(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: فصل في مبايعته صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم الوفود
الأحد: 22 ذو القعدة 1444هـ
فصل في مبايعته ﷺ الوفود
"قال عطاء رضي الله عنه : سألت ابن عمر رضي الله عنهما: "هل شهدت بيعة الرضوان مع رسول الله ﷺ؟ قال : نعم، قلت : فما كان عليه؟ قال : قميص من قطن وجبة محشوّة ورداء وسيف ورأيت النعمان بن مقرن المزني رضي الله عنه قائماً على رأس رسول الله ﷺ قد رفع أغصان الشجرة عن رأس رسول الله ﷺ والناس يبايعونه، وكانت الشجرة من السمر يعني أم غیلان، قال :جابر وكانت بيعة الرضوان في عثمان بن عفان خاصة قال رسول الله ﷺ : إن قتلوه لأنابذنهم، فبايعناه ولم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أنا لا نفر ونحن ألف وثلثمائة.
وكانت مبايعته ﷺ؟ للناس بحسب أحوالهم، فبايع عوف الأشجعي وجماعته على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، ويصلوا الصلوات الخمس، ويسمعوا ويطيعوا ولا يسألوا الناس شيئاً، فلقد كانوا بعد البيعة يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه .
وبايع أﷺ؟ عرابياً على الإسلام فجاء من الغد محموماً فقال : يا رسول الله أقلني ، فأبى النبي ﷺ فجاء ثلاثة أيام ولو رسول الله لا يأبى، فلما ولىّ قال النبي ﷺ : إن المدينة كالكير تنفي خبثها .
وبايع عبادة بن الصامت رضي الله عنه وجماعته على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا ولا يقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصوا رسول الله ﷺ في معروف، ثم قال : فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستر الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، ومن صاب من ذلك شيئاً فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور فبايعه القوم على ذلك .
وقال أنس رضي الله عنه : بايعت امرأة من الأنصار رسول الله ﷺ على محبته فقط فبايعها، فلما كان يوم أحد وحاص الناس حيصةً، خرجت متحزمة فاستقبلت بأبيها وابنها وأخيها وزوجها وهم قتلى لا أدري أيهم استقبلت به أولاً، وكانت كلما تمرّ على واحد منهم تقول: ما فُعِلَ برسول الله ؟ فيقولون لها : أمامك فلما وصلت إليه أخذت بطرف ثوبه، وقالت : ما أبالي بفقد أهلي إذ سلمت أنت يا رسول الله رضي الله عنها.
وبايع عبادة بن الصامت وأصحابه مرة أخرى على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرةٍ عليهم، وعلى أن لا ينازعوا الأمر أهله إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان على أن يقولوا الحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون (3 مرات).
الحمد لله مكرمنا بالشريعة الغراء وبيانها على لسان خير الورى سيدنا محمد صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار في مساره ووالاه سرًا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من رفع الله لهم قدرًا وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
ويذكر الشيخ الشعراني - عليه رحمة الله- في هذا الفصل بعض الأحاديث التي وردت في مبايعته ﷺ لأصحابه.
والبيعة هي:
الطاعة وإعطاء العهد والميثاق عليها، وهي ميثاق يحصل من الذي بايع لمن بايعه
وهذه البيعة: تأتي أول ما تاتي للأنبياء فَتُؤخذ لهم البيعة ممن آمن بهم وصدقهم على: اتباعهم وتنفيذ أوامرهم وإحلال ما أحلّوا وتحريم ما حرّموا وما إلى ذلك
وهي: تجديدٌ للعهد بين العباد وبين ربهم فيما عاهدهم سبحانه وتعالى عليه في عالم الأرواح وعالم الذّر، أشار إليه بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ) [الأعراف:172]، وأشار إليه بقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم) [يس: 60-61].
فكان الأنبياء يجددون هذا العهد بين العباد وبين ربهم، ويبايعونهم على:
الإيمان بالله تعالى
والعمل بشريعته
واتباع أولئك الأنبياء
والاقتداء بهم
ثم كان في خلفاء الأنبياء أيضًا من يخلفهم إما: في الحكم وإما: في العلم والتربية والسلوك، فيكون ذلك أيضًا بيعة وعهد؛ العهد على الطاعة يقال لها: بيعة؛ فالمبايع يعاهد أميره على أن يسلِّمَ له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيءٍ من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وهي بالنسبة لغير الأنبياء مقيدةٌ بالطاعة بطاعة الله وطاعة رسوله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كائنًا من كان.
ثم ما يحصل بين الناس من عهود بينهم ومبايعات يتبايعونها على القيام بشيء من الأمر أو ترك شيء من الأمر، وأجلّ من ذلك ما يُعطى من العهود والبيعة لخلفاء الأنبياء في العلم والتربية؛ لأجل الاستقامة على السلوك وتجديد العهد مع ملك الملوك جلّ جلاله، وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه؛ وهذا الذي يحصل بين المشايخ المربين والمسَلكين وبين المريدين فيبايعونهم على: طاعة الحق جلّ جلاله
والعمل بما جاء به رسول الله ﷺ؛ فيجددون العهد مع الله، وهذه البيعة والعهد تُثمر سندًا بين المبايع ومن بايعه بسنده إلى رسول الله ﷺ؛ فيكون في عبادته وعمله بالشريعة على سندٍ بينه وبين سيدنا رسول الله ﷺ.
فهذا المراد بالبيعة هنا، وإن كانت تطلق البيعة على مجرد الصفقة من صفقات البيع، وليس هذا هو المراد وهذا المراد في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ..) [الفتح:10].
فبايع ﷺ فكان في تجديده لعهد الله على وجه العموم:
دعوته إلى الشهادتين والعمل بشريعة الإسلام وأحكام الحق جلّ جلاله
وعلى وجه الخصوص:
عاهد جماعاتٍ من أصحابه على الإسلام وعلى الجهاد وعلى ألا يفرّوا وعلى ألا يسرقوا ولا شيء إلى غير ذلك مما عاهد عليه ﷺ،
ومنه:
المبايعة على المحبّة؛ أن يثبتوا على محبته؛ ليكون قربةً لهم إلى ربهم وسببًا في حشرهم في زمرته ﷺ.
فجاء في الحديث أيضًا في ما رواه الإمام مسلم في صحيحه يقول: "من مات وليس في عنقه بيعةٌ لإمام مات ميتةً جاهلية"، ومن هنا حرصوا على أخذ العهود والبيعة للمشايخ حتى يبعدوا عن الميتة الجاهلية؛ ويموتوا وفي أعناقهم بيعة لأحد من أئمة الصدق والهدى من خلفاء المصطفى ﷺ، ولما مرّ المار على سيدنا طلحة بن عبيد الله -عليه رحمة الله ورضوانه- وجده في آخر رمَض، فقال: مِن مَن أنت؟ من أيّ القوم؟ قال: من أصحاب علي، قالوا: امدد يدك؛ مدَّ يده قال: هذه بيعتي لعلي؛ فمات فذهب فأخبره، أخبر سيدنا علي، فقال: الحمد لله ما أراد الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه، فمات وهو على بيعة سيدنا علي بعد ما حصل من الاختلاط والالتباس والفتنة والقتال، ومدّ يده للبيعة لعليّ -كرّم الله وجهه- ورضي الله عنهم أجمعين.
ذكر لنا سؤال عطاء لسيدنا بن عمر، "هل شهدت بيعة الرضوان؟" وكان لها شأن مذكورة في القرآن الكريم وفي السنة الغراء، في القرآن أنزل الله فيها (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح:18]، وفي السنة يقول ﷺ فيما روى ابن عساكر وابن قانع "لا يدخل النار أحدٌ شهد بدرا أو بيعة الرضوان"، "يقول عطاء لسيدنا بن عمر: هل شهدت بيعة الرضوان مع رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، قلت: فما كان عليه؟" ماذا كان يلبس؟ "قال: قميص من قطب وجُبّة محشوة" وكان القميص أحب اللباس إليه وكان يستعمل الجبة "قال: ورداء وسيف، قال: ورأيت النّعمان بن مقرن المزني -رضي الله عنه- قائما على رسول الله ﷺ قد رفع أغصان الشجرة عن رأس رسول الله ﷺ"، لأنه واقف تحت الشجرة وكانت أغصانها متدلية فكان ماسكٌ بها ألا تصيب رأس رسول الله ﷺ، "والناس يبايعونه وكانت الشجرة من السَّمُر يسمّونه أم غيلان" هذه شجرة السمر معروفة السمر، "قال جابر: وكانت بيعة الرضوان في عثمان بن عفان خاصة، قال ﷺ: إن قتلوه لأنابذنهم،" فإنه أرسله إليهم يخبره أنه جاء ليعتمر بالبيت وليس له التفات إلى حرب ولا قتال، فأمسكوه عندهم وحبسوه وأشاعوا أنهم قتلوا عثمان، "فقال: لئن قتلوه لأنابذنهم، ودعا الصحابة إلى البيعة فبايعوه" قال: "بايعناه ولم نبايعه على الموت" كما هو مشهور؛ لأنه اشتهر عن بعض الرواة ذكر الرواية بالمعنى بيعه على الموت، وليس المعنى أنهم يموتون لا بد وإلا كيف يقتلونهم، والمعنى أنهم لا يفرون فهذا هو المعنى الذي قال؛ ولكن "بايعناه على ألا نَفرّ،" فلما كان عدم الفرار تعرّض للقتل والموت قال بعض الرواة: بايعوه على الموت، فأراد ابن عمر أن يصحّح المعنى وألّا يتوهم أنهم بايعوه على الموت، كيف بايعناه على أننا نموت! لا بد نموت؛ نقتل أنفسنا ولا كيف نعمل!؟ "فقال: إنما بايعناه على أن ألّا نفرّ" أن نثبت معه ونقرّ في الجهد ولا نتراجع ولا نفرّ من الزحف، فهذا هو الذي بايعنا عليه رسول الله ﷺ، وفسّره بعضهم بالموت، "وقال: ونحن ألفٌ وثلاثمائة" بل جاء في الروايات أنهم فوق ذلك، فوق الألف وأربعمائة حتى اشتهر أنهم ألف وخمسمائة، فهم بين الأربعمائة والخمسمائة بعد الألف الذين كانوا حضروا مع رسول الله ﷺ بيعة الرضوان.
وقد حضر في الموقف وفي الوقعة بعض المنافقين ولم يبايع والعياذ بالله تبارك وتعالى، وأخذ يتستّر براحلته ويجلس وراءها حتى أكمل النبي ﷺ البيعة واندفع الناس ولم يبايع لأنه من أهل النار، "ولا يلج النار أحد شهد بدرا أو بيعة الرضوان" لا إله إلا الله، ومنهم من بايعه مرّتين في نفس ذلك اليوم، وهم كذلك جماعة من الصحابة تعددت بيعتهم لرسول الله ﷺ.
ثم إنه في الأحوال التي يكون الناس فيها غير مؤمَّرٍ عليهم أحد ولا مستأمِر عليهم أحد على أهل الحل والعقد، يعني:
خيار القوم علماؤهم وصلحاؤهم وأهل الوعي فيهم؛ أن يختاروا من بينهم من يرونه أهلا للقيام بأمر الله في الحكم بشريعة الله، فيبايعونه ويلزم عامة المسلمين أن يتبعوهم بعد ذلك ويبايعونه فيثبتوا إماما.
فرضٌ على الناس إمامٌ ينصبُ ** وما على الإله شيء يجبُ
وأما من غير ذلك فإنما يكون إما بوصية من الأمير الأول كما وصّى سيدنا أبو بكر لسيدنا عمر.
أو باستئمار بالقوة والجبرية والكره، "وإن تأمّر عليكم عبد حبشي".
فمن تأمّر بالجبروت ولم يظهر الكفر فهو أمير يجب طاعته في طاعة الله تبارك وتعالى؛ حتى لا تكون فتنة.
يقول في الحديث هذا أيضًا رواية الطبراني، وجاء أنه قال: "إنما كانت بيعة الشجرة في عثمان بن عفان خاصّة وذلك لما احتبس، حبسه المشركون في مكة قال إن قتلوه لأنابذنهم"، ثم إنه ﷺ لما بايع الصحابة تحت الشجرة في بيعة الرضوان أخذ يده الكريمة فوضع شماله على يمينه وقال: "وهذه عن عثمان"، وكان يفتخر بذلك سيدنا عثمان بن عفان، وقال: خير يد بايعت يوم الشجرة اليد التي بايعت عن عثمان، وكان يذكرها سيدنا عثمان ويقول: وضع شماله بيمينه وقال: هذه عن عثمان وشماله خيرٌ من يميني، فهو يفتخر بأن رسول الله ﷺ مدّ يدهُ عنه وبايع له رضي الله تعالى عنه.
قال: "وكانت مبايعته ﷺ للناس بحسب أحوالهم، فبايع عوف بن مالك الأشجعي وجماعته على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، ويصلّوا الصلوات الخمس، ويسمعوا ويُطيعوا، ولا يسألوا الناس شيئًا.." ولا يسألوا الناس شيئا، فكان هؤلاء من وفائهم بهذا العهد "يسقط صوت أحدهم وهو على فرسه فلا يقول لأحد ناولني هذا الصوت" لأنه بايعه على أن لا يسأل غير الله شيء؛ فتنزّه حتى عن قول ناولني السوط، ثم يخرج من فرسه ويحمل سوطه بيده ويتناوله بنفسه هكذا -عليهم رضوان الله- من تحريهم.
فقد جاء أيضًا في الحديث، يقول عوف بن مالك الاشجعي: "كنّا عند رسول الله ﷺ تسعة أو ثمانية، قال: ألا تبايعون رسول الله؟ وقد كنا حديث عهد ببيعة قد بايعناه قبل، قلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تباعون رسول الله؟ قلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلى ماذا نبايعك؟ فقال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوه، وأسرّ كلمة خفية، قال: ولا تسألوا الناس شيئا فبايعوه، قال: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه"، وهكذا جاء في رواية مسلم وأبي داؤود وابن ماجة -رضي الله عنهم-، وحسبهم شرفًا وفخرًا أنّ ربّ العرش يقول لرسوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ..) فهنيئا لهم ما أكرمها من يدٍ بايعوها (..يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..) [الفتح:10].
جاء في رواية الإمام أحمد بن حنبل "لا تسألن أحدًا شيئًا وإن سقط سوطك ولا تقبض أمانة"، فإذا اجتمع أهل الحل والعقد على بيعة رجل رأوه أهلًا وقَبِل ذلك، يقولون له: لقد بايعناك على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة، قال: وبايع ﷺ أعرابيًا على الإسلام، أي: والهجرة، يهاجر إلى المدينة، فجاءه من الغد محموما أصابته حمى وتضعضع، وقال: أقلني، أقلني البيعة؛ أي رُدَّ عليّ البيعة، فأبى النبي ﷺ قال: لا البيعة على الإسلام لربك والهجرة إليه؛ ما فيها إقالة، جاء اليوم الثاني قال: أقلني، أبى؛ جاء اليوم الثالث، قال: أقلني يا رسول الله فأبى، فولّى خرج ترك البيعة وخالفه وخرج من المدينة، فقال النبي ﷺ: "إن المدينة كالكير تنفي خبثها"، الكير ينفي خبث الحديد ينزلونه، قال: المدينة كذلك ما يستقر فيها ذو خبث، ولا بد أن يخرج. ويُروى المدينة بلد الأخيار ومن سكنها من الأشرار نُقل عنها ولو بعد الإقبار، حتى يدفنوك يقبرونك يُنقل إلى محل آخر ولا يُبعث مع أهل المدينة والعياذ بالله تعالى، أي: تنقله الملائكة، "إن المدينة كالكير تنفي خبثها". وقد جاء الحديث في الصحيحين وغيرهما، يقول: "المدينة كالكير تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد".
"قال: وبايع عبادة بن الصامت وجماعته بألا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا النفس التي حرم الله بالحق ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم،.." وهكذا كانت البيعة من قبل، وهي بيعة النساء (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا…) [الممتحنة:12]، ومن قبل فرض الجهاد كانت هكذا البيعة، قال: ولا يعصوا رسول الله ﷺ في معروف، ثم قال: "فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فستر الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ومن أصاب من ذلك شيئا فأُخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور، فبايعه القوم على ذلك ﷺ". وجاء عن بعض الصحابة قال: بايعت رسول الله ﷺ سبع مرات، فكانت ثلاث منها أو أربع على المحبة، أن يصدُق في محبتي حتى يلقى الله.
"قال أنس -رضي الله عنه-: بايعت امرأة من الأنصار رسول الله ﷺ على محبته فقط فبايعها،" قالت: أريد مبايعتك على محبتك يا رسول الله، فبايعها، يقول سيدنا أنس في أثر هذه البيعة على هذه المرأة وصدقها مع الله في محبتها لرسوله ﷺ "قال: فلما كان يوم أحد وحاص الناس حيصا حيث خرجت هذه المرأة متحزمة فاستُقبلت بأبيها،" يعني: أُخبِرَت بوفاته، قُتل أبوها وابنها وأخيها وزوجها أربعة، أربعة كلهم قتلوا في المعركة في أُحد أبوها وابنها وزوجها وأخوها، "فاستُقبلت بأبيها وابنها وأخيها وزوجها وهم قتلى، لا أدري أيهم استُقبلت به أولًا" مَن منهم؟ "فكانت كلما تمرّ على واحد منهم تقول ما فُعل برسول الله؟ يقول: أمامك هو بخير، فلما وصلت إليه أخذت بطرفي ثوبه قالت: ما أُبالي بفقد أهلي إذا سلمت أنت يا رسول الله -رضي الله عنها-"، هكذا رأيت هذه المرأة الصادقة المخلصة ومكانتها عند الله وعند رسوله هنيئا لها، وفي رواية جاءت أنها استُقبلت الخبر بهم وهي خارجة إلى أحد بعدما أشيع أن رسول الله ﷺ توفي، فخرج كثير من نساء المدينة إلى أُحُد منهن بعض أمهات المؤمنين خرجن نحو أحد، واستقبلن أيضا امرأة هي هند بنت حرام زوجة سيدنا عمرو بن الجموح -رضي الله عنه-، وكان قد قُتْلَ في المعركة زوجها وابنها وأخوها عبد الله، فحملت الثلاثة على جمل لها؛ لتقبرهم بالمدينة ليكونوا أقرب إليها إذا زارتهم، فلقيت سيدتنا عائشة مع جماعة من النساء خرجن يطمئننّ على رسول الله ﷺ وعلى المؤمنين، فلقينها أقبلت من نحو أحد، قالوا: يا هند جئتِ من أحد؟ قالت: نعم، قالوا: ما الخبر ورائك؟ ما خبر المعركة والناس؟ قالت: رسول الله صالح، النبي بخير، رسول الله صالح، وكل مصيبة دونه جلَلْ، كل مصيبة من دون رسول الله ﷺ صغيرة، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الأحزاب:25]، فتوجّهن نحو أُحُد وهي بَرك جملها، فحاولت معه يقوم ما رضي، ووجهته نحو أُحُد قام يهرول ردّته نحو المدينة برك، فعالجته ما رضي يتوجه نحو المدينة إلا نحو أُحُد، فرجعت إلى أُحُد، قالت: يا رسول الله حملت زوجي وابني وأخي أريد أقبرهم في المدينة، والجمل برك في الطريق ولا رضي يتوجه إلى المدينة! قال لها: هل قال عمرو عندما خرج من البيت شيء؟ قال: لمّا خرج من البيت عمرو بن الجموح زوجك قال شيء؟ قالت: رفع يديه وقال: اللهم لا تردني إلى بيتي ولا إلى أهلي خزيان وارزقني الشهادة في سبيلك، قال: فتلكِ دعوة عمرو ما ترجعينه إلى المدينة، قد قال ما بيرجع، فتلكِ دعوة عمرو، "إنّ منكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لا أبرّه منهم عمرو بن الجموح"، وقبرَهم ﷺ، بعد قبرهم قال: هند، قالت: لبيك يا رسول الله؟ قال: لقد ترافق عمرو وعبد الله وخلاد في الجنة، زوجها وأبوها وابنها، قالت: ادعو الله يجعلني معهم يا رسول الله، -رضي الله عنهم-.
والمرأة هذه أيضًا الأخرى استقبلوها في الطريق قالوا لها: إن أباكِ قُتِل، قالت: احتسبه عند الله؛ لكن ما فعل رسول الله؟ قالوا: وإن زوجكِ قُتِل، قالت: احتسبه عند الله؛ ما فعل رسول الله؟ قالوا: وإن أخاكِ قُتِل، قالت: احتسبه عند الله؛ ما فعل رسول الله؟ قالوا: وابنكِ قُتِل، قالت: احتسبه عند الله؛ لكن ما فعل رسول الله؟ قالوا: هو بخير كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. دخلت صفوفهم لما وصلت إلى أحد رأت وجهه الكريم وقالت: كل مصيبة دونك جلل يا رسول الله، فهكذا رجالهم وهكذا نسائهم وهكذا الإيمان وهكذا الرابطة وهكذا المحبة وهكذا العلاقة، فمن ضحك علينا وضيعنا هذه البضائع الغالية؟ والروابط الوثيقة العالية الموجبة للسعادة الكبرى في الدنيا والأخرى؟ وقالت: ما أبالي بفقد أهلي إذا سلمت أنت يا رسول الله -رضي الله عنها-.
"وبايع عبادة بن الصامت وأصحابه مرة أخرى على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة عليهم، حتى إذا قُدّم عليهم غيرهم وأُثر عليهم غيرهم وهم يستحقون يطيعون، وعلى أثرة عليهم وعلى ألا ينازعوا الأمر أهله،.."من تولّى ما ينازعونه في الولاية والحكم "إلا أن يروا كفرا بواحا خالصا عندهم فيه من الله برهان، وعلى أن يقولوا الحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم"، فهذه من أنواع البيعة التي بايع بها ﷺ بعض أصحابه.. لا إله إلا الله، وهكذا جاءتنا الروايات.
يقول سيدنا أنس لمّا كان يوم أُحُد حاص أهل المدينة حيصة لا إله إلا الله يعني جالوا جولة يطلبون الفرار، قالوا: قُتِلَ محمد؛ حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، وخرجت امرأة من الأنصار متحزمة فاستُقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها، فلمّا مرّت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوكِ أخوكِ زوجكِ ابنكِ، تقول: ما فعل رسول الله؟ يقول: أمامكِ، حتى دُفِعَت إلى رسول الله ﷺ فأخذت بنحج ثوبه وقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب عليها الرضوان.
ويقول: جنادة بن أبي أمامة دخلنا على عبادة بن الصّامت -رضي الله تعالى عنه- وهو مريض، قلنا: أصلحك الله حدّث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي ﷺ؟ قال: دعانا النبي ﷺ فبايعنا، فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأُثرَة علينا، وأن لا ننازع على أمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً إن تكن فيه من الله برهان، هكذا في رواية البخاري.
وفي رواية مسلم يقول: بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكرَه وعلى أثرة علينا وعلى أنه لا ننازع على أمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم رضي الله عنهم، وقاموا بذلك ووفوا، فهنيئاً لهم عليهم رضوان الله الأكبر وجمعنا الله بهم في خير مستقر، لا نخاف في الله لوم لائم لا نداهن في ذلك أحد من الناس ولا نخاف ولا نلتفت إلى صغير ولا كبير ولا أئمة؛ بل نقول قول الحق قاصدين وجه الله.
نظر الله إلينا وملأنا بالإيمان واليقين والإخلاص؛ وجعلنا في أخص الخواص ووقانا الأسواء وأصلح السر والنجوى وغمرنا بأفضال الجود وأسعدنا أعلى السعود وجمعنا بصاحب المقام المحمود، وربطنا به ربطاً لا ينحل، وجعلنا من أهل رضوانه ونشر لنا سبحانه رايات أمانه وتوفيقه وجوده، وعاملنا بمحض فضله وإحسانه وأصلح لنا لكل منا كل شأنه في سره وإعلانه بمحض الفضل والجود وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
23 ذو القِعدة 1444