(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) للإمام عمر بن سقاف السقاف رضي الله عنه
الدرس التاسع: شرح قوله: واطلب من المولى الذي تريده
عصر يوم الأربعاء 11 محرم 1446هـ.
لتحميل القصيدة pdf:
واصبر إِذَا مَا العُسر حَلَّ نَادِيـكْ *** يُسْرَان بَعْدَ الْعُسْرِ سَوْفَ تَأْتِيك
سَلِّمْ لِتَسْلَمْ، فَالْهَـــــنَاءْ يُوَافِيـــكْ *** وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ
وَاطْلُبْ مِنَ المَوْلَى الَّذِي تُرِيدُهْ *** فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَالْوَرَى عَبِيـــدُهْ
حَقَّاً، وَمِفْتَـــاحُ الغُيُوبِ بِيــــدهْ *** هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ
الحمد لله، تأمّلنا بعض معاني هذه الكلمات العظام، ووصلنا إلى قوله:
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ، فَالْهَـــــنَاءْ يُوَافِيـــكْ *** وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ"
وهكذا يُهنّأ الصادقون مع الله والمقبلون بالكلية عليه، إذا انتهوا إلى مراتب القرب منه -سبحانه وتعالى- والمعرفة به، والمحبة منه والمحبة له، والرضا منه -جل جلاله- والرضا عنه، فيهنأ لهم العمر، ويشربوا من شراب غاية في الرواق، رائق بكل معنىً فائق، رائق على القلب والروح والسر، رائق في صفاء المعرفة، ورائق في صفاء المحبة، ورائق في صفاء الشهود.
"وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ"، قال سيدنا الإمام الحداد: راحُ اليقين؛ شراب اليقين: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين
راحُ اليقين أعــزّ مشروب لنــــا *** فاشرب وطِب واسكر بخير سُلاف
هذا شراب القوم سادتنا
هذا شراب ما تستطيع مصانع الأرض أن تصنعه، ولا يوجد في شيء من النباتات الظاهرة، لكن هذا الشراب في ساحات الصدق في الإقبال على منهج جامع الكمال، مفيض النوال سادن حضرة الجلال: محمّد خاتم الإنباء والإرسال، قد يجده من أقبل منكم بصدق في هذه الليالي وفي هذه المحال وفي هذه المجالس؛ فيُسقى..
وبلّةٌ من كاسها المختـــوم *** تملأ رياض القلب بالعلوم
وتحفظ الفهم عن الوهوم *** وتُطلق العقل عن العقال
يقول: "وَاطْلُبْ مِنَ المَوْلَى" الذي تولّاك فأوجدك من العدم، ثم تولّى تكوينك من نطفة رعاها وجعلها في قرار مكين، وحوّلها إلى علقة، ورعاها وتولّاها فحوّلها إلى مضغة، ورعاها فحوّلها إلى هيكل عظمي ورعى هذا الهيكل فأنبت فيه اللحم، ثم تكرّم بنفخ الروح، وكان قد خلق روحك ورعاها وأحلّها في السماء، ثم جُعلت في جسدك هذا قفصًا لها إلى وقتٍ معلوم؛ فهو مولاك.. فاطلب من المولى..
ثم يسّر لك السبيل فخرجت من بطن أمك، ثم رعاك في صباك وقذف في قلب والديك رحمتك والرأفة بك، ولولا ذلك لرموك، ولولا ذلك لتركوك حتى تموت، ولكن سلّط على قلوبهم الرحمة والرأفة والحنان إلى حد ما ينامون حتى تنام، وينظفون أوساخك ولو كانوا على طعام، ولا يتأففون منك، وهكذا.. وحوّلك في زمن الطفولة من حال إلى حال، وعلمك تجلس، وعلمك تحبي، وعلمك تمشي على قدميك، تقوم ثم تمشي على قدميك؛ أعطاك كل هذا مولاك.. هذا مولاك.
احذر أن تكون لك هذه الولاية كلها وأنت تنزل تحت، تقول: أريد ا
"وَاطْلُبْ مِنَ المَوْلَى" الذي تولّاك في شؤونك كلها ولاية لا يقدر غيره يتولاك بها، ولا يقدر غيره يكوّنك بها، ولا يُنشئك بها. ثم تولّانا ولاية خاصة؛ جعلنا في خير أمة من المسلمين المؤمنين في أمة سيد المرسلين، الله.. إيش المولى ذا الذي تولّى! بعد ذلك إذا هداك للتعلق بالسير في الطريقة والاستمساك بالعروة الوثيقة فنِعمَ المولى.
"وَاطْلُبْ مِنَ المَوْلَى الَّذِي تُرِيدُهْ"، ما يخطر على بالك من خيرات الدنيا والآخرة، ولكن انظر إنه يرقب قلبك: ما مطامحك؟ ما أطماعك؟ ما مراداتك؟ احذر أن يتولاك هذه الولاية كلها وأنت تنزل تحت! تقول: أريد الفلوس والدار والثياب... انتهيت هنا؟ بعد الولاية كلها والتجلّي وهيأك لفوق! فإذا ستطلب هذا في آخر شيء.. أين رغبة قلبك في قربه؟ أين تعلق روحك بحبه؟ أين طمع سرّك في شهوده؟ أين مطمحك وأمنيتك في مرافقة حبيبه ﷺ ؟
"وَاطْلُبْ مِنَ المَوْلَى الَّذِي تُرِيدُهْ" كل ما تريده عنده، وفي الغالب ما يُسَلِّط على قلبك التوجّه في أمر إلا وهو يريد أن يعطيك إياه.
لذا كان يقول الإمام عبدالله بن حسين بن طاهر: إذا ألهم قلبك تطلبه شيء فلا تستعظم ذلك الشيء؛ فإنه ما أورده على قلبك ويسّر لك تكرار طلبه إلا وهو في سابق علمه أراد أن يعطيك إياه بإرادته جلّ جلاله.. لا إله إلا الله.
قال سيدنا عمر بن عبد العزيز لما سألوه كيف يجيئون لك الآن بثوب خشن بأربعة دراهم وتقول ما أحسنه لولا ليونة فيه! وكنت من أول في سابق شبابك وعمرك يجيئون لك بثوب ألين بكثير وأفخم بأربعة مئة درهم وتقول ما أحسنه لولا خشونة فيه؟! قال: إن لي نفسًا تواقة ذوّاقة كلما ذاقت شيء تاقت إلى ما فوق، حتى ذاقت من هذه الدنيا الملك، فتاقت إلى ما فوق.. فأنا الآن نفسي تتوق إلى ما فوق الدنيا كلها وملكها وما فيها، قال: لذا صار هذا عندي ليّن وهو خشن، في زهده -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، فهكذا طلب. وهذا يقول: اتقوا الله فيما تهمّون به إني هممت بالخلافة فنِلتها! فانظر تهمّ بماذا؟ ويعظم طلبك لأي شيء؟ أي شيء كان؛ يعطيك إياه.
"وَاطْلُبْ مِنَ المَوْلَى الَّذِي تُرِيدُهْ" مولاك قوي، مولاك قادر، مولاك عليم حكيم ورحيم وكريم وعظيم، إلا أنه فوق ما تظنّ وتتخيل، هو أحكم وأعلم من الاستعجال في الأشياء، وهو يُرتّب لك ويُقدّر من دفع الآفات والأسواء والشرور، ونيل المنح والمزايا والأجور ما لا يخطر على بالك، ومالا ينتهي إليه طمعك، وهذا حاله مع من صدق معه، فألِحّ في الطلب وقدِّم رفيع المطالب، وألِحّ على الله تعالى بها، واطلب كل ما تريد بعد ذلك ولو مِلح عشاك.. "وَاطْلُبْ مِنَ المَوْلَى الَّذِي تُرِيدُهْ *** فالأمر أمره"، (إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ) [يس:82]، جلّ جلاله.
"فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَالْوَرَى" الخلق في أصنافهم إنسًا وجنًا وملائكة، وحيوانات ونباتات وجمادات وسماوات وأرض وعرش وكرسي ودنيا وبرزخ وآخرة وجنة ونار؛ عبيده.. ملكه وعبيده من أولهم إلى آخرهم، كل ذرة من ذرات الوجود والكائنات مُلك له، وكل إنسان وكل جان وكل مَلَك؛ "عَبِيـــدُهْ" عبيده.
فلنا الشرف بعبوديتنا لله، ويا ما أخس حالهم بعبوديتهم للأهواء وللشهوات وللسلطات وللملاذ الفانية؛ هم عبيدها، ما يغرّك يقول لك: هذا مثقف أو متطور أو مفكر أو مخترع… عبد شهوة وعبد هوى وعبد نفس.. ساقط! وأنت في شرف عبد رب العرش العظيم، إيش الكرامة هذه! (وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء:172-173].
"فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ" ولا يكون إلا ما أراد، وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن.
"وَالْوَرَى عَبِيـــدُهْ" من أولهم إلى آخرهم:
والكل عبيده، ولكن هناك عبيد أبّاقين متمردين مخالفين، وهناك عبيد متذلّلين صادقين مخلصين مطيعين. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28]، حاشاه.. (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ) [السجدة:18] لا إله إلا الله... فكن من عبيده المتحققين بالعبودية، الأخيار.
"فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَالْوَرَى عَبِيـــدُهْ"؛ في إقامة هذا المعنى والمشهد يقول سيدنا الإمام الحدّاد: والخلق كلهم عبيد، ولكن بعضهم من المحبوبين عنده والمقربين، وبعضهم من المبعودين المطرودين والعياذ بالله تعالى، يقول:
دع الناس يا قلبي يقولون ما بدا *** لهم ………….
دعهم يتكلمون هل شيء يضرّك؟ وهل أهلك الناس إلا الناس! سيقولون عليك كذا، سيقولون كذا .. من هم؟ المقدّمون المؤخرون؟ الرافعون الخافضون؟ هم خلق مثلك، دع من يقول يقول، انظر حالك معه، انظر شأنك مع القوي القادر الحكيم العظيم الإله الحق، الذي كلهم سيخضعون تحت أمره وسيأتون متذلّلين (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه:111].
انظر حالك معه، أصلح حالك معه، ما عليك من الناس..
دع الناس يا قلبي يقولون ما بـدا *** لهم واتثق بالله رب الخلائــــق
ولا ترتجي في النفع والضرّ غيره *** تبارك من ربٍّ كريــم وخالــــق
فليس لمخلوق من الأمر هـا هنـــا *** ولا ثمّ شيءٌ فاعتمد قول صادق
ولا ثمّ؛ يعني: هناك
هو الرب لا ربٌّ ســــواه وكلهــــم *** عبيد وتحت الحكم من غير فارق
نعم بعضهم ممن يحب ويرتضي ***
ملائكة أنبياء مقرّبين صدّيقين…هذا الصنف العجيب ادخل معهم، اقرب منهم، وهو قد ناداك بحضرة سموه وجلاله وعظمته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]. اقرب للصنف هذا، تعال إلى هنا، إيش تريد بالأشرار والفجار والكفار حطب النار؟ إيش يغرك في صورهم؟ إيش يغرك فيهم؟ (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا) [التوبة:55] (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) [آل عمران: 196]، يعملون فتن هنا وهنا ويؤذون هنا ويسرقون هنا وهنا.. (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 197]، لا إله إلا الله.. (لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ) [آل عمران: 198].
نعم بعضهم ممن يحب ويرتضي *** لطاعته والبعض عاصٍ ومارق
مع أي الفريقين تريد؟؟
بتوفيقه صــار المطيـــع يطيــع *** وخالف بالعصيان كل مفارق
فسل ربك التوفيق……
اللهم يا من وفق أهل الخير إلى الخير وأعانهم عليه وتقبل منهم، وفقنا للخير وأعِنّا عليه وتقبّل منا.
فسل ربك التوفيق والعفو والرضا ***
نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة، نسألك رضوانك الأكبر وأن تزداد عنّا في كل لمحة ونفس رضًا أبدًا سرمدًا يا أرحم الراحمين.
فسل ربك التوفيق والعفو والرضا *** وكونًا مع أهل الهدى والطرائق
من هؤلاء؟ قال:
رجالٌ إلى الرحمن ساروا…
ساروا إلى أين؟ إلى الرحمن ساروا، ما هو إلى وظيفة؟ ما هو إلى قصر؟ ما هو إلى حزب؟ ما هو إلى حكومة؟ إلى الرحمن ساروا.. الذي قال عنهم الرحمن في كتابه، قال لحبيبه الصنف هذا من أمتك اقعد معهم واجعل نظرك إليهم: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف:28]، إلى الرحمن ساروا، وكيف ساروا؟ "بهِمّةٍ" سير الصادقين، سير بالكلية..
رجالٌ إلى الرحمن ساروا بهِمةٍ *** على الصدق والإخلاص من غير عائق
أبادوا العوائق كلها التي تعترض، وعند هِمّة المؤمن بالقوة حتى الشيطان يفرّ من أمامه، ما يقدر إلا يترقب وقت تردّده يوسوس له ويبلبل عليه، ما يقِبل بهمة إيش يعمل؟! (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42]، لكن عندما يتردّد ويتضعضع يوسوس له، ويضحك عليه، ويروح به، أما وقت عزيمته وهمته، إيش يعمل به؟ خنّاس، إذا ذُكر الله يخنس، أعوذ بالله من شر الوسواس الخناس.
قال:
*** على الصدق والإخلاص من غير عائق
إيش حصل لهم؟ أحد أعطاهم وزارة ويخرجون منها، أحد أعطاهم رئاسة ويخرجون منها، أحد أعطاهم سيارات تتكسر ربما تنقلب بهم، ترك هذا كله.. أعطوهم وظيفة يقعدون فيها مدة كم أيام، قال: لا .. لا.
فنالوا الذي كل المطالب دونه ***
ما يخطر على بال الناس من المطالب، أقل من الذي حصل عليه، كل المطالب دونه، الله الله الله الله.
*** فلله من عيشٍ كريمٍ ورائق
إيش هذا الذي حصّلوه؟ قال:
دنوٌ وتقريبٌ وأُنسٌ بحضرةٍ *** مقدّسةٍ ...
فيا لله.. فيا لله ما ذاقوا وما طعموا، فيا لله طعامٌ ليس يشبهه طعام..
دنـوٌ وتقريبٌ وأنـسٌ بحضـــرة *** مقدسة في منتهى كل سابق
فآهٍ على عيش الأحبة كم أسى *** عليه وكم دمعٍ على الخدّ دافق
على نفسه فليبكِِ من ضاع عمره *** وليس له منها نصيبٌ ولا سهم
"فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَالْوَرَى عَبِيـــدُهْ، حَقَّاً"؛ هذه هي الحقيقة وما عداها والله خيالٌ ووهم وضلال.. لا يوجد غير هذا، الملك مُلكه، والأرض أرضه، والسماء سماؤه، والخلق خلقه، والأمر له وليس لأحد معه شيء.
"فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ وَالْوَرَى عَبِيـــدُهْ، حَقَّاً" هذه الحقيقة المطلقة، كل ما خالفها من أنواع الخيال والوهم والضلال والباطل، والأصل هذا. قال نبيّنا: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
أتأنس به؟ بقربه ومحبته؟ قريب منك، هو قريب منك، اصدق وتعال، وقُم بين يديه بالتذلل والانكسار، واستحضار هيبة القهار، والتوبة والاستغفار، وجعل لك واسطة تتفتح لك بها الأبواب؛ تبعية محمد خيرة الأخيار: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31]. الله يكرمنا وإياكم.
قال: "حَقَّاً، وَمِفْتَـاحُ الغُيُوبِ بِيـدهْ" سبحانه! (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام:59]، ما يغيب عن أذهاننا وأذهان أهل السماء، وأذهان الأرض… واضح عند ربك مكشوف، ما يدرون بما سيجري عليه ولو بعد لحظات، ولا يقدرون يحكمون به وهو داري وهو عالم وهو الذي يجري ما أراد.
"مِفْتَـاحُ الغُيُوبِ بِيـدهْ"، لا سلّمه لهيئة ولا لحزب ولا لوزارة ولا لعرب ولا لعجم، ولا للصين ولا لأمريكا ولا لروسيا ولا لبريطانيا، ما أعطاهم مفاتيح الغيوب، هو عنده، ما أسرع الواحد منهم يسقط وينكب، وإن كان مملكة كبيرة، وإن كان دولة عظيمة، ثم يذهب شذر مذر في لحظة.
"حَقَّاً، وَمِفْتَـاحُ الغُيُوبِ بِيـدهْ" سبحانه وتعالى..
يقول:
"حَقَّاً، وَمِفْتَـــاحُ الغُيُوبِ بِيــــدهْ *** هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ"
ما أحد يشابهه، ولا أحد يأخذ هيئته ولا ملائكة ولا إنس ولا جن ولا أول ولا آخر ولا صغار ولا كبار. "هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ" المخلوق مخلوق محلّه ما يتعدّى طوره، مخلوق عبد محلّه ما يقدر يخرج عن هذه الدائرة، لكن الخالق، الخالق الذي بيده الأمر والتقديم والتأخير والنفع والضر والإسعاد والإشقاء والإحياء والإماتة؛ هذا الخالق!
مهما كان المخلوق تجمّل بهذا، وصلّح بهذا وملك كذا، مخلوق! يبول ويخرج الأوساخ، وساعة صداع، وساعه أذنه تؤذيه، وساعة بطنه مغص فيها، وساعة رجله، وساعة حادث وانقلب هكذا، وساعة زلزلة في الأرض في مدة ثواني أخذت قصوره ودياره… لا إله إلا الله! المخلوق مخلوق.
"هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ" الخالق يعلم كل شيء، وإيش يعلم المخلوق؟ الخالق قادر على كل شيء وإيش يقدر المخلوق؟ لا إله إلا الله! يريد ولده كذا يجيء كذا، حتى ولده ليس شعبه، ولده يريده يقول كذا، يقول: كذا؛ حتى الجهاز حقه يريده يفتح يتقفل .. المخلوق مخلوق، المخلوق مخلوق.
"هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ" الذي يفعل ما يريد إنما واحد، الذي بيده ملكوت كل شيء واحد، ما سواه مخلوق.
…. وكلهــــم *** عبيد وتحت الحكم من غير فارق
*** "فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَالْوَرَى عَبِيـــدُهْ
حَقَّاً، وَمِفْتَـــاحُ الغُيُوبِ بِيــــدهْ *** هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ"
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) [البقرة:258]، فرحان بحقه الملك، وأين هو الآن؟ مسكين.. جاءت له حشرة صغيرة ما أحقرها وأهلكته، وسيدنا إبراهيم قال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة:258]، أنت تحيي وتميت؟! الذي يجريه الحق على أيدي الناس من تسليط هذا على هذا وترك هذا؛ ظنّ هذا إحياء وإماتة في ذهنه، قال: هاتوا اثنين اقتلوا هذا واتركوا هذا … أنظر أنا أمتّ وأحييت! قال له سيدنا إبراهيم -لأن عقله ما استوعب معنى المثل- جاء له بمثال واضح: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ)، كل يوم يطلعها من جهة الشرق، فأنت ما دامك رب مثله، غدًا نريد الشمس تجيء من المغرب (فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة:258].
وقل للمتطورين هاتوا الشمس يوم من المغرب، أنتم ألستم متطورين متقدمين كبار، عندكم أجهزة ووصلتوا للقمر، اجعلوا الشمس تشرق من المغرب، كيف الشمس تطلع من المغرب؟ ما يقدرون .. لا إله إلا الله.
قرّبوا القمر قليل أو بعده قليل… لا يقرّب ولا يبعد، مسكين هو، في الفضائية حقه ما هو داري بنفسه ساعة يجيء بالأكسجين من هنا وخائف ينقص عليه، ويخرج بعد كم أيام ما يكلم أحد سواء.. "هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ". يجيء ثانيين من يسمونهم علميين يقولون ما وصلتوا القمر، كذابين وإنما جئتم بالحجر من هنا، يتراشقون بالكلام بينهم البين. وقال: اكتشفنا الأرض كروية، قال: كذاب الأرض مسطحة!! قال: علمي، قال الآخر: علمي… العلم علمه، والقدرة قدرته، والأمر أمره، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
"حَقَّاً، وَمِفْتَـــاحُ الغُيُوبِ بِيــــدهْ *** هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ"
لماذا ترمي بنفسك على الخلق؟ لماذا تهين نفسك تتوكل على خلق؟ تثق بخلق، ترجع إلى الخلق، تعظم الخلق؛ الخالق خير لك، لا تعظّم إلا ما عظمه، ولا تحب إلا ما أحبه، لك العز والكرامة، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، لا إله إلا هو.
"وَاطْلُبْ مِنَ المَوْلَى الَّذِي تُرِيدُهْ *** فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَالْوَرَى عَبِيـــدُهْ
حَقَّاً، وَمِفْتَـــاحُ الغُيُوبِ بِيــــدهْ *** هَيْهَاتَ مَا الْمَخْلُوقُ مِثْل خَالِقْ"
لك الحمد، ما رميتنا على باب إنسي ولا جني ولا مخلوق، لك الحمد، توقفنا على بابك، ترزقنا اللياذ بأعتابك، لك الحمد، لك الحمد، لك الحمد أتِمّ النعمة علينا وعليهم أجمعين، الحاضرين والسامعين، حتى تجمعنا وإياهم في دائرة سيد المرسلين تحت لواء الحمد وفي ظل العرش وعلى حوضه المورود، يا بَرّ يا ودود، يا ذا الكرم والجود يا الله، ما أسعد من تقابل منكم عند الحوض في حال جميل، وزَيْن الوجود يبتسم..
فيا ربِّ واجمعنا وأحبابًا لنا *** في دارك الفردوس أطيب موضع
10 مُحرَّم 1446