(209)
(536)
(568)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) للإمام عمر بن سقاف السقاف رضي الله عنه
الدرس الثامن: شرح قوله: سلِّم لتسلَم فالهناء يوافيك
عصر يوم الأحد 8 محرم 1446هـ
واصبر إِذَا مَا العُسر حَلَّ نَادِيـكْ *** يُسْرَان بَعْدَ الْعُسْرِ سَوْفَ تَأْتِيك
سَلِّمْ لِتَسْلَمْ، فَالْهَـــــنَاءْ يُوَافِيـــكْ *** وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ
الحمدلله، وتأملنا من معانيها إلى أن وصلنا إلى قوله:
"واصبر إِذَا مَا العُسر حَلَّ نَادِيـكْ *** يُسْرَان بَعْدَ الْعُسْرِ سَوْفَ تَأْتِيك"
وذكرنا واجب المؤمن بالصبر في كل ما ينازله من الشدائد والعسر والكرب والضيق وأنواع المصائب، وأنه بالصبر يفوز بعظيم الأجر ويتحوّل العسر إلى يسر، وقد وعد الله لكل عسر يسرين، وقال: (فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرًا * إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرࣰا) [الشرح: 5-6].
يقول: "سَلِّمْ لِتَسْلَمْ"؛ سلِّم لقضاء الله وقدره، سلِّم لحكمه وأحكامه. تسليمنا لأحكامه:
"سَلِّمْ" وسلِّم بقضائه وقدره فهو الذي يدبر، وهو الذي يقدم ويؤخر، وهو الذي يُبطن ويُظهر، وهو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يُعطي ويمنع، وهو الذي يقرّب ويُبعد، وهو الذي يُشقي ويُسعد.. فكن مسلِّم تسلم في تسليمك لأمره ولقضائه سلامتك من كل محذور ومن أنواع الشرور.
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ"، ومن هنا يقول الشيخ بامخرمة: "إذا شئت تبغى السلامة تأدّب .. تأدّب .. تأدّب" ففسّر التسليم بالأدب، أدب شريعة وطريقة وحقيقة، تأدب .. تأدب .. تأدب، إذا شئت تبغى السلامة.
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ"، من سلَّم سلِم، تُسَلِّم لعظمته وجلاله، ومن جملة ذلك أن ما يحدثه من غير المألوفات ومن خوارق العادات أمر يسير عليه؛ فلا يجوز أن تكابر ولا يجوز أن تستغرب ولا يجوز أن تستبعد؛ فإن كل شيء في قدرته يسير عليه، قال تعالى: (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ) [هود:4].
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ"، فنحتاج التسليم لأحكامه، والتسليم لحكمه، والتسليم لعظمته -سبحانه وتعالى- وأن لا نستغرب حدوث أي شيء يخالف المألوف والمعتاد فإنه -سبحانه وتعالى- هو الذي وضع الشيء، وهو الذي يرفعه. كان واحد وهو كافر ولكنه من خلال التأمل في الكون يقول: أن كل عاقل يقطع أن القدرة والقوة التي أوجدت هذا الكون ليست عاجزة أن تحذف شيء منه أو تضيف شيء إليه أي وقت، العظمة التي أوجدت الكون بهذه الصورة من يشك أنها تستطيع أن تحذف منه شيء أو تضيف إليه شيء في أي وقت، فيأتي شيء على غير المألوف والمعتاد، ولكن نفس الإنسان ما ألفته تجعله كأنه كل شيء، إيش الذي ألفته مما لم تألفه أنت؟! حتى من الموجودات والكائنات، ما عرفت إلا شيء يسير، وكون ربك وعالمه أوسع وأكبر من عقلك ومن إدراكك ومن وعيك.
"سَلِّمْ" يسلّط هذا، يسخر هذا، "سَلِّمْ"، إن تكابر وتعاند ما يقع غير ما أراد، ولك التعب بالعناد، ولك العذاب في المعاد، ولا غير هذا… تتعب نفسك في الحياة وتتعذب في المعاد لاعتراضك على أمره، لاعتراضك على قضاءه وقدره.
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ"، وإن أعطى أحد أي عطية ظاهرة أو باطنة سلِّم.. ما تقوم تحسده وتقول: ليش المفروض تكون لهذا.. أنت القاسم أو هو؟ أنت المعطي أو هو؟! (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الزخرف:32]؛ يقول الله -تبارك وتعالى-، هو الذي يقسم تستدرك عليه أنت؟ أم أنت أعلم منه بشيء؟!..
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ" فوجود الاعتراض في قلبك مرض وداء عضال؛ يحبط الأعمال الصالحة ويوقعك في البعد عن الله. لهذا كان شيخنا الحبيب إبراهيم بن عقيل بن يحيى عليه رحمة الله يقول: نسأل الله حقيقة العافية، أتدرون ما حقيقة العافية؟ سلامة القلب من الاعتراض على الله؛ هذه حقيقة العافية، إذا أعطاك هذا ولو عندك عشرين مرض، لكن ما في قلبك اعتراض عليه؛ حقيقة العافية معك، عندك حقيقة العافية، سلامة القلب من الإعتراض على الله، ما تعترض عليه، له التقديم، له التأخير، له الإشفاء، له الإمراض، له الضر، له النفع، له الرفع، له الخفض، له الإسعاد، له الإشقاء؛ الأمر له، اخضع له وسلِّم واسأله التوفيق، وتمسَّك بما جعل لك من أسباب الفوز والسعادة والرفع والقرب.
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ"؛ فإذا قمت بذلك "فَالْهَـنَاءْ يُوَافِيكْ". يقول بعض الصالحين، كتب لصاحبه في رزية وقعت عنده، وموت بعض أقاربه، يقول: اعلم أنك إن صبرت نفذ قضاء الله وأنت مأجور، وإن جزعت نفذ قضاء الله وأنت مأزور، في كلا الحالين قضاء الله سينفذ ما تقدر تقدم ولا تؤخر، ولكن إما تكون أنت مأجور أو مأزور فقط وإلا فالقضاء سيمضي، اعلم أنك إن صبرت نفذ قضاء الله وأنت مأجور وإن جزعت نفذ قضاء الله وأنت مأزور، لا إله إلا الله...
فالهناء في التسليم..
إنَّ في التسليم راحة عاجلة *** ومن التفويض فيضان المنى
هل سمعت؟ وكل ما خلت عنه العناية فهو عناء، وليس الهناء إلا التسليم لقضائه وقدره وحكمه -جل جلاله-.
وكن راض بما قدر المولى ودبر *** ولا تسخط قضا اللَه ربّ العرش الأكبر
يقول: "سَلِّمْ لِتَسْلَمْ"، فإنك إن قمت بهذه الآداب وتعاملت بهذه الأوصاف مع رب الأرباب؛ فالهناء يوافيك، تهنأ في حالك، يهنأ بالُك وتهنأ في قربك ووصالك، وتهنأ في معرفتك والمعارف التي تنزل بقلبك، وتهنأ بالمحبة وطيبها، وتهنأ بالرضا وأنواع من الهناء الطيب الذي لا يمكن أن يجلب ذرة منه أشربة الدنيا ولا أطعمة الدنيا ولا منكوحات الدنيا ولا ملبوسات الدنيا ولا مراكب الدنيا ولا مساكن الدنيا ولا ملك الدنيا، ما يمكن يجلب ذرة من هذا الهناء.
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ فَالْهَـنَاءْ يُوَافِيكْ"، ويهنئك ربك بأدبك معه وعبوديتك له بما يوالي عليك من إفضاله وجزيل نواله، وتقريبه إياك وقربه منك، وتعرّفه إليك، ومحبّته لك ومحبتك له، "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابتلاهم فمن رَضِيَ فَلْهُ الْرِضَا وَمَنْ سَخِط فَلَهُ السخط"، ورضاه عنك؛ وهذا أعظم شيء.
يالله رضا يالله رضا *** والعفو عما قد مضى
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ فَالْهَـنَاءْ يُوَافِيكْ"، ينساق إليك، يُصَب عليك، يحضر إليك، هو يجيء لعندك، "يُوَافِيكْ"، لا أنت من تطلبه، أنت تطلب الأدب وتحقيق العبودية وتُسَلِّم.. هو يجيك الهناء.
"........فَالْهَـنَاءْ يُوَافِيكْ *** وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ"
"وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ"، ما أشرنا إليه للمعرفة شراب، للقرب شراب، للمحبة شراب، للرضوان أطيب الشراب.
"وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ"، الشراب الرائق هذا بلة منه تملأ رياض قلبك بالعلوم والمعارف، وتحيط جانبك بالأسرار واللطائف،
فبلّةٌ من كأسهـــا المختـــوم *** تملأ رياض القلب بالعلوم
وتحفظ الفهم عن الوهوم *** وتُطلق العقل عن العقال
الله أكبر!
طوبى لمن طاب لها استعداده *** وانْحَلَّ مِنْ رِقِّ السِّوَى قياده
فحلّ في عين الحِجا رشاده *** فذاق منها بَلَّةً بِبَالِ
فبلّةٌ من كأسهـــا المختـــوم *** تملأ رياض القلب بالعلوم
وتحفظ الفهم عن الوهوم *** وتُطلق العقل عن العقال
يخرج عقلك عن القيود التي عُقِّل بها من الظلمات والأغيار والكائنات والأوهام والخيالات، فيستوعب العقل معاني فيما أوحى الرحمن، وما أنزل من المثاني، وما أوصل على يد عبده الكريم العدناني صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ"، هذا الشراب الذي يخافون على من مرّ عمره ولم يشرب منه، أن يُزعزع إيمانه عند الموت فيزلق ويموت على سوء الخاتمة.
على نفسه فليبك من ضاع عمره *** وليس له منها نصيب ولا سهم
فيا رب اسقنا شراب العارفين الأولياء الصالحين الأتقياء، وفّر حظّنا من كؤوس المعرفة، وفّر حظّنا من كؤوس القرب وفّر حظّنا من كؤوس المحبة، وفّر حظّنا من كؤوس الرضوان آمين.
في أي مشرب تجدها هذه؟
هذا الشراب هناك يُدار، لا أحد يقدر يصنعه من هذه المصانع في الدنيا في الشرق ولا في الغرب. يا رب اسقنا..
يَا اللّٰه بِـــــذَرَّة مِنْ مَحَبَّـــةِ اللّٰه *** نَفْنَى بِهَا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللّٰه
وَلَا نَرَى مِنْ بَعْدِهَا سِوَى اللّٰه *** اَلْوَاحِدُ المَعْبُودْ رَبِّ اَلْأَرْبَابْ
"سَلِّمْ لِتَسْلَمْ، فَالْهَـــــنَاءْ يُوَافِيـــكْ *** وَسَوْفَ تَشْرَبْ مِنْ شَرَاب رَائِقْ"
وتدرك به الحقائق، وتلحق بخير الخلائق، وتثبت على أقوم الطرائق، لا إله إلا الله، ويصبح ريح القرب بك عابق، يُشَمُّ هذا الريح العَبِق إن تكلمت وإن نظرت وإن تحركت وإن سكنت وإن قمت وإن قعدت..
قَوْمٌ كِرَامُ السّجَايَا حَيثُمَا جَلَسُوا *** يَبْقَى الْمَكانُ على آثارِهِم عَطِرَا
يبقى المكان على آثارهم عطرا.. الله، لا إله إلا الله! أكرمنا الله وإياكم بقربه ومعرفته وحبّه ورضاه في لطفٍ وعافية.
لتحميل القصيدة pdf:
06 مُحرَّم 1446