كشف الغمة- 284- كتاب الجنائز (21) مسائل متعلقة بالدفن وأحكام القبور - 3 -
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 284- كتاب الجنائز (21) مسائل متعلقة بالدفن وأحكام القبور -3-
صباح الإثنين 16 شوال 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- سنية رش القبور بالماء
- دليل ارتفاع قبر الصحابي عثمان بن مظعون
- هل الأفضل تسنيم أو تسطيح القبر؟
- قدر ارتفاع قبر النبي
- أحكام رش الماء على القبر
- حكم تطيين القبر
- وضع علامة لمعرفة القبر
- أين تدفن المرأة الكافرة وهي حامل من مسلم؟
- فضل التراب من جبل المقطم
- الدفن بمواضع قبور الصالحين
- فائدة وضع جريد على القبر
نص الدرس المكتوب:
"قال خارجة بن زيد -رضي الله عنه-: ولقد رأيتنا ونحن شباب في زمن عثمان -رضي الله عنه- وإن أشدنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مظعون، وكان أنس -رضي الله عنه- يقول: لما مات عثمان ودفن أمر رسول الله ﷺ رجلاً أن يأتيه بحجر فيعلم به قبر عثمان فأخذ الرجل حجرًا فضعُفَ عن حمله فقام إليه رسول الله ﷺ فحسر عن ذراعيه وحمله فوضعه عند رأس عثمان وقال: "أتعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي فلما مات إبراهيم -عليه السلام- دفنه رسول الله ﷺ عند رجلي عثمان رضي الله عنه".
قال الشعبي: ولما دفن رسول الله ﷺ جعل على قبره طن من قصب والطن الحزمة، وكان الحسن البصري -رضي الله عنه- يقول: بلغنا أن رسول الله ﷺ قال: "افرشوا لي قطيفتي في لحدي فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام"، وكان عمر -رضي الله عنه- يدفن المرأة من أهل الكتاب إذا كانت حاملًا بمسلم في مقابر المسلمين من أجل ولدها.
وعن كعب الأحبار -رضي الله عنه- أنه قال له رجل من أهل مصر: هل من حاجة؟ فقال: نعم حراب من تراب سطح الجبل المعظم بمصر، فقال له الرجل: يرحمك الله ما تريد منه؟ قال: أضعه في قبري فقال له: تقول هذا وأنت في المدينة وقد قيل في البقيع ما قيل؟ فقال: إنا نجد في الكتاب الأول أنه مقدس ما بين القيصر واليحموم.
وكان الإمام الليث بن سعد -رضي الله عنه- يقول: سأل المقوقس عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن يبيعه سفح الجبل المقطم بمصر بسبعين ألف دينار فعجب عمرو -رضي الله عنه- من ذلك وكتب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بذلك، فأرسل إليه عمر -رضي الله عنه-: سله لم أعطاك فيها ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط فيها ماء ولا ينتفع بها فسأله عمر فقال المقوقس: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكتب إليه عمر إنا لا نعلم غراس الجنة إلا للمؤمنين فاقبر فيها من مات من قبلك من المؤمنين ولا تبعه بشيء، وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "خرج ملك من بني إسرائيل عن مملكته وانطلق إلى سيف البحر يعمل في اللبن ويأكل من عمل يده ويتصدق ببقيته فسمع به ملك بتلك الأرض، فجاءه فلما رأى حاله أعجبه فخرج الآخر عن مملكته وصارا يعبدان الله تعالى وسألا الله تعالى أن يموتا جميعاً فماتا جميعًا". قال ابن مسعود فلو كنت برميلة مصر لأريتكم مكان قبريهما بنعت رسول الله ﷺ لنا ذلك، وكان ابن جبير يقول لما احتضر بريدة -رضي الله عنه-: أوصى أن يجعل في قبره جريدتان".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بالشريعة الغراء وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين في الفضل والشرف أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وتقدم معنا ذكر بعض الأحاديث المتعلقة بقبره ﷺ والمواضع التي حواليه، وأحضر بعضهم بعض التخريج لأحاديث، منها ما يتعلق بقوله: عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إني أرى أني أعيش من بعدك، فتأذن لي أن أدفن إلى جنبك؟ فقال: "وأنى لك بذلك الموضع؟ ما فيه إلا موضع قبري وقبر أبي بكر وعمر وعيسى ابن مريم"
وفيه اطلاع الله نبيّه ﷺ على ما سيكون في تلك القبور؛ وعامة رجال السند هذا الذي هو عند ابن عساكر عامتهم ثقات مترجم لهم في كتب الحديث، ولكن في اثنين لم تعرف ترجمتهم، بذلك نزل عن رتبة الصحة.
وأما الحديث الثاني، هذا حديث: "لَيَهْبِطَنَّ (الله عز وجل) عيسى بن مريم حَكَمًا عَدْلًا وإمامًا مُقْسِطًا، فَلَيَسْلُكَنَّ فَجَّ الرَّوْحَاءِ حاجًّا أو معتمرًا، وَلَيَقِفَنَّ على قبري فَيُسَلِّمَنَّ عليَّ وَلَأَرُدَّنَّ عليه ﷺ"، هذا أيضًا عند ابن عساكر في تاريخ دمشق وابن إسحاق.
وكذلك جاء بسند آخر عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "لَيَمُرَّنَّ عيسى بن مريم حاجًّا أو معتمرًا بالمدينة، وَلَيَقِفَنَّ على قبري، ولَيقُولَنَّ يا مُحَمَّد ولَأُجِيبُه وَلَيُسَلِّمَنَّ عليَّ فَأَرُدُّ عليه السلام".
لذا قال الإمام الحداد:
وَقَفْنَا وَسَلَّمْنَا عَلَى خَيْرِ مُرْسَل ** وَخَيْرِ نَبِيَّ مَا لَهُ مِنْ مُنَاظِرِ
فَرَدَّ عَلَيْنَا وَهُوَ حَيٌّ وَحَاضِرٌ *** فَشُرِّفَ مِنْ حَيَّ كَرِيمٍ وَحَاضِرِ
زِيَارَتُهُ فَوْزُ وَنُجْحٌ وَمَغْنَم *** لأَهْلِ القُلُوبِ المُخَلِصَاتِ الطَّوَاهِرِ
بِهَا يَحْصُلُ المَطْلُوبُ فِي الدِّينِ *** وَالدُّنَا وَيَنْدَفِعُ المَرْهُوبُ مِنْ كُلِّ ضَائِرِ
بِهَا كُلُّ خَيْرٍ عَاجِل وَمُؤَجَّل *** يُنَالُ بِفَضْلِ اللَّهِ فَانْهَضْ وَبَادِرِ
يقول: والحديث بهذه الطرق أُورِدَ بعدد من الطرق، ولما له من الشواهد يرتقي إلى درجة الحسن، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
يقول: "كان ﷺ يحث على تسوية القبور، أن يُرَشَّ عليها ماءًا لئلا تنسِفَها الرياح"، لتبقى معلومةً، لأنه إذا بقي التراب من دون ماء فالريح يذْهِب بها ولا عاد تُعْلَم؛ فلذا جاءت سُّنيَّة رشِّ الماء، ومنه يُعلمُ أنه إذا لم يتأتَّى المحافظة عليها إلا بتطيين وبتجصيص كان لا بأس به من أجل المحافظة عليها.
"قال خارجة بن زيد -رضي الله عنه-: ولقد رأيتنا ونحن شباب في زمن عثمان -رضي الله عنه-، -في أيام خلافة سيدنا عثمان بن عفان-، إنَّ أشدَّنا وثبةً الذي -يقدر يقفز أكثر- يثب قبر عثمان بن مظعون"، عثمان بن مظعون أشرف على قبرِه رسول الله ﷺ والمعنى: أنه كان مرتفع، وأنه ما يستطيع أن يقفز من عليه إلا أشدهم وثبةً هؤلاء الصبيان الشباب.
"إنَّ أشدَّنا وثبةً" ونحن شباب يقول: "إنَّ أشدَّنا وثبةً الذي يثب قبر عثمان بن مظعون"، ويدل عليه ما جاء في الرواية الأخرى،
قال: "وكان أنس -رضي الله عنه- يقول: لما مات عثمان، -يعني: ابن مظعون، وهو أخو النبي ﷺ من الرضاعة- ودُفِنَ، "أمر رسول الله ﷺ رجلاً أن يأتيه بحجر فيُعَلِّمَ به قبر عثمان"، يكون علامة على مكان القبر ليزوره رسول الله ﷺ، وفي الرواية قال:"أتعلَّم بها قبر أخي، وأدفنُ إليه من مات من أهلي".
-
فَاسْتُفِيدَ منه سُنِّيَّة أن تكون علامةٌ على القبر يُعرف بها، أن هذا قبر فلان بن فلان،
-
واستُفيد منه أنه ينبغي للأقارب أن يكونوا في مكان متقارب واحد يدفن الأهل.
يقول: فلما أَمَرَ الرجلَ أن يأتي بحجر لِيُعَلِّمَ به قبر عثمان بن مظعون، قال: "فأخذ الرجل حجرًا" يعني كبيرًا ما هو حجر صغير
"فضعف عن حمله" يعني: من كِبَرِه وثقله الحجر، ما قدر أن يحمله، راقبه ﷺ ولحظه، "فقام إليه ﷺ فحسر عن ذراعيه -رفع الكمين، القميص عن ذراعيه- وحمله الحجر ووضعه عند رأسِ عثمان" ما قال هات واحد صغير حمل الحجر الكبير ووضعه بيده الشريفة ﷺ فوق قبر عثمان بن مظعون، وقال قولته: "أتعلَّمُ بها قبر أخي (يكون علامةً على أن هذا قبر فلان) وأدفنُ إليه من مات من أهلي"؛ فلما مات سيدنا إبراهيم ولد النبيِّ ﷺ، دفنه عند رجلي عثمان بن مظعون.
ومن هنا جاء أيضًا اجتهاد الأئمة هل الأفضل: التسنيم أم التسطيح للقبر؟
-
الشافعيةُ: مالوا إلى التسطيح.
-
الحنفيةُ والمالكيةُ والحنابلةُ قالوا: تسنيمُ القبر، يجعل التراب مرتفع عليه كَسَنَامِ الجمل، هو المندوب، لما جاء عن سفيان التَّمَّار أنه رأى قبر رسول الله ﷺ مسنَّمًا، كما جاء في البخاري.
-
يقول المالكية والحنابلة: يُرفع قدر شبر.
-
والحنفية: قدر شبر أو أكثر شيئًا قليلاً، ليُعرف أنه قبر فَيُتَوَقَّى ويُتَرَحَّمُ على صاحبه.
وجاء عن سيدنا جابر -رضي الله عنه-: "أن النبيَّ ﷺ رُفِعَ قبرُهُ عن الأرضِ قدر شبر"، في رواية البيهقي.
وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، قال: دخلت على عائشةُ -رضي الله عنها-، قال: يا أمَّاه، اكشفي لي عن قبر النبي ﷺ وصاحِبَيْه -رضي الله عنهما-، فكشفتْ لي عن ثلاثة قبور لا مُشْرِفَةً ولا لاطِئَةً، مَبْطُوحَة بِبَطْحَاءِ العَرْصَةِ الحمراء، هذا جاء في رواية أبي داود والحاكم وصححه، و وافقه الذهبي عليه، فليست مُسَوَّاة بالأرض وليست كثيرة الارتفاع في عهدها الأول في أيام الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-.
-
يقول المالكية: إن زِيدَ على التسنيمِ من حيث كثرةُ الترابِ، بحيث يكون جُرْمًا مُسَنَّمًا عظيمًا، فلا بأس به.
-
وقال الحنابلة: يُكْرَهُ رفعُهُ فوق شبر، والقبر المُشْرَف هو المرفوع كثيرً. قالوا بكراهة فوق شبر الحنابلة
-
وفي قول ضعيف عند المالكية بندب التسطيح، كراهة التسنيم؛ كما هو عند الشافعية أن تسطيح القبر أفضل من تسنيمه.
-
وقال الشافعية والحنابلة: إذا مات المسلم في بلاد الكفار، فإنْ خِيفَ أن يُستهان بقبرُهُ أو يُنبشَ ويمُثِّلَ به، فلا يُرْفَعُ قبرُهُ ويُخْفَى، لئلا يتعرضوا له؛ هذا إذا كانوا كفارٌ ما لهم ذِمَّةٌ ولا أَمَن منهم؛ أما إذا قد أمن، فالحكمُ غيرُهُ.
وهكذا أخذوا من رش القبر بالماء المحافظة عليه حتى لا يندثر، وإذًا عند كثرةِ القبورِ وكثرةِ الرياح لا يكفي رش الماء، فيبس وتهب الرياح يَتَشَتَّت الترابُ كذلك غالبًا:
-
لهذا احتيج إلى مِثْل وضعِ الحصى صغار عليه، كما جاء عند الشافعية والحنابلة. وجاء في رواية سيدنا جعفر بن محمد عن أبيه: "أن النبي ﷺ رشَّ على قبر ابنه إبراهيم ووضِعَ عليه حصباء"، لأنه أثبتُ له وأمنعُ لترابه أن تذهب به الرياح.
-
يقول الشافعية: أيضًا يحرم رشه بالماء النجس احترامًا، ويُكْرَهُ بماء الورد لما فيه من إتلاف للمال والرائحة الطيبة، وليكن بماء عادي.
-
وهكذا يقول الحنفية كما جاء عندهم في "المختار" والحنابلةُ أنه يجوز أن يُطَيَّنَ القبرُ.
-
ونَقَلَ الترمذيُّ عن الشافعيِّ أنه قال: لا بأس بالتطيين، وقال: لأنه لم يذكر ذلك جماهير الأصحاب. ولكن نقل الترمذي عن الشافعي أنه قال: لا بأس بتطيينه.
وفي قول القاسم بن محمد في قبرِ النبيِّ ﷺ وقبر صاحبيه أنها "مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء".
والمبطوحة: المسوَّاةُ المبسوطةُ على الأرض؛ ومعناه أنه كان فيه تطيينٌ، وإلا كيف ستبقى هكذا؟
-
وذكر المالكيةُ وإمامُ الحرمين والغزاليُّ من الشافعيةِ كراهة تطيين القبر.
-
ولم يقل أحد بالحرمة في شيء من ذلك من الأئمة المعتبرين كلهم، إنما الخلافُ في الكراهة والندب هو الأفضل.
ثم علمنا من الحديث سُنِّيَّةَ أن يُتَعَلَّم القبر ويبقى عليه علامة أنَّ هذا قبرُ فلانٍ، فَيُعْلَم. فإذا كانوا كلها حجر، فكيف يُعْلَمُ قبرُ مَنْ؟ فهذا حجر وهذا حجر وهذا حجز! ووش درَّانا قبرُ مَنْ هذا؟ وقبرُ مَنْ هذا؟ لابد من علامة؛ والعلامة أيضًا تأتي بعد ذلك بالكتابة من هنا وإنْ كَرِهَها بعضُ الأئمة.
-
قال المالكية: إن بوهيَ بها حرم.
-
وقال الدردير من المالكية: النقشُ مكروهٌ، وينبغي الحرمة.
-
ويقول الحنفية والسُّبكي من الشافعية: لا بأس بالكتابة إنِ احْتِيجَ إليها حتى لا يذهب الأثر ولا يُمْتَهَن.
-
ويقول ابن عابدين أيضًا من الحنفية: أنَّ النهي عنها -وإنْ صَحَّ- فقد وُجِدَ الإجماعُ العمليُّ بها بالكتابة على القبور.
-
وأخرج الحاكم النهي عنها من طرق ثم قال هذه الأسانيد صحيحة، ولكنَّ ليس العمل عليها، فإنَّ أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوبٌ على قبورهم، يقول الإمام الحاكم: وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف؛ وقال: ويتقوى بما وَرَدَ عنه ﷺ: "حَمَلَه -حجرًا- فوضعه عند رأس عثمان وقال: "أتعَلم بها قبر أخي".
فصارت الكتابةُ طريقًا إلى تَعَرُّفِ القبر ليست الأحجار، لو كلها أحجار بعدين كيف نعرف؟! فما كان في القبورِ في البقيع شيء حجرٌ عليه هذا اعْتلم - عُرِفَ بعلامته- ولو كلُّ واحدٍ وضع حجر لذهبت العلامةُ؛ فبقيت هذه العلامةَ التي يُتَوَصَّلُ بها إلى معرفةِ أنَّ هذا قبر فلان.
ويقول: بحثَ الأذرعيُّ ندب كتابة اسمه لمجرد التعريف به على طول السنين، لا سيَّما لقبور الأنبياء والصالحين، لأنه طريقٌ للإعلام المستحب، وذكر قول الحاكم: ليس العمل على النهي عنه، فإنَّ أئمة المسلمين والمسلمات مكتوبٌ على قبورهم.
"قال الشعبي: ولما دفن رسول الله ﷺ جعل على قبره طنٌ -يعني: حزمة- من قصب والطن الحزمة"؛ كأنه للمحافظة عليه والتعليم لمكانه بحزمة من القصب
"وكان الحسن البصري يقول: قال رسول الله ﷺ: "افْرُشُوا لي قطيفتي في لَحْدِي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام"، جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد.
"وكان عمر -رضي الله عنه- يدفن المرأة من أهل الكتاب إذا كانت حاملاً بمسلم في مقابر المسلمين من أجل ولدها"، إذا ماتت وهي حامل، هي يهودية أو نصرانية، ولكن في بطنها حملٌ لمسلم، إما زوجها، أو كانت هي مملوكةً وسيدها أولدَها، حملت منه وماتت، وما تأتى إخراج الحمل، فالمحكوم بالحمل مسلم، فإذا دفنها في مقابر الكفار، أخذ المسلمُ الذي في بطنها إلى مقابر الكفار؛ فرأى سيدنا عمرُ أن تُدفنَ في مقابر المسلمين من أجل ولدها، اللهم صل عليه وعلى آله.
وأما القطيفة التي وُضِعَتْ في قبرِه ﷺ، فهذه سيدنا شُقرانُ مولى النبي ﷺ قال: كرهتُ أن يلبسها أحد بعد رسول الله ﷺ، فحطها تحته في القبر، وضعها على قبره الشريف ﷺ.
والجمهور على أنه بالنسبة لغيره ﷺ، يكره وضعُ فراشٍ في القبر، ولا مِخَدَّةً ولا فراش، لأنه مكان تذلل وخضوع واسترحام للرب -تبارك وتعالى-، لا يليقُ إلا ذلك.
وما مال إليه سيدنا عمرُ أيضًا، فقد اختلفت الأئمة بعد ذلك في دفنِ إذا كانت كافرة حامل من مسلم، إذًا الذي في بطنها محكوم بإسلامه:
-
يقول الحنفية وهو الأصحُّ كذلك عند الشافعية، وهو كذلك عند الحنابلة: أنَّ الأحوطَ دفنُها على حِدَة. ويُجْعَلُ ظهرها إلى القبلة. لماذا؟ لأن الذي في بطنها وجهُهُ إلى ظهرها، وهو المسلم، وهي كافرة؛ فيُجْعَلُ وجهُها مُسْتَدْبِرًا للقبلة، وظهرها إلى القبلة، من أجل أن الذي في بطنها وجهُهُ إلى الظهر، هكذا رتَّبهم اللهُ في أرحام الأمهات، وجهُهُ إلى ظهرِها حتى لا تؤذيه رائحة الطعام، فجعل الوجهُ إلى الظهر، فيُجْعَلُ ظهرها إلى القبلة في قبر مستقل، لا هو في مقبرة الكفار ولا وسط مقابر المسلمين، تدفن على حِدَة، قريبٍ من مقبرة المسلمين.
وقالوا: لأنها كافرة، فَيُخافُ أن يَتَأَذَّى بتعذيبها أهلُ المقبرةِ من المسلمين، ولا تُدفنُ في مقبرة الكفار، يتأذى الجنينُ الذي في بطنها بعذاب الكفار، فتُدفنُ منفردةً.
-
وفي قولٍ آخر عند الشافعية: أنها كما قال سيدنا عمرُ، تُدفنُ في مقابر المسلمين، وتُنَزَّل هي منزلةَ ظرف -صندوق- من أجل هذا المسلم الذي في بطنها.
-
قال بعض الصحابة: تُدفَنُ في مقابرنا ترجح لجانب الولد، وقال بعضٌ: تُدفنُ في مقابر المشركين، لأن الولد في حكم جزء منها ما دام في بطنها.
-
وقال واثلةُ بنُ الأسقعِ كما قال الأئمة الذي أخذ به الجمهورُ من بعده: أن تُتَّخَذَ لها مقبرة على حِدَة، يضعونها وحدها.
وهذا إذا كان الجنين قد مضى عليه مدة تُنفخُ فيه الروحُ -أربعةُ أشهرٍ فأكثر-، أما ما قبل ذلك، فتدفن مع أصحابها المشركين، لكن إذا قد مضى عليها أربعةُ أشهرٍ، نفخ الروح فيه، فتُدفنُ من أجل هذا تكون على حِدَة.
"كعب الأحبار، قال له رجل من أهل مصر: هل من حاجةٍ؟ لك حاجة هنا جيبها لك من مصر؟ قال: نعم، جِرابٌ من ترابِ سطح الجبلِ المقطَّمِ بمصر. فقال الرجل: يرحمك الله ما تريد منه؟ -ايش تبغى- قال: أضعه في قبري فقال له: تقول هذا وأنت في المدينة وقد قيل في البقيع ما قيل؟ فقال: إنا نجد في الكتاب الأول أنه مقدس ما بين القيصر اليحموم.
ففيه أن هذا الجبل، كما جاءت الرواية الأخرى عنه، معروف في القاهرة جبل المقطَّم، وقد دُفِنَ فيه وحواليه كثير من الأولياء والصالحين.
"وكان الإمام الليث بن سعد -رضي الله عنه- يقول: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح الجبل المقطم بمصر بسبعين ألف دينار" عرض عليه المبلغ، كبيرٌ جدًا في تلك الأيام، سبعين ألف دينار، وقال تعطينا سفح الجبل المقطم. فتعجب منه ليه بغا بهذا المبلغ؟ "وكتب إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين. فأرسل إليه عمر -رضي الله عنه-: سله لم أعطاك فيها ما أعطاك؟ وهي لا تزرع ولا يستنبط فيها ماء، ولا ينتفع بها، ليش يعطيك هذا الثمن؟ فسأله عمر فقال المقوقس: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى سيدنا عمر، فكتب إليه سيدنا عمر: إنا لا نعلم غراس الجنة إلا للمؤمنين، فاقبر فيها من مات من قِبلك من المؤمنين ولا تبعه بشيء،" -خله، حافظ عليه ولاتبعه بشيء وادفن المؤمنين عندك- فدُفِنَ فيه من ذاك العهد، وجاؤوا بعد ذلك الكثيرُ من الأولياء بعد ذلك حوالي جبل المقطم دفنوا هناك.
"وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "خرج ملك من بني إسرائيل عن مملكته" -أي: زهداً- " وانطلق إلى سيف البحر يعمل في اللَّبِنِ ويأكل من عمل يده ويتصدق ببقيته" ،ما في شي زاد، كل يوم مما يزيد على قوت يومه وليلته يتصدق به وهكذا، زهدًا، "فسمع به ملك بتلك الأرض، فجاءه" -تبعه- أعجبه حاله، قال له: أنت خرجت من الهموم والغموم والأكدار، وأنت حالُكَ زين، وتتهيأ للقاء الرب، هذا أحسنُ مما أنا فيه من الملك، فقال: أنا معك. "فلما رأى حاله أعجبه، خرج الآخر عن مملكته وصارا يعبدان الله تعالى وسألا الله تعالى أن يموتا جميعاً فماتا جميعًا" في يوم واحد.
"قال ابن مسعودٍ -هذا صاحبُ النبيِّ ﷺ وخادمُهُ-: فلو كنت برميلة مصر لأريتكم مكان قبريهما بنعت رسول الله ﷺ لنا ذلك."
نعته ﷺ ووصفه وبهذا تشَوَّف الصحابة إلى مواطن قبور الصالحين، وحكايتِهم عن رسول الله أنه دَقَّقَ النَّعْتَ لهم حتى يستطيعوا الاهتداءَ إليها بما نَعَتَهُ، وهذا ابن مسعود من خواصِّ الصحابة، كان يفد الوافدون إلى المدينة يظنون أن ابن مسعود من أهل البيت لكثرة دخوله وخروجه في بيت النبي ﷺ.
وهذا أخذ يقول: لو كنتُ هناك برويكم، أنا عندي علاماتٌ علمني ياها رسول الله ﷺ.
فعلى هذا يكون عند أهل الاغترار بالجهل المركب أنَّ هؤلاء قبوريين أن هؤلاء الصحابة قبوريين، والنبي كماهم لأنه علَّمهم ويذكر لهم العلامات حق القبور، فهو بهذا المنظار هكذا، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
يقول: "فلو كنت برميلة مصر -عبدالله بن مسعود- لأريتكم مكان قبريهما بنعت رسول الله ﷺ لنا ذلك"
وأخرجَ الإمام أحمد في المسند، عن "ابن جبير يقول لما احتضر بريدة -رضي الله عنه-: أوصى أن يجعل في قبره جريدتان." لما جاء أنهما تذكران الله تعالى، وأنَّه يُخَفِّفُ عن الميتِ لو كان مُعَذَّبًا، بالجريدتان، كما صَحَّ. والله أعلم.
رزقنا اللهُ الاستقامة، وجعل قبورَنا رياضًا من رياض الجنة، وجعَلْ لنا من عذابِهِ وِقَايةً وجُنَّةً، واجعَلْنا من الهداة المهتدين، المبارك لهم في نياتهم وقصدهم وأعمارهم وأقوالهم. وغفر اللهُ للمنتقلِ إلى رحمة الله في أرض الحبشة، محمد سعيد، المنشد الحادي، جمعنا اللهُ به في دار الكرامة مع النبيِّ الهادي، ورضي عنه ورفع درجته. وتقبَّلَ جميعَ حسناته، وضاعَفَ كلَّ حسنةٍ منها إلى ما لا نهاية. وتجاوزَ عن جميع سيئاته، وبدَّلَ كلَّ سيئةٍ منها حسناتٍ تامَّاتٍ موصلات، ورزَقَهُ شريف المرافقة لخيرِ البرياتِ، وأهل الدرجات الرفيعات. وخَلَفَهُ في أهلِ الحبشةِ وفينا وفي الأمةِ بالخَلَفِ الصالحِ. وأدخَلَ عليه في قبرِهِ رَوْحًا منه تعالى وسلامًا مِنَّا في كل لمحة وفي كل نفس، وأظلَّهُ بظلِّ عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه وبظل لواءِ الحمدِ، وأورده على الحوضَ المورودَ في أوائل أهل الورود. وجَعَلَ مستقر روحه في الفردوسِ الأعلى، بلا سابقةِ عذابٍ ولا عتابٍ، ولا فتنةٍ ولا حسابٍ.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
16 شوّال 1446