(209)
(536)
(568)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كتاب الصلاة (82) صلاة ما بين الظهر والعصر وتحية المسجد
صباح الأحد 22 محرم 1446 هـ
فصل في صلاة ما بين الظهر والعصر
"كانوا يحيون ما بين الظهر والعصر بالصلاة ويشبهون ذلك بصلاة الليل، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يصلي في هذا الوقت اثنتي عشرة ركعة.
فصل في تحية المسجد
"كان رسول الله ﷺ يقول: "أعطوا المساجد حقها، قالوا: وما حقها يا رسول الله! قال: إذا دخلتم فصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا"، وكان ﷺ كثيرًا ما يقول: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، وفي رواية: "سجدتين"، وجاء أبو قتادة -رضي الله عنه- يومًا والنبي ﷺ جالس بين ظهراني الناس فجلس فقال له رسول الله ﷺ: "ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ فقال: يا رسول الله رأيتك جالسًا والناس جلوس فقال: "إذا دخلت فلا تجلس حتى تصلي ركعتين".
ودخل عمر -رضي الله عنه- المسجد مارًّا فركع فيه ركعة فقيل له: إنما رکعت ركعة؟ فقال: إنما هو تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص وقد كرهت أن أتَّخِذه طريقًا، وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد فلا يصلي فيه ركعتين، قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "وكنا نغدو إلى السوق على عهد رسول الله ﷺ فنمر على المسجد فنصلي فيه"، والله أعلم".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريته، عبده وحبيبه وصفوته سيدنا محمّد، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله خيرته من بين بريّته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،،
يذكر لنا الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- اعتناء السّلف الصّالح بما بين الظهر والعصر، فهي من جملة أوقات اليوم والليلة التي تُغتَنَم لعمارة العمر بما يوجب الإحسان والفضل من مولي النّعم -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
ذكر لنا في صلاة ما بين الظهر والعصر، قال: "كانوا يحيون -أي: السلف الصالح من الصحابة فالتابعين- ما بين الظهر والعصر بالصلاة ويشبهون ذلك بصلاة الليل.." بجامع أنها من أوقات الغفلة، أنها أوقات يغفل فيها الناس، فكان برنامج الناس أيضًا في ذاك الوقت أنهم في هذا الوقت ما بين من ينام؛ وما بين من يشتغل بشيء من العمل في السوق؛ وما بين من يلهو فيما بين الظهر والعصر، فكانوا يشبهونه بالقيام في الليل الذي يغفل فيه الناس أيضًا، فيعمرون هذا الوقت.
وذكر عن ابن عمر: "وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يصلي في هذا الوقت اثنتي عشرة ركعة"، وهذا الوقت الذي سمّاه الإمام الغزالي في الإحياء الورد الخامس من أوراد اليوم والليلة -من أوراد النهار ما بعد الظهر إلى العصر-، وقالوا: يستحب فيه إما العكوف في المسجد مشتغلاً بالذكر والصلاة، أو فنون الخير وأصناف الخير، ويكون منتظراً للصلاة، فيكون في الصلاة بانتظاره الصلاة، وهكذا.. لهم اعتناء بهذا الوقت، وربّما من لم ينم منهم القيلولة قبل الزوال، نامها في هذا الوقت؛ لتكون عدّة له على قيام الليل.
ثم ذكر أيضًا الإمام الغزالي ما ينبغي للمؤمن أن يضبط ساعات نومه في اليوم والليلة، ولا أقل من أن يُحصّل ما بين الليل والنهار ثمان ساعات، وهي ثلث اليوم والليلة، فلا أقل من ذلك.
ولأهل الاجتهاد بعد ذلك مراتب:
وهذا وسط أن يكون مجموع نومه ما بين الليل والنهار ست ساعات، وهذا لو عمره ستين سنة يكون خمسة عشر سنة نوم، يبقى له خمسة وأربعين سنة، أما إن كان ينام ثمان فعشرين سنة في كل ستين سنة -عشرين سنة تروح نوم كلّها- لا إله إلا الله. (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) [النبأ:9]، (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ) [الروم:23].
وعلى ذلك كان أيام طلب للحبيب عبد الله بن عمر الشاطري، نومه بين الليل والنهار ساعتين، وانتهى إلى هذا حتى بعض أهل الدنيا من الحريصين عليها فكيف بأرباب الآخرة!؟ لا إله إلا الله. ولهم ما بين ذلك مراتب، ثم ما جاوز حدَّ العادة وهذا راجع إلى أمور وأحوال طارئة خارجة عن العادة المستولية على عامة البشر، فمنهم من هجر النوم أيام، ومنهم هجر النوم أسابيع، ومنهم من هجر النوم أشهر، إلى غير ذلك ولكن ذلك إمّا:
وهكذا جاء عن كثير من التّابعين وتابع التابعين وتابعيهم من هجر النوم مددًا، لا إله إلا الله، فجعله الله -تبارك وتعالى- مذكّراً بالموت هذا النوم، والمتوجّه إلى الله -تبارك وتعالى- يأخذ بالوسط وهو ست ساعات ما بين الليل والنهار، يكفي الجسد من النوم، ويمكن أن ينقص بشيء من التدريج.
فهذا وقت شريف ما بين الظهر والعصر، وجاء في السنّة أنه ﷺ أيام مواجهة الأحزاب العشرة آلاف مقاتل، الذين تجمّعوا من المشركين مع قريش من قبائل العرب، وجاؤوا على المدينة ووجدوا الخندق أمامهم وعرفوا به؛ فوقفوا في الجانب الثاني، ثم ابتدأوا المفاوضة مع بني قريضة، وخانوا العهد مع رسول الله ﷺ، واتفقوا معهم يدخلوهم من جهتهم، ثم خالف الله بين قلوبهم، وألقى في قلوبهم الرعب، وأرسل الرياح وفرّوا وذهبوا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ) [الأحزاب:9] وذلك بعد أيام، ومنها أنه ﷺ دعا على طرف الجبل فوق الحجرة في اليوم الأول، وكان يوم إثنين، ثم دعا في اليوم الثاني وكان يوم الثلاثاء، ثم دعا في اليوم الثالث بين الظهر والعصر يوم الأربعاء، ورفع يديه حتى سقط ردائه، وقال دعائه المشهور: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، منشئ السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم" فاستجيب له فيما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، فهبّت الريح في تلك الليلة، وكفأت -أسقطت- قدورهم، وقلعت خيامهم، وقُذف في قلوبهم الرعب وذهبوا.
فالشاهد: وجود الاستجابة فيما بين الظهر والعصر، وحصل إجابة الدعوة وتأديتها فيما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، ومن هنا بقي أهل المدينة يقصدون هذا المكان في محل الخندق، وبنوا مسجداً على المكان الذي كان يدعو عليه ﷺ، يدعوا وهو واقف عليه ﷺ، واستجيب له فيه، سمّوه مسجد الفتح، فكانوا يخرجون إلى ذاك المكان، ويدعون الله -تبارك وتعالى- رجاء الاستجابة، بعدما ثبت أن الله استجاب لرسوله في هذا المكان بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء في تلك الليلة.
وكانت أيام برد واشتد البرد، وكثير من الصحابة لا يجد ما يتدفأ به من البرد، حتى أن منهم من يخرج إلى موضع الخندق بمرطِ زوجته يتدفأ به، يأخذ المرط حق زوجته يلبسه يتدفأ به ويخرج، منهم سيدنا حذيفة ما معه شيء يتدفأ به يتغطى من البرد، إلا مرط زوجته، أخذه وجاء، وفيها -في تلك الليلة- قال ﷺ: "من رجل يأتيني بخبر القوم، وسكت الصحابة، مرّ بسيدنا حذيفة، قال: أنت يا حذيفة؟ قال: لبيك يا رسول الله، سيدنا حذيفة في وقت البرد وفي وقت الخوف، قال: اذهب فادخل بينهم واتني بخبرهم، قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ارجع إليّ لا تحدث شيء، قال: مرحبا -حاضر-، قال: توجهت وذكرت له البرد، قال: اللهم إنه في خدمة رسولك فَقِهِ البرد حتى يرجع إليّ، قال: فلمّا توجهت شعرت أنّي دخلت في حمام حار، راح البرد كله، وتسلّل حتى دخل بين القوم، وبدت الريح تهبّ عليهم، فكانت تمر في جانب النبي ﷺ والمؤمنين لطيفة حفيفة، فإذا جاءت إلى خيام القوم عصفت بهم وقويت عليهم، فكان يرقب حتى قال: مرّ على أبي سفيان وهو يتدفأ في نار موقدة، يدفي بها جسده وظهره، قال: وعزمت أن أرميه بسهم -أقتله-، فلمّا أردت انتزاع السهم، ذكرت قوله: "لا تحدث شيئا حتى ترجع إليّ"، قال: فتركته، قال: وبينما أنا كذلك إذ انبعث أبو سفيان فيهم يقول: أيّها القوم كلٌ منكم -تجمّعوا إليه- قال: كلٌ منكم يتوثق مِمَّن بجانبه، فإنّي أريد أن أحدثكم -يعني لا يكون بيننا أحد مندس-، قال: فأخذت بيد الذي بجنبي، قلت: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قلت: تمام، من قبل ما أحد يشك فيه، فهو أخذ بيد الذي جنبه، يقول: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال لهم: إنه حدث ما ترون، وإن بنو قريضة خالفونا وعدهم، والآن أنا مرتحل، من أراد يرتحل يرتحل، ومن يجلس للريح والتعب يقعد، وشدّ رحله وفرّ، فتتابع الناس حوله، فرجع، قال سيدنا حذيفة: فرجعت إلى رسول الله ﷺ، فوجدته قائمًا يصلي، وعليه كساء شملة من شعر الصوف يتدفأ به، قال: فما هو إلا أن رجعت إليه فعاد البرد إليّ، كمّلت المهمة جاء، قال: ولاحظني ﷺ فأشار إلي أن اُقرب فغطاني بشملته، ثم قضى صلاته، وقال: ما خبر القوم؟ قال: فرّوا وحصل كذا وكذا وأنا جئت وهم يرحلون، فكان ما قال الله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا) [الأحزاب:9]، (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب:10-11]، وكان ما كان، وفرّ القوم وانتهت أيام الخندق.
ثم ذكر لنا تحية المسجد، وذلك لكل داخل إلى المسجد، كما جاء في الحديث: "إذا دخلتم فصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا" لما قال: "أعطوا المساجد حقها، قال: وما حقها يا رسول الله؟ قال: إذا دخلتم فصلّوا ركعتين قبل أن تجلسوا".
فصلاة التحية للداخلِ إلى المسجد من جملة حقوق المسجد:
وأقلّها ركعتين؛ ويمكن تحية المسجد أكثر من ركعتين، ولا تصح بأقل من ركعتين، ما يصح أن يكون التحية ركعة بل لابد من ركعتين فأكثر. فتحية المسجد أن تصلّي قبل أن تجلس، وتحية البيت الحرام الكعبة المشرفة بالطواف تحيّتها بالطواف ليس بالصلاة، أول ما تدخل تطوف، ثم تأتي بتحية المسجد، تحية المسجد بعد تحية البيت بعد تحية الكعبة، تحية الكعبة الطواف ثم تصلي، فيكون هذه سنة الطواف وتحية المسجد؛ لأنك لم تجلس بعد.
وهكذا جاءت الروايات في تحية المسجد من قوله ﷺ: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، -أو في رواية "حتى يركع ركعتين"، جاء في الصحيحين "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" وفي رواية: "سجدتين". والمراد: هو الركعتين، فهي:
إذا دخل المسجد والمؤذن يؤذن:
وكذلك لمن جاء والإمام يخطب يوم الجمعة:
وفي حديث سليك الغطفاني، لمّا جاء والنبي ﷺ يخطب جلس، قال: "قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما"، وهكذا جاء في رواية الإمام مسلم، ثم قال ﷺ: "إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما"، "وكان ﷺ كثيرًا ما يقول: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، وفي رواية: "سجدتين"،، وهو بالمعنى نفسه.
وجاء أبو قتادة -رضي الله عنه- يومًا والنبي ﷺ جالس بين ظهراني الناس فجلس فقال له رسول الله ﷺ: "ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ فقال: يا رسول الله رأيتك جالسًا والناس جلوس فقال: "إذا دخلت فلا تجلس حتى تصلي ركعتين".
قال: ودخل عمر -رضي الله عنه- المسجد مارًّا فركع فيه ركعة فقيل له: إنما رکعت ركعة؟ فقال: إنما هو تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص"
وقال: "وقد كرهت أن أتَّخِذه طريقًا"، من المكروه أن يدخل المسجد ويخرج ولا يصلي التحية، فكأنه جعل المسجد طريق، بل إذا دخل إما أن يصلي التحية وهو أفضل، أو أن يقف وقفة ينوي فيها الاعتكاف فوق طمأنينة الصلاة، ثم يمشي، وأما يدخل من الباب ويخرج من الباب الثاني فهذا فيه كراهة اتخاذ المسجد طريقًا.
قال: "وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد فلا يصلي فيه ركعتين، قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "وكنا نغدو إلى السوق على عهد رسول الله ﷺ فنمر على المسجد فنصلي فيه"، والله أعلم"، أي: لا نمر مرور ولا نتخذه طريقًا نعبر فيه، ولكن نصلّي فيه تحية المسجد على الأقل ركعتين، قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
رزقنا الله تعظيم السنن والآداب، وحسن الاتباع لسيد الأحباب، والعمل بالسنة والكتاب، وأجارنا من شرور أنفسنا ومن كل سوء أحاط به علمه في الدنيا والمآب.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ وعلى آله وصحبه
الفاتحة
24 مُحرَّم 1446