(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: فصل في أحكام الإيمان والإسلام
السبت: 21 ذو القعدة 1444هـ
"فصل في أحكام الإيمان والإسلام"
"كان رسول الله ﷺ يقول: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله".
وجاء رجل إلى رسول الله يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله ﷺ: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ فقال: بلى ولا شهادة له، قال أليس يصلي؟ قال: بلى ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم"
وكان يقول ﷺ: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم دمه وماله وحسابه على الله".
وكان يقول ﷺ: "كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب، فمن كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب".
وكان يقول ﷺ: "مثل المؤمن مثل الزرع لا يزال الريح يميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كشجرة الأرز لا يهتز حتى يستحصد" وكان يقول ﷺ: "مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء لا يسقط ورقها ولا يتحات، ألا هي النخلة".
وكان ﷺ كثيراً ما يقول: "إن الله ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً على كنفي الصراط، داران لهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه، والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فالصراط هو الإسلام، والأبواب محارم الله، والستور حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر، والداعي على رأس الصراط هو القرآن والداعي فوقه واعظ الله في قلب كل مؤمن".
وكان ﷺ يقول: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء"، زاد في رواية أخرى "فقالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم"."
اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون. (3 مرات)
الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته عبده وحبيبه وصفوته سيدنا محمد صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وعلى أهل اتباعه ومودّته ومحبته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الله تبارك وتعالى ومنتخبِيه من خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ: فيذكر لنا في هذا الفصل "فصل أحكام الإيمان والإسلام" في دعوة النبي محمد ﷺ إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وطاعة الحق تبارك وتعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، وأنَّ الناسَ بعد ذلك فيهم من يقبلُ وفيهم من لا يقبل ولا يصدّ ولا يقاتل، وفيهم من يصدُّ ويقاتل ويُعاند، فبذلك صارت فرق الناس وأقسامهم أمام دعوة الله تبارك وتعالى التي يحملها الأنبياء والمرسلون:
وصار انقسام غير المسلمين والمؤمنين إلى الحربي وإلى الذمّي وإلى المُعاهَد وإلى المُؤَمّن، وجاء الفصل في ذلك في كتاب الله جلّ جلاله وتعالى في عُلاه، وفي سورة براءة التي قام فيها مقام الجهاد، وأُنذر الذين كفروا وفُسِح لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وحُفظت فيها عهود الذين عاهدوا فلم ينقضوا العهد ولم يخالفوا ولم يظاهروا على المسلمين، وظهر شأن الذين خانوا وبدّلوا بما يقوم لهم من حرب فجاءت سورة براءة في ذلك الأمر، وفيها البيان الشافي الكافي.
وانضمّت إليها في بيان هذه الحقيقة آياتٌ أُخَر، ففي هذه السورة التي هي من أشدّ ما نزل على المنافقين وعلى الكافرين فتحُ أبواب الإنابة والرجوع، والأمر بالوفاء بعهد الذين لم ينقضوا عهدهم، فذلك هو دين الله جل جلاله وتعالى في علاه. (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُون) [التوبة:3-12].
فبيان واضح شافي لا أصلح للخلق ولا أنفع لهم منه، ولا أقوَم لأسس التعايش كما يتحدث من يتحدث عنها من البشر وكيفية السلام؛ من ما ذكر إله الكون وخالق العالم ومكوّن النفوس سبحانه وتعالى. وجاءت الآيات كمثل قوله سبحانه وتعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:8-9] مثل قول الله (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة:22]، وقوله تعالى: (فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) [النساء:90-91] بعد ذلك قال: (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) [النساء:91]. وأمّا من لم يقاتلكم ولم يصدّ عن دعوة الله تبارك وتعالى ولم يمنع دينكم ما لكم حق تقاتلونهم!
هكذا ذكر القرآن وعلى هذا يُنزل قول النبي ﷺ: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"، فمن هؤلاء الناس؟ يتحدث عن الناس الذين قاتلوه وصدوا عن سبيل الله فهذا هو حكمهم؛ لا عموم الناس، فإنه ﷺ في طول حياته من حين شُرع الجهاد بالقتال، وأُذن للمؤمنين في القتال لم يقصد أحداً في اعتزاله ولا في صومعته ولا في مكانه، بل وكان المحاربون الذين يحاربونه يأسر من يأسر منهم فيُحسن إليهم ويدعوهم إلى الإسلام ويفدي الكثير منهم؛ فهذه سيرته وسنته ﷺ. وإنّما كان القتال لمن صدّ عن سبيل الله ومنع إقامة دين الله تبارك وتعالى وقاتل المسلمين فهو الذي يجب أن يُقاتل ويجب أن يُردّ ظلمه وكيده وكُفره وفجوره وفسقه المُتعدّي إلى الناس الصادّ لهم عن سبيل الله، والذي يُؤذي به عباد الله المؤمنين.
وهكذا جاءت الأحاديث، فمنها هذا الحديث فيما رواه البخاري ومسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام"، وحق الإسلام: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ) [البقرة:194].
حق الإسلام:
وحسابهم في سرائرهم وبواطنهم وما يكنّونه ليس إليّ، قال: هذا أمرٌ تكفّل الله به وهو يحاسب عباده في القيامة، ما أنا رقيب على قلوب الخلق، ولا للأنبياء فضلاً عن أتباع الأنبياء مراقبون للقلوب وللسرائِر فأمرها إلى عالِم الباطن والظاهر جلّ جلاله يحكم فيها ما يريد اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الحج: 69]
وجاء أيضًا في الرواية عنه ﷺ: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حَرُمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقّها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"، وفي رواية عند الإمام مسلم: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما جئت به" والمعنى واحد، ثمّ بالاجتهاد قاتل الخلفاء من امتنع عن أداء الزكاة وكان مصِرًّا على عدم تسليمها وله شوكة ومَنَعة، وذلك في عهد الصديق أبي بكر، ولمّا قال له سيدنا عمر: كيف تقاتلهم وقد قالوا لا إله إلا الله؟ فقال له: إن الزكاة حقّ المال، لو منعوني عناقًا أو عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه"؛ فكان ذلك من الاجتهاد فيما يُشرع ويُباح فيه القتال.
وهكذا بيّن لنا ﷺ حكم من كان حواليه من الناس أهل الأوثان والمشركون من العرب، وكان حوله في الجزيرة بقايا من أهل الكتاب من يهود ونصارى، وقد عامل الكل بما أحبّ ربه وشرعه له، وكان في ذلك المثل الأعلى والأسوة المُثلى ﷺ. فلذلك إثبات الشهادة بمجرّد التصديق والجزم بها وهو كذلك، ويضعف ما مال إليه بعض المنسوبين إلى العلم من أنه ما يتحقق الإسلام والإيمان إلا بنظم الأدلة على طريقة المتكلمين كما يقولون الفلاسفة، وليس ذلك بوارِدٍ في نصوص الكتاب ولا نصوص السنة، والقصد: التصديق الجازم والإيقان بما بعث به ﷺ، وهذا هو المراد وهو الذي يترتب عليه الحكم في الدنيا وفي الآخرة.
وجاءنا بعد ذلك في شأن الذين شهدوا شهادة الحق وأقاموا الصلاة فلم يفعلوا ما يوجب عليهم حدًّا بحكم الشرع المصون، ولكن ظهرات أمارات وعلامات على عدم صدقهم في قلوبهم، وهؤلاء الذين كفّ عنهم ﷺ، وأمر أمته أن لا يتجاوزوا حدودهم معهم ويتركوا حسابهم على الله كما جاءنا في عددٍ من الروايات. منها ما جاء هذا في مسند الإمام أحمد وعند البيهقي وعبد الرزاق، هذا الحديث الذي أورده لنا فيه "جاء رجل من الأنصار إلى رسول ﷺ يستأذنه في قتل رجل من المنافقين" أي: ظهرت عليه علامات النفاق، والقرائن تدل على أنه ما كان صادقًا في دعواه الشهادتين، ولكن أظهر الإسلام، "فقال له النبي ﷺ أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟ قال بلى ولا شهادة له.." يقولها هكذا بلسانه أما علاماتها ما قامت عنده يعني! "قال: أليس يصلي؟ قال: بلى ولكن لا صلاة له.." معه صورة الصلاة، "قال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم"؛ ما دام أظهر الشهادة وأظهر الصلاة لا تحكّم لك على ما في قلبه، فمُقلّب القلوب هو الذي يحكم بين عباده، وهو الذي يجزي كل واحد بما في باطنه. "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، لكن ينظر إلى قلوبكم".
هكذا جاء في رواية الإمام أحمد بن حنبل: يقول رجلًا من الأنصار أتى رسول الله ﷺ وهو في مجلس، فسارّه يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فلما سارّ النبي يعني كلّمه خُفية سراً، النبي ﷺ رفع صوته؛ يعني لأن المسألة فيها حكم شرعي يجب أن يفقهه المسلمون، أمّا هو سارّه وحده وكلّمه في أذنه يستأذنه في قتل فلان بن فلان، النبي يعلمه ويعلم ما عنده من النفاق، ولكنه المشرّع بأمر الخلّاق ما شرعه الخلّاق لعباده، فرفع النبي صوته قال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ الرجل كلّمه يسارّه في أذنه لكن النبي رفع الصوت حتى يفهم الناس الحكم، ويعلموا الشرع في مثل هذه المسائل؛ "قال: بلى يا رسول الله ولكن لا شهادة له، قال: أليس يشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال بلى يا رسول الله ولا شهادة له، يعني: غير قائم بحقها ولا آثار الصدق قائمة عنده. قال: أليس يصلي؟ قال بلى يا رسول الله ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عنهم". ما أنا متعشّق سفك الدماء ولا بُعثت لأقتل الناس، أدّلهم على الله وأهديهم وحسابهم على الله تبارك وتعالى، لكن عندي بيان ومسؤولية وأمانة أؤديها وأقوم بها، ويوم الحكم والفصل والقضاء مقبل على الكل ويأتي ويحكم الله تعالى بين عباده ﷺ.
وبهذا تعلم أن أصناف الذين تجرؤوا وأخذوا يفتشون على قلوب الناس ويحكمون على ما في بواطنهم أو يكفّرونهم أنهم ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا عن منهج الهادي الدليل ﷺ.
أورد لنا الحديث الثاني الذي جاء أيضًا في صحيح مسلم "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله -تبارك وتعالى- حرم دمه وماله وحسابه على الله". "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله.." أنواع الطاغوت، يعني: أظهر التكذيب بالطاغوت كله "..حرم دمه وماله وحسابه على الله" جلّ جلاله وتعالى في علاه، ومهما كان منهم من أظهر ما يحقن دمه ويعصمه فأبطنَ خلافه فالمطلّع على السرائر يحكم عليه؛ وما حكم الشريعة إلا بما يظهر. وكذلك واصل لنا الأحديث الناهية عن التكفير وخطر ذلك، فهذا بين طوائف المسلمين أو بين مجتمع المسلمين وواقع حياتهم لا يجوز التجرؤ على الحكم بعقيدة أحد، ولا بما يكنّ قلبه فالله تعالى أعلم بذلك؛ وإنما شأن الإسلام كبقية الأحكام فيما يتعلّق بالمعاصي والحدود؛ من استتر فلسنا بمُكلفين بالتجسس ومن أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد، ليقوم النظام ولا يُتجاوز الأمر إلى تحكيم الظنون والأوهام، أو اتخاذ الذريعة في قضاء مراد النفس وتحاملها وغلواءها من هنا ومن هناك، فجاء نظام حازم صارم عدل وسط، قال: "..من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد" ومن لم يظهر منه شيء فلسنا بمتجسّسين ولا بمُدّعين معرفة الخفايا والبواطن.
وجاءنا الحديث الذي جاء أيضًا عند الطبراني يقول: "كفوا عن أهل لا إله إلا الله.." كفوا عن أهل إلا الله! لا تؤذوهم ولا تضرّوهم "..لا تكفروهم بذنب،.." ففيه أن الذنوب صغائرها وكبائرها لا تقتضي الخروج عن الإسلام، إنما يخرج عن الإسلام من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو كذّب برسالة أحد من المرسلين أو بلقاء الله واليوم الآخر أو عبد أحداً مع الله، وما عدا ذلك مما لا مجال للتكفير فيه، فمهما عمل من الذنوب فلا يجوز أن يُكفَّر ولا يجوز أن يُنسب إلى الخروج من الملَّة والدين. "كُفُّوا عن أهل لا إله إلا الله لا تُكفِرُوهم بذنبٍ فمن كفَّر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب". والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وذلك كما جاء أيضا في الصحيح: "إذا قال المسلم لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا حارَ عليه"؛ رجع إليه والعياذ بالله، فهذا يعظم كفره المُكفر؛ على عدد الذين كفّرهم وهم غير كفّار عند الله هو كافر على عدد هذا وهذا وهذا... وبهذا فسّر بعض أهل العلم: "وفيها تسعة أعشار الكفر"، على نجد، قال: أنه يظهر المكّفرون فيها ويكفّروا، وفيهم من قال أن الناس من ستمائة سنة كفار، من ستة قرون كلهم كفار!! لا حول ولا قوة إلا بالله، فلو على عددهم الآن هو يرجع الكفر عليه على عدد هؤلاء، ذلك تسعة أعشار الكفر ويجمع الكفر كله والعياذ بالله تبارك وتعالى. فهكذا شأن التجرؤ على تكفير أهل القبلة وتكفير المسلمين، ومهما قال أو فعل ما يحتمل التأويل فلا يُحمل على السوء إلا أن صرّح بذلك وقال، وإن لم يُصرح فيُحمل قوله وفعله على ما هو أبعد عن الكفر، ولهذا يقول أن الذي يُكفّر هو الأقرب إلى الكفر من المكَفرين، كما جاءنا أيضاً في الحديث عن الذي يقرأ القرآن وتظهر عليه بهجته ويتهيأ يكون إمام المسلمين، فيزيد عليه الشيطان يخرج قال ويُكفّر جاره، ويرميهم بالكفر في الحديث، قالوا: "يا رسول الله من أحق بالكفر؟ الرامي أم المرمي؟ قال: بل الرامي"؛ هو الرامي الذي رمى الناس بالكفر هو أحق بالكفر من الذين رماهم والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ثم ذكر أن الحق تبارك وتعالى يختبر المؤمنين ويُنازلهم من الآفات ومن الأمراض ومن البلاء ما يكفّر به ذنوبهم ويرفع به شأنهم، وأنه قد يمهل كثيرا من المنافقين ومن الكفار يقول: "مثل المؤمن كمثل الزرع لا يزال الريح يميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء" أشدكم بلاء الأنبياء ثم العلماء ثم الأمثل فالأمثل، ولو أن المؤمن دخل جحر ضب لسلّط الله عليه من يؤذيه، لا بد يناله شيء في مدة حياته الدنيا، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:155-156]، (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران:186].
وقالوا عن فرعون أنه مرّ عليه أربعين سنة لم يضرب له عرق في رأسه ما قد أصابه صداع ولا حمى أربعين سنة، وبعدين قال: أنا ربكم الأعلى! وبعدين زاد في التكبّر وقال: ما علمت لكم من إله غيري! لا حول ولا قوة إلا بالله. وهكذا مع أن بعض المنافقين وبعض الكفار قد يصيبهم من الآلام أو الأمراض والأسقام ما يصيبهم، ولكن يكثر بين الكفار والمجرمين من يمهَل كما تشاهدون، ولكن إلى حد محدود ولا عاقبة إلا للمتقين، يقول "مثل المؤمن مثل الزرع لا يزال الريح يميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كشجرة الأرز لا تهتز" تقوم قوية ظاهرة حتى تُستحصد تقلع نهائياً ويندفع شرها، "مثل المؤمن مثل الزرع لا يزال الريح يميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كشجرة الأرز لا يهتز حتى يستحصد" والعياذ بالله تعالى.
قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم:44-45]، قال: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42] ومع ذلك فالعاقبة في الدنيا قبل الآخرة محكومة للأنبياء وأتباعهم، (إِنَّا لَنَنصُرْ رُسُلَنَّا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادِ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) [غافر:51-52]، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغَلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21]، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40] ومن الذين ينصرون الله؟ أرباب التعلقات بإقامة أمره واجتناب نهيه من أهل الخائفين والخاضعين لجلاله (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41].
وضرب المثل للمؤمن بالنخلة قال: "مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء لا يسقط ورقها ولا يتحات" قال: هي النخلة. وكما نقرأ في الصحيح أنه ﷺ قال: "أي شجرة تشبه المؤمن؟ وقع الناس في شجر البوادي وغيرها ويقول ﷺ: لا، قال ابن عمر وقع في نفسي أنها النخلة وهبت أن أتكلم في المجلس الكبار، قال: فقال ﷺ: إنها النخلة"، فوجه الشبه من جهة كثرة منافعها وكثرة فوائدها ويكاد يُستنفع بكل أجزائها وما يكون منها فشبّه المؤمن بالنخلة ويقول: "مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء لا يسقط ورقها ولا يتحات، قالوا الشجرة كذا الشجرة كذا؟ قال: لا، قال: هي النخلة" وفي رواية "إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم" أي: لها وجه شبه بحال المسلم من كثرة خيرها ومنافعها وإذا قُطع رأسها ماتت تختلف عن بقية الشجر في هذا لا تحمل حتى تُلقّح، وعلى كل الأحوال هناك أوجه والمقصود أن المؤمن كثير النفع لخلق الله تبارك وتعالى بعيد عن الإضرار بهم.
يقول في رواية "ما أتاك منها نفعك" -النخل- ما أتاك منها نفعك إن كان تمر وإن كان مثمر وإن كان سعف وإن كان حتى جذعها للسقوف وللحطب وغيرها كلها تنفع وهكذا المؤمن نفع لعباد الله تبارك وتعالى.
ويقول "إن الله ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً على كنفي الصراط، داران لهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه، والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فالصراط هو الإسلام، والأبواب محارم الله، والستور حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر، والداعي على رأس الصراط هو القرآن والداعي فوقه واعظ الله في قلب كل مؤمن".
فهكذا جاء في سنن الترمذي يقول: "إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كنفي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة على الأبواب ستور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه، والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والأبواب التي على كنف الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر، والذي يدعو من فوقه واعظ ربه الذي يجده المؤمن في قلبه وفي فؤاده" لا إله إلا الله. جاء هذا الحديث عند الحاكم
وكان يقول: "بدأ الإسلام غريبا" مستغربا بين الناس لما ألفوا من عبادة الأصنام ومن انتشار أنواع الشرور بينهم "وسيعود غريبا كما بدأ وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء" كما جاء في صحيح الإمام مسلم، لا إله إلا الله! يعني بدأ في قلة من الناس ثم انتشر، وسيعود كما بدأ لا إله إلا الله، وسيعود غريبا كما بدأ فيصير الثابت عليه والقائم بحقه يُستغرب بين الناس ويصير قليلا من افتتان الناس بما يُعرض عليهم من خطط إبليس على أيدي شياطين الإنس والجن، فيغترون بذلك ويبقى الثابتون الصادقون قليل فطوبى لهؤلاء القليل، فطوبى للغرباء المتمسكين المتشبثين الثابتين بديل الإسلام فطوبى للغرباء لا إله إلا الله.
جاء في الحديث الذي هو عند الطبراني "ما الغرباء؟ قال: قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصي هؤلاء الصالحين والطيبين أكثر من من يطيعهم، يطيعهم قليل" الآن يقول لك الوقت ثاني وذا يقول هذا كلامه حق وصحيح لكن ما نقدر الزمان ثاني، وهذا يقول لك بضيع نفسي إن مشيت خلف هذا، وهذا يقول لك الآن الناس في عالم آخر وذلك عادهم، فيعصونهم وما يطيعهم إلا القليل هؤلاء الغرباء رافعي القدر عند الله وعند رسوله ﷺ الحائزين لحقائق السعادة الكبرى في الأخرى.
وهكذا بيّن في الحديث الآخر "أن للدين إقبال وإدبار وإن من إقبال الدين أن تفقه القبيلة كلها إلا القليل من المعذبين إن تكلم هذا القليل رُدَّ عليهم، وإن من إدبار الإسلام أن تجهل القبيلة كلها ولا يبقى فيهم اثنين ثلاثة من أهل الفقه والدين إذا تكلموا رُدَّ عليهم كلامهم وهذا من إدبار الإسلام"؛ ومع ذلك فهو من وقتٍ لآخر يجدده الله تعالى ويظهره في الآفاق حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
رزقنا الله التحقق بحقائق الإسلام والإيمان، ورقّانا مراتب الإحسان وجعلنا في أهل الصدق والإخلاص والإيقان، وطهّرنا من جميع الدنس والأدران، ودفع عنا شرّ الإنس والجان، وجعلنا في أهل القرآن واتباع سيد الأكوان في كل شأن في السر والإعلان، وطهّر لنا كل جنان وثبّت لنا كل قلب ولسان وجعلنا من الذين سبقت لهم منه الحسنى وختم لهم بها في عافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ .
22 ذو القِعدة 1444