كشف الغمة -131- كتاب الصلاة (23) أحكام المساجد وآدابها (5)

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كتاب الصلاة (23) أحكام المساجد وآدابها (5)

 صباح الأحد 16 رجب 1445هـ

يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:

  •  النهي عن التحلُّق قبل الجمعة في المساجد
  •  ما هو التلاعن بين الزوجين؟
  •  رفع الصوت بالذكر الجماعي في المسجد
  •  أحكام الكلام في المسجد
  •  أدب الأصوات في مسجد النبي ﷺ
  •  متى يجوز دخول الحائض والجنب للمسجد؟
  •  رفع العذاب بسبب أهل المساجد
  •  رضا الله عن زائري المساجد
  •  المسجد بيت كل تقي
  •  إنشاد الشعر الطيب في المسجد
  •  جواز الشعر بالمسجد بحسب مضمونه
  •  حكم النوم في المسجد
  •  تنزيه المساجد وتعظيمها
  •  حكم سؤال الصدقة في المسجد

نص الدرس مكتوب:

"وكان ﷺ ينهى عن التحلُّقِ يوم الجمعة قبل الصلاة. وتلاعن عنده ﷺ مرةً رجلًا وامرأته في المسجد وأقرّهما على ذلك، قال: مالك -رضي الله عنه- ولما رأى عمر -رضي الله عنه- كثرة لغط الناس في المسجد بنى لهم رحبةً في ناحية المسجد تسمى: البطيحاء، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوته فليخرج إلى خارج المسجد في هذه الرحبة.

وكان -رضي الله عنه- يضرب بالدرة من يراه يرفع صوته في المسجد، ويقول: ترفعون أصواتكم في مسجد رسول الله ﷺ!. قالت عائشة - رضي الله عنها-: ولما رأى رسول الله ﷺ وجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد قال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل رسول الله ﷺ ولم يصنع شيئاً؛ رجاء أن ينزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد ذلك قال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب"، وتقدم في باب الغسل إباحة الجلوس في المسجد لرسول ﷺ وأزواجه وأولاده، وسيأتي أيضًا في الخصائص أوائل باب النكاح.

وكان ﷺ يقول: "إذا أراد الله - عزَّوجل- بإنزال بلاء صرفه عن سكان المساجد"، وكانﷺ يقول: "ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تَبَشْبَشَ الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدِمَ عليهم"، وكان رسول الله ﷺ يقول: "المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله - عزَّوجل- لمن كان المسجد بيته بالرَّوحِ والرَّحمة والجواز على الصراط إلى الجنة". 

 

فرعٌ: وكان ﷺ يرخِّصُ في إنشاد الشعر الذي فيه ردٌّ على الكفار، أو حكمة وحث على مكارم الأخلاق، وينهى عما فيه ضد ذلك"، وكان ﷺ يضع لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- منبرًا في المسجد ينافح عن رسول الله ﷺ كفار قريش، ودخل عمر -رضي الله عنه- مرة المسجد فوجد حسان -رضي الله عنه- ينشد فيه فلحظه عمر -رضي الله عنه- فقال له حسان: مالك لقد أنشدت فيه بين يدي من هو خير منك رسول الله ﷺ، فتركه عمر -رضي الله عنهما-، وقال: النابغة الجعدي: أنشدت رسول الله ﷺ وأنا عن يمينه: 

ولا خير في حلم إذا لم يكن له***بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له***حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا 

فقال لي رسول الله ﷺ: "أجدت لا يفضَضُ فوك مرتين"، قال يعلى بن الأشرف فلقد رأيته بعد مائة وعشرين سنة وإن أسنانه كالمبرد، وكان بريدة -رضي الله عنه- يقول: أعان جبريل -عليه السلام- حسان بن ثابت -رضي الله عنه- حين مدح رسول الله ﷺ بسبعين بيتا. 

وكان ﷺ يرخص في ذكر أشياء من أمر الجاهلية في المسجد وربما تبسم مع أصحابه إذا تبسموا تأليفًا لخواطرهم، وكان ﷺ يقول: "كل كلام في المسجد لغو إلا القرآن وذكر الله تعالى، ومسألة عن خير أو إعطاؤه"، وكان ﷺ يستلقي في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى وكان ينهى غيره عن فعل ذلك. وكان ﷺ يقول: "إذا وجد أحدكم القملة وهو يصلي فليصرها حتى يصلي ولا يلقها في المسجد" وسيأتي في باب شروط الصلاة أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان يدفن القملة في حصباء المسجد ويقول: "ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا". 

وكان عمر -رضي الله عنه- إذا دخل المسجد الحرام أو بيت المقدس يقول: "لبيك اللهم لبيك"، وكان ﷺ يأمر بوضع الحصا في المسجد ويقول: "هو أعفر للنخامة وألين في الموطئ"، ولما دخل عمر -رضي الله عنه- الشام أمر أن لا يتخذ في المدينة مسجد يلي المسجد الأعظم الذي تقام فيه الجمعة".

آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ،  كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن

 

 الحمد لله مكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريته عبده وصفوته، سيدنا محمد صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه وعترته وأهل ولائه ومحبته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 ويواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله تعالى- ذكر الأحاديث الواردة في ما يتعلق بآداب المسجد، يقول: "وكانﷺ ينهى عن التحلُّقَ يوم الجمعة قبل الصلاة"؛ فإنه يوم استعداد للفريضة والشعيرة؛ فلا ينبغي أن تكون التحلّقات في المسجد في ذلك الوقت؛ بل يُنتظر الفرض والشعيرة من خطبة الإمام وصلاة فريضة الجمعة؛ ويُشتغل قبل ذلك بأنواع النوافل والقراءة، ثم إنه حدث بعده أن تحوّلت حِلق قبل الجمعة للقصّاص الذين يتصدّون لوعظ الناس على غير رسوخ في العلم، وعلى غير بصيرة، والذين يرفون من الكلام ما له سند وما ليس له سند، والذين يحبّون أن يتفاخروا بين الناس بكلامهم، أو أن يظهر في مجالسهم ميزة حضور أو خشوع  أو ما إلى ذلك، ترائيًا وتجملًا للناس. فكانت مجالس القصّاص التي نهى عنها السلف الصالحين، وبقي شأن العلم النافع لا حرج في ذلك، والأولى أن يخصّص يوم الجمعة للعبادة، ويُكتفى بالخطبة؛ خطبة الجمعة للتذكير وللوعظ والإرشاد، وبيان الحلال والحرام، والنهي عن التحلّق يوم الجمعة قبل الصلاة رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن أبي شيبة.

 كذلك ما ذكر من التلاعن -يجوز- وهو: لعان الزوج لزوجته ولعانها له، وذلك إذا علم بالدلالة الواضحة أنها خانت وأنها حملت من غيره، فينفي المولود الذي حملَتْ به فلا يكون ابنه، ويشهد (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [سورة النور:6-7]، ثم إما أن تعترف، أو يُقام عليها الحد بحلفه إلا أن تحلف (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامسةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [سورة النور:8-9].

فهذا التلاعن من أجل توقير اليمين؛ وإثارة الخشية يُطلب له أعظم المواضع وأفضل الأماكن ليتغلّظ الأثم فيه؛ وليكون أهيب عن التسارع إلى الدخول فيه بغير بصيرة وبيّنة، فيُغلّظ اللعان بالمكان يكون في أشرف مواضع البلدة التي هم فيها:

  • فإن كانوا في مكة المكرمة فبين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين مقام إبراهيم عليه السلام.
  • وفي المدينة المنورة يكون عند المنبر مما يلي القبر الشريف.
  • وفي بيت المقدس يكون في المسجد عند الصخرة؛ لأنها أشرف بقاعه فهي قبلة الأنبياء -صلوات الله عليهم-.
  • وغير المساجد الثلاثة في البلدان الأخرى يكون عند منبر الجامع. 
  • ولكن إذا كانت المرأة حائض فعند باب الجامع تلاعِن من عند الباب.

وهكذا بعد ذلك سيكون أحدهما كاذب فيحلّ عليه اللعنة أو الغضب -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

ثم قال: "ولما رأى عمر -رضي الله عنه- كثرة لغط الناس في المسجد بنى لهم رحبةً في ناحية المسجد تسمى: البطيحاء، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوته فليخرج إلى خارج المسجد في هذه الرحبة"، وبذلك:

  • قال الحنفية: يُكره رفع الصوت في المسجد.
  • ويقول الإمام الشعراني: أجمع العلماء سلفا وخلفا على استحباب ذكر الجماعات في المسجد وغيرها؛ إلا أن يشوش جهرهم على نائم أو مصلي، وصرّحوا بكراهة الكلام المباح في المسجد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والكلام المباح كما ينقل ابن عابدين في حديث الدنيا يجوز في المسجد وإن كان الأولى أن يشتغل بذكر الله -تبارك وتعالى-.
  • ويقول المالكية: أنه يُكره الكلام في المساجد بأمر من أمور الدنيا، وقالوا: يُكره رفع الصوت في المسجد بذكر أو قرآن وعلم فوق إسماع المخاطب ومحل كراهة الصوت ما لم يخلِّط على مصلٍ وإلا يصير أقرب إلى الحرمة. 
  • ويقول الحنابلة: يُكره أن يخوض في شيء من شؤون الدنيا في المسجد، يُكره أن يخوض في حديث الدنيا وهو في المسجد، وينبغي أن يُصان المسجد عن اللغط وكثرة الحديث -اللغو-.
  • ويذكر الشافعية: أن الكلام المباح يجوز التحدّث به في المسجد؛ لحديث جابر بن سمرة: "كان  لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة، حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم" -أخرجه الإمام مسلم-، فيأخذ بخواطرهم ويُجزئ لهم الكلام من دون تشويش على مصلٍ ونحوه من دون لغط ورفع صوت.

"وكان -رضي الله عنه- يضرب بالدرة من يراه يرفع صوته في المسجد، ويقول: ترفعون أصواتكم في مسجد رسول الله ﷺ!. قالت عائشة - رضي الله عنها-: ولما رأى رسول الله ﷺ وجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد" -يعني: مفتوحة إلى جهة المسجد- "قال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد"، -وقال: سدُّوا عني كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- "وقال: فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب"، 

 وجاء في الأحاديث استثنائه ﷺ سيدنا علي بن أبي طالب وأمهات المؤمنين، وجاء عن سيدنا عمر في رواية عبد الرزاق: أنه دخل يومًا المسجد فإذا برجلين قد ارتفعت أصواتهما فبادراه -يعني فرّوا هربوا- فأدرك أحدهما فضربه وقال: ممن أنت؟ قال: من ثقيف، قال: إن مسجدنا هذا لا يُرفع فيه الصوت" وفي رواية: "أنه استوقفهما فسألهما وقال: ممن أنتما؟ قالا: من ثقيف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، أترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله؟! وقد سمعتم الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [سورة الحجرات:2].

ويذكرون عن بعض أئمة المسجد الحرام كان من الأخيار الصالحين أنه لمّا حدث الميكروفون -هذا مكبر الصوت- في المسجد أبى أن يصلي فيه، وقال: كيف أرفعُ صوتي فوق النبي ﷺ ما أرضاه! فأكرهوه بواسطة الدولة أنه لابد يستعمل هذا لكي يُسمع المأمومين والناس، فصلى صلاة واحدة ثم مات بعدها لا إله إلا الله، فهي مواطن أدب المساجد عامة والمسجد الثلاثة خاصة، ومسجده -عليه السلام- بوجه أخص؛ لأن فيه قبره الشريف فهو يسمع ما يدور هناك وما يقال ﷺ مباشرة؛ إن كان الميت يسمع قرع نعال أصحابه إذا انصرفوا عنه؛ فسماع رسول الله ﷺ أوسع وأقوى ﷺ

ولذا يُروى في الحديث: "من صلّى عليّّ عند قبري أو حول قبري سمعته، ومن صلّى علي بعيدا بُلِّغتُه" ﷺ. 

وبعد ذلك قال: وقال: "فإني لا أحلُّ -أجيز- المسجد لحائض ولا جنب"، فهكذا لا يجوز إلا في حالات الضرورة كالخوف على نفس أو مال، أو يكون بابه إلى المسجد ولا يمكن تحويله.

وأما دخوله مارًا الجنب والحائض اذا أمنت التلويث:

  • قال الشافعية والحنابلة: لا يُمنع من العبور من دون توقف ولا تردد في المسجد؛ ولكن يمر مرورًا لقوله تعالى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [سورة النساء:43]، فالمارّ يمر.
  • قال الحنفية وكذلك أكثر المالكية: لا يمكن لا دخول بجلوس ولا استقرار، ولا تردد ولا بمرور، ما يمكن يمرّ في المسجد جنب ولا حائض، يبتعدون ويروحون طريق آخر، ولا يتخذون المسجد ممر.

فهكذا عند الشافعية والحنابلة وبعض المالكية إنه يجوز المرور، وقال أكثر المالكية والحنفية: لا يجوز للجنب أن يمرّ ولا أن يمكث، فضلًا على أن يمكث حتى المرور ما يجوز له ولا للحائض.

وإن كانت لا تأمن التلويث:

  • وهكذا قال الشافعية: إن كانت الحائض تأمن  تلويث المسجد فيجوز العبور، وإن خافت التلويث فلا. 
  • وقال الحنابلة: أما الحائض فتُمنع إن خافت تلويثه، فإذًا مذهب الشافعية والحنابلة واحد في المسألة. وبعض المالكية وأكثر المالكية والحنفية قالوا: بتحريم العبور والمرور.

يقول: وكانﷺ يقول: إذا أراد الله -عز وجل- بإنزال بلاءٍ صَرَفه عن سكان المساجد، وجاء في لفظٍ آخر -في رواية أخرى- أن الحق تعالى يقول: "إنّي لَأَهُم بالعذاب على أهل بلدة فإذا نظرت إلى عمّار بيوتي والمتحابين فيّ والمستغفرين بالأسحار صرفت عذابي عنهم"؛ "إذا أراد الله - عزَّوجل- بإنزال بلاء صرفه عن سكان المساجد"

وكان ﷺ يقول: ما توطّن رجل المساجد للصلاة والذكر.." فأهل العبادات من مثل سكان المساجد وعامريها وأمثالهم مهما نزل بالأمة بلاء أو شدة أو فتنة يكون حظهم ألطف وأخف، إن الله يلطف بعباده المؤمنين عند الشدائد والبلايا.

 يقول: وكان ﷺ يقول: "ما توطّن رجل المساجد.." جعلها وطنه أي: أكثر الاعتكاف فيها والتردد إليها، "للصلاة والذكر إلا تَبَشْبَشَ الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدِمَ عليهم"، وسرورهم به وتبسّمهم في وجهه تبشبش الناس، ففرحهم بقدومه وإقبالهم عليه وتبسّمهم في وجهه وأخذهم بخاطره هذا هو :التبشبش. قال: إن الحق تعالى يرضى عن الذي يتردد إلى المسجد ويُكثر القيام فيه، ويحب مجيئه إلى المسجد ويكون له من الرضا عند الله ما عبّر عنه بتبشبش أهل الغائب بالغائب إذا قَدِم عليهم فرحين بقدومه، ومستقبلين له بعواطفهم ومشاعرهم وإحسانهم وسرورهم، فهذا يكون له منزلة عند الله كما تكون المنزلة عند الأهل إذا قدم الغائب منهم الذي يحبونه فوفد عليهم بعد غيبة، وكذلك هذا من توطّن المسجد كل ما خرج لحاجة ما يرجع المسجد إلا والملائكة يتباشرون به، والحق تعالى يرضى عنه ويُقرّبه ويّنزّله لديه منزلة.

وفي مسند الإمام أحمد: "إن للمساجد أوتاداً الملائكة جلساؤهم، إن غابوا يفتقدونهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم" وإن ماتوا حضروا جنائزهم، تألفهم الملائكة المتوكّلين بالمسجد فإذا كان كل يوم بمجرد ما يغيب أي يوم يسألون عنه، أين فلان بن فلان كأنه ما حضر اليوم!؟ فإن كان في مرض عادته الملائكة، وإن كان في حاجة أعانوه، وإن كان مات شيّعوه وحضروا جنازته مكافأة له على حضور المسجد.

وفي المساجد سرٌّ ما جلست بها***إلا تعجبت ممن يسكن الدورا

يقول: "المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله - عزَّوجل- لمن كان المسجد بيته بالرَّوحِ والرَّحمة والجواز على الصراط إلى الجنة"، أي: يُقضّي عامة وقته في المسجد، فالأتقياء ترتاح أرواحهم وقلوبهم في المساجد، وفي الخبر أيضًا: أن المؤمن في المسجد كالطائر في البستان يتنقّل من شجرة إلى شجرة أي: فرح مسرور، وإن المنافق في المسجد كطائر أخرج من القفص رأسه وبقيت رجلاه فهو معلّق يريد أن يفر؛ هذا حال المنافقين في المساجد، وحال المؤمنين في المساجد روح وأُنس وفرح مثل الطائر المُتنقل في البستان من شجرة إلى شجرة، هذا يتنقل من ذكر إلى قرآن إلى دعاء إلى تسبيح إلى تحميد إلى صلاة على النبي إلى علم إلى عمل وهكذا.

قال: "وتقدم في باب الغسل إباحة الجلوس في المسجد لرسول ﷺ وأزواجه وأولاده، وسيأتي أيضًا في الخصائص أوائل باب النكاح". وبيوتهم إلى المسجد كبيت ابنته فاطمة وسيدنا علي، لهم باب إلى المسجد، في بيوتهم أبواب إلى المسجد، وأمر البقية أن يغلقوا الخوخات إلى المسجد إلا خوخة سيدنا أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-، وقال: "إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومَالِهِ أبو بَكْرٍ، ولو كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِن أُمَّتي لَاتَّخَذْتُ أبَا بَكْرٍ" خليلا.

يقول: "المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله - عزَّوجل- لمن كان المسجد بيته بالرَّوحِ والرَّحمة والجواز على الصراط إلى الجنة". أخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب والبزار في المسند وقال المنذري في الترغيب والترهيب إسناده حسن، ضمانًا من الله لمن كان المسجد بيته بالرّوح والرحمة والجواز على الصراط إلى الجنة ما شاء الله.

يقول: "وكان ﷺ يرخِّصُ في إنشاد الشعر الذي فيه ردٌّ على الكفار، أو حكمة وحث على مكارم الأخلاق، وينهى عما فيه ضد ذلك"، "وكان ﷺ يضع لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- منبرًا في المسجد ينافح عن رسول الله ﷺ كفار قريش". "ودخل عمر -رضي الله عنه- أيام خلافته مرة المسجد فوجد حسان -رضي الله عنه- ينشد فيه فلحظه عمر -رضي الله عنه-"، وفي رواية قال أشعر في مسجد رسول الله- "فقال له حسان: مالك لقد أنشدت فيه بين يدي من هو خير منك رسول الله ﷺ، فتركه عمر -رضي الله عنهما-"، وفي رواية: قال:فانصبوا لحسان كرسي. 

كما جاء أنه لما سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة قال له: "أنْشُدُكَ باللَّهِ، أسَمِعْتَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: أجِبْ عَنِّي-أي: عن رسول الله ﷺ- اللَّهُمَّ أيِّدْهُ برُوحِ القُدُسِ؟ قالَ: نَعَمْ"، يعني: دافع عن رسول الله ﷺ ورُدَّ على الكفار هجائهم، وهكذا جاء في رواية أبي داود وفي رواية مسلم والنسائي، وأصل الحديث في البخاري كذلك أنه: "مَرَّ عُمَرُ في المَسْجِدِ وحَسَّانُ يُنْشِدُ فَقالَ: كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ، وفيهِ مَن هو خَيْرٌ مِنْكَيعني: رسول الله ﷺ.

فإذًا كما يقول عامة الفقهاء: العبرة بمضمون الشعر؛ إن كان حسن جاز إنشاده في المسجد وإلا فلا، هكذا يقول عامة الفقهاء للشريعة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، فحملوا ما رخّصَ فيه ﷺ وما سمعه على ما تعلّق بالمصالح والخير والحثّ عليه، وذِكرِ الله وذِكرِ الدار الآخرة أو مدح المصطفى ﷺ وما تعلّق بذلك، فهذا لا شيء في إنشاده في المسجد. 

وقد كان حسان بن ثابت ينشد الرسول ﷺ الشعر في المسجد، وأنشده كعب بن زهير قصيدته المشهورة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول. وقال: هذا في كل ما يتعلّق بالحكمة وبالخير فهو يباح، وأما ما عدا ذلك فيمنع في المسجد. "وقال: النابغة الجعدي: أنشدت رسول الله ﷺ وأنا عن يمينه -يعني في المسجد-

ولا خير في حلم إذا لم يكن له***بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

 ولا خير في جهل إذا لم يكن له***حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا 

فقال لي رسول الله ﷺ: "أجدت لا يفضَضُ فوك مرتين"، قال يعلى بن الأشرف فلقد رأيته بعد مائة وعشرين سنة وإن أسنانه كالمبرد"، كل واحد ثابت في مكانه قوي وما فُضّ فوه بدعوة سيد الوجود ﷺ.

 

"وكان بريدة -رضي الله عنه- يقول: أعان جبريل -عليه السلام- حسان بن ثابت -رضي الله عنه- حين مدح رسول الله ﷺ بسبعين بيتا"، أي: ألقاها في روعه ينشدها وهو ينشد، يقولها سيدنا حسان يجدها في باله من بَثّ جبريل -عليه السلام-؛ مشاركةً من جبريل في مدح النبي الجليل ﷺ. 

"وكان يرخّص في ذكر أشياء من أمر الجاهلية في المسجد، وربما تبسّم مع أصحابه إذا تبسموا تأليفًا لخواطرهم"، كما جاء في رواية مسلم والترمذي والإمام أحمد. "وكان ﷺ يقول: "كل كلام في المسجد لغو إلا القرآن وذكر الله تعالى، ومسألة عن خير أو إعطاؤه"، "وكان ﷺ يستلقي في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى وكان ينهى غيره عن فعل ذلك"، رواه أبو داود والترمذي.

أما ما يتعلق بمثل الصدقة ونحوها في المسجد فذلك وارد وثابت، وأما ما يتعلق بالنّوم فذلك أيضًا فيه رخصة ورَدَت، أما بالنسبة للمعتكف له أن ينام في معتكفه، فالنبي ﷺ لم يكن يأوي في اعتكافه إلا إلى المسجد. وكذلك يقول المالكية: يجوز النوم بقائلةٍ، وكذا بليل لمن لا منزل له أو عسر الوصول إليه، وأما المعتكف فمدة اعتكافه ينام في المسجد. وهكذا يقول الشافعية: يجوز النوم في المسجد.

يقول عبدالله بن عمر: أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي ﷺ. كذلك يقول الحنابلة: لا بأس بالاجتماع في المسجد والأكل فيه والاستلقاء. 

وكان ﷺ يقول: "إذا وجد أحدكم القملة وهو يصلي فليصرها حتى يصلي ولا يلقها في المسجد" فإنه إلقاءها وهي ميّتة حرام، وإلقاءها وهي حيّة ربما آذت أحد المصلين فيلقيها خارج المسجد، وسيأتي في باب شروط الصلاة أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان يدفن القملة في حصباء المسجد ويقول: "ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا"، وفي رواية "فلُفَّها في ثوبك حتى تخرج منه" أي: من المسجد، فإذا كانت ماتت فيُحرم إلقاؤها في المسجد لأنها نجاسة. "إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها.." في ثوبه حتى يخرج من المسجد، جاء في مسند أحمد بسند صحيح، وهكذا يجب أن تُنزّه المساجد، وأن تُعظّم.

وكان عمر -رضي الله عنه- إذا دخل المسجد الحرام أو بيت المقدس يقول: "لبيك اللهم لبيك"، وكان ﷺ يأمر بوضع الحصا في المسجد ويقول: "هو أعفر للنخامة وألين في الموطئ"، أي: يمهد. "ولما دخل عمر -رضي الله عنه- الشام أمر أن لا يتخذ في المدينة مسجد يلي المسجد الأعظم الذي تقام فيه الجمعة"؛ لأنه كالمضادة والمعاندة فيبقى المسجد وحيدًا هناك لا تزاحمه مساجد أخرى؛ لأنه محل اجتماع أهل البلدة.

السؤال في المساجد مكروه -سؤال الناس- لأنه لا ينبغي أن يُسأل في المسجد إلا الرّب -جل جلاله- ولكن ما يُجاب عليهم بشيء من الدعاء عليهم، كمن يبيع ويشتري، ولكن يُرشدون يقول: لا تسأل في المسجد خير لك، اخرج خارج المسجد أفضل لك لا يُسئل في المسجد غير الرّب، وأمثال هذا يمكن يقال، أما الدعاء عليه فما ورد شيء من الدعاء على السائلين، وشرّ السؤال سؤال المساجد أبغض المسألة إلى الله.

 رزقنا الله الإنابة والخشية والاستقامة، وأتحفنا بالمنن والمواهب والمزايا والكرامة، وربطنا بحبيبه محمد ﷺ في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة ودار المقامة، ولا فرّق بيننا وبينه ولا أبعدنا عنه، وجعلنا من أسعد أمته به وبقربه وبمحبته وبنصرته، وبتبليغ دعوته وبنشر شريعته، وبإحياء سنته في لطفٍ وعافية.

 

بسرّ الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة

 

 

تاريخ النشر الهجري

21 رَجب 1445

تاريخ النشر الميلادي

31 يناير 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام