(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم ، عصر يوم السبت: 23 ذو الحجة 1445هـ، من قوله:
(وُرود الفاقات .. أعيادُ المريدين )
"ومن المريدين الصادقين من لا يدعو في كشف ما نزل به؛ لأنه في حال نزوله به واقف على باب سيده، متحقق بفقره وذلته منكسرٌ تحت سلطان عظمته متخلقٌ بأخص أوصاف عبوديته لخالقه، وأي حالة أعود على المريدين بالخيرات من الاتصاف بهذه الحالات".
لذلك قال المؤلف رضي الله عنه : "وُرُودُ الفَاقَاتِ أَعيَادُ المُرِيدِينَ"
"ورود الفاقات على المريد لطريق الله الطالب للقرب من الله عيدٌ وسرور، وتُحَفٌ وحبور ولا يكون كذلك إلا حيث شهد ورودها من الله، وفهم فيها أن سيده اختصه بمحبته، ورَضِيَهُ أن يكون من أهل حضرته.
وحضرتهُ، هي أن تحضر نفسك مُنخلعة عن الحول والقوة، مفتقرة إلى سيدها، ذليلة لديه، مُنطرحة بين يديه، ولا يَرى لكشف ما نزل بها رافعًا ولا دونه نافعا، فمتى ورد على المريد ما يُوقفه على هذه الأحوال الشريفة والمشاهد العالية المُنِيْفَة؛ فقد عاد عَليه بِعوائده الجميلة التي عاد فيها من الإعراض إلى الإقبال، ومن الانفصال إلى الاتصال، فيكون ذلك لديهم عيدًا ولأِحوالهم مزيدًا، سيما وفرح كل مريد في نيل مُراده، ومراد الصادقين التحقق بِذِلَتِهِم والنزول أرضَ مَسكنتهم، والوقوف على باب مليكهم والانطواء تحت كبريائه، و اضطرارهم بين يديه و فاقتهم لديه، وأفراحُ الصادقين ومَساراتهم في إنزال ما بهم على سيدهم ومالكهم. -عز وجل-.
وأما أعياد بني الدنيا الغافلين الذين هم بِشهواتهم الدنيوية، وحظوظهم البهيمية من المأكل والمشرب، والملبس والمنكح فَعيدهم بنيل هذه المرادات الفانية والحظوظ العاجلة، فما أبعد ما بين الفريقين وما أبونَ ما بين الطريقين، ولي في ذلك شعرًا:
ورود فَاقات أهل الصدق في الطلب *** على الوقوف بباب الله ذي الكَرمِ
كما يكون كذاعيدًا لهم فَكــــذا *** تكون ضدا على الغر الغبي القدمٕ
فقد يحزن الصادقون من أهل الإرادة عند دخول الراحة عليهم في الجسم وتيسر الأسباب العاجلة، لما يخافون من فوت حظوظهم في الآخرة؛ لأنه ورد ما أُعطي ابن آدم من الدنيا حظًا إلا نقص من حظه في الآخرة بقدره، أو كما قال إلا سليمان بن داود عليهما السلام؛ فإن الله تعالى قال في شأنه: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ) [ص:39-40]، وكان السلف الصالح إذا أقبل الغنى قالوا: ذنب عجلت عقوبته، وإذا أقبل الفقر قالوا: مرحبًا بشعار الصالحين، وذلك لما يجدون من المزيد في صفاء أحوالهم، والانشراح في صدورهم ما لو وجده أهل الثروة والجد في الدنيا، لهان عليهم دونها فوت جميع ما هم عليهم مكبون ولهم من الدنيا محبون".
الله .. لا إله إلا الله.
يتحدث الشيخ عليه رحمة الله تبارك وتعالى؛ عن ورود الفاقات الاضطرارات وشدة الحاجة وأنها أعياد المُريدين الذين يُريدون وجه الله -جل جلاله- والكلام متعلق بمعنى من معاني حقيقة التوحيد، يقولُ من المريدين الصادقين من:
هذه الحالات العجيبة التي لا يحدثكم عنها إلا النبيون، وما خَلْفوا فينا على ألسُن أتباعهم.
أما إبليس وجُنده يحدثونكم عن الملاهي وعن الترفيه، وعن الشهوات والمظاهر وكأنها كل شيء، وذلك مبلغهم من العلم مساكين، فهم الذين يظلمون العقول والقلوب، و يُحسرونها في هذا المتاع الفاني ولا يعلمون ما أعد الله وما أعطى في الدنيا قبل الآخرة.
وأما الذي في البرزخ والآخرة فَأكبر وأجل، ولكن في هذه الدنيا يذوق أرباب الصدق معه من لذة وصاله وقُربه وحقائق مودته وحبه، ما لا يساويهِ طَعَامُ طَعَام ولا شَرَابُ ولا نكاح ولا رئاسة ولا جاه ولا مال ولا شيء من أمتعة الدنيا، ولو صُبت لذائذ الدنيا كل صبًا في قالبٍ واحد، لما ساوت ذرة مما ينازل أرواحهم وقلوبهم من لذة وصال رب العرش -جل جلاله وتعالى- حقيقة؛ هذه حقيقة ولا يقطع عنها إلا شرار الخليقة.
ويجتهد إبليس وجنده أن يوحو إلى العقول أنه لا شيء من هذا موجود، ولا لذة إلا في الطعام والشراب والمنكح وأمور الدنيا والرئاسة، وما إلى ذلك (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ..) [النجم:30]، (..وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ * یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا..) [الروم:6-7]، هذا مما يعجل به الصادقين في الدنيا؛ حتى قال قائلهم: " لو يعلم الملوك ما نحن فيه بالليل أي من اللذة والحلاوة مع الله؛ لجالدونا عليه بالسيوف"؛
وهكذا يقولُ أهل هذا المقام أي حالة أعود على المريدين بالخيرات من الاتصاف بهذه الحالات، يكون الله معهم "أنا عندَ المُنكسرةِ قلوبُهمْ مِنْ أجلِي"؛ لهذا قال: "ورود الفاقات أعياد المريدين" والله يجعلنا لكم أعياد من أعياد المحبوبين والمقربين والصادقين والموفقين في ألطافٍ وعوافي آمين.
ونعم الأعياد أعيادهم، قالوا لسيدنا علي اليوم عيد، قال: "اليوم عيد وأمس كان عيد وغدًا إن شاء الله عيد كل يوم لا نعصي الله فيه فهو عيد"، يعني اليوم الذي لا نعصي الله فيه نزداد قربًا ومحبةً وذوقًا للمواصلة والوداد فنحن في أعياد، بهدف المعرفة وفي اليقين فهو في أعياد كل يوم ، كل يوم لا نعصي الله فيه فهو عيد، وهكذا لا تزال الأعياد لا تزال الأعياد تُنَازِلُ أهل الوداد من خيار العباد، بفضل الجواد بما لا يعده عاد ولا يحده حَاد وما لخيره من نفاذ؛ (ذَ ٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ) [الجمعة:4]، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، يا منان يا وهاب يا كريم.
ومَرَّ بعضهم على بعض الصالحين وكان مقعدًا لا يستطيع القيام، وكان أيضًا أعمى البصر وكان عنده عدد من الأمراض، فأخذه يخاطبه وقال: توجه إلى الله لك أن يقيمك وأن يرفع العمى عنك، قال: لا تدخل بيني وبين ربي هذا لماذا؟ ماذا لك بيني وبين ربي؟ أنا في حال لا تدخل بيني وبين ربي، هو أعلم بي وأرحم منك وأدرى بمصلحي، أذهب في شأنك، قال أنا أجد في هذا من الذل، لا تدخل بيني وبين ربي يزيد إيماني ويقيني أنت ما لك تدخل فيها، فهكذا يكون أحوال بعض الخواص.
يقولُ: "ورود الفاقات على المريدي لطريق الله الذي يطلب القُرب من الله، عيدًا وسرورًا، وتحف وحبور" وكل ما أورثه ترفعًا أو تعاليًا أو استغناءًا فهو مصائب، مصائب عليه؛ تبعده عن الإلـٰه وتبعده عن قربه فلهذا يفرح بما يورثه الانكسار والذِّلة والافتقار، قال: "ولا يكون كذلك إلا حيث شهد ورودها من الله، وفهم فيها أن سيده اِختصه بمحبته ورَضيه أن يكون من أهل حضرته"، وما حضرته ربك جل جلاله؟ قال: "أن تَحضُرَ نفسك مُنخلعة معه، تحضر نفسك معه مُنخلعة عن الحول والقوة، لا حول ولا قوة إلا إلا بالله، مفتقرة إلى سيدها ذليلة لديّه مُنطرحة بين يديه" ومن تذلل لله عَزْ عِزُّ كل مخلوق بقوة ذلته للخالق، عِزُّ كل مخلوق بقوة ذلته للخالق، الله أكبر، وهكذا كرامته وشرفه بتواضعه وتذلُلِـه لله الرحمن جل جلاله: "أنا عندَ المُنكسرةِ قلوبُهمْ مِنْ أجلِي".
يقولُ: "ولا يرى لكشف ما نزل بها رافعًا، ولا دونه نافعًا" فهكذا نفسه فيبقى مع الله تبارك وتعالى قال لسيدنا جبريل لسيدنا إبراهيم وقد رُمِيَ من المنجنيق في الهواء ليقع في النار:"ألك حاجة؟ قال: إليك لا ما أحتاج إليك ولا مخلوق، قال: فسأله قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي"، ووقع في النار قال الرحمن: (یَـٰنَارُ كُونِی بَرۡدࣰا وَسَلَـٰمًا عَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ) [الأنبياء:69]، فقضّى فيها أياما ولما سُأل آخر عمره عن أحسن أيام مرت به في الدنيا، قال: أيام كنت في نار النمرود، كان عيشها من أحسن العيش، فوجد أنه انقطع عن الكائنات كلها وهو خليل الرحمن صلوات الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
قال: "فمتى ورد على المريد ما يوقف على هذه الأحوال الشريفة، والمشاهد المنيفة، فقد عاد عليه بعوائد الجميلة، الذي عاد فيها من الإعراض إلى الإقبال ومن الانفصال إلى الاتصال فيكون ذلك لديهم عيدا ويكون هذا لِأحوالهم مزيدا، سيما وفرح كل مُريد في نيل مراده ومراد الصادقين، مع التحقق بذلتهم، والنزول أرض مَسكنتهم"، قال سيدهم: "اللَّهمَّ أَحيِني مِسكينًا، وأَمِتْني مِسكينًا، واحشُرني في زُمرةِ المساكينِ" اللهم صلِّ عليه وعلى آله.
وكان في دعائه يقول وفيما علمه الحق أن يدعو بعد كل صلاة يدعو الرحمن -جل جلاله وتعالى في علاه-: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسألُكَ فِعلَ الخيراتِ، وتَركَ المُنكراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأنْ تَغفِرَ لي وتَرْحمَني"، "اللهم إن أسألك فعل الخيرات"، وهذا مما عُلم من الرسول ﷺ أن يدعو به بعد كل صلاة، "اللَّهُمَّ إنِّي أَسألُكَ فِعلَ الخيراتِ، وتَركَ المُنكراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأنْ تَغفِرَ لي وتَرْحمَني"؛ لأن حب المساكين دليل المسكنة لله، ودليل صحة العبودية ومن لم تصح عبوديته لله، ما يحب إلا الأغنياء ولا يحب إلا أرباب المظاهر الزائفة الفانية لمرض في قلبه، "اللَّهُمَّ إنِّي أَسألُكَ فِعلَ الخيراتِ، وتَركَ المُنكراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأنْ تَغفِرَ لي وتَرْحمَني وإذا أردت بعبادِك فتنةً فاقبضْني إليك غيرَ مفتونٍ".
يقولُ: "والوقوف على باب مليكهم، والانطواء تحت كبريائه،و اضطرارهم بين يديه، و فاقتهم لديه، وافراح الصادقين ومَسراتهم و إنزال مابهم على سيدهم ومالكهم -جل جلاله- أما بني الدنيا الغافلين"، ما الأعياد عندهم؟ "الذين بِشهواتهم الدنيوية، وحُظوظهم البهيمية من المأكل والمشرب والمنكح والملبس"، فقط هذا "فَعيدهم في هذه المُرَادات الفانية"، كأنهم بهائم والبهائم أحسن منهم، فلم تؤتى العقول ما أوتوا، لم تسبح بحمد ربهم وهم غافلون.
قال: " فَعيدهم في هذه المرادات الفانية، والحظوظ العاجلة فما أبعد الفريقين، فما أبعد ما بين الفريقين، وما أَبْوَنَ مَابين الطريقين:
ورود فَاقات أهل الصدق في الطلب *** على الوقوف بباب الله ذي الكـرمِ
كما كذا يكون عيدهم لهم فكــــــــذا *** تكون ضدا على الغر الغبي الفَدمِ"
الفدم: الجاهل، بل العكس ماعنده إلا شئ مال، شئ مظهر، شئ شهوة؛ فهذا عيده مايدري ما فقد، ما يدري ما حُرِم، ما يدري ما قطعن -لا إله إلا الله- اللهم أرزقنا العبودية المحضة الخالصة.
قال: "فقد يحزنون الصادقين أهل الإرادة عند دخول الراحة عليهم في الجسم، وتيسير الأسباب العاجلة، لما يخافون من فوت حظوظهم"، وأورد ما أورد ابن الدنيا في الزُهدِ: "ما أعطي ابن آدم حظ إلا نقص حظه من الآخرة بقدره أو كما قال: "، وإن لم يكن الأمر على إطلاقه،
وهكذا كونه لطف وملاطفة من حضرة الله، إلا سيدنا سليمان عليه السلام، وقد أوتى الملك ولم ينقص عليه شئٌ من درجاته في الآخرة؛ لأنه لم يلتفت إليه، ولم يعول عليه قال سبحانه وتعالى في ذكر هذه الحقيقة:
فهكذا حاله مع الله ما يلتفت لغيره ولا يفرح لغيره، هذه بِتقطعنا عن ما هو أعظم: (رُدُّوهَا عَلَیَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ) [ص:33] قَطَع أعناقها وذبحها حتى لا يبقى شئ يقطعه عن انشغاله بذكر الله صلوات الله عليه.
بهذا قال لما ذكر ربنا سبحانه وتعالى ما أعطاه، وتكرم به عليه -جل جلاله- : (قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِی وَهَبۡ لِی مُلۡكࣰا لَّا یَنۢبَغِی لِأَحَدࣲ مِّنۢ بَعۡدِیۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ * فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّیحَ تَجۡرِی بِأَمۡرِهِۦ رُخَاۤءً حَیۡثُ أَصَابَ * وَٱلشَّیَـٰطِینَ كُلَّ بَنَّاۤءࣲ وَغَوَّاصࣲ * وَءَاخَرِینَ مُقَرَّنِینَ فِی ٱلۡأَصۡفَادِ * هَـٰذَا عَطَاۤؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ * وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ) [ص:35-40]؛ ما نقص شئ من درجاته العلية عند الرب -جل جلاله- صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
وقال: "كان السلف الصالح إذا أقبل الغنى قالوا: ذنبٌ عجلت عقوبته"؛ يخاف انقطاعه أو إنقاص شئٌ عليه، " وإذا أقبل الفقر قالوا: مرحبًا بشعار الصالحين، لما يجدون من صفاء أحوالهم".
قال المصنف رحمه الله تعالى والشارح نفعنا الله بعلومهم، وعلوم سائر الصالحين آمين: "وفي الفَاقات التي هي التَعرفات من الله لعبده ما لايخفى من عظيم الزلفى، وكريم الوفاء، لذلك قال المؤلف رضي الله عنه:
" رُبَّمَا وَجَد الْمُريدِ فِي الْفَاقَاتِ مَا لاَ يجِدُهُ فِى الصَّوْمِ وَالصَّلوات.
ربما وجد من ثمرة الفاقة وورود المحنة ونزول البلية من المريد المبتلى برؤية نفسه، وما منها في الفاقة -التي هي تَعَرُّفٌ من الحق مباينة للهوى، مؤلمة للنفس- من صفو الحال ما لا يوجد في كثيرٍ من الأعمال التي أعظمها الصوم والصلاة.
وذلك لما يُخَاف عليه في ذلك من دخول الآفات، و التباسها عليه، فَيَضِلُ سعيه، وذلك مفقود في البلية مأمون منه فيها، فلذلك كان وجِدانه لثَمرتها أقرب وأبعد من تطرق الفساد، وذلك في حق المريدين وأمَّا المُرادون، والعلماء الربانيون، والحكماء العارفون.. فَسيَّان في حقهم كل ما يرد من سيدهم.
فكلُ ما وردَ عليهم.. تلقَّوه بما يقتضيه الوقت منهم فيه، إن كان بلية تلقَّوه.. بالصبر، أو نعمة .. فبالشكر، وإن كان طاعة .. فَبشهود المنة فيه، وإن كان معصية.. فَبالاستغفار والتضرع في آناء الليل والنهار، فهم وقفٌ على مراد سيدهم فيما يفعل بهم ويورده عليهم، وقليل ما هم، أولئك معروفة أسماؤهم وظاهرة أوصافهم، خافية في الخلق أعيانهم، عاكفة في العلا ذواتهم، راتعة في الملكوت أرواحهم، سائحة في الجبروت قلوبهم، كارعة في حياض شهود بديع الجمال أسرارهم، قد شغلهم شهوده عن ورود الواردات الخلقية عليهم من الله سلام وتحية، ولي في ذلك:
فربما يجد البـادون فاقتهـــــــم *** تربوا على ما صدر منهم من العمل
أما الماردون على القرب نالتهم *** من ربهم نفحة ومن تعلوا على زحلِ
لا ينظرون إلى الأكوان همتهــم *** أن يدركوا منتهى الغايات في الأمل"
هكذا يقولُ عليه رحمة الله تبارك وتعالى، الفاقات التي تنطوي على تعرفات من الله لعبده؛ لا يخفى ما فيها من عظيم الزلفى والقرب والقيام بالوفاء معه -سبحانه وتعالى- ونيل حالة الصفاء، قال فـ"ربما وجد المريد في الفاقات ما لا يجده في الصوم والصلوات" أن التقرب إلى الله بالعبادات من أعظمها الصوم والصلاة؛ يجد فيها قربا، "والصوم لي وأنا أجزي به"، والصلوات: "أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ"، لكن هذا يجد في نزول فاقات به: من عطف ربه عليه وانكشاف عظمة الله إلهه له، وكريم ملاحظته وعنايته به ما لا يحصل له في الصلاة ولا في الصوم، وهكذا أحوال كثير من المريدين ولذلك كله يتعلق بحصول هذه الفاقة ورود المحبة فَيُفضِلُها.
قال: "ما لا يجده من صفو الحال في كثير من الأعمال"، لذلك لما يخاف عليه في ذلك من دخول الآفات و التباسها عليه؛ وهذا ليس موجود في البلية، فهو آمنٌ في هذه البلية من كثير من الآفات التي تدخل عليه وهو في الرخاء، قال هذا: "حق المُردين وأحوال المُردين" تتكلم عنه.
وهناك مُرادون للحق -جل جلاله-، ومُصافون من قبل الحق -جل جلاله-، ووَاصلون في مراتب الوصول الأعظم وحلوا بروج الوصول؛ قال: هؤلاء المُرادون: " وأمَّا المُرادون، والعلماء الربانيون، والحكماء العارفون.. ":
قال: "كل ما ورد عليهم تلقَّوه بما يقتضيه الوقت منهم" أين مرضاة الله؟ وأين محبة الله؟ وأين أحسن عند الله؟ هم وراء في أي حال من الأحوال -عليهم الرضوان-، "إن كان بلية تلقَّوه بالصبر أو نعمة بالشكر أو طاعة بشهود المنة لله، وإن كان معصية فَبالإستغفار والتضرع، آناء الليل وأطراف النهار، فهم وقفٌ على مراد سيدهم فيما يفعل بهم ويرد عليهم، وقليل ما هم، أولئك معروف أسمائهم وظاهرة أوصافهم، خافية في الخلق أعيانهم، عاكفة في العُلا ذواتهم" كم شخص تنظره حاضرًا وروحه في العلا تجول؟
"راتعة في الملكوت أرواحهم، سائحة في الجبروت قلوبهم، كارعة في حياض شهود بديع الجمال أسرارهم، شغلهم شهوده عن ورود الواردات الخلقية بأصنافها فعليهم من الله سلام وتحية" رضي الله عنهم.
فربما يجد البـادون فاقتهـــــــم *** تربوا على ما صدر منهم من العمل
البادون يعني المبتدئون.
أما المُرادون على القرب نالتهم *** من ربهم نفحة ومن تعلوا على زحلِ
لا ينظرون إلى الأكوان همتهــم *** أن يدركوا منتهى الغايات في الأمل
فهم مع الله، ولله، وبالله، وفي الله، في كل حال عليهم الرضوان.
الدعاء:
اللهم اجعلنا جميعًا من السالكين على صراطه المستقيم، وأهلينا كلهم وأولادنا كلهم، وطلابنا كلهم، وأهل الدورة، ومن يتابع دروسهم، يجعل كل فرد منهم من المستقيمين على صراطه المستقيم، والمتحققين للرحمن بالإنكسار والخضوع والتذلل لعظمته -سبحانه وتعالى- يذيقنا لذة مناجاته، يذيقنا -سبحانه وتعالى- حلاوة رحمته، يذيقنا برد عفوه، يذيقنا لذيذ الوصال الذي واصل به أهل الكمال، ولا يحرمنا خير ما عنده لشر ما عندنا، ويبارك لنا في هذه الليالي في هذه الاجتماعات، يجعلها ليالي اتصال وليالي وصال وليالي إيصال، وليالي عطايا جزال، ويمنحنا وإياكم حُسْنَ الخاتمة لهذا العام الخامس والأربعين بعد الأربعمائة وألف من هجرة حبيبنا المصطفى محمد ﷺ ويبارك لنا ولأمته في العام السادس والأربعون بعد الأربعمائة وألف من هجرته ﷺ، بركة كبيرة عظيمة ينفتح بها أبواب الفرج يرتفع بها الضيق والحرج، تحول بها ما نازل المسلمين من شدائد في السودان، وفي الصومال، وفي غزة، وفي فلسطين إلى منن من الله، ونصر من الله، ولطف من الله، وعافية وعفو من الله، ويَرُد الله كيد الكفار والفجار والأشرار ولا يُبَلِغ الظالمين مراد فينا ولا في حد من المسلمين من قريب ولا من بعيد. وأيدنا بتأييده ويسددنا بتسديده وخير تأييد وأقوم تسديد، ويُعِيْذُنَا من شُرور أنفسنا ويربطنا بأهل حقيقة التوحيد وارفعنا في مراتب حقيقة التوحيد، وفر حظنا من حقيقة التوحيد انظمنا في سلكِ الحبيب الفريد، وتَولنَا حيث ما كنَّا، وأينما ما كنَّا، في كل ظاهر وباطن، واختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنَّا في لطف وعافية.
بسر الفاتحة وإلى حضرة النبي، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم،
الفاتحة.
24 ذو الحِجّة 1445