(209)
(536)
(568)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) للإمام عمر بن سقاف السقاف رضي الله عنه
الدرس الثالث عشر: عبدٌ تزكَّت بالهدى صفاتُه
عصر يوم الأحد 22 محرم 1446هـ.
لتحميل القصيدة pdf:
عَبْدٌ تَزَكَّتْ بِالْهُدَى صِفَاتُهْ *** صَافِي السَّرِيرَةْ، قَدْ وَفَتْ عِدَاتُهْ
وَالمَسْكَنَة وَالتَّوْءدَة سِمَاتُهْ *** سَهْلُ الْعَرِيْكَةْ، كَيّــسٌ مُوَافِــقُ
يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بِالدُّونْ *** وَ لَيْسَ فِي زَهْرَاتِهَا بِمَفْتُونَ
وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يَفُوتْ مَحزُونْ *** الكُلُّ مَقْضِيْ، سَابِقٌ وَلَاحِقُ
الحمد لله مُفِيض النوال و معطي العطايا الجِزال. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي القيوم الكبير المتعال، محوّل الأحوال، من بيده أمر الحاضر والمآل. ونشهد أن سيدنا ونبيّنا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، معدن الكمال، وسيد الأوائل والأواخر، وخاتم أهل الإنباء والإرسال، من جمع الله له حميد الخصال وشريف الخلال، فهو المرتقي قمة مكارم الأخلاق، وهو الحبيب الأعظم لدى الإله الخلاق.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المختار، ساقي كؤوس العرفان، وشمس المعرفة والبيان، وعلى آله وصحبه أهل التدَان، وعلى من تبعهم بصدقٍ وإِحسان على ممر الزمان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين ساداتِ أهل القرب من الرحمن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، في كل آن، عدد ماعلمت وزنة ماعلمت وملء ما علمت، وعدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك يا كريم يا منان.
وبعدُ،
فقد تأملنا بعض المعاني البديعة والإشارات الرفيعة في هذه الأبيات المباركة والقصيدة المنورة، ووصلنا إلى وصفه لهذا الموفق العبد الذي تَزَكَت بالهدى صفاته؛ فَصفاته زكية ليس فيه صفة قصور ولا نقصٍ ولا ذم، ليس فيهم صفة من الصفات الذميمة؛ فصارت صفاته كلها زاكية بالهدى الذي بعث الله به نبيّ الهدى ﷺ.
"صَافِي السَّرِيرَةْ، قَدْ وَفَتْ عِدَاتُهْ" وفى بعهده مع الله، ووفى بكل عهد عهده، ويفي بكل وعدٍ وَعده وكل عهدٍ -عليهم رضوان الله- ومظهرهم السكينة والتؤدة فهي لهم سِمة يراها من يراهم.
لهم من التقوى أجلّ زينة *** عند لِقاهم تنزل السكينة
وتحصل الجمعية المبينة *** فَتُجذب الألباب بِانفعال
"سَهْلُ الْعَرِيْكَةْ"؛ لا فظ ولا غليظ ولا صخّاب ولا صعب مؤذي ولا ضار. "سَهْلُ الْعَرِيْكَةْ، كَيّــسٌ"، مستعدٌ لما بعد الممات، محاسبٌ للنفس موافق للشرع المصون، وهدي الأمين المأمون في الظهور وفي البطون.
أقوى علاماتهم التي بها يخرجون من عمق الإذلال والإِرداء من قِبل إبليس، وهي الدنيا التي حُبُهَا رأس كل خطيئة؛ جميع القواطع عن الله والمُتَع في هذه الحياة الزَائدة عن حاجة الإنسان محل اختبار الإنسان: إذا رغب فيما زاد على حاجته؛ فقد قصد حَتْفَه وقد قصد هَلَكَتَهُ -والعياذُ بالله تعالى-.
فَاختبرنا الله تعالى بهذه الدنيا وما فيها وجعل زخرفها وظواهرها وظواهر مُتَعَهَا..فتنة للعباد وأكثرها موهوبة للفُسّاق وللفُجّار وللأَشرار، ملآنة بغصص، وآفات وأَكدار، لا يجدون حقيقة طمأنينة، ولا تنزل عليهم سكينة، ولا يشعرون بحقيقة لذة من العيش، يحاولون بِاللذائذ الحقيرة الفانية أن يكتسبوا طمأنينة فما يكتسبون، أن يجدوا راحة فلا يجدونها، ويعيشون بهذه العيشة النَكدة في ظاهر زخرف الحياة الدنيا ثم ينتقلون إلى العذاب الأشد والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ومع ذلك فيعطيهم الله بمقدار؛ رحمة منه بالعباد؛ لأن الكثير من هؤلاء الذين نجوا وسلموا أو فازوا من المؤمنين.. الكثير منهم لو كان فُسِح المجال للكُفَار والأشرار في متاع الدنيا بلا قياس بِيلحقون بهم ولن يصدقوا مع الله ويحسنوا الوقوف على بابه، (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) كلهم على الكفر (لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:33-35].
أما ما في الدنيا قبل الآخرة من حقيقة طمأنينة أو سكينة أو راحة للنفس والقلب والبال؛ فليست معطاة لأحد من هؤلاء ولا الكفار والفجار ولا يجدونها أصلًا، ولا يقدرون عليه فهي موهوبة للصادقين مع الله، والمخلصين لوجه الله غنيّهم وفقيرهم مريضهم وصَحِيحَهُم، أميرهم ومَأمورهم، أوّلهم وآخرهم، موهوبة لهم طمأنينة وسكينة ولذّة في الحياة الدنيا قبل الآخرة، مقصورة عليهم، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
بذلك كله جعل الله هذا الاختبار في رغبات القلوب:
ومن يركن إليها ويعول عليها ويسقط فيها ولا يبقى له متعة إلا كأنه حيوان والحيوانات خير منه؛ لأن الحيوانات مسبحة بحمد ربها، وأما هذا غفل عن ربّه وأعرض عن ربه وأدبر عن ربّه، وتولى عن ربه..
فحرّر الله قلوبنا من ربقة الغفلة، ومن أسوار الغفلة ومن موطن الغفلة، وجعل لنا ذكرًا له وذكرًا منه؛ نحوز به الرضا منه والرضا عنه -آمين يا أرحم الراحمين- اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، وهذا الذي سمعتموه في المسلسل بالمحبة:
قالُ النَبي لسيدنا معاذ: "يا معاذ إني أحبك"، وهنيئًا لمعاذ وتمنى لهذه اللفظة كثير من الأجياد أنهم نعلٌ في رجلِ معاذ.. "إني أحبك" وواحد يحبه زين الوجود ﷺ، أين يضعه الله؟ وأين يذهب به؟ "إني أحبك؛ فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاةٍ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ"، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
قد سمعتم أنه من سبق عليهم القول -والعياذُ بالله- وارتدّوا وخرجوا عن منهج النبي والصحابة السابقين الأولين، وعن منهج أهل البيت الطاهر، كمثل الذين ارتدّوا بعد وفاته النبي ﷺ وماتوا على الردّة في أيام سيدنا أبو بكر الصديق.. روى عنهم الإمام أحمد في مسنده، والطبراني، ما روته أم سلمة، قالت: قال ﷺ: "إنَّ من أصحابي من لا يراني بعد موتي أبدا"، لمّا سمع هذا الصحابي من سيدتنا أم المؤمنين انزعج وخاف، في خلافة سيدنا عمر، وراح يجري إلى سيدنا عمر بن الخطاب، وقال له: "ألا ترى ما تقول أم المؤمنين؛ قالت: إنها سمعت النبي يقول كذا …، انزعج سيدنا عمر "فأتاها يَشْتَدُّ"، وقام يجري نحو حجرة أم سلمة، أم المؤمنين، هل أنت سمعت النبي يقول كذا؟ قالت: نعم، فقال لها: ما سمعت؟ قالت: سمعته يقول: كذا كذا…، فصاح سيدنا عمر وقال: "أُنْشُدُكِ بالله أنا منهم؟ فقالت له: يا أمير المؤمنين لست منهم ولا أستثني بعدك أحد" -خلاص لا تكلموني- قالت: سمعته يقول هذا الكلام، فَانزعج كبار الصحابة…لا إله إلا الله، فالويل لمن لا يراه ﷺ، فالويل لمن لا يراه ﷺ، ويل لمن لا يراه في البرزخ، ولا في القيامة صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الويل لمن لا يراه في البرزخ ولا في القيامة ﷺ.
الويل لهم وإن كانوا ملوك في الأرض، الويل لهم وإن كانوا رؤساء في الأرض، الويل لهم وإن كانوا قادة جيش في الأرض، الويل لهم وإن كانوا أهل الثروات في الأرض، الويل لهم وإن كانوا ما كانوا.
فجعل الله في هذه الدنيا حقائق الطمأنينة والسكينة مع المؤمنين والأنبياء والمرسلين والتابعين لهم بإحسان من الصادقين، ولا يكتسب هذا أحد لا بشراب ولا بِلباس، ولا بِمراكيب ولا بأبنية، ولا بنكاح ولا بشيء من مُتع، ولا برئاسة.. ما يقدر يحصلها؛ بل أكثر الغصص في الحياة الدنيا موجودة عندَ الأكثر ثروة، وعند الملوك الأرض، ورؤساها أكثرْ.. بوفرة عندهم غصص الحياة ونكدها، عندهم أكثر من غيرهم موجود؛ ولذا قالوا:
طلب الراحة في الدنيا محال *** وأرى الأنس بها عين النكال
راحة الدنيا مع أهل الكمال
أهل الصدق مع الله، وأهل الإقبال على الله هم الذين عندهم راحة الدنيا وَلهم راحة الآخرة كذلك.. راحة الدنيا مع أهل الكمال، فلهم خير الدنيا وخير الآخرة.
والزخرف الظاهر أبعدُ عن أكثر أنبيائه وأكثر أوليائه؛ والطمأنينه والسكينة وراحة البال أعطاها أنبياء وأولياء ووفّر حظهم منها، والصالحين من عباده، لا إله إلا هو..
وهذه تتعجب كانت مشركة وبعد ذلك آمنت؛ رأت سيدنا خبيب حامل قطف عنب في مكة و لا يوجد عنب في مكة ولا حبة واحدة، من أين ذا يأكل وهو مأسور؟ وسط الأسر وَمهيئونه يبغون شهر محرم ينزل من أجل يقطعوا رقبته، لكي يقتلونه، فقالت: "وجدت بيده قطف عنب يأكل منه، وما بمكة عنبة وما هو إلا رزقٌ رزقه الله خبيب وساقه إليه"؛ (لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) [المائدة:66] لا إله إلا الله.
وهكذا شؤون الحياة إذًا فالاختبار أمامنا؛
لكن إذا مال بخاطره إلى هذه الدنيا الغرور، وما رضي منها بما يتيسّر ويكفي.. انفتح الشر عليه، وانفتح غبار الظلمات على قلبه؛ ولهذا قال عن وصف هذا العبد الذي تزكّت بالهدى صفاته: "يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ"، إيش معنى غرور؟ كثيرة التغرير، تغرّ ناس كثير تغرّهم، ما فيها حقيقة مجد ولا شرف، فقط تغرهم، تغر كثير الناس؛ فهي غرور؛ أي: كثيرة التغرير والإغرار، تغر ناس كثير، أكثر الناس تغرهم، ولهذا قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5]؛ إبليس يغرّ الناس، و الدنيا تغرّ الناس.
قال: "يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بِالدُّونْ"؛ اليسير الذي يكفي حاجته، يكتفي به ما يمدّ عينه: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [طه:131]. يقول: "يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بِالدُّونْ"، ما تيسّر أخذه؛ كان زين الوجود ﷺ مع ما سخّر الله له،
وَراوَدتهُ الْجبالُ الشُمُّ مِنْ ذهَب *** عَنْ نَفْسِهِ فَأراهَا ايَّمَا شَمَمِ
وَاكَّدت زهْــدهُ فِيْهَا ضَروْرتــــهُ *** انَّ الضَّروْرةَ لا تعْدوْ عَلَى الْعِصَمِ
وَكَيْفَ تدعُوْ الَى الدنْيَا ضَروْرةُ مَنْ *** لَوْلاهُ لَمْ تخرج الدنْيَــا مِنَ الْعَــدمِ
مُحمَّد سَيِّـــد الْكَوْنَيْنِ وَالثقَلَيْـنِ *** وَالْفَريْقَيْنِ مِنْ عُرب وَّمِنْ عَجمِ
صلِّ يا رب وسلم عليه. وخُيِر أن تصير معه بطحاء مكة وجبالها ذهبًا وفضة يُنفقها حيث شاء، فقال: "لا، بل أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا جعت دعوت ربي، وإذا شبعت شكرت ربي وحمدت ربي" صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بِالدُّونْ"، وإبليس يحاول خصوصًا في المسلمين، فالكفار قدهم في قبضته وما معهم مسابقة إلا على الدنيا و زائلة، لكن يحاول في المسلمين بشتى الوسائل أن يوحي إليهم من الصغر ومن البدايات أن يُعظّموا الدنيا، وأن يرغبوا في الدنيا وأن يحبّوا الدنيا وأن يقدّموا الدنيا، وأن يكرّموا الدنيا وأن يهتمّوا بالدنيا؛
لكن إذا يحب شيء من الدنيا في القلب خلاص، حب الدنيا رأس كل الخطايا والذنوب كلها ومن وراها الرأس هذا هو، وإذا انقطع الراس خلاص ما توجد حياة، من انقطع حب الدنيا من قلبه ما تكاد تُكتب عليه سيئة، ما يكاد يكتب عليه خطيئة؛ لأن الرأس حق الخطايا مقصوص.
قال: "يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بِالدُّونْ"، كان هذا السيد المصطفى ﷺ: يلبس ما تيسر، يأكل ما تيسر صلَّ الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وأنفق المال الذي وصل من البحرين -وهو من أكبر المبالغ التي وصلت إليه- في يوم واحد، ثم لم يبقى خصارٌ وإدامٌ لفطوره ذاك اليوم وهو صَائم، ما عنده شيئا وهو أنفق الألوف التي -تُقَدَر- بحساب اليوم بالمليارات، التي عنده أنفقها كلها في نفس اليوم.
لما جاء صلاة الفجر وجد ناس كثير أكثر من المعتادين، من كانوا يصلون في المساجد حوالي المدينة، جاءوا صلوا عنده لما بلغهم أن أبا عبيدة جاء بالمال ويعرفون أن رسول الله ﷺ سينفقهم، فلمّا سلم رسول الله ﷺ ورأى الجمع أكثر من المعتاد! تبسّم لهم وقال: "لعله بلغكم خبر قدوم أبي عبيدة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا"، ترجعون عبيد للحطام ومن شأنها تتقاتلون، وهذا الحاصل في أكثر الناس؛ "فتنافسوها كما تنافسوها"، تنافس غير شريف، تنافس قبيح:
من أجل هذه الدنيا: "فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ"، وأخذ يحمل يحمل و يعطي يعطي يعطي، حتى سيدنا العباس يقول له: من له موعدة عندنا، قال: يا رسول الله، وعدتنا في بدر قلت لي أخرج الفدية عنك وعن ابن أخيك؛ عن عقيل.. وقلت لك: من أين؟ وكشفت لي عن مالي وأنزل الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ..) [الأنفال:70]. قال: خذ .. خذ، أخذ من الذهب كَثير بِيحمله ما قدر، قال: دع أحد يساعدني يا رسول الله. قال: لا، خذ ما تطيق حمله فقط، مع أنه هو يقدر يحمل شيء كثير، نقّص منه.. نقّص منه إلى أن قدر على حمله ومشى، وأتبعه ببصره ﷺ يتعجّب إلى أن مضى. وكمّل الدنانير كلها التي جاءت، أكمل أذكاره ودخل إلى بيته وهو صائم تلك الليلة، ولا يوجد إدام للفطور ليفطر وهو صَائم -عليه الصلاة و السلام- قد أنفق فى اليوم هذا كله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
"يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بِالدُّونْ *** وَلَيْسَ فِي زَهْرَاتِهَا بِمَفْتُونَ"
ما يفتتن بزهرات هذه الحياة المغرية المغوية، التي لعبت على عقول أكثر الشباب بتزيين وتزويق إبليس وَجنده من شياطين الإنس والجن، قاعدين يرغّبون أولادنا وبناتنا في مظاهرهم ومناصبهم وشهاداتهم وفلوسهم وتنميتهم،… وما كَأن الله خلقهم إلا لهذا، وما كأنهم خُلقوا إلا لهذا، وما كأن معهم حياة إلا الدنيا وحدها وهي ما أقصرها!.. ولعبوا على كثير من أبنائنا وبناتنا ونساءنا، والله ينقذهم ويخلّصهم من شر هذه الورطات، ويرزقهم الاستعداد للآخرات.
قال: "يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بِالدُّونْ" ما تيسّر كفى، "وَلَيْسَ فِي زَهْرَاتِهَا بِمَفْتُونَ" ما يفتتن بها يعلم مآلها؛ ولأن الله تعالى قد بَراها ليميز بها بين الأحمق والفطين، من الأحمق؟ ومن الفطين؟ هذه الدنيا، يسمّوا سيدنا الإمام الحداد فاضح الدنيا، لما يذكر من حقائقها في كلامه ويبينها ببيان صاحب قلب وذوق؛ لهذا تنكشف له. وكثير يذمّون الدنيا لكن ما ينبعث ذمّها في وسط القلوب والنفر عنها، لكن هو لما يتكلم عن الدنيا وأمثاله من الصادقين المقرّبين تنفر القلوب منها، وتنكشف حقيقة الدنيا فَيسمّونه -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- فاضح الدنيا. يقول:
فيمَ الرُكونُ إِلى دارٍ حَقيقَتُها *** كَالطَيفِ في سَنَةٍ….
"كَالطَيفِ": رؤيا .. حلم "في سنةٍ" في نوم، "كَالطَيفِ في سَنَةٍ" ثم لا شيء، ينعس .. يحلم .. يرى رؤيا ويقوم خلاص كمّلت…
……………..*** كَالطَيفِ في سَنَةٍ وَالطَلِّ مِن مُزنِ
الطلّ: من المطر، طل، ماذا يساوي الطَل من المطر؟
فيمَ الرُكونُ إِلى دارٍ حَقيقَتُها *** كَالطَيفِ في سَنَةٍ وَالطَلِّ مِن مُزنِ
دارُ الغُرورِ….
دار الغرور.. وكم غَرت وكم تَغرّ كذلك؟ تمثلت لسيدنا عيسى كان يسألها يقول لها: عجوز شوهاء عليها زينة ويغترّون بها! ويقول لها: كم خطّابك؟ قالت: كثير خطابي، قال: ما تعملين بهم؟ قالت: ألعب بهم، وآخذهم يمنى ويسرى، وبعد ذلك هل طلّقوك أو ماتوا عنك؟ قالت: كلهم قتلت، ما أحد منهم طلقني قتلتهم كلهم، قال: عجبًا لأزواجك الباقين ما يعتبرون بأزواجك الماضين؟! يشوفوا كيف تَقتلينهم وهم ما زالوا يخطبونك ويجرون وراءك!
دارُ الغُرورِ وَمَأوى كُلِّ مُزرِيَةٍ *** وَمَعدِنُ البُؤسِ وَاللأَواءِ وَالمِحَنِ
الزَورِ ظاهِرُها وَالغَدرِ حاضِرُها *** وَالمَوتُ آخِرُها وَالكَونُ في الشَطنِ
تُبيدُ ما جَمَعتَ….
كل ما جمعت مجموعة… الدولة الفلانية، الحضارة الفلانية، الطائفة الفلانية، تجمع ..تجمع ثم:
"تبيد ما جمعت" تذهب بهم.. كم؟ عشرة عشرين، مئة مئتين، ألف ألفين، بل ألوف في العالم؛ جمعت وأَبادت، جمعت وأَبادت، جمعت… كل ما جمعت شيء أبادته.. لفرد، لجماعة، لأهل بلدة، لدولة يروح هباءً منثور.
تُبيدُ ما جَمَعتَ تُهينُ مِن رِفعَتٍ ***...............................
كل من رفعته.. يسقط
تُبيدُ ما جَمَعتَ تُهينُ مِن رِفعَتٍ *** تَضُرُّ مَن نَفَعتَ في سالِفِ الزَمَنِ
النَفسُ تَعشَقُها وَالعَينُ تَرمُقُها *** لِكَونٍ ظاهِرها في صورَةِ الحُسنِ
سَحّارة .. سحارة: تتقن السحر.
سَحارَةً تَحكُمُ التَخييلَ… ***..........................................
تخيّل لك غير الحقيقة
سَحارَةً تَحكُمُ التَخييلَ حتى يُرى *** كَأَنَّهُ الحَقُّ إِذ كانَت مِنَ الفِتَنِ
إن الإله بَراها كي يَميز بها *** بينَ الفريقينِ أهل الحُمقِ والفِطنِ
"إن الإله بَراها"؛ خلقها؛ فكيف الخبر؟ قال:
فَذو الحَماقَةِ مَن قَد ظَلَّ يَجمَعُها *** يُعاني السَعيَ مِن شامٍ إِلى يَمَنِ
مُشَمِّراً يرَكبِ الأَخطارِ مُجتَهِداً *** لِأَجلِها يَستَلينُ المَركَب الخَشِنِ
وَذو الحِجا يَقلُها زُهداً وَيَنبِذُها *** وَراءَهُ نَبذَهُ الأَقذارَ في الدِمَنِ
وَذو الحِجا: العقل، فاهم واعي أدرك الحقيقة.
يرَمى بِقَلبٍ مُنيرٍ في مَصائرها ***.....................................
شوف.. إيش النهاية؟ إيش المصير؟
يرَمى بِقَلبٍ مُنيرٍ في مَصائرها *** فَلا يُصادِفُ غَيرَ الهَمِّ وَالحَزَنِ
يَجولُ بِالفِكرِ في تَذكارِ مَن صَرَعَت ***...............................
يفكر.. كم صرعت؟
……………………..*** من مؤثريها بسعيّ القلبِ والبدن
مِن مؤثِريها: الذين آثروها فَصارعتهم.
مِمَّن أَشادَ مَبانيها وَأَحكَمَها *** لِيَستَجِنَّ مِنَ الأَقدارِ بِالجنَنِ
نالوا مَكارِمَها اأحيوا مَعالِمَهــا *** سَلّوا صَوارِمَها لِلبَغيِّ وَالضَغَنِ
سَلّوا صَوارِمَها؛ سيوفها، وقالوا: أسلحة الدمار الشامل، وشيء من الكلام الفارغ هذا حقهم. وقالوا: عندنا القوة، وقنبلة نووية، وماذا بعد ذلك؟!
رَقّوا مَنابِرَها…
قالوا: نحن سادة العالم، نحن سادة الدنيا..
رَقّوا مَنابِرَهـا قَــادوا عَساكِرَهـــا *** بِقُوّةٍ وَاِبتَنوا الأَمصارَ وَالمُدُنِ
وَعَبَّدوا الناسَ حَتّى أَصبَحوا ذُلُلاً *** لِأَمرِهِم بَينَ مَغلوبٍ وَمُمتَهِنِ
وَجَمَّعوا المــالَ وَاِستَصفوا نَفائِسَــهُ *** لِمُتعَةِ النَفسِ في مُستَقبَلِ الزَمَنِ
حَتّى إِذا اِمتَلَؤوا بِشَراً بِما ظَفَـروا *** وَمُكَّنوا مَن عُلاها أَبلَغَ المِكَنِ
ناداهُم هادمُ اللَذاتِ ..
قاطعُ اللذات، قال لهم: هيا تعالوا الآن وقت الجزاء والحصاد.
ناداهُم هــادمُ اللَذاتِ فَاِقتَحَمـوا *** سُبُلَ المَماتِ فَأَضحوا عِبرَةَ الفَطِنِ
تِلكَ القُبورِ وَقَد صارَوا بِها رممًا *** بَعدَ الضَخامَةِ في الأَجسام وَالسَّمَنِ
بَعدَ التَشَهّي وَأَكلِ الطَيِّباتِ غَدا *** يَأكُلُهُم الدودُ تَحتَ التُرَبِ وَاللَّبَنِ
تَغَيَّرَت مِنهُمُ الأَلوانُ وَاِنمَحَقَت *** مَحاسِنُ الوَجهِ وَالعَينَينِ وَالوَجَنِ
خَلَت مَساكِنَهُم عَنهُم وَأَسلَمَهُم *** مَن كانَ يَنْصُرُهُم في السِرِّ وَالعَلَنِ
وَعافَهُم كُلَّ مَن قَد كانَ يَألَفُهُم *** مِنَ الأَقارِبِ وَالأَهلينَ وَالخَدَنِ
ما كانَ حَظُّهُم مِن عَرضِ ما اكتَسَبوا ***..............................
ما كان نصيبهم من الأملاك التي معهم كلها،
………………….*** غَيرَ الحَنوطِ وَغَيرَ القُطَنِ وَالكَفَنِ
هذا الذي خرجوا به.
قال: تِلكَ القُصورُ -التي كانوا فيها-
تِلكَ القُصورُ وَتِلكَ الدورُ خاوِيَةٌ *** يَصيحُ فيها غُرابُ البَينِ بِالوَهنِ
فَلَو مَرَرتُ بِها وَالبومُ تندَبُها *** …………………………
البوم؛ الصعمر الذي يظهر في الليل.
.. وَالبومُ يتندَبُها *** في ظُلمَةِ اللَيلِ ..
يجيء للأماكن الخالية في الليل وله صوت.
فَلَو مَرَرتُ بِها وَالبومُ تندَبُها *** في ظُلمَةِ اللَيلِ لَم تَلتَذَّ بِالوَسَنِ
بالوسن؛ بالنوم
وَلا تَجَمَّلَت بِالأَرياشِ مُفتَخِراً *** وَلا اِفتَتَنتَ بِحُبِّ الأَهلِ وَالسَكَنِ
وَلا تَلَذَّذتُ بِالمَطعومِ مُنهَمِكاً *** وَلا سَعَيتَ لَدَنيا سَعيَ مُفتَتَنِ
وَلا اِعتَبَرتَ إِذا شاهَدتَ مُعتَبَراً *** تَراهُ بِالعَينِ أَو تَسمَعُهُ بِالأُذُنِ
إِنَّ المَواعِظَ لا تَغني أَسيرَ هَوى *** مُقفَّلِ القَلبِ في حَيْدٍ عَنِ السَّنَنِ
مُستَكبِراً يَبطُِرُ الحَقَّ الصَريحَ إِذا *** يُلقى إِلَيهِ لِفَرطِ الجَهلِ وَالشِنَنِ
يَمنّي النَفسَ أَمراً لَيسَ يُدرِكُهُ *** إِنَّ الأَماني مَقطاعٌ عَنِ المِنَنِ
يَكفي اللَبيبَ كِتابُ اللَهِ مَوعِظَةً *** كَما أَتى في حَديثِ السَيِّدِ الحَسَنِ
مُحَمَّدٍ خَيرُ خَلــقِ اللَهِ قُدوَتِنـــا *** مُطَهَّرِ الجَيبِ عَن عَيبٍ وَعِن دَرَنِ
عَلَيهِ مِنّـــا صَلاةُ اللَهِ دائِمَـــةً *** ما سارَتِ الريحُ بِالأَمطارِ وَالسُفُنِ
وَالآلِ وَالصَحبِ ما غَنَّت مُطَوَّقَةٌ *** وَما بَكَت عَينُ مُشتاقٍ على وَطَنِ
يفضح الدنيا ولا ما يفضحها؟ وهذه حقيقتها.. لا إله إلا الله… كم صرعت؟ وكم أبادت؟ وكم شتّت؟ من كل مُؤثريها ومساكين ما حصّلوا بعدها؟ لا إله إلا الله.. إيش اكتسب فرعون من ملكه؟ إيش انتفع قارون بماله؟ قال:
"يَرْضَى مِنْ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بِالدُّونْ *** وَلَيْسَ فِي زَهْرَاتِهَا بِمَفْتُونَ
وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يَفُوتْ مَحزُونْ ***.........................."
ما فاته منها ما يبالي، (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالࣲ فَخُورٍ) [الحديد:23]؛ لأنه يطالع حقيقة إمضاء الأمور بالحكم القهري؛ القضاء والقدر. "الكُلُّ مَقْضِيْ، سَابِقٌ وَلَاحِقُ"، فهو موقن بذلك. قال بعض العارفين: سكن جأشي على ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. خلاص لا داعي للهم ولا للحزن ولا للتَقديم ولا التأخير، هو.. هو المقدّم والمؤخر، الرافع والخافض.
"الكُلُّ مَقْضِيْ، سَابِقٌ وَلَاحِقُ"، ما سبق وما لحق، ما مضى وما هو حاضر وما يأتي؛ مرسوم .. مقدّر مقضي .. مرتّب .. مصوّر .. مُعَيَّن .. مبيّن، ما يزيد ولا ينقص (وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) [القمر:3]! ولا يكون إلا ما شاءه: "ما شاء اللهُ كان، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ"، لا إله إلا الله..
"وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يَفُوتْ مَحزُونْ *** الكُلُّ مَقْضِيْ، سَابِقٌ وَلَاحِقُ"
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم ارزقنا كمال الإيمان واليقين.
07 صفَر 1446