تفسير سورة طه -15- من قوله تعالى: {أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ.. (128)} إلى الآية 135

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه  

أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
 

مساء الإثنين 21 ذو القعدة 1446هـ

فوائد مكتوبة من الدرس:

https://omr.to/q-taha15f

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله المَلِك الحق المُبين، من بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، جامعِ الأوّلين والآخرين ليوم الدين (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ) [الانفطار:17-19]، نشهد أنَّه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، نال السعادة من عباده المُكلَّفين مَنْ خَضَع لجلاله وقابلَ أمره بامْتِثاله وابتعدَ عمَّا نهاهُ عنه في نِيّاته وأقواله وأفعاله، وخابَ وخسِر من خالَف أمره، وأعرَض عن ذِكره، وتولَّى عن مَنهجِه أولئك الخاسرون، خسروا الدنيا والآخرة (أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15]، ونشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه الصادق الأمين، رسوله المُجتَبى المأمون، خاتَمُ النبيّين وسيد المرسلين، أرسله (بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:9]، فكان في أُمّته أنصارًا له على مراتب في النُّصرة، وبحسَبِها فازوا بحقائق الفوز في الدنيا والآخرة. 

وكان في أمته جاهلون ومُخالِفون ومُعادُون ومُعانِدون، وبحسب ذلك خسِروا وكان لهم الشقاء في الدنيا والآخرة، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54]، (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء:80]، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65] وفي يوم الحُكمِ ما وصفَ الله تعالى عندما يجمع الأولين والآخرين يحكُم بينهم: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان:27].

فَصَلِّ اللهم وسلِّم وبارِك على سيدنا الرسول خيرِ هادٍ ودليل، وعلى آله وصحبه خير جِيل، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسان إلى يوم وَضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفعتَ لهم القَدْر والمكانة والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائِكتك المُقرَّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أمَّا بعد،

فإنَّنا في نعمة تأمُّلِنا لكلام ربنا وتعاليم خالِقنا وتوجيهات بارِئنا، وتنويرات مُوجِدنا -جلَّ جلاله- فيما أوحاه إلى مُصطفاه، وصلنا إلى أواخر سورة طه، ومَرَرنا على قول ربنا -جلَّ جلاله-: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (128)) دعانا الله تعالى -وكل واعٍ وعاقِل- أن نتدبَّر وَقائع الأحوال في أزمِنَتنا، ثم ننظرُ ما كان قبلنا، مما وصلت الأخبار به إلينا وتناقلَتْهُ الأجيال التي من قَبلِنا حتى وصل إلينا من أخبارِ أقوامٍ مِثلِنا في الإنسانية وفي البشريّة، لكن توجَّهت بهم وجهاتُهم واتّجاهاتُهم ومُراداتُهم وأهواؤهم وشهواتُهم إلى مسالك مُختلفة متبيِّنة كثيرة.

فمنهم -وهم الأكثر- عادَوا الأنبياء وكذَّبوا بالرسل واستخفُّوا بوَحي الله وتنزِيلِه عليهم، فأُهلِكوا ودُمِّروا ولم تبقَ لهم باقية، وتوالى الأنبياء والمُرسلون على أُسُسٍ ثوابت وأصولٍ راسِخة في شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمانِ به وبكُتبه ورسُله وملائكتِه واليوم الآخر والقدر خيره وشره، واعتقاد المصيرِ إليه كما أخبَر، والوقوف بين يديه، ونهاية المُكلَّفين إلى الجنة أو إلى النار. 

أُسُسٌ قويمة، حرَّم الله تعالى في مناهِجِها الرِّبا والزِّنا، وحرَّم الله فيها أمورًا مُجمَعًا على تحريمها، واختلف التحريم في ماضي القرون والعصور في بعض الأشياء الفرعية بما يُناسب، حتى انتهت الرسالات من قِبَل ربِّ الأرض والسماوات وعالِم الخفيَّات بشريعة غرّاءٍ مَصونة جامِعة لجميع مصالحِ المُكلَّفين، إنسًا وجِنًّا، شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا، عربًا وعَجَمًا، رجالًا ونساءً، إلى أن تقوم الساعة، بوَضْع خالِقهم ومُنشِئهم ومُوجِدهم الذي إليه مصيرُهم وإيابهم ومرجِعُهم -جلَّ جلاله- (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]، (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة:140].

فجاء نبيُّنا ﷺ بالشريعة الكاملة الخاتِمة الباقية إلى يوم الدين، لن يجد جِيل من الأجيال في أي زمان، وصلت فيه اكتشافاتُهم إلى ما وصَلَت، واختراعاتُهم إلى ما وصلت، وتُكنُولُوجِيَّاتُهم وأجهزتُهم إلى ما وصلت، لن يَجِدوا أصفى ولا أوفى ولا أنقى من هذا المِنهاج الإلهي الربَّاني الذي اختارَه الله بعِلمه وقد أحاط بكل شيء علمًا، وبحِكمته (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [التحريم:2] -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- وكل من خالفه في أي وقت في أي بلاد نزلتْ بهم الفِتنة والعذاب الأليم والمعيشة الضَّنك، كما قرأنا قوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) ويقابِلُهم بعد ذلك ما هو أخطَر (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه:124]، والعياذُ بالله.

يقول -جلَّ جلاله-: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) يُبيِّن لهم ويُوَضِّح، (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ) كَثْرة من أهلكنا من القرون من كل عاتٍ وطاغٍ ومُتكبّرٍ وفاجرٍ ومُؤثِرٍ للشهوات وللأهواء وللدنيا ومُكذِّبٍ بالرُسُل.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا) أعدادًا كبيرة، وتكرّرت الآيات: (فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقّة:8]، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الصافات:137]، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد:10] في أي زمان؛ (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)، إنما تأتي وهذا يمكُثُ باتجاهاته أو مُلْكه أو فِكْره أو مَبدئه؛ سنة أو اثنتين أو عشرًا أو خمسًا وعشرين أو ثلاثين وأربعين، وما يقلُّ عن ذلك أو ما يزيد قليلًا وينتهي؛ حُكومة تنتهي، مَنهَج ينتهي، نِظام ينتهي، بل ينتهي بصورة فيها الاعتبار، بصورة فيها الادِّكار لمن يدَّكِر، ومع ذلك كله لا يزال الغَيّ في بني آدم، ولا يزال الإصرار على المُخالفة في بني آدم، ولله حكمة ولولا ذلك ما خلق النار ولا خلق عذابها الشديد -جلَّ جلاله- وله الحمد على كل حال وهو العليم الحكيم، ونسأله أن يثبِّتنا على ما يُحبُّه منا ويرضى به عنا.

ويقول تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) يُبيّن لهم رسولنا، ويُبيّن لهم الكتاب الذي أنزَلنا على رسولنا، وفي قراءة: (أَوَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ) نُبيّن لهم، (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) الأماكن التي كانوا سكنوا فيها مِمَّن هلكوا كمِثل القوم عندنا من قوم عاد، كمثل قوم ثمود في طريق تبوك -ما بين المدينة وتبوك- ويمرّون عليها عند رحلتهم إلى الشام وعند رحلتهم إلى اليمن، يمرون بمساكن قوم قد هلكوا في القرون الماضية.

(يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ) علامات واضحات على أنَّ الله هو الحق، وأنَّ ما يدعون من دونه الباطل، وأن لا فَوز ولا سعادة إلا بطاعة الله والإيمان به والتسليم لأمره والعمل بمنهجه.

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ) وأنَّ دعوى المُلك والبقاء والصّلاح من غير حقيقة ولا أصل باطلة، وما أكثر ما ينزاح أصحابُها وتنهدِم أسُسُهم وما بنَوا، (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137] ومَن قَبلَه ومن بعدَه كذلك دُمِّروا.

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ)، أولوا العقول، لا مُجرّد العقول، (النُّهَىٰ): العقول التي تنهى أصحابها عمَّا لا ينبغي، تنهى أصحابها عمَّا يُوصِلُهم إلى السوء، وما يُوصِلهم إلى الشقاء، ما يُوصِلهم إلى العذاب.

(لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ)، جمْع نُهْية: وهو العقل الذي يتمكِّن من صاحبه فيزجُرُه عمَّا لا يليق؛  ولا يُعقَل، وما سُمِّي العقل عقلًا إلا لأنه يعْقِل صاحبه عن ارتكاب القبيح، ومن كان له عقل لم يُحسِن استخدامَه فما هو من أولي النُّهى، ولكن أولي النُّهى هم الذين أحسنوا استخدام العقول، فمنعتهم عما لا ينبغي وما لا يليق بهم، وبعُبوديَّتهم للإله الذي وَهبَهُم هذه العقول.

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ) أرباب الوَعي والنظرِ الدقيق وحُسنِ الاعتبار والإدراك الذي يزجُر أصحابه عمَّا يُهلِكُهم، ولو كانت النفسُ تشتهيه، فقد حُفَّت النار بالشهوات، ولو كان له ظاهر لَذاذةٍ مؤقَّتة قصيرة تُفضي إلى شَناعةٍ من التعب ومن السوء ومن الألم، فالعقل يمنعهم عن ذلك، ويحميهم مِن أن يُعرِّضوا أنفسهم للمَهالك، وسوء العاقبة والمصير.

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (128)) وكل ذي نُهْيَةٍ مِنَّا، في عصرنا لا يمكن أن يغترّ بقوَّات شرق ولا غرب، ولا أمريكا ولا روسيا ولا الصين، ولا شرق ولا غرب، ولا أوروبا، ولا شيء من هذه الدول ولا بما فيها، إذا كان عندي نُهْيَة وعقل كيف أغتر بها؟ نظائرها قد جاءت وأصبحت عبرة، ليست بشيء سوى اختبار يختبرُ الله به الخلق، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ) [النحل:93] ولكن إذا قَصُر عقلي، قلت: هؤلاء لا أحد مثلهم! هل أذهب وأعبُدهم؟! أخلقوكَ أم رزقوك أم إليك مصيرُهم؟! بالبلاهة هذه؟ بالبلادة هكذا تكون تبعًا، لِمن؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران:148-150]، (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرً) [النساء:134].

يقول جلّ جلاله: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى (129))؛ (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ) -يقول الله- سَبَقَتْ مني، إخبارٌ مني عن إرادتي أن أُمهِلَ القوم ولا أُهمِلهم، وأُعطي فرصة للمُعاندين والمُستكبرين تمتدُّ إلى سنوات معدودة مُحدّدة من عندي، لا تزيد على ذلك الحد، ولو اجتمع مَن في الأرض أن يزيدوا في مُدِّتها يومًا أو ساعة ما قدَروا، كما لا يقدرون أن ينقصوا منها، ولكن (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ) أي: يصطفي (مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:140] بأي وجهٍ كان، في أي زمان، وفي أي وقت، وتحت أي عناوين وشِعارات (لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، وتنتهي شؤون الحوادث (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:141]، قال الله وهذه سُنَّتي في الحياة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ آل عمران: 142-144] فختمناهم به،

  • رسولٌ بَشَّرَ به الرسلُ من قبل،

  • رسول خُتِم به الرسُل المُرسلون،

  • رسول مأمونٌ من قِبَل الرحمن، لا مُجرّد إنسان مُفكِّر، ولا مُجرَّد إنسان عبقري، ولا مُجرَّد إنسان مُجرِّب؛

رسول من قِبَل الإله البَرِّ الوَصول (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، يُبلِّغكم ويُوضِّح لكم توضيحًا شافيًا ويتركُكم على المَحجَّة البيضاء (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ) وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ؛ من غَرته الدنيا، ومن غرَّهُ المتاع، ومن ضَحِك عليه أعداؤه فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، (وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) لا يخدعونكم، إنَّهم لن يقدروا أن يُقدِّموا أجل أحد، ولا أن يُؤخِّروا أجل أحد (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) لا يخدعونكم (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:145]، 

وذكِّر أمتك، قل لهم: الرسُل من قبلي جاءوا، وهناك من أقوامهم من ثبت وصدق وأيقن وبذل الوُسع، ولم يغتر ولم يتأثَّر بالمُجْريات مِن حواليه، (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ) منتهى فكرهم ووجهتهم (إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:146-147]؛ فكانت النتيجة لكل هؤلاء الصادقين مع أي نبي في كل الأزمنة: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ)

  • فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا، عاشوا عيشة الكرامة والعِزّة والشرف، وقَرُبوا من ربهم ورضي عنهم وتهيئوا للقائه،

  • وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، (وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران:148-149]

هذا وَحْيِي وأوامر رُسُلي، وتذهبون إلى من كفر بي، وتظنون أن يُقدِّمونكم، يُطوِّرونكم، ينفعونكم، يُأمِّنونكم؟! متى كان الأمن بأيديهم؟ يقول سيدنا إبراهيم لقومه: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ  * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) -اللهم اجعلنا منهم- (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ) [الأنعام:81-83].

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ (129)) يؤجِّل كل أمة وكل فرد منهم، وكل فكرة وكل نظام وكل مبدأ وكل اتجاه، مخالفة لأمره؛ يجعل لها وقت وعمر تنتهي إليه.

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ) لو لم يكن ذلك؛ ثم وعْد الكل في القيامة والجزاء التام يوم القيامة.

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا (129)) لن نؤخرهم؛ سَنة ولا سَنتين ولا شَهر، مِن أَول ما يخالفون ويتكبرون ينزل العذاب عليهم، الله قادر على هذا، لكن يا عبادي حِكمَتِي اقتَضتَ غير هذا، وَإرَادتِي اقتضَتَ غير هذا، فلا تتزعزعوا ولا تشكُّوا إذا تأخر عذابي على من يُكابِر أو من يعاند؛ سنة، سنتين، وعشر، وخمس، لا تَنَزَعِجُوا! أنا  لو أردت لأهلكتهم.

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا)، كان العذاب ملازمًا لهم، كان القتل نازلًا عليهم، لكان لزامًا، لكن يؤخَّر قتلهم، يؤخَّر عذابهم إلى أجل، لا يأتي مباشرة، كل ما جاء لنا اتجاه، وحِزب، ونظام يقول إلى الأبد وإلى الخلود، لا أحد منهم يتأبّد، بعد عدة سنوات يذهبون هم وحزبهم وينقلب عليهم؛ منهم من يحاكموه، ومنهم من فرَّ، ومنهم من قُتِل، ما هذا الأبد!

إلى الأبد "لا إله إلا الله" هذه إلى الأبد، هذه إلى الدوام؛ هذه كلمة الحق، هذه كلمة الله، أمَّا الأفكار؟ كل يوم يأتوا لنا بفكرة، كل يوم يأتوا لنا بنظرية يقولون: إلى الأبد، إلى الأبد، أبد مَن؟ لا أنت للأبد ولا أُمُّك ولا جدك يبقى إلى الأبد، ولا فِكرك إلى الأبد، إلى الأبد: كلمة الواحد الأحد، (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) [التوبة:40] -اجعلنا مع كلمتك يا رب-.

(لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى (129))، يَنسُب الله المنهاج، ويُخَاطِبُ النبي  لِتَعي أمته من بعده: (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ (130)) يجترئُون عليك وعلى ربك وعلى أتباعك، وعلى ما جئت به، وسيَنَاقِضُونه وسيقولون، ويسمونك ساحرًا ويسمونك مجنونًا ويسمونك ويعملون.. وهم يَدرُون أنك أعقل منهم، وأنك أعقل مَن في الأرض، هم يعرفون ذلك ويسمونك مجنونًا، ويسمونك ساحرًا وهم يعرفون أنك أطهر أهل الأرض، ويسمونك ساحرًا، ويسمونك كذَّاب وهم يعلمون أنك أصدق أهل الأرض.

(فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ) يتكلم هنا أو هنا، أو في المجال هذا، وهذا مخبأ، وهذه مخابرات، وهذه في وسائل التواصل الاجتماعي، دعْهُ يتكلم الى أن يشبع، انظر حالك مع الجبَّار الأعلى، انظر حالك مع الملك الدائم، دعْهُ يقول ما يقول، يشبعون كلامًا، ويقولون ما يقولون، (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ) وأنت شغلك شغلك، اجعل حالك جميلًا مع الجليل.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ (130)) هذا شغلك أنت، قُمْ بعبادتنا وتسبيحنا ونحن معك ولك، والعاقبة لك، ماذا تريد منهم ومن كلامهم؟ الله أكبر.

(فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) سبِّحْهُ، نزِّهه وقدِّسه حامدًا له، مُثنيًا عليه، شاكرًا له.

(سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) نزِّهه وقدِّسه، (بِحَمْدِ) مع حمدهِ، حامدًا له ومُثنيًا عليه، فهو الذي يستحق الحمد؛ "يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد أبدًا سرمدًا، ولك الحمد على كل حال" سبحانك يا ربنا.

(سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ (130) برنامجك اجعلهُ يشتغل في الليل والنهار مُتصل بنا، هذه غنيمتك للحياة، هذا فوزك من هذا العمر، الله أكبر.

(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) وأعظم التسبيح والحمد:

(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صلاة الفجر، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]، ثم ما يعقبه مِن قراءة ومِن ذكر "مَن صلى الصبح في جماعة، ثم قعد في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين أو أربعًا انقلب إلى بيته بحجة وعمرة تامة تامة تامة"، "لَأَن أقعد مع قوم يذّكرون الله تعالى بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل"،

والعصر كذلك، (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) ومن أعظم التسبيح والحمد للرب:

قبل غروب الشمس؛ صلاة العصر، الصلاة الوسطى صلاة العصر، ولهذا لما تلاها ﷺ مرة قال: "فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، وتلا: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا (130)"، ويقول ﷺ: "من صلى البَردين دخل الجنة"، البُردِين: الفجر والعصر، البَردين، أي يكون فِعلها في وقت البرد، الجو يكون بارد فيها، وقت صلاة الفجر ووقت صلاة العصر، "من صلى البَردِينِ دخل الجنة"، "لن يلج النار أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها"، ثم بعد ذلك: "لأن أقعد مع قوم يذكرون الله بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب".

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ (130)) ومِن آناء الليل؛ صلاة المغرب وصلاة العشاء، والتهجد (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) [الإسراء: 79]، (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:2-4] -الله أكبر-.

قال: (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) ساعاته (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ (130))، أطراف النهار: ينتصف النهار في وقت الزوال، حين تزول الشمس وقت الاستواء فيبدأ الزوال؛ طرف النهار الآخر،

  • الطرف الأول: نصف الفجر إلى صلاة الظهر،

  • الطرف الآخر: بداية الطرف الآخر ونهاية النصف الأول؛ الظهر إلى وقت العصر،

  • ونهاية طرف النهار المغرب،

  • (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)، فصلاة الظهر في نهاية الطرف الأول، النصف الأول منه، وبداية الطرف الثاني.

(وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ (130)) يقول الله: السالك في سبيلي، المُتعلِّق بي، المُتّصل بذكري، ينال الرضا، أُرضِيه، (لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ) أنت بهذا تنال الرضا، فالخطاب على وجه العموم لما يُعطي الله من الخير الكبير، وعلى وجه الخصوص لحبيبه محمد (لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ) في أكثر القراءات، وفي قراءة: (لعلك تُرْضَى)، من القراءات السبع كلها، والمعنى يرجع إليها واحد:

  • (لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ): تفرح وتطمئن بما فسح لك مِن مجال عبادته وآنَسكَ بها ومكّنك منها،

  • تَرضَى؛ بما يثيبك ويأتيك من الأجر،

  • تَرضى؛ بالمقام المحمود والشفاعة الكبرى،

  • تَرضى؛ بما يجعل من الخير في أمتك ويمده لك،

  • وتُرضَى بذلك، يُرضيك، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) [الضحى:5]. 

  • إذًا هذا المسلكُ القويم، قال إذًا سَدِّد ثغرات الانحراف، ووصول التزييف والترويج للباطل.

(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ (131)) فلا يقولون لك: عندنا، وعندنا، وعندنا، ما الذي عندكم؟! إذا ما عرفتم خالقكم ولا أطعتموه فما عندكم؟ زخرف الحياة الدنيا.

(مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) أصنافًا منهم، أصنافًا منهم؛ هذا قارون، وهذا هامان، وهذا فرعون، وهذا قوم عاد، وهذا نمرود، وهذا قوم نوح، أزواج وأصناف؛ منهم من هو مغترّ بالذهب، ومنهم من هو مغترّ بالقوة والسلاح، ومنهم من هو مُغتر بالمباني والمصانع.

(إلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) مُتعها الزائفة الزائلة التي يستوي فيها البر والفاجر.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)، فقال: إنَّما هذا فتنَّاهُم واختبرناهم به فقط، لو له قدر عندنا، "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء"، لا يجوز تعظيم الحقير الفاني، لا يجوز تعظيم الهابط الساقط  مِن عين الرب، إنَّه منذ خلق الدنيا لم ينظر إليها -جلّ جلاله وتعالى في علاه- فعَظِّم ما عَظَّم الله.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) نختبرهم، وأكثرهم يخسرون ويهلكون، وقليلٌ مِمَّن مَكَّنهُ الله تعالى من الأسباب وأنواع المُتع والمال فصرفها في طاعة الله ومرضاته، أخذها من حِلّها وصرفها في محلها وخدم بها هذا الدين والشريعة، هؤلاء هم الناجون، هؤلاء عندهم رزق ربك، عندهم رزق ربك (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (131)) ولكن قليل منهم، والأكثر قال: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ) [العلق:6]، (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) [القصص:78]، وهكذا يغترون.

(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك) لا تلتفت بعينك إلى ما يتبجّحون به مِمَّا ليس بشيء.

(إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (131)) رزق ربك أولًا في الدنيا؛ ما يُيسِّره للمؤمنين الصادقين المخلصين من أسباب ومن أموال ومن جاهات، وأي شيء يُمَكِّنَهم منه فلا يُلهيهم عن ذكر الله، ولا يقطعهم عن جماعة ولا عن قُربة إلى الله، ولا يرضون فيه بِشُبهة فضلًا عن حرام، ولا يَركنون إليه ولا يعتمدون عليه، ويصرفونه في منفعة العباد ونُصرة الرب وشريعته ودينه، هذا الرزق الذي في الدنيا؛ إمَّا كفاية يكتفي به ويتفرغ للعبادة، فيكون هذا الرزق اليسير سببًا لارتقائه للمقام الكبير، ولتغذية روحه بالمعارف واللطائف؛ هذا رزق ربك! (خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ).

(وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (131))، وهذا الرزق الرباني متصل برزق في البرزخ ورزق في القيامة:

  • أمنٌ وقت الخوف،

  • وسترٌ وقت الفضائح،

  • ونجاة وقت الهلاك،

  • وثباتٌ ومرورٌ على الصراط،

  • ثم رزق في الجنة، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرعلى قلب بشر،

(وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (131)) أفضل وأجمل وأبقى وأدوَم، ولا شئ من أرزاقهم هذه التي أعطيناهم يبقى لهم! قط، قط، قط، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:34-35].

إذًا، (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132)) انتبه من حُسن الصِّلَة بنا.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ) عشيرتك، وجماعتك، وقومك، وأمّتك، كلهم قومُه، كلهم أهله.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ)، فأولهم أهل بيته، ثم بقية عشيرته، ثم أهل بلده، ثم الأمة؛ عَلِّمهم يرتبطون بنا.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) داوم واثبت وأدِّها على وجهها، ولا تعجز عنها، ولا تتكاسل، ولا تتخاذل.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا.. (132)) لا نُكلِّفك أن ترزق نفسك ولا غيرك، نحن نيسّر لك الرزق و أسبابه في الدنيا وفي الآخرة، قليله وكثيره من عندنا يأتي، (قُلْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر:3]، (أمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) [تبارك:21].

يقول جلّ جلاله: (نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) ونيسِّر لك من الرزق كفايتك، وما يقوم به أمرك، وما تحتاج إليه في البلاغ وفي أداء المُهمة.

(وَالْعَاقِبَةُ)؛ أي حُسن العاقبة، وحميد العاقبة، وطَيِّب العاقبة، (لِلتَّقْوَىٰ (132)) لأهل التقوى؛ مَن اتّقانا فالعاقبة له، العاقبة للمتقين، أمَّا مظاهر المُلك والمال، تأتي عند هذا وعند هذا وعند هذا، لكن العاقبة ليست إلا للمتقين (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الاعراف:128] ليس كُل من ورث الأرض له العاقبة، العاقبة للمتقين وحدهم فقط.

(وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) حَميد العاقبة وطَيِّبها وحَسَنها لأهل التقوى، وهكذا كنا نسمع العوام عندنا يُرددون في أمثالهم: "التٌقى فِيه البَقاء"؛ التقى: إن أردت شئ يبقى لك ويدوم اجعله على التقوى، شيء ليس على التقوى -مهما غرك حاله وأعجبك، و فيه وفْرة وكثرة- فما يمرُّ عليه زمن قليل إلا وينقلب حالهُ ويذهب! أحسن لك التقوى من البداية، تمسّك بها فقط.

(وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ (133)) يقول الله؛ ولا زالوا يتكلمون، فنقول لهم: (أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (133)) أنزلنا عليك كتابًا يبين ما في الكتب السابقة، وأنت من بينهم، لم تقرأ من قبلهم في كتاب، ولم تدرس عند أحد من هؤلاء، والذي قلته هو الموافق لما في الكتب السابقة، في الصحف الأولى؛ التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب المُنزَلَة، فيها وَصفك، فيها نَعتك، فيها تبشير بك.

(أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ)، بَشَّرَ به موسى، بَشَّرَ به عيسى، ووصفه الله في التوراة وفي الإنجيل ﷺ.

(أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ) أنَّ مَن قَبلهم من الأمم طلبوا آيات ثم كذبوا بها فأهلكناهم، أهم يريدون مثل هذا؟ ألم يأتهم هذا الخبر؟ هل يريدوننا أن نجعل لهم شيئًا من الآيات ثم نهلكهم كما أهلكنا الأمم من قبلهم لما جاءتهم رسلهم بالآيات، فكذبوه فأهلكناهم!؟

(أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ (134)) مِن قبل محمد، وما جاء به من الكتاب الحكيم والقرآن العظيم، (لَقَالُوا) في القيامة، (رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا (134)) فما جاءنا رسول، لو جاءنا رسول سنطيعك، سنعبدك، سنمتثل أمرك، ما جاءنا رسول.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ (134)) ننال الذل والخزي، لأن الرسول قد جاءهم والكتاب عندهم، فماذا سيقولون؟ وأي حُجّة لهم يوم القيامة؟ ما لهم حُجّة -لا إله إلا الله- (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165].

يقول: (قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ (135)) أنتم مُلقَى في عقولكم وأفكاركم أَنَّ الأمر سَيأتي طَوعكم، وأنكم ستنتصرون، وأنكم لن تعذبوا في الآخرة؛ تربصوا وانتظروا ما الذي سيحصل؟

(فَتَرَبَّصُوا) وأنا مُتربّص بأَنَّ الله سينصرني، وسينصر ديني الذي بُعِثْتُ به، وسيرحمني ويغفر لي، وينقلني إلى ما هو خير وأفضل، وأنَّه ينجيني من عذاب الآخرة، ويدخلني الجنة ومن اتَّبعني.

(قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا)، هذا تهديد، انظروا.

(فَسَتَعْلَمُونَ) حوادث الأيام وما هو مُقبل عليكم بعد الممات سيكشف لكم الحقائق، (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ (135)) هُمْ كل من جاء بفكرة أو كل من جاء بشيء فيه تطاول أو تكبُّر، أم أتباع الحق ورسله؟ (مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ)؟

(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ)، القويم الصحيح الحق (وَمَنِ اهْتَدَىٰ) من صاحب الهدى، ومن صاحب الضلال؟ سَتُريكم الأيام؛ ما يحدث في الدنيا ثم ما يقابلكم في البرزخ ويوم القيامة، سيكشف لكم الحقائق (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ (135)).

اجعلنا اللهم من أصحاب الصراط السويّ ومِن أهل الهدى، وتولّنا فيما خِفي وتولنا فيما بدا، يا عالم السر وأخفى، ثبِّتنا على الصدق والوفاء، وفرِّج كروب الأمة في المشارق والمغارب، وادفع عنهم شر المعتدين الظالمين، اللهم إنَّه اشّتد الأذى والظلم من المفترين المجرمين الظالمين على المسلمين في غزة وفي الشام وفي غيرها من بقاع الأرض، ولا ناصر للمستضعفين والمظلومين إلا أنت، فيا حي يا قيوم بقوتك عجِّل بتفريج كُروب المسلمين، واردُد كيد المعتدين الظالمين في نحورهم، وخالِف بين قلوبهم وكلماتهم واهزمهم ومزقهم كل ممزقٍ مزَّقْتَه أعداءك انتصارًا لأنبيائك ورسلك وأوليائك يا حي يا قيوم، وأظهر راية الحق والدين القويم، وانشر الرحمة فينا وفي الأمة كما أنت أهله، يا كاشف الغُمة، ويا جالي الظُّلمة، ويا باسط النعمة، تداركنا والأمة أجمعين، وحوِّل الأحوال إلى أحسنها، واجعلنا في خواصّ المؤمنين الصادقين من أصحاب الصراط السويّ ومَن اهتدى، فيما خفي وفيما بدا، واقتدى بنبي الهدى، يا حي يا قيوم، وأصلح الشأن كله، وادفع السوء وأهله عنا وعن أهل لا إله إلا الله.

 بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي الأمين

صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم

 الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

23 ذو القِعدة 1446

تاريخ النشر الميلادي

21 مايو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام