(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، تكملة تفسير قوله تعالى:
{إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (120) شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (121) وَءَاتَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (122) ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبۡتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ (124) ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ (125) وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ (126) وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ (127) إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ (128)}
الحمد لله مُكرمنا بالإيجاد، والإمداد، وجاعلنا بالفضل في أمة خير العباد، سيدنا محمد الهادي إلى سبيل الرشاد، الشفيع الأعظم في يوم التناد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه الأجواد، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسانٍ في الخاف والباد إلى يوم المعاد، وعلى أبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل المحبة والوداد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
وبعد،،
فإننا في الذكريات العظيمة، وتَتبُعِ لمعاني كلمات ربنا الفخيمة، ووحيهِ الذي أنزله على صاحب الأخلاق العظيمة، سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- انتهينا إلى أواخر سورة النحل، وذكر الرحمن لخليله إبراهيم في آخرها، وأمره نبيه محمداً باتباع الخليل إبراهيم صاحب الذكريات العظيمة، ومنها ما يتعلق بالحج، وقصدِ البيت الحرام للحج والعمرة، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران:96- 97].
يقول الحق جل جلاله: (إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ)؛ وعلمنا أن المعلم للخير يدعى أمة، ومن اجتمعت فيه خصال -انفرد بها- لا تكاد تجتمعُ هذه الخصال إلا في الجماعة الكثيرة والأمة، فهو في مُفرده أمة، وقد جاءنا في الحديث أن النبي ﷺ قال: "أجودُ الأجواد الله، وأجودُ الخلقِ أنا، وأجودكم من بعدِي رجلٌ عَلِم علمًا فنشره، يُبعثُ يومَ القيامةِ أُمَّةً واحدة" يُبعث في كرامة، ومثوبة، وجزاء أمة وهو فرد، كذلك يرفع الله الدرجات لمن يحوي الخصال الحميدات، ولمن يُعلم الناس الخير؛ فهو بذلك يُنقذ الأمة، ويُصلح الأمة، ويَهدي الأمة، فهو أُمة!
(إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ) وجاء أنه قال لسارة زوجته: أنه ليس على ظهر الأرض مؤمن بالله غيري وغيرك؛ مُوحدين لله تعالى في ذلك الزمن، لم يكن من بني آدم مؤمنين إلا النبي إبراهيم عليه السلام، وآمنت معه زوجته سارة، ثم آمن له لوط. قال: (إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ) وهو المطيع الذاكر، المُنيب الشاكر، قانتًا لله حنيفًا، وهو المائل للحق والهدى والصلاح، (وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). ويا من تَدَّعون اتباعه، والنسبة إليه، أين تصحّوا أنتم على خلاف ما كان عليه؟! لم يكن من المشركين، وما كان من المشركين، فكيف تشركون بالله؟ ثم تقولون إنكم أتباع إبراهيم؟
(إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبۡتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ)، لم يكن شأن السبت وتعظيمه، والتفرُّغ للعبادة فيه، أو تركُ الأعمال فيه، لم يكن من ملة إبراهيم، ولا من ديدنه، وإنما كان من بعده؛ عقوبة على اليهود الذين اختلفوا فيه، وأمرهم أنبياءهم بأن يقيموا اليوم الفاضل وهو يوم الجمعة للعبادة، فأبوا! وأخذوا يجتهدون من أنفسهم، ويقولون يوم السبت، ويدَّعون فيه ادعاءات باطلة! فشدَّد الله عليهم، وفرض عليهم ذلك اليوم يوم السبت -جُعِل السبت- حُرِّم عليهم فيه الإصطياد، وحرِّم عليهم الاشتغال بالمكاسب، وأمروا للتفرغ بالعبادة فيه، فكان عقوبةً لهم على ما اختلفوا.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ (124))، فحقائق الحُكم بين العباد، يَرد الناس إليها، ويصلون في يوم المعاد، فهناك المحكمة، وهناك الحاكم الذي لا مُعقب لحكمه، فمحاكم الدنيا وما فيها ما تساوي شيئًا، والحكم الذي يفصل الله به بين عباده في يوم الدين -يوم الجزاء-، ويحكم لهذا بالنعيم، وعلى هذا بالعذاب، ولا معقب لحكمه جلّ رب الأرباب.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ)، وأمر نبيه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- أن يستمر على المنهج الكريم. يقول تعالى في سيدنا إبراهيم: (شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِ) -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، قائمًا بحق الشكر فيما أنعم الله عليه من صرفه النعم فيما خلقت لأجله، ومن حسن أدبه مع ربه؛ اجتباه واصطفاه ربنا -سبحانه وتعالى- وهداه إلى صراط مستقيم، دين الحق الذي ارتضى، وهدى إليه آدم، و شيث بن آدم، ومن أطاع آدم من بنيه، ومشى على دربه، ومن أطاع شيث من أحفاد آدم، ومن جاء بعدهم، وجعله مسلك إدريس -عليه السلام-، ومن جاء بعده من الأنبياء إلى نوح -عليه السلام-، ومن جاء بعده من الأنبياء كهود وصالح، وقرون كثيرة إلى إبراهيم -عليه السلام-، ومن جاء بعده من الأنبياء إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، ومن جاء بعدهم من الأنبياء إلى موسى بن عمران، ومن جاء بعده من الأنبياء إلى سليمان وداوود وسليمان بن داوود، ومن بينهم وبعدهم من الأنبياء إلى عيسى بن مريم، وإلى خاتم النبيين محمد ﷺ، هو: الصراط المستقيم، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة:7] -ثبتنا الله عليه- فلا يجوز لمسلم على ظهر الأرض أن ينحرف عن هذا الصراط المستقيم بفكر أحد، ولا بتصوير أحد، ولا بنظام أحد، ولا بوضعية أحد من شعوب، أو دول في الشرق أو في الغرب، بل لنا ميزان نحسن التعامل فيه مع القاصي والدان، ولا نقبل ما خالف منهج الرحمن، لأي أحد كائنًا من كان! (.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 40].
قال: (وَءَاتَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ)، أعطى الله سيدنا إبراهيم الخليل نجاة من النار، وجعل الذين أرادوا به كيداً الأسفلين والأخسرين، وحمى به الدين ونشره على يديه، وأقام به الكعبة بعد خرابها سنين، وبوأ له مكانًا، وشيَّد به بنيانًا، (وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ) [البقرة:127]، ثم نشر له الذكر الجميل، وجعل له لسان صدقٍ في الآخرين، وأصحاب الملل كلهم يدَّعون الانتماء إلى إبراهيم، اليهود والنصارى وحتى المشركين، (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ) محمد ﷺ (وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران:68]، هم أولى الناس بإبراهيم، لأنهم على منهجه وطريقته.
وهكذا جعل الله ذكره في الدنيا، هذا مقام إبراهيم، وهذا حجر إسماعيل بن إبراهيم، وهذا الصفا والمروة من شعائر الله؛ ذكرى لسعي زوجة إبراهيم هاجر من أجل ولد إبراهيم إسماعيل. وهذا موطن رمي الجمار الأولى، والوسطى، والكبرى في منى، مكان ذكريات إبراهيم، وإرادته بأمر الذبح لولده إسماعيل، ورميه للشيطان ورمي ابنه وزوجته في تلك المواطن؛ فصار الحج ذكرى لإبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم، في كثير من واجباته، ومن فرائضه وسننه، وهكذا كان إبراهيم -عليه السلام-، وعلى ذلك القدم في الوقوف بعرفة، والنفرة منها بعد المغرب، وفي المبيت بمزدلفة، والخروج منها قبل طلوع الشمس، والمجيء إلى منى للرمي، فكذلك فعل رسول الله، الذي أوحي إليه.
(ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ .. (123))، (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً .. (122)) وآتاه الله تعالى الزوجتين الصالحتين، والأولاد الأنبياء المباركين إسماعيل وإسحاق، والأحفاد من بعدهم كيعقوب ويوسف، فكله من الحسنة في الدنيا، وآتاه العلم الواسع، وهو أعلم الخلق بالله في زمانه، وهو أعلم الخلق بالله بعد النبي محمد ﷺ على الإطلاق، وآتاه المعرفة. (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً .. (122))، وهذا الذكر الجميل الذي أشرنا إليه، وهكذا علّمنا الله أن ندعو في أيام الحج: بإيتاء الحسنة في الدنيا، كما آتاها إبراهيم، ونقول:(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].
(.. وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (122))، وهو أول من يُكسى عند القيام من القبور، أي بعد نبينا محمد ﷺ، فإن نبينا أول من تنشق عنه الأرض، وإذا انشقت عنه الأرض جيئ بحلة من الجنة فلبسها ﷺ، ثم يكون أول من يُكسى من الخلائق بعده هو الخليل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم يُكسى الخلائق بعد أن يُحشروا حفاة عُراة غرلاً من الهول العظيم، لا يلتفت بعضهم إلى بعض، "ومن كسى لله كَسَاهُ اللَّه". أعرى ما كانوا وأجوع ما كانوا وأضمأ ما كانوا، "فمن كسى لله كَسَاهُ اللَّه، ومن سَقى لله سَقاه اللهُ، ومن أَطعَم لله أَطعَمه اللهُ". ويجلس في ظل العرش من يجلس، وتُبسط لهم موائد، ويقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24]، وعامة الناس في الموقف تحت الشمس، وهؤلاء يُطعمون وهم في القيامة قبل دخول الجنة.
يقول تعالى: (وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ) مُقدم على الخلائق بعد نبينا صلى الله عليه وعلى أهله وصحبه وسلم، ثم أوحينا إليك -يا خاتم النبيين، يا صفوتنا- أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا، فكان خير مُتبع عليه الصلاة والسلام، ومهتدٍ بالهدي الشريف، وما كان من المشركين.
(إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبۡتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ (124) ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ) فهذه الطرق والمسالك للأنبياء وأتباعهم -أهل الصراط المستقيم- دعوة إلى سبيل الله، إلى طاعته، إلى اجتناب ما حرم ونهى، إلى الإحسان في الطاعة، إلى الصدق، إلى التحقق بحقائق الإيمان، وإتقان العمل الصالح، إلى البعد عن الذنوب والسيئات، هذا سبيل الله:
(ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ)، (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108] فهي: سبيل محمد ﷺ، الدعوة إلى الله، ويدعو إلى سبيل ربه -جل جلاله-، لطاعته وتوحيده، والإيمان به، وامتثال أمره، واجتناب ما نهى عنه.
(ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ) فمن كان من أرباب حسن الاستجابة والوعي: فالحكمة ترفعهم وتكفيهم، وتعليهم، وترقيهم. ومن كان من عامة أُمتك ممن يحتاج إلى الترغيب والترهيب: فبالموعظة الحسنة. ومن كان من أهل العناد منهم، والتأبّي، والمكابرة: جاِدلْهم بالتي هي أحسن. فجمع له مجامع الدعوة وطرقها لمختلف الناس.
(ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ) فإن الجدال بغير التي هي أحسن سبب الضلال، والإزدياد من الضلال، وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…) [العنكبوت:46]. يقول -سبحانه وتعالى-: (وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ)، فلا صياح، ولا سب، ولا شتم، ولكن حُسن بيان، وإقامة حجة وبرهان.
(وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ) اللهم اجعلنا من المُهتدين، ومن الناس من يتظاهروا بالهداية وبباطنه ضلال، وهو تعالى أعلم بمن ضل عن سبيله، والأمر له، والحكم له في عباده، وما لنا إلا ما ظهر من العباد، وبهذا يقولون الشريعة تحكم بالظاهر، ويقول ﷺ: "مَن صلى صلاتَنا ، واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنا ، وذبح ذبيحتَنا ، فذلك المسلمُ"، الذي له حق الله ورسوله، "له ذِمَّةُ اللهِ ورسوله"، لا يجوز أن يُكَفر، ولا أن يُؤخذ ماله، ولا عرضه، ولا دمه. يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ).
وفي مسالك الأنبياء: أنه عند من يستحق العقاب؛ لا يعاقبون إلا بمقدار ما فرض الحق عليهم، أو ما كان في حق أنفسهم بمثل ما أُوخذوا به، و يحتاطون فيعاقبون بأقل مما أوذوا به، أو اعتدي عليهم به! قال: (وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ (126)) إذا سامحتم في حقوقكم الخاصة، وفيما يتعلق بأشخاصكم، فهو خيرٌ لكم، وتنالون به الدرجات، أما حدود الله التي حدَّها، فإذا وصلت إلى السلطان فلا طريق له، ولا يجوز لغيره أن يشفع عنده في حد من حدود الله -جل جلاله وتعالى في علاه-.
أما ما يتعلق بالمُقاصَّة، وما يتعلق بأخذ الثار، أو أخذ الحق من الغير في حقوق الخلق، فهو على هذا الحال: (وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ (126))، (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ) [البقرة:194]، تزيد قليلا، تقع أنت الظالم! بعدين يرجع الحساب عليك، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) فلهذا يحتاطون ويقلُّون.
وكان الصحابة لما أصيبوا في يوم أحد، وانطلق المشركون يُمثلون بأجساد سادتنا الصحابة؛ يجدعون الأنوف ويقطعون الآذان، و يبقرون البطون، وكانت مُثلة شديدة! تأثر لها الصحابة، وقالوا: لئن أمكننا الله منهم، لنمثلنَّ بهم مُثلة لم يُمثل بها أحد من العرب! والنبي ﷺ تأثر لما رأى عمه حمزة، وقد مُثِّل به، وشُقَّ بطنه، وأخرجت كبده -عليه الرضوان- فما نظر منظرًا كان أوجع لقلبه من ذلك! وقال: يرحمك الله! لقد علمتُ أنك وصول للرحم -محسن-. قال:"كنت بر وصول للرحم، وَاللَّهِ لئن أمكنني الله منهم لأُمَثِّلَنَّ محلك بِسَبْعِينَ". ونزلت الآية الكريمة: (وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ)؛ فقال ﷺ: بل أصبر. وتلا الآية على الصحابة، وقال: إنني أصبر كما أمرني الله تعالى، وإني أكفُّر عن يميني، وما أنتم فاعلون؟ قالوا: ونحن نصبر، كما ندبنا الله، متبعين لك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ فحرَّم المُثلة عليه الصلاة والسلام.
قال: (وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ) فدعانا الحق تعالى إلى الصبر الذي هو السُّلَّم للشكر، أو أول مباني وأساس الشكر: الصبر على الطاعات بإحسانها، والصبر عن المعاصي باجتنابها، والصبر على الإبتلاءات والاختبارات، والصبر على صدق الإقبال على الله، والصبر لله -جل جلاله-، والصبر في الله، والصبر بالله -سبحانه وتعالى- وما يتفرَّع من ذلك، وما يُبتني عليه من أنواع الصبر التي تَدقُ عن نظر كثير من العباد، ولما كان مقامها عند الله عظيم، وشؤونها ما تتناهى قال تعالى: (...إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153].
ثم قال لسيد الصابرين الشاكرين: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلّا بالله) أنت قائم بنا في صبرك، وفي شكرك، وفي جميع عبادتك، لا تشهد معنا لك استقلالا بشيء قط، وأنت سيّد أهل الشهود فينا، أهل شهودنا؛ فلذلك قال: (وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) هؤلاء المعاندون، والكفار، والمجرمون، وتعرّضهم لغضب الله، ولدخول النار بإصرارهم على الإجرام، وعلى الكفر، وعلى القتال، وعلى الإيذاء لأهل الحق لا تحزن عليهم. (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ) وعليها أكثر القراءات، في قراءة (ضِيقٍ). (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) فإن للكفار والأشرار، أنواع من المكر لإيذاء المؤمنين والأخيار والنيل منهم، ولكن؛ (يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) -جل جلاله-، فأين يصل مكرهم؟ وكيف؟ ومكْر الله ما فوقه مكْر! ولا تك في ضيق مما يمكرون قال له في الآية الأخرى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ)؛ يعني يحبسوك، (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَۚ)؛ -من بلدك- (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
يقول -جل جلاله-: (وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ (127) إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ) اللهم اجعلنا منهم، (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ) الكفر، والذنوب، والمعاصي، والسيئات. (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ)، عظموا الحق تعالى، فاتقَوا! (وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ (128)) أحسنوا في فعل الطاعات، وارتقوا في مراتب الشهود للملك المعبود -جل جلاله وتعالى في علاه-، وذلك يرتقي بهم في معاني الصبر: الصبر مع الله، والصبر على الله -جل جلاله-. فالصبر مع الله -جل جلاله-: بدوام الحضور معه، واستدامة حسن الأدب معه في الأحوال. والصبر على الله -جل جلاله وتعالى في علاه-: على ما يُقدِّرُ، وما يقضي، وما يحكم، وما يسّير فيه العبد من أحوال، ويطور فيه من أطوار. فوق ذلك مما يدق فهمه، الصبر عن الله: وذلك بلزوم الباب، وحسن الأدب مع رب الأرباب -جل جلاله وتعالى في علاه- حتى إذا فقد شيئا من حلاوة عبادته ونحوها، استدام على العبادة، ولم يقطعها صابرا. وذلك ما قاله بعض أهل المعرفة:
وكنت قديما أطلب الوصل منهمُ *** فلمـا أتـاني الحـلم وارتفـع الجهـل
تيـقنـت أن العبــد لا مـطـلـب لـه *** فإن قرَّبوا فضل وإن أبعدوا عدل
يقول: (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ (128)) ومن كان الله معه أعلاه ورفعه وحصّنه ومنعه وأيده سبحانه وتعالى ودفع عنه السوء من حيث أحاط به علمه سبحانه وتعالى، فالله يلحقنا بالذين اتقوا، والذين هم محسنون، ويُرقينا في مراقي الإحسان، وذلك هو الشهود فيما قال: (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوا) عظموا أمره، واجتنبوا محارمه، (وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ)، أداموا شهوده، لأنه قال صاحب الإحسان: "أن تعبد اللهَ كأنَّك ترا" -جل جلاله وتعالى في علاه-.
ودوام الشهود، هذا نوع من أنواع الصبر، والشكر العظيم، إما: مراقبةًً، وذلك للمحبين. وإما: شهودًا مشاهدة، وذلك للمحبوبين. فيدوم صبرهم مع الله -جل جلاله- مراقبة أو مشاهدة، والمحسنون: هم الذين يستشعرون وجود الله معهم، وإحاطته بهم كأنهم يرونه، "أن تعبد الله كأنك تراه".
ألحقنا الله وإياكم بالمحسنين المتقين، الهُداة المهتدين، وقبلنا وحجاج بيته وزائري نبيه بأتم القبول، وبارك الله في السيد محمد بن سميط، والقائمين معه على الدورة، و المُهيئين لها، والخادمين فيها، والذين حضروا لينالوا نصيبهم، وفّر الله الحظ والنصيب، وقبِل الوافدين، وأدرجنا في ما ينزل عليهم من رحمة وخير وبركة، وأشركنا في دعائهم، وطوافهم، ووقوفهم، وسعيهم، وزيارتهم لزين العباد، من علَّمنا الحج والصلاة، والصوم، والزكاة، وكنا من قبله في ضلال مبين، فكنا به خير أمة صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
وقد سمعتم الأبيات البديعة في وصف البيت الحرام، وعلائق قلوب المؤمنين بهذه الشعائر، وأذواقهم فيما فيها من أسرار يدركها أهل السرائر، فيما سمعتم من القصيدة للإمام الحداد، وبعد أن ذكر عجائب من الأسرار المتعلقة بالكعبة، والحِجر، والحَجر، والحطيم، وزمزم، ومكة المكرمة، وأوديتها، وجبالها، ثم قال:
ولمـا أتينـا بالمنـاسـك وانقـضـت *** وذلك فـضــل مـن كـريـم وقــادر
حثثنـا المـطايا قاصدين زيارة ال *** حبيب رسـول اللَه شمـس الظهائر
وسـرنا بهـا نطوي الفيـافي محبة *** وشوقـًا إلى تـلك القـبـاب البـواهر
فـلــمـا بـلـغـنـا طيـبـة وربـوعـهـا *** شممنا شذى يزري بعرف العنابر
وأشـرقـت الأنـوار مـن كل جانب *** ولاح السنا من خـير كـل المقـابـر
مع الفجر وافينا المـدينة طاب من *** صـبـاح عـلـيـنـا بالـسـعـادة سـافـر
إلى مـسـجـد المـخـتار ثم لروضة *** بهـا مـن جنان الخلد خير المصائر
إلى حـجـرة الهـادي البشير وقبره *** وثـم تـقـر العـيـن مــن كــل زائـر
وقـفـنـا وسـلـمـنا على خير مرسل *** وخيـر نـبـي مـا لـه مـن مـنـاظــر
فـرد عـلـيـنـا وهـو حي وحـاضـر *** فـشـرف مـن حـيٍّ كريمٍ وحاضـر
زيــارتـه فــوز ونـجــح ومـغــنـم *** لأهل القلوب المخلصات الظواهر
إلى أن قال:
فـإنـك لا تـجـزي نـبـيـك يـا فـتـى *** ولو جئتك سعيًا على العـين سـائر
فبورك من قبر حوى سيد الورى *** وسامي الذرى بحر البحور والزواخر
نــبــوتـه كــانــت وآدم طــيــنـــة *** وفـيه انتهـت غـايات تلك الـدوائر
-صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله-
فـحـمـد لـرب خـصـنـا بـمـحـمــد *** وأخـرجـنـا مـن ظـلـمـة وديـاجــر
إلى نــور إســلام وعـلـم وحـكـمة *** ويـمـن وإيـمــان وخـيـر الأوامــر
وطـهـرنـا مـن رجـس كفر وخبثه *** وشــرك وظـلـم واقتحــام الكـبـائـر
الحمد لله اللهم اقبل الحاجين، والزائرين، والمعتمرين، وأشركنا في دعائهم، وما تنزل عليهم من الخيرات، وافتح بهم أبواب الفرج للأمة أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.
17 ذو القِعدة 1444