تفسير سورة النحل، من قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ..}، الآية: 70

تفسير سورة النحل
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، من قوله تعالى:

{وَالله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ وَالله عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ (71) وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)}

ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مُكرمنا بتنزيل القرآن، خير بيان، ومبيِّنِهِ على لسان عبده المصطفى سيّد الأكوان، سيّدنا محمدٍ مَنْ أعلى الله له القدر والمكانة والشأن، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله الأطهار وصحبهِ الغُرِّ الأعيان، وعلى من تبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات الأكوان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين. 

أمّا بعد،، 

 فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربِّنا سبحانه وتعالى وتدبُّرنا لآياته انتهينا إلى قوله سبحانه وتعالى:(وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66)  وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)) جعَلنَا الله ممن يتفكرون ويعتبرون. 

وانتهينا إلى قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)) جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه. 

  • (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ..) من العدم، وكوَّن أجسادكم من النُّطَف وحوَّلها إلى عَلَقٍ ومُضَغٍ وإلى هياكل عظمية، إلى عِظَامٍ ثم كسى العظام لحما، ثم نفخ فيها الروح جلَّ جلاله وأنشأها خلقًا آخر وأخرجكم من بطون أمهاتكم بتيسيرٍ وتقديرٍ وتدبيرٍ عظيم بديع للإله العليم القدير البصير السميع جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.  

  • (خَلَقَكُمْ) ولم يشاركه في خلقكم أحد؛ فلا شريك له في مُلكه وما ساغَ لكم أن تُشركوا معه سواه. 

  • (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) إمّا أطفالًا وصبيانا، أو شُبَّانا، أو كهولا، ومنكم من يُؤَخَّر وفاته حتى يُردُّ إلى أرذل العمر.

 (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يدخل في الشيخوخة والكِبَر؛ فيأتي له الخَرَف والهَرَم. 

  • (أَرْذَلِ الْعُمُرِ)؛ أسقطه وأدناه أدونه.  

  • يقول (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) ما يبقى له استعدادٌ لتنمية معلوماته ولا لتكثيرها، و(لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) أن يذهب عنه كثير ممَّا عَلِمَهُ فينساه، أو ينسى عامة ما كان يعلم أو أكثره. (لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ)؛  بعد أن كان متمكِّنا في العلم ويحفظ بذاكرته ما يجري، يصير لا يحفظ شيئا وينسى أقرب الأشياء إليه.

  • (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وقد تعددت في الروايات عن نبينا ﷺ الإستعاذة بالله من أن يُرَدَّ إلى أرذلِ العُمُر؛ فأرذل العُمُر الذي ياتي فيه الخَرَفُ والهَرَم، ويختلُّ فيه الوعي والعقل والإدراك، ويعود إلى ما يُشبه ما كان أيام طفولته، يحصل لبعض النَّاس في سن مبكِّر، وبعضهم لا يأتيه إلّا متأخرا كما هو الغالب، وأشار إلى الغالب سيدنا علي أنّ الذي قد يُردُّ إلى أرذل العُمُر من جاوَزَ الخامسة والسَّبعين من العمر. ويقول قتادة التّسعين، ولا حصر في التِّسعين ولا ما قبلها ولا ما بعدها وإنّما هذا أنّ غالب من يهرَم ويخرَف يكون بعد هذا السن. وكم من إنسان في سن الخمسين فصار إلى أرذل العُمُر وهو في هذا السنّ. وكم من إنسان جاوز التّسعين ووصل المئة وهو مُحتفظ بقُواه وذاكرته ووعيْه وفهمه فلم يُردَّ إلى أرذل العُمُر. 

  • فـ(أَرْذَلِ الْعُمُرِ)؛ أن يفقِد طاقته وقوَّته وقُدرته ووعيه وإدراكه فهذا أرذلُ العُمُر؛ لأنّه لا يستطيع فيه الاستزادة من المعرفة ولا كسب الدرجات في القرب من الله، هذا عمر رَذِيل مُنحط أرذلُ العُمُر. وإنّما خير العمر ما تهيَّأ فيه لكسب المعارف واللطائف والعوارف والدرجات والتزوُّد بالزاد الشريف، هذا خير العمر، فإن صرفه في ذلك فهو العمر المبارك، وهو العمر الطيِّب الحميد. وإن ضيَّعه فيما لا يكسب به معرفةً بالله ولا قربًا من الله ولا تعتلي بدرجاته؛ فهو المغبُون الخاسر الذي ضيَّع أعزَّ الأشياء وفقد الكنز الكبير الذي يبتني عليه وبه سعادة الأبد والدَّرجات العُلى في دار الخُلد. فنسأل الله أن يُبارك في أعمارنا ويرزقنا حُسن الاستعداد والتزوُّد، وأن يزيدنا في كل يومٍ من أيام أعمارنا وكل ليلة من ليالي أعمارنا، بل وكل ساعة معرفةً به وقُربًا منه وارتفاع درجاتٍ في محبته وفي رضوانه، وفي الوعي والفهم عنه جلَّ جلاله، اللهمَّ أكرمنا بذلك برحمتك يا أرحم الراحمين.

(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) صبيانا أو شبانا أو كهولا. 

(وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وكما قال:(..وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى..) [غافر:67] بحكمة من الحكيم قد عُيِّنَت وضُبِطَت وعُدِّدَت فيه اللحظات والأنفاس؛ فلا يزيد شيء ولا ينقص، وإنما يُخلَقُ كل مخلوق في الوقت الذي قدَّره الخالق من قبل خَلْقِه وخلقِ آبائه وخلق السماوات والأرض. فلا يملك أحد أن يُقدِّمَهُ ولا أن يؤخِّره، كذلك لا يموت الميّت إلَّا في الوقت الذي قدَّره له الخلَّاق، لا يقوى أحد أن يقدِّمه ولا أن يؤخِّره (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا) [آل عمران:145]، كما لم يكن لها أن تحيا إلا بإذن الله، فلا يكون لها أن تموت إلَّا بإذن الله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه. 

(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) علم إحاطة بكل شيء، بديعٌ لا يُعجزه شيء؛ فهو المُقدِّم وهو المؤخِّر وهو الرَّافع وهو الخافض وهو النَّافع وهو الضَّار وهو المُعطي وهو المانع وهو المصوِّر وهو المُقدِّر وهو المُدبِّر وهو الذي بيده ملكوت كل شيء (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِير).

وقال الحق تعالى، انظروا إلى عجائب قدرتي في تكوينكم وخلْقكم وما يجري لكم أثناء أعماركم ومن جملة ذلك أرزاقكم. والله فضَّل بعضكم على بعض، في كثير من الشؤون، من التكوين، من التصوير، من القوى والقدرات والإمكانية، فضَّل بعضنا على بعض، ومنه على وجه الخصوص في الرزق. والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق؛ ويجعل هذا غنيا وهذا فقير (يبسط الرزق من يشاء ويقدر) هذا بأسباب يقيمها وهذا من غير تلك الأسباب، بل ويجعل الكثير من أهل الضعف وأهل العجز وأهل قلة المعرفة بالأمور لهم أرزاق كثيرة وواقعٌ في حياة الناس يشاهدون مثل ذلك، ويجعل كثير من أرباب العقل والكياسة والتدبير والاحتياط في فقر مدقِع لأنه ليس العلم الذي يرزق، وليس الحرفة هي التي ترزق، وليست التجارة هي التي ترزق، وليست الوظيفة هي التي ترزق؛ ولكن الرزاق ربِّ السماوات والأرض. تقدير هذه الأرزاق قدَّرها في السماء فلا يحصل منها في الأرض إلا حسب ما قدَّر في السماء؛  لذلك قال (ورِزْقُكُمْ  فِي السَّمَاءِ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذريات:22-23]؛ ما قُدِّر لماضغَيْك أن يمضغا فلابدّ أن يمضغا، وما من رزق لنبات أو لحيوان قليل أو كثير طعام أو شراب أو غير ذلك من لباس وغيره إلا وهو مقدّر معيّن مُفَنّد محدود بقدرة قادر وتقدير حكيم عليم جلّ جلاله وتعالى في علاه، وإنما يختبر عبادك، ومنهم من يعيش في الغنى من البداية، ومنهم من يكون في بعض أوقات عمره غنيا وبعض أوقاته فقيراً ومنهم من يتكرر له ذلك عدة مرات في مراحل عمره؛ ليعلم الناس أنّ المملكةَ بيد ملكٍ متصرِّف جل جلاله وتعالى في علاه. نسأله أن يوفر أرزاقنا من كل منَّة وخير وفضل وإحسان وموجب للسعادة. 

(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ (71))؛ بالمعنىين:

 المعنى الأول؛ الكل سواء تحت ما قُدِرَ له من قبل الخلَّاق، لا يقوى على أن يكسب شيئا ولا أن يصل إليه شيئ إلا بقدرة هذا القادر وإرادته وإذنه، ولا يجري على يديه شيء لغيره فينفقه لذا أويتسخَّى به لذاك ويعطيه ذاك إلا بما يسلِّطه عليه القادر من دواعي ليعطي هذا وينفق على هذا وإلا فلا يستطيع أن يعطي أحدا شيئا لم يأذن الله له أن يعطيه وتعترض أمامه أي خاطر أي إرادة أي فكرة أي عائق، فيمتنع ولا يُعطي، وإن كان ناوي يعطي بعدين ما عاد يعطي، وكان ناوي ما بيعطي هذا، وفي لحظة يتحرّك القلب -خذ خذ خذ- فيعطيه لأن المعطي في الحقيقة فوق الكل، إنما يسلِّط الدواعي هذا على هذا ليختبر عباده.

 اختبرنا بهذا العالم وما فيه، وما في العالم إلا قدرته، وما في العالم إلا إرادته، وما في العالم إلا حكمته، وما في العالم إلا فعله، ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) [الصافات:96]  جلَّ جلاله وتعالى في علاه،  (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ) [طه:6]، كلّه ملكه، وكلّه بتصريفه وتقديره جلّ جلال؛ ولكن اختبرنا؛ يجري عاج هذا على يد هذا ويجري على يد هذا ويجري على يد هذا، فيغترُّ هذا بهذا، ويظن من يظن أن هناك مانع ومعطي غير الله جلَّ جلال؛ فيقعون في مصائب من الشرك ومن الاعتقاد الباطل ومن الضلال ومن ضرب بعضهم لبعض إلى غير ذلك. فيا رزاق ارزقنا أحسن الأخلاق، وهب لنا من رزق الإيمان واليقين والمعرفة أوسع ما تؤتي عبادك المحبوبين لك، وسخِّر لنا الاسباب ولا تفتنَّا بما آتيتنا ولا بما زويتَ عنَّا يا خلّاق يا رزاق يا من بيده الأمر كله، لا اله الا أنت. 

المعنى الثاني؛ (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)، و جعل فيكم ملوكًا ومملوكين، وجعل فيكم سادة و أرِقًّاء. (فَمَا الذِينَ فُضِّلُوا برادِّي رِزْقِهِم على ما مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ) فيكونوا فيه سواء، فهم فيه سواء! أبدا! كيف؟

يقول؛ التفضيل على بعضكم البعض وأنتم مخلوقون، يعتز المفضَّل منكم بما فُضِّلَ به ولا يرضى ان يشاركه فيه مَنْ هو دونه. فلا يشارك المَلِك مملوكه في زوجته ولا في فراشه ولا في حُكمه، وهل ترضون ذلك؟ ما رضيتم لأنفسكم بهذا وتأتون وأنتم كلكم مخلوقون، وفيه أمور مادية يمكن تتحول من واحد إلى ثاني، و تأتون إلى ربِّ الأرباب بعزته وتجعلون له شركاء من خلقه! أنتم ما رضيتم لأنفسكم في دنياكم وفي حواسكم وفي مادتكم أن يشرك المملوك منكم مالكه في شؤون خاصة به! وتأتون إلى الألوهية والربوبية وتريدون تشركون، إما جمادات وإما حيوانات، ما هذا؟ أنتم بأنفسكم وأنتم كلكم خلْق، ما رضيتم أن يشارككم بعضكم بعض فيما يختص به، والإله الذي اختص بالألوهية والربوبية تنسبون إليه شريك!  من أين؟ وتقولون له هذا معك وهذا معك، من أين؟ كيف يليق هذا بعقولكم إن عقلتم؟  لا إله إلا الله 

(أفبنعمة الله يجحدون)؟ (أفبنعمة الله)؛ فيما قدر ورتب ودبر وأعطى كل واحد من سمع وبصر وعقل، يجحد ويكابر ويعاند! 

(أفبنعمة الله يجحدون) ؟ قال الله: تأملوا من كل الجوانب، قدرتي وإرادتي بارزة فيكم وآيات عظمتي ظاهرة لكم. 

(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) من رتب هذا؟ بقول -بالله عليك- ومن رتب شأن التزويج هذا وشأن الأزواج وشأن الذكور والإناث؟؛ هي هيئة؟!هي حزب؟ هي جماعة؟ هي دولة؟ هي حكومة ؟ من رتّب هذا؟  كلهم تحت هذا الترتيب أولهم وآخرهم؛ من عند آدم وحواء، ومن يجي بعدهم. وما حد يقدر ينقض هذا الترتيب ولا يغيره. 

(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً (72))؛ فهذه آياته فيكم في كل شيء، فلم الكفر؟ ولم الشرك؟ ولم الجحود والإلحاد؟ 

  • (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ)؛ أبناء (وحفَدَة)؛ حفَدَه يشمل معاني منه؛ البنات ومنه أولاد الأولاد، أو أبناء الأبناء، منه الأَخْتَان والأصهار من أقارب الزوجة، حفَدَة؛ والحفيد؛ من يساعدك ويلتفُّ إليك ويسرع في خدمتك. 

  • (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وحفدةً) يدخل فيه البنات، فإن كثيرا من شؤون الخدمة في البيوت وللآباء، تقوم على البنات، ولهن مسارعة في تلبية كثير من الحاجات والقيام بكثير من الخدمات، بنين وحفَدَه، كذلك الخّْدام والقائمون بالمصالح؛ حفَدَة. كذلك أولاد الأولاد وكثير من الناس يقوم بخدمتهم وقت الحاجة ويُحْسنها ويقوم بها إبن إبنه، أكثر مما يقوم بها إبنه بها. كلُّ هذا قولوا بترتيب من؟ وتقدير من؟ يا شعوب يا دول يا صغار يا كبار! هذا واقع وحاصل بالناس بتقدير من؟ بترتيب من؟ من الذي جرَّاكم في هذا المجرى والذي سلَك بكم هذا السبيل؟! 

  • (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) لمنافع كثيرة؛ (لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم:21]؛ وليبقى النسل الى حِكمٍ كثيرة. (وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً) جل جلاله وتعالى في علاه.(وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) أنواع الأرزاق الحسنة. 

(أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ)؟ بالأصنام! وما يُدَّعى له الألوهية غير الله باطل. 

(أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ)؟ الباطل، نسبة هذه الأشياء التي أقامها الخالق المكوِّن إلى غيره ونسيان نسبتها إليه هذا باطل!  (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72))؟ نعمة الله؛ محمد ﷺ نعمة الله عليهم. به ندرك فوائد النعم؛ من عقل وسمع و بصر و مدارك ومعارف. نستمع إلى محمد ﷺ فتشتغل العقول الشغل الصحيح وتدرك الإدراك القويم، وتُستْخدم الاستخدام الصالح وكذلك بقية النعم، نأتي أو نحصل على ثمرتها وخيرها، كيف نكفر بذلك؟! 

(أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72))؟ والعياذ بالله تبارك وتعالى. ويخرجون عن شرف وكرامة العبودية لله والعبادة له؛ وهذا غاية شرف المخلوق أن يكون عابداً لخلَّاقه الذي خلقه، فهو كرامة وعبادة وشرف ومجد ورفعة لهذا المخلوق، عبادته للخلاََّق. إن كنت ترى أن في البشر مَن يعدُّ من يعزه ويوقره ويعتقد الفضل فيه، أن الشرف له، أن يقرُب منه أو أن يخدمه أو أن يأتي إلى بيته أو يحضر مجلسه، فإن حقيقة الشرف لمن في السماء ومن في الأرض؛ خلوص عبادتهم لله، وقيامهم بها على الوجه الصحيح، شرف ما بعده شرف، وكرامة عظيمة يكرم الله بها من يشاء. ودعانا كلنا إلى العبادة ولكننا انصرفنا عنها، بترَّهاتنا وأهوائنا وشهواتنا وغفلاتنا وأوهامنا وخيالاتنا. وعندما ينصرف المكلَّف من العباد عن عبادة الرب ﷻ  وتشرُّفِهِ بهذا، ما يدري بنفسه إلا قد سلِّطَ عليه عبادة باطل، عبادة مخلوق مثله وغيره. 

كل الذين انقطعوا عن عبادة الله في الأرض تأمل حالهم؛ عبَّاد شهوات، عبَّاد أهواء، عبَّاد نفوس، عبَّاد أحزاب، عبَّاد حكومات، عبَّاد أغراض ومصالح؛ عبيد لغير الله، ولهم الذُّلُّ بذلك، ولا شرف لهم في ذلك. ما رضوا بشرف عبودية الحق، والعبادة بالحقّ للخلاََّق فوقعوا في باطل الذلّ بالعبادة لمخلوق. فعبدوا المخلوق الرذيل، وربما عبدوا أرذل الأشياء، ربما عبدوا النفوس الأمارة، ربما عبدوا الشيطان الرجيم والعياذ بالله. فما أشدّ من ذلّ كل الذين لا يحسنون عبادة الله من المكلفين على ظهر الأرض، تأمل حالهم هم عبيد لكن اسُتعبدوا لغير الله وعبدوا غير الله؛ فهم إذن في عبادة باطل وذل ومهانة؛ توجب الطرد وتوجب الحرمان من الجنان وتوجب دخول النار والعياذ بالله تعالى. فشرفنا بعبادة الخلاََّق الذي خلقنا. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا الله. 

سيد العابدين وأول العابدين محمد ﷺ. هذا يرد على هؤلاء الذين يقولون: ان الله اتخذ ولد يقول - عيب عليكم- ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى :11]، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) [الإخلاص:3-4]، ولو كان بايتخذ ولد يتخذ من! يقول قل إن لو كان للرحمن ولد، فأنا أول أنا أول العابدين، سيد العابدين ، وأول العابدين ، ما بيقدم أحد عليه، لكن أنا عبد الله ورسوله!  ما لله من ولد ﷻ فأنا أول العابدينﷺ، أول العابدين، وسيد العابدين ﷺ  اللهم ارزقنا الاقتداء به لتكون عبادتنا صحيحة مقبولة عندك. 

يقول (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا .. (73))؛ كل ما توقَعوه؛ سواءً أصنام سواءً حكَّام، سواءً هيئات، توقعوها أنها ترزقهم من دون الله هي في قبضة الجبار؛ قد يختبرهم بإجراء شيء من الرزق على يدها في مدة من المدد أو حالة من الأحوال. ثم في الغالب ترى أعين الخلق وهم في الدنيا قبل الآخرة، من كان يرى نفسه المعطي ويرى نفسه المانَّ على الخلق بالتفضل عليهم في حالةٍ يُرثى لها، وقد يُخرج من ماله بصورة من الصور، وقد يكون من الأحوال الغريبة لكن مردَّها كلها إلى أن ينتهي إلى الخيبة وسوء العاقبة. إذًا فكلّ من فوَّت على نفسه إدراك الحقيقة والشرف والكرامة بعبادة رب الخليقة فهو واهمٌ. 

(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا). ما هو يملكون فقط، ما هو يملكون ما لا يستطيعون؛ ما عندهم استطاعة بحد ذواتهم أن يملكوا كلهم كانوا عدم ثم كانوا نُطف ثم كانوا.. وفي أي لحظة يقف سمع أحدهم، في أي لحظة يقف بصر أحدهم، في أي لحظة يذهب عقل أحدهم، ممكن في أي لحظة يسقط أحدهم، وفي أي لحظة يقع في حادث سيارة، يقع في حادثة الطائرة، يقع في حادثة غرق. مابيدهم شيء أصلا، ما بيدهم شيء، مستقلين بذاتهم، إلا حسب ما يسيِّرهم يفتن بعضهم ببعض. (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)، يقول الله سبحانه وتعالى (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) [الزخرف:32]؛ سخّر بعضكم لبعض، لا إلهَ إلاَّ هو

قال: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ .. (74))، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى :11]؛ لا تشبهونه بشيء من الكائنات والخلق؛ فكلها فعله وخلقه وهو أعلى منها وأقدس وأكبر وأجل. ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى :11

(فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ)، وإن ضرب هو لكم الأمثال تنزُّلاً لكم؛ ليفيدكم من علمه. لكن أنتم لاتستطيعون أن تضربوا له مثلاً بشيء من الكائنات، فإنه أجلُّ وأكبر مما تحيط به عقولكم، ولا يشابهه شيء. 

(فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ)؛ فله الحق في ضرب المثل، (وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)) قط بالأصل، ثم يعلِّمكم ما أراد بقدر ما أراد، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78))، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255]. قال أعز الناس علماً وأغلاهم وأوسعهم، هم الملائكة ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) [البقرة:32]، فالعلم لله تبارك وتعالى في علاه يعلَّم من شاء ما شاء.  اللهم علمنا ما ينفعنا وارفعنا به عندك فإنك ترفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، فعلِّمنا ما ينفعنا وارفعنا به عندك درجات، برحمتك يا أرحم الراحمين. 

ثم ضرب لنا بعد ذلك أمثالاً فيما بيننا وبيننا، فيما بيننا البين معاشر الخلق؛ لنستدل بها على معاني وحقائق. اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين وانفعنا بالقرآن وارفعنا بالقرآن واجعلنا عندك من خواص أهل القرآن يا كريم يا رحمن يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين. 

 الفاتحة

  اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وآله وأصحابه 

تاريخ النشر الهجري

24 جمادى الآخر 1444

تاريخ النشر الميلادي

16 يناير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام