(209)
(536)
(568)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) }
مساء الإثنين 13 ربيع الأول 1446 هـ
الحمدُ لله مُكرِمنا بتنزيل الكتاب، وبيانه على لسان سيد الأحباب، محمد بن عبد الله، الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة والسراج المنير، اللهم أدم صلواتك على البشير النذير سيدنا محمد، وعلى آله أهل التطهير وأصحابه مَحل التقدير، ومن والاهم فصار على منهجهم يسير إلى يوم المصير، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،
فإنَّنا في تأملنا، لِبعض معاني كَلام إلهنا وخالقنا وربنا، موجدنا ومبدئنا ومُنشِئنا وفاطِرنا -جلَّ جلاله-، أخذنا من أوائل سورة مريم ما ذَكَرَ الله لنا فيه خَبَرَ عَبدِه زكريا، ويحيى بن زكريا، ومريم ابنة عمران، وحَملَها بسيدنا عيسى -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- من دون أبٍ.
ومَرَّ معنا قوله -جلَّ جلاله-: (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)) أي بعيدًا، (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ (23)) ألجأها إلى جِذعِ النخلة، فاستندتْ إليها وقالت: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نسْيًا مَّنسِيًّا) لا أثَرَ لي، ولا أحد يَذكُرُني، ولا أعرِفُ عن نفسي، ولا يَعرفني أحد.
(فَنَادَاهَا مَن تَحْتِهَا (24)) وفي قِراءةٍ (مِن تَحْتِهَا)، (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) فهذا النداء؛ قيل إنَّه من سيدنا جبريل -عليه السلام-، وعليه حُمِلَت هذه القِراءة (مَن تَحْتِهَا)، وقيل أنَّه عيسى ابن مريم -عليه السلام- أنَّه ناداها ابنُها من تَحتِها عندما وَضَعَتهُ: (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)، (سَرِيًّا): نَهرًا وجَدولًا، كما يطلق أيضًا على الشخص الكامل التام، العظيم الشأن والقدر، يُقال له: سَري.
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)) فَجَعَلَ الله لها شرابَ الماء وأكلُ الرُّطَب.
(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا (26))؛ أي كوني على مسرَّةٍ وانشراح (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) وقيل كانوا يُتعبَّد عندهم بِتَرك الكلام، كما يُتَعَبّد بترك الطعام والشراب، فيُصام عن الكلام في خلال اليوم والليلة: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) لِئلا تَفتَحَ باب المجادلة والمُحاجّة للسُفهاء ومن يطوِّل لسانه، فأُمرت أن لا تتكلم ولا تتحدث، ولكن يُبرِّئُها الله تعالى، ويُبيِّن نقاءها وطهرها بمعجزة أن يتكلم الطفل والصبي وهو في المهد.
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27))؛ عظيمًا شنيعًا كبيرًا، وما بَلَغَ المَبلَغ في العِظم من الخير والشرِّ، يقال له: فَرِيّ، وفي الحديث يَذكُر ﷺ رؤيا مع الصحابة، وذَكَر سيدنا عمر وهو يَنزَح، قال: "فلم أرى عبقريًا يَفرِي فَرِيَّهُ" يعني: يَعمل مثل عَمَله في قوةٍ واستكمالٍ للتمام.
(قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) وبذلك يَتَبَيَّنُ أنَّه بِحُكمِ الطبيعة والشريعة والفطرة والأعراف، من عهد آدم -عليه السلام- إلى كل ذي فطرة سليمة في زمننا، يجعلون أمر الزنا واللواط: فَرِيّ، أمرًا شنيع.. كبير.. شديد.. كما سَمَّاه الله تعالى في كتابه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء:32]، وقال سبحانه فيمن يرتكب قُرب المحارم: (وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) [النساء:22].
فهذا هو الحُكمُ الذي تَقومُ عليه حقيقة الأمر، والذي لا تصلح البشرية إلا به، وأما عبيد الشهوات الذين يبيحون الفواحش ولا يشترطون لها إلا التراضي، فأولئك الذين سقطوا عن رتبة الإنسانية إلى البهيمية وجاوزوا ذلك بحدودٍ: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ورأيتم كيف وصل بهم الحال في أزمِنتكم وأوقاتكم إلى تجاوز الحدود، حتى أعادوا ذكريات قوم لوطٍ ثم جاوزوها بتحويل الذكر إلى أنثى والأنثى إلى ذكر، وجاوزوها بالتقنين لذلك والسَّنِّ له والتنظيم له -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فما أتفههم وما أسفههم وما أسفه ما يأتونه.
(لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27))؛ أمر شنيع كبير خارج، خارج عن نطاق الإنسانية والمروءة والخيرية (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا)؛ أمرًا فَرِيَّا.
(يَا أُخْتَ هَارُونَ (28)) شبّهوها ببعض العُبّاد الزهّاد الصالحين، وكان أحدُهم في زمنها ويسمى: هارون، وذلك أنهم كانوا كما قال ﷺ -وصحَّ في الحديث- أنهم كانوا يُسَمون بأسماء أنبيائهم وصُلَحائهم، أي يحبون التسمية بأسماء الأنبياء والصُلحاء، وكذلك ينبغي لكل عاقل في الأمة أن لا يختار لابنه ولا لابنته اسم، إلا ما كان من أسماء الأنبياء والصلحاء والمقربين والعباد الصالحين.
وذلك لما جاءوا إلى نَجران بعض الصحابة وقالوا لهم أنتم تقرؤون عندكم في القرآن الذي نَزَل على نبيكم -في مريم- يا أخت هارون؟ وقالوا: نعم، قالوا لهم: أن بين مريم وهارون وموسى ستمئة سنة، فأين أخت هارون؟ وكيف أخته؟ فلما رجع، سأل النبي ﷺ فقال: إنَّهم كانوا يُسَمون بأسماء أنبيائهم، وأنه كان هناك هارون -واحد- في زمن مريم؛ شبهوها به، قال: لأنها كانت على نُسك، وكان على نُسُك وعلى زهادة وعلى عبادة وعلى استقامة وعلى تقوى.
(يَا أُخْتَ هَارُونَ (28)) ما الذي نَزَلَ بِكِ إلى هذه التفاهة والسفاهة والأقذار؟! (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) ما كان أبوكِ صاحب سوءٍ ولا صاحب شرٍ، ولا يُقدحُ في عِفّته ونزاهته وبراءته وطهره وأدبه (وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي زانية.
قال (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ (29)) أي كَلموه، وقيل إنَّها أُمرت أن تقول هذه الكلمات فقط (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا (26)) وقيل إنَّها بالإشارة، أشارت إلى أنها نذرت للرحمن صومًا، وأشارت إلى الطفل يُكَلِّمونه، قالوا: أتستهزئين منّا وتضحكين؟ (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)) وكانت ترضعه، ففك الثدي لمّا قالوا ذلك، واتكأ على يده اليسرى ورفع يده اليمنى وإصبعه، وأخذ يخطب -سيدنا عيسى بن مريم- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فكانت آية مُبهرة، دلَّتهم على طهارة مريم -بيقين- وعفتها ونزاهتها، وأنه لم يأتِ من بشر، وإنَّما كوّنه الرب الأقدر، -جلَّ جلاله- صاحب القدرة التي لا تتناهى.
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ (30)) أنا عبد من عباد الله الخاضعين المتذللين لله -جلَّ جلاله- (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ) فأين الكتاب؟ هل يوجد كتاب؟
يعني كتبَ أن يُنزِل عليَّ كتابا، سأتلوه عليكم وقت نزولهِ من السماء
(آتَانِيَ الْكِتَابَ) وقيل أن الله علّم روحه الكتاب وهو في بطن أمه، ولكن مهما كان، فإن ذلك أيضاً مما يُقضى به لِما يأتي ولما يُستقبل
(آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) وهو طفل صغير وهو نبي، (جَعَلَنِي نَبِيًّا) أي قضى أن يجعلني نبيًا وينبئني ويبعثني ويرسلني (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ (31))
تتبعني البركات من الخيرات والتيسير، والتنوير والتعليم والهداية والإرشاد والسكينة والطمأنينة -مبارك-!
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ): في أي مكان أكون تَحِلُ البركة.
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ): أي تَحِلُّ الأنوار، تَحِلُّ الرحمات، تَحِلُّ السكينة، تَحِلُّ الطمأنينة، يَحِل العِلم، يَحِلِ الإرشاد، يَحِل الخير.
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) فلله بركات يجعلها في الأشخاص، يجعلها في الأماكن، يجعلها في الأوقات، اللهم بارك لنا أوسع البركات، في أعمارنا وأوقاتنا، وبارك لنا في ديننا، وضاعف اللهم تنّورنا بالدين وتحققنا بحقائقه، ورقيَّنا في مقاماته، وبارك لنا في المقاصد والنيات، وبارك لنا في الأهل والأولاد، وبارك لنا في الجلسات والطلاب، وبارك لنا في ذكر الأنبياء وولادتهم، وولادة سيد الأنبياء عبدك محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله، بركات تامات، بها تبعث فينا الخيرات وتدفع عنا بها الآفات والمضرات والعاهات، وتأذن بظهور راية خير البريات، محمد ﷺ، ونُصرة الحق وأهله في جميع الأقطار، يا كريم يا غفار.
يقول سيدنا عيسى: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ (31)) هل يصلي وهو في المهد؟ يعني اجعل هذه وصيتي كما وصّى بها الأنبياء من قبلي، وخِيار عباده الذين اصطفاهم، أنا مُوَصى بها من قِبل الله وسيوصيني بها (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) كم عنده مال -سيدنا عيسى عليه السلام- وهو سيزكي! ولا زال في المهد؟! أي: هذا المسلك؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ مسلك الأخيار الأطهار الأبرار من عهد آدم إلى آخر صالحٍ صادقٍ في الأمة، يقول: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73] صلوات الله وسلامه عليهم.
يقول: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)) أي أنّ قيمة الحياة وفائدتها وغنيمتها وثمرتها، أن نقوم بهذه الأعمال الصالحة؛ فنكسب الرُّقيّ في الدرجات وزيادة الإيمان، ونيل المراتب في الدار الآخرة، ما دمت حي، فهذا شغلي وهذا عملي.
(وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)) فأنا مبارك حيثما كنتُ، وأنا مقيم للصلاة، ومؤدي للزكاة بكل ما تَعَرّضتُ لفرضه عليّ أو قدرت عليه، وكذلك أوصاه بالزكاة: الطهارة والنقاء، -الزكاة المعنوية- كزكاة الأموال أيضًا (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) أن أكون مُطَهَّر الباطن، نقي القلب والفؤاد، لا يعلق بي سوءٌ، ولا ينازلني شيء من غُبرة الأكدار والظلمات.
(وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي (32)) وقد تقدم أيضًا قَبله النبي يحيى، أيضًا في ذِكرِ هذا البِر (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) [مريم:14] الله يقول عنه: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) وسيدنا عيسى قال: (بِوَالِدَتِي) ليس بوالِديّ؛ لأنه ليس لديه أب، عنده إلا أم (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) وهي مريم بنت عمران على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام، (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) ونُسب إليها وكان من ذرية سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ من ذرية إسرائيل.
يقول في ذرية ابراهيم -سبحانه وتعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ) [الأنعام:83-85] كيف من ذُرِيَتِهِ؛ عيسى؟ بواسطة الأم، فَصَحَّت نسبته من جهة الأم، وعُدّ من الذرية.
وهكذا لما أمر النبي ﷺ في الصلاة على آلهِ وذريته، أين ذريته؟ أبناؤه القاسم وعبد الله، الطيب الطاهر، توفوا صغارا، وإبراهيم في سبعة أشهر توفي، لا أحد ولد له، أين ذريّته؟ ذريته هم من جهة ابنته، كما أنَّ عيسى من ذرية سيدنا إبراهيم، فالحسن والحسين ونسلهما من ذرية محمدًّا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي (32)) فالبر بالآباء والأمهات، مظهر كمال وشرف وكرامة ورِفعة، وهنيئًا لمن أدرك أبويه أو أحدهما فَبَرَّهُما وأحسن إليهما، وخصوصًا عند الكِبر، وهي وصية الله وهي مظهر أصفياه، يقول عن سيدنا يحيى: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم:14]، ويقول عن سيدنا عيسى -يحكي عن نفسه-: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي (32)) ما أنا من أهل العقوق ولا من أهل ادخال السوء ولا الشر على الآباء ولا على الأمهات؛ فأنا أبِر بأمي هذه التي خلقني الله -تبارك وتعالى- وكوَّنني في بطنها وأخرجني منها، فلها بِري وإحساني ومعروفي وإيصال الخير على يدي بكل ما استطعت (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي).
ثم تبرُّؤهم عن الجبروتية وعن التجبّر والتكبّر على عباد الله تعالى، تقدم في سيدنا يحيى عليه السلام قال الله تبارك وتعالى عنه: (وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم:14] وهذا سيدنا عيسى يقول: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)) فالأشقياء العُصاة هم الجبابرة، أما الصالحون لا يتجبرون ولا يَبسطون أيديهم بالسوء لأحد، ولا يَتعالون على أحد من الخلق.
يقول أشرفهم وأعظمهم درجة عند الرحمن: "إنما أنا عبدٌ أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، إذًا فالذين يَنتَحون ناحية هذا التجبّر والعلو هم المحرومون من نصيب الآخرة (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) [القصص:83] وهم الذين يُحشَرون على صور الذر، ويُجمَّعون في وادٍ في القيامة، يطأهم الناس بأقدامهم والحيوانات وكل شيء يرفُسهم؛ لمّا أنهم كانوا متكبرين متجبرين في الدنيا.
يقول سيدنا عيسى: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) أسقط في الشقاء والتعاسة والسوء والبعد عن السعادة.
(وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ (33)) عليّ السلام والأمن والطمأنينة، والرضا من ربي الرحمن والسلامة من الآفات، (يَوْمَ وُلِدتُّ (33)) في يوم مولدي، إذًا فيوم الولادة مُعَظَّم لكل مُعَظَّم، من كان معظم فيوم ولادته معظم، (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ) كما قال سبحانه في سيدنا يحيى: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ) [مريم:15].
وأما سيدنا عيسى يأتي يوم موته، بعد نزوله إلى الأرض، ويموت كما جاء في روايات في المدينة المنورة، ويُدفن بجوار نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وأما سيدنا يحيى فقد كان موته في الدنيا بشناعة وبشهادة بتسليط بعض الفجار والكفار.
وقد جاء في رواية يرويها بِشر بن إسحاق وغيره عن سيدنا ابن عباس يقول عن النبي ﷺ أنه لما كان ليلة الإسراء والمعراج، ولَقي سيدنا زكريا -عليه الصلاة والسلام- في السماء وأنه دار بينهم -والجلوس- سأله وقال: كيف قُتِلتَ؟ ولمَ قَتَلَكَ بنو إسرائيل؟ فقال له: يا محمد، إنَّ ابني يحيى كان من خير الناس، وأصبحِهم وجهًا، وأكرمهم وأجملهم، وكان حصورًا -كما قال الله -تبارك وتعالى- لا يشتهي النساء ولا يأوي إليهن، وإن امرأةً كانت لِمَلِكٍ، في ذلك الوقت، ملك عندهم في ذاك الزمان وذاك المكان وكانت بَغِيًّا، وأنها أرسلت إليه، فَعَصَمَهُ الله منها وأبى عليها، فترقّبت يوم عيد لهم وقامت تُشَيّعُ زوجها الملك وكانت ذات منزلة لديه، فقال لها: سليني، فما تسأليني شيئ هذا اليوم إلا أعطيتك إياه، قالت: أسألك دم يحيى بن زكريا، قال: سلي غيره، هاتي شيئًا ثاني -مغتاظة منه-، قالت: هو ذاك -ما أريد إلا منك هذا-، وكان الملوك إذا قالوا شيئًا أمام الناس فلابد من الوفاء به، فقال: لكِ ذلك، قال سيدنا زكريا -يحكي لهم- قال: فأرسل إليه من جنده من جاءنا وأنا في المحراب أُصلي وكان إلى جنبي يحيى، قال: فاحتملوه في طست -ذبحوه في طست- وحملوا رأسه ودمه إليها.
قال: فقال له ﷺ: فما بلغ من صبرك؟ قال: ما انفتلتُ من صلاتي، -قال: سيدنا زكريا محله في الصلاة- ما خرجت من الصلاة، إنَّه استمر في صلاته وذبحوا ابنه أمامه، و ذهبوا به إليها؛ فغار الله -تبارك وتعالى- فخسف الأرض بالملك وزوجته وحاشيته ومن معه في تلك الليلة، وأصبحوا لا أثر لهم.
قال: فجاء بنو إسرائيل وقالوا: إنَّ إله زكريا غَضِب لزكريا، فتعالوا نَغضب لملكنا نحن هذا: اقتلوا زكريا، قال: وجاءني النذير -أخبره-، قال: فهربت منهم، قال: فتبعوني وجاء إبليس أمامهم يدلهم علي، يقول لهم: امشِ هنا .. مشى هنا يمشي -يمشي- قال: حتى إذا أدركت أني لن أُعجِزَهُم، نادتني شجرة وقالت: إلي يا نبي الله، ثم انفتحت لي، قال: فجاء إبليس يُمسِك بطرف رِدائي، وانطبقت الشجرة وبقي طرف الرداء خارج، وهو يمشي ويدلهم حتى وصلوا، قال لهم: تعالوا، انظروا إلى زكريا في هذه الشجرة، ها؟ كيف سيدخل في الشجرة، قال لهم انظروا هذا العلامة، انظروا رداءه هذا، نعم هو داخل.
قالوا: سنحرق الشجرة، فقال لهم: لا هاتوا المنشار شقوه، جاءوا بالمنشار وشقوه حتى وصلوا إلى رأس سيدنا زكريا وشقوه، يقول ﷺ: هل وجدت ألم لذلك؟ قال: لا، إلا أني رأيت روحي وسط الشجرة حتى قضوا ما كان من أمر الله -تبارك وتعالى-، لا إله إلا الله.
فكانت هذه مظاهر الابتلاء والاختبار للأصفياء للحق تعالى والمقربين من عباده، فما أحقر الدنيا وما أحقر ما فيها! وبعد ذلك الويل لمن غضب الله عليهم ولمن اعتدوا على أنبيائه وعلى أصفيائه، وإنَّ أبغض الخلق إلى الله تعالى من قتل نبيًا أو قَتَلَهُ نبي، وكان هذا في بني إسرائيل يقتلون الأنبياء -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وقتلوا أنبياء كثير.
وجاء في بعض الروايات أن الله -سبحانه وتعالى- أوحي إلى النبي محمد: أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، جعله في الذين ناصروا وأقروا قتل يحيى، قتل الله منهم العدد الكثير؛ غَيرةً منه على نبيه وويل لأعداء الأنبياء.
يقول -جلَّ جلاله- على لسان عيسى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)) فالشأن في يوم البعث للأنبياء، فهم أعظم المُقَرَّبين عند حاكم يوم القيامة وإذا كانت الملائكة تقول لأتباع الأنبياء: (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:103] فكيف بحال الأنبياء؟ فاليوم يومهم ولهم الشرف في ذاك اليوم، ولهم الكرامة في ذاك اليوم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا تَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) [غافر:51-52] فلهم الشرف والعلو؛
أيام ولاداتهم أيام مُشَرّفة
وأيام وفياتهم كذلك أيام ذكرى
ووقت بعثهم ونشورهم لهم البشرى ولهم الكرامة والشرف عليهم صلوات الله وتسليماته.
(وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (34)) هذه حقيقةُ سيدنا عيسى وكيفية تَكوينه وخَلقه وما جَعَلَ الله -تبارك وتعالى- من الآيات في حَمله وفي وَضعه وفي كلامِه في المهد، ثم لم يَتَكَلم إلا بهذه الخِطبة وسكت ولم يتحدث بعدها كبقية الأطفال حتى بلغ مبلغ الصبيان، تكلم كما يتكلم الصبيان صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء.
إلا ما وَرَدَ أنه كان يُؤنِسُ أُمَهُ إذا كانت وحدها، بل جاء أنه يكلمها وهو في بطنها أيضًا، وكذلك بعدما ولدته كان إذا كانت خاليةً وحدها آنسها وكَلمها، وهذا الذي جاء أيضًا في سيرة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأنه كان يكلم أمه و يؤنسها إذا كانت وحدها وهو في بطنها صلوات ربي وسلامه عليه.
وهكذا وأما بالنسبة للعموم فبقي سيدنا عيسى كبقية الأطفال لا يُكلم أحدا حتى كبر وتكلم كما يتكلم الأطفال، إلا أنه قيل أول ما نطق، نطق أيضًا بتحميدات لله عظيمة وكبيرة جليلة ما تجري على ألسن الأطفال.
كما جاء في السيرة أنه أول ما بدأ ﷺ يَنطق ونطق وهو ابن ثمانية أشهر -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، فأول كلمة نطق بها قال: "جل جلال ربي الرفيع؛ الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان اللہ بكرة وأصيلا"، بدل من أن ينطق الصبي أول كلمة؛ -با، با، ما، ماـ نطق بهذه الكلمة قال: جلَّ جلال ربي الرفيع، الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان اللہ بكرة وأصيلا، كانت أول كلمة نطق بها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في هذه الحياة الدنيا.
يقول: (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَُ الْحَقِّ (34)) بالرفع أي هذا هو (قَوْلُ الْحَقِّ) الذي يقوله الله تعالى، وفي القراءة الأخرى (قَوْلَ الْحَقِّ)، أي قال: (قَوْلَ الْحَقِّ).
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ (30)):
لا أنا ابن -تعالى الله الحق أن يكون له ولد-
ولا أنا إلٰه (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) هذا هو، هذا (قَوْلُ الْحَقِّ) الذي قال، قال عيسى قول الحق عن نفسه.
(قَوْلُ الْحَقِّ) أي هذا الخبر والقصة والنبأ هو (قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)) ويقولون مِنَ الذين خرجوا عن سواء السبيل من اتباع سیدنا عیسی فما عاد صاروا أتباعه بما ابتدعوا مما يخالف ما جاء به.
قال: (ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ (35)) كيف يكون ذلك والخَلقُ كلهم خَلقه وعبيده وصنعته جلَّ جلاله و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11] سُبحانه، تنزّه وتعالى وتقدّس (إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35)).
وأكمل كلام سيدنا عيسى عليه السلام: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ (36)) هذا كان يقول هكذا (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) [المائدة:72]، وقال لهم كما قال في الآية الأخرى: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ (37)) كذلك اختلف الأحزاب فيما بينهم:
فَمِن قائل إنَّه إلٰه
ومِن قائل إنَّه ابن الله
ومن قائل إنَّه ثالث ثلاثة
كلام كله لا يقبله العقل ولا الفطرة، ولا له صحة من قريب ولا بعيد، بل هو عبد الله تعالى ورسوله "وأنَّ عِيسَى عبدُ اللهِ، ورسوله، وابنُ أمَتِهِ، وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ منه" -جلَّ جلاله-.
(مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)) (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ) حضور (يَوْمٍ عَظِيمٍ)؛ عظيم هَوله، عظيم عَذابه، عظيمة آياته، عظيم ما يجري فيه؛ وهو يوم القيامة.
(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا (38)) قال الله نُمِدهم بسمع قوي وبصر قوي في ذاك اليوم فلا أسمع ولا أبصر منهم في يوم القيامة؛ الكل يسمع والكل يُبصر: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا) [السجدة:12].
يقولون (أَسْمِعْ)؛ يعني ما أشد سمعهم وما أقوى بصرهم في ذاك اليوم: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) وراء تُرهّاتهم وبطالاتهم يقولون اكتشفنا واستخرجنا وخَرجنا وصنعنا وأنتم من صَنَعكُم؟ من صَنَعكُم؟ (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:95-96] (لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).
أنذرهم يا حبيبنا (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ (39)) سيتحسّرون على أعمارهم وعلى أفكارهم هذه، وعلى جحودهم وعلى عدم استجابتهم لدعوة الله ورسوله.
(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي، (قُضِيَ الْأَمْرُ) يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ثم يؤتى بالموت، وكيف يؤتى بالموت؟ إنَّ الأمور المعنوية تُرى في القيامة كما تُرى الأمور الحسية بالبصر في الدنيا، فالناس في القيامة يَرون المعاني؛ تظهر الصلاة، يظهر الزكاة، يظهر الصوم، الأمور المعنوية كلها، هذه الشجاعة.. هذا الأدب.. هذا الخوف من الله، يراها أمامه ويشاهدها كما يشاهد الحسيات بالبصر.
كذلك الموت، كلهم قد ماتوا يعرفون الموت، يُصَور الله الموت بصورة كبش فَيَأمر سيدنا يحيى -هذا الذي ذبحوه- دعهم يرون، هؤلاء الذين ذبحوك وقتلوْك؛ الآن أنت تذبح الموت في موقف رهيب عظيم، يُرفَع لأهل الجنة، يقول: أتعرفون هذا؟ يقولوا: نعم الموت، هذا الموت، كلنا نعرفه، يقول: لا عليكم لا تخافون، فيُشرَف على أهل النار، ويقول: أتعرفون هذا؟ يقولون: نعم، الموت، يتمنونه يحبون الموت، ولكن يأمر الله يحيى فيأخذ المُدية فيذبحه، يعني أنكم معشر المكلفين الإنس والجن حكمت بحكمي أن لا أميتكم، ما عاد لكم موت بعد هذا، بل أبقيكم بإبقائي، فانتهت المسألة.
فتصوّرت الإرادة الربانية كلها بالصورة الظاهرة، فصاروا يشاهدونها، وعرفوا أن هذا هو الموت، وذبحه معناه أني حكمت أن لا تموتوا، فإذا ذَبحه "نادى المنادي: يا أهل الجنة خلودًا فلا موت، ويا أهل النار خلودًا فلا موت"، وجاء في الرواية: قال "فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحٍهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم" كانوا يتمنّون الموت ولكن ما عاد شي موت بعد هذا، (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ) [الأعلى:13]، (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا) [المائدة:37]، اللَّهُمَّ أجِرْنَا مِنَ النَّارِ وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ، بِوَجْاهِة صَاحِبِ الذِكْرَى نَبِيِّكَ الأَمِين.
اللهم املأ قلوبنا بمحبتك ومحبته، حتى نحيا ونموت وأنت ورسولك أحب إلينا مما سواكما، واجعل اللهم حبك وحب رسولك وحب الجهاد في سبيلك أحب لنا من أنفسنا وأهلنا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ، ومن كل شيء يا حي يا قيوم .
يا أكرم الأكرمين أكرمنا بهذه المحبة وأدخلنا مع الأحبة، وارفع لنا عندك الرتبة، واكشف عنا وعن أمته كل كربة، اكشف عنا وعن أمته كل كربة، اكشف عنا وعن أمته كل كربة، يا مفرج الكروب، يا مصلح القلوب، يا غافر الذنوب، يا رب وما سواك مربوب، لا إله إلا أنت تداركنا بحبيبك المحبوب، واكشف الشدائد والبلايا والرزايا، واجعل لنا في شهرنا هذا فرجًا كبيرا، ومَنًا وفيرا وخيرًا كثيرا، وعطاءًا مِنك يزداد، وأعظم إسعاد وأجل إمداد، يا كريم يا وهاب يا جواد، يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
16 ربيع الأول 1446