًا فبمجرد ملامسة النجاسة له ووقوعها فيه يصير نجسًا تغيّر أو لم يتغيّر، وأما إن كان كثيرًا فلا ينجس إلا بالتغيّر. وفيه أيضًا هذا الحديث.
وتقدم معنا في المسخن أن المسخن بالنار إذا السخونة معتدلة لا يُكره استعماله؛ لأنه ليس فيه نهي وليس فيه أثر وزهومة لتأثير النار، وهكذا يقول المالكية والشافعية. وفصَّل الحنفية:
الأول: إذا سُخن بالنجاسة وأنه إن وصل شيء من أجزاء النجاسة وهو قليل صار نجس وهذا أيضًا باتفاقه مع الشافعية والحنفية.
والثاني: ما يتحقق من وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء والحائل غير حصين فهو عندهم مكروه إذا سُخّن بنجاسة.
والثالث: إذا كان الحاجز والحائل حصينًا ولم يدخل منه شيء فهذا لا يُكره.
وهذا الكلام على الماء الكثير وأنه لا يضر، وعرفنا أن الجمهور فرَّقوا بين القليل والكثير من المياه، وقال المالكية: الحكم واحد لا ينجس الماء إلا بالتغيّر وأخذوا بعموم قوله: "الماء طهورٌ لا ينجّسه شيء إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه". وإنما قال الآخرون: إن هذا مخصوصٌ بالكثير؛ لأنه ورد في حديث بئر بضاعة، وبئر بضاعة ماؤها كثير، وفيها جاء قوله: "الماء طهورٌ لا ينجسه شيء".
وفي رواية النسائي: "يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي: بئر تطرح فيها لحوم الكلاب والحيض.. قال: الماء طهور لا ينجسه شيء"، وفي رواية ابن ماجه قال ﷺ: "..إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه.."، ومن هنا إذا تغيّر الماء بنجاسة ولو تغيّرًا يسيرًا صار نجسًا، بخلاف إذا تغير بشيءٍ طاهر آخر لا يضر التغيّر إلا إذا كان تغيّر شديد سلب عنه اسم الماء، فالعالِم بحاله من أهل العرف واللسان ما يُسميه ماء، مثل: القهوة؛ ماء قال سأتوضأ بها! قد تغيرت تغيّر كثير وسُلِب عنه اسم الماء. وهكذا
إذا تغيّر الماء تغيّرًا كثيرًا سلب عنه اسمه بطاهر، سُلبت عنه الطهورية وهو طاهر لكنه غير مطهّر،
وأما إذا خالطته نجاسة ونجّست شيء من أوصافه فهو نجس باتفاق، إذا تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه ولو تغيّرًا يسيرًا.
وأمّا ما لم يتغيّر فإن كان كثيرًا لم ينجس باتفاق، وإن كان قليلًا لم ينجس أيضًا عند المالكية،
فإذا خالطت الماء نجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه فعند المالكية سواءً كان قليل أو كثير فهو طاهر، وهو رواية عن الإمام أحمد ومالَ إليه بعض الشّافعية؛ ومنهم الإمام الغزالي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- رأى أنه إذا لم يكن تغيّر فهو طاهر، وجماعة من الصحابة والتابعين الماء الذي اختلطت به نجاسة ولم تغيّره، وهكذا يقول ابن قدامة المشهور في مذهب الإمام أحمد أنه ينجس؛ ورُوي عن أحمد رواية أخرى: أنه لا ينجس إلا بالتغيّر قليل أو كثير مثل مذهب المالكية، وأخذوا كما ذكرنا بعموم هذه الروايات: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو ريحه أو طعمه".
وفرّق الجمهور بين القليل والكثير:
فإن كان الماء قليل فبمجرّد وقوع النجاسة ينجس وإن لم يتغيّر.
وإن كان كثيرًا لا ينجس إلا إذا تغيّر وهو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام مالك نفسه كذلك، وهو المذهب عند الشّافعية والمشهور عند الحنابلة كما تقدّم معنا، ورأي جماعة من الصحابة والتابعين: أنه إن كان قليلًا فبمجرد وقوع النجاسة ينجس، وإن كان كثيرًا لم ينجس إلا بتغيّر أحد الأوصاف، ولو واحد منها.
يقول الحنفية: إذا كان بحال -هذا الماء- يخلُص بعضه إلى بعض فهو قليل، كيف يخلُصْ بعضه إلى بعض؟ يقول: بالتحريك؛ فإن كان بحال لو حُرِّك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يُخلص منه وهو قليل؛ وإن كان لا يتحرك فهو ممّا لا يُخْلَص، ولهذا تجدهم يجعلون المياه في مساجدهم متسعة وإن لم تكن عميقة يكون متسعًا وبعيد بحيث لو حركت الطرف ما يتحرك الطرف الآخر، فيُعتبر التحريك بالاغتسال فيه من غير عنف أو بالتوضئ منه.
وفي الحديث أيضًا: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده"، قالوا: وأخذوا به أن الماء القليل ينجس؛ ينجس بوضع اليد فيه إذا كانت نجسة. وكذلك ما أوجب ﷺ من غسل الإناء بولوغ الكلب فيه، وولوغ الكلب ما يغيّر لون الماء ولا طعمه ولا ريحه؛ ولكن "إذا ولغ في إناء أحدكم طهورُ إناءِ أحدكُم إذا ولغَ فيهِ الكلبُ أن يغسلهُ سبعَ مراتٍ أولاهنّ بالترابِ"، حَمَله المالكية على التعبّد.
يقول: "وكان ﷺ يعاف الماء إذا نتن من غير قذر يخالطه،.." إذا تغيّر ونتن فما يحب استعماله ﷺ. "قال علي رضي الله عنه: ولما رُميَ النبي ﷺ في وقعة أحد وشُجّ وجهه أتيته بماء في درقتي من المهراس، فلما أراد أن يشرب منه وجد له ريحًا فلم يشرب منه، ولكن تمضمض وغسل عن وجهه الدم وصب منه على رأسه." وفيه أن المتغيّر بنفسه أو بالطاهر -التغيّر اليسير- لا يضر استعماله.
"وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سئل رسول الله ﷺ عن الماء يكون في"-الفلاة من-"الأرض فترده الدواب والسباع فقال ﷺ: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وفي هذا تعيين القلتين، "وفي رواية: "لم ينجس" وفي رواية فقال رسول الله ﷺ للسائل : "لا تسأل عن مثل هذا فإنه تكلّف"." يعني: يريد أن الأمر فيه يُسر وسهولة ولا يحتاج إلى تشدّد فيه، ولهذا انتقدوا على من يوسوس في الطهارة في تغسيل النجاسة وفي الوضوء وفي طهارة الماء، وعند أخذ الدراهم والدنانير وعند أكل الطعام ولبس الثياب ما يتحرّز ولا يتورّع! قالوا ما هذا؟! هذا ورع الموسوسين! هذا وسوسة ما له معنى ما هو ورع، وإن كان عندك ورع فعند الدينار والدرهم هناك واجب تحتاط وتحذر ما هو عند الماء، فالماء كان يتساهل به الصحابة ومن بعدهم وما كانوا يشدّدون ولا يبالغون فيه بشيء من هذه المبالغات، وهكذا كان يقول الحبيب علوي لماذا يقعد يوسوس لنا إِما في طهارة، وإِما في قراءة في الصلاة؟! بسم الله بسم الله! وإذا قربوا له صحفة الغداء إِلتهمها ولا قال من أين أتيتم به؟ إذا كان عندك ورع هناك عند الطعام، لمّا يُقدّم إليك تأكد منه ومن حِلّه! هذا كان ورع الصحابة وورع التابعين في هذا المكان ما هو في طهارة الثوب والبدن وطهارة الماء.
وفي هذا جاءت الرواية يقول: "لا تسأل عن مثل هذا فإنه تكلّف"، وبهذا قالوا أن الأصل هو الطهارة؛ وإنما يكون النجاسة طارئة، فإذا عُرف التنجيس وإلا فهو على أصل طهارته، وبذلك أجابت المرأة المتفقهة على سائل المرأة تحت بيتهم ووقع عليه شيء من الماء، فدق الباب وقال: هل هذا ماؤكم طاهر ولا نجس؟ فقالت له: نجّسه سؤالك! لما تسأل صار نجس الآن، اذهب اغتسل، لو سكتت ساكت فحكم الشريعة أنه الأصل الطهارة ولا عليك شيء وتمشي في طريقك، لكن حقك الفضول هذا والوسوسة في غير محلها رجّعته نجس الآن هو نجس، هيا اذهب اغتسل، نجّسه سؤالك وإلا ما كان حكمه النجاسة.
"وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : إذا كان الماء قدر أربعين دلوًا لم ينجسه شيء" يعني إذا كان كثيرًا، "وتوضأ عمر رضي الله عنه مرة من حوض فقيل له: إن الكلب ولغ فيه آنفًا، فقال: إنما ولغ بلسانه فاشربوا منه وتوضئوا،.." وفي رواية قال: "إنما ذهب بما شربه في بطنه"، خلاص ما شربه فهو في بطنه والباقي لنا طهور، يعني: ما دام الماء كثير ما ينجس. "وتوضأ رضي عنه مرة أخرى من جلد لم يُدبغ" يعني: هو طاهر، ليس جلد ميتة وإن كان عرضة لشيء من التغيّر و الزهومة، لكنه ليس نجس، "وقال: إن الله تعالى جعل الماء طهورًا، وتوضأ كثيرًا من أواني النصارى." التي لم يُعلم فيها نجاسة.
وكان عطاء -رضي الله عنه- لا يرى بأسا بالطهارة من سؤر الكلاب، مفروض إذا كان الماء كثيرا. وقال الزهري يقول: إذا ولغ الكلب في إناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به، قال السفيان لما سمع قول الزهري: هذا هو الفقه بعينه أو هذا هو الفقيه بعينه، (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) [النساء:43] وهذا ماء؛ وجد ماء فكيف يتيمم؟! هذا يتوضأ منه. فقال الزهري: ويتيمم مع وضوءه بسؤر الكلب، قال البخاري: وفي النّفس من قوله ويتيمم شيء، يعني: إذا كان قد توضأ ما عاد في داعي للتيمم هكذا.
وكذلك إذا حصلت النجاسة في الماء الجاري:
فإذا وقع في الماء نجاسة وكان جاريا والنجاسة غير مرئية ولم تغيّر أحد أوصاف الماء فالماء عند الحنفية طاهر؛ لأن الجاري عندهم ما يخلص بعضه إلى بعض، الجاريات تمنع من خلصات هذا إلى هذا.
فإن كان النّجس غير مرئي مثل بول أو خمر ونحوهما لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، ويتوضأ من أي موضع كان.وهكذا جاء عن أبي حنيفة في جاهل بال في الماء الجاري ورجل أسفل منه يتوضأ، قال: لا بأس به؛ لأن الماء الجاري مما لا يخلص بعضه إلى بعض، فالذي يتوضأ به يعتبر يجزم أنه طاهر والماء طاهر في الأصل، فلا نحكم بنجاسته بذلك هكذا.
أما إذا كانت النجاسة مرئية مثل جيفة:
فإن كان جميع الماء يجري على الجيفة ما عاد يجوز التوضؤ به من أسفل الجيفة أما من قبل الجيفة نعم؛ لأن هذا نجس بيقين ونجس لا يطهر بالجريان
وإن كان بعضه يجري على الجيفة وبعضه ما يجري؟ قال الحنفية: إن كان الأكثر فأيضا نفس الحكم إن العبرة للغالب، وإن كان الجيفة في موضع مقدار شبر والماء يجري مقدار ثلاثة أذرع أربعة أذرع، أقله يجري على الجيفة والأكثر يجري على الطاهر؛ يجوز التوضأ به من أسفل الجيفة وكما من أعلاها -من قبلها ومن بعدها- كله صحيح لأن المغلوب في حكم العدم. لا إله إلا الله وإن كان الماء راكدا وكان قليلا ينجس وإن كان كثير كما تقدم الحكم وهكذا.
يقول الدسوقي من المالكية: إن الماء اليسير ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل فما دونهما إذا حلّت فيه نجاسة قليلة، كالقطرة ولم ير تغيّره فإنه يُكره استعماله في رفع حدث أو في حكم خبَث ومتوقّف على طهور كالطهارة المسنونة والمستحبة؛ لكنه ما هو نجس يصح الطهارة به إلا أنه مكروه، قال: أما استعماله في العادات فلا كراهة فيه فالكراهة خاصة بما يتوقف على طهور، فقيّد الكراهة بقيود أن يكون الماء الذي حلّت فيه نجاسة يسير قليل، ويسير عندهم ما كان دون قدر آنية الوضوء أو الغسل قدر الإناء الذي يسع ماء وضوء غسل وأقل منه هذا هو القليل عند المالكية، فقالوا إذا حلّت فيه نجاسة، وكان يسيرا النجاسة الذي حلّت فيه قطرة وما فوقه ولم تغيّره، ويوجد غيره وإذا لم يوجد غيره لم يُكره، لكن يوجد غيره ولا يكون له مادة مثل بئر ولا يكون جاري، وأن يُراد استعماله فيما يتوقف على طهور فإن انتفى شيء من هذه القيود فلا كراهة.
وهكذا من النجاسة ما يكون معفو عنه مثل ما لا يدركه الطرف وغيره ومنهم ما لا يكون معفو عنه ويُفرّق، وإذا كان الماء جاري أيضا يقول الشافعية وفيه نجاسة جارية كالميتة، وهي تجري مع الماء فالجارية التي فيها النجاسة هي النجسة وحدها ما دامت قليلة أو جارية متغيرة تغيّرت فهي الجارية؛ الماء الذي قبلها طاهر لأنه لم يصل إلى النجاسة والذي بعدها إذًا طاهر لأنه لم تصل إليه النجاسة، وأما ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها الجارية؛ فإن كان قلتين ولم يتغيّر فهو طاهر، وإن كان دون القلتين فهو نجس. هكذا الحكم عند الشافعية وهكذا يقول الحنابلة في الجاري، يقول أحمد: كالراكد إن بلغ جميعه قلتين دفع النجاسة إن لم تغيّره وإلا فلا، فعنده لا ينجس قليل جارِ قبل تغيّره في أصح الروايتين عن أحمد، الجاري ففرّق بين الجاري والراكد؛ الراكد مثل الشافعية والجاري قال ما دامه جاري فما ينجس إلا بالتغيّر كما هي رواية عنه مطلقا كمذهب مالك؛ ولكن الرواية الصحيحة عنه في الراكد مثل الشافعية، وفي الجاري مثل المالكية.
فإذا تنجّس ماء في بئر تغيّر فكيف نطهر هذا الآن؟ إذا كاثرنا الماء فوقها أو تركنا النزح منها فيزيد الماء حتى يصل حدّ الكثرة قلتين من دون تغيّر، أو يزول التغيّر، أو يُصب ماء طاهر فوقه حتى يبلغ الحد ويزول التغيّر إذا كان هناك تغيّر.
رزقنا الله الطهارة وسار بنا سبيل أهل الصدق معه؛، والعمل بما جاء به حبيبه ﷺ ونزّهنا عن الشوائب ورفعنا عَلِيّ المراتب ورفعنا مراتب القرب منه والدّنو إليه مع الصالحين من عباده وأهل وداده رزقنا الله الاستقامة وأتحفنا بالكرامة ووقانا الكدور .
بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
الفاتحة
ثم سُئل سيدي الحبيب عمر بن حفيظ:
ما الحكم إذا سقط عصفور ميت وقع في خزان البيت كبير الحجم وما تغير طعمه ورائحته؟
الإجابة:
إذا أنكر فيه ريحة يجب عليه أن ينتبه، أما إذا لم يتغير فلا يضر ما دام الماء قلتين فأكثر، وأما إذا تغيَّر فلا عذر له؛ يشُم رائحة منتنة ويتوضأ؛ ويقول ما أدري
أما إذا لم يكن تغيُّر فهو طاهر،
نعم إذا كان هناك ماء قليل وما كان هناك تغير فيه ويعلم أنّ فيه نجاسة فهذا تحمله أقوال كثيرة، ويحتاط بأن يطهر ما أصابه من ماء الوضوء الأول ويعيد الوضوء، ولكن تحمله الأقوال في أنه لا ينجس إلا بالتغير.
21 ذو الحِجّة 1444