(535)
(339)
(364)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46))
مساء الإثنين 18 ذي الحجة 1445هـ
الحمد لله مكرمنا بوحيه وتنزيله، على حبيبه ورسوله، سيدنا محمد صفوة الله ونجيه وحبيبه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، سيد الوجود عبدك المختار محمد، صاحب المقام المحمود، وعلى آله وصحبه سادات الركع السجود، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الشهود، وأئمة أهل الوفاء بالعهود، وعلى آلهم وصحبهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك ياأرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله- وتوجيه خالقنا -سبحانه وتعالى-، وتعليمات موجدنا ومنشئنا وفاطرنا -تعالى في علاه- وصلنا في سورة الكهف، إلى قول الله -جلَّ جلاله- (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45)) جَلَّ الْقَدِيرَ الْقَوِيِّ الْقَاهِرَ، مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.
ذكر هذه الآية، بعد أن ذكر لنا قصة الرجلين، لأحدهما تلكُم الجنة، وما فيها -أي البستان- و اغتراره به والتفاته إلى ما فيه، ووصول الغرور إلى حد أن يقول: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا (36)). وأنَّ كل ذاك الظن والوهم والخيال والغرور والنشوة اضمحلت وانتهت؛ في ليلة واحدة، أُرسل عليها حسبانًا من السماء وانتهى جميع ما عنده، (فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا)، ثم ذكر في الواقع والحقيقة، (ولمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43)).
وهذه غايات جميع المنقطعين عن إلههم وربهم -جلَّ جلاله-، من المغترين بأي شيء يقطعهم عن الله؛ مال أو سلطة أو جاه أو شهره أو ظهور أو أي شيء آخر، ونهايتهم (ولمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43)) ولا ممتنع، ولا يقدر أحدهم أن يمتنع عن نزول العاقبة به، ونزول الموت به، وحصول الجزاء له، لا يقدر أن يتخلص من ذلك، ولا يمكن أن يقوم معه في التخلص من ذلك؛ جماعة، ولا حزب ولا هيئة ولا حكومة ولا شعب ولا سُمعة ولا شعبية ولا أي شيء، هذه الحقيقة.
إذًا (هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّ..(44))، الولاية الحق؛ الموالاة الحقيقية التي تكسب من ظفِر بها، سعادة الأبد وفوز الأبد؛ ولاية ربك، الولاية الحق لله، أما أن تكوِّن لك ولاية مع حزب ومع جماعة، ومع هيئة، ومع حكومة، ومع دولة، ومع شعب، ومع قبيلة -مع انقطاع عن الله- تضمحل، تتلاشى، تنتهي، تفوت، تخسر بها.
إن أردت حقيقة فوز أو سعادة فاجعل لك ولاية بالله تعالى؛ أن توالي إلهك بموالاة شرعه ودينه ورسوله وأنبيائه ورسوله والمؤمنين به، وتعمل على ذلك فيتولاك، فإذا تولاك برحمته ولطفه، فأنت الفائز على الأبد، وما عدا هذه الولاية فكله خسران وكله انقطاع.
(هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا..(44))، ولاءك له وطاعتك له، خير ثواب، من أن تسخِّر نفسك لطاعة، أي مدير، وأي رئيس، وأي وزير، وأي حزب، وأي هيئة، ماغاية ماتحصل من وراء هؤلاء؟ وما أكبر ما تحصِّل من وراء هؤلاء؟ ينتهي وهم ينتهون وانت تنتهي، وبعد ذلك إذا كان على مخالفة لأمر الله، تحوَّل إلى عذاب وعقاب وبلاء، إذًا خيرٌ ثوابًا أن تطيعه، فكل ذرة من الحسنات قبِلها منك، خيرها باقٍ ونورها باقٍ، وحلاوتها باقية، و نعيمها باقٍ إلى الأبد فـ(هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا)، هو الذي يعطيك الثواب الجزيل الأجمل الأفضل، لن يعطيك إياه أحدٌ غيره.
(وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا (44))، العاقبة والمصير الحسن في التعلق به والقيام بأمره، والطاعة له -سبحانه وتعالى-، وأمَّا عاقبة كل جماعة، كل فرد، كل هيئة، كل مؤسسة، كل شركة، كل حكومة، كل دولة، نهايتها فناء، وزوال، واضمحلال، ولكن العاقبة الحسنة لمن أطاع الله؛ رضوان، وبشائر وجنة ونجاح من أهوال القيامة وحلول في دار الكرامة، (هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا (44)).
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ هذه التي اغتروا بها، والتي تكبروا بها، والتي من أجلها عادوا رسلي، وأنبيائي، وأوليائي، واتبعوا شهواتهم فيها، ما مَثَلُهَا؟
مَثَلُهَا، يضرب الحق لعباده المَثَل بماءٍ، قال:
النهاية هذه: (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ)؛ وحقائق القدرة والسلطة للواحد الأحد:
من نفس هذه الأمثال كررها الله لنا في القرآن، لعلنا نعقل، لعلنا ندرك الحقيقة، لعلنا نتحرر من التلبيس، وقبضة عدونا المُلبس إبليس، وأتباعه من شياطين الإنس والجن، (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6]
لا صوت يدلنا على الرحمن، ويوصلنا إلى حقائق الفوز والأمان، إلا أصوات الأنبياء والمرسلين، الذين خُتموا بمحمد ﷺ، وهذا صوته، وسط هذه الآيات صوت نبينا، ووسط الأحاديث الكريمة صوت نبينا، وضمن لسان كل مقرب وصديق وعارف صادق مخلص صوت نبينا، هذا الصوت الوحيد الذي يدل على المنهج الرشيد، ويخلِّص الناس من بلايا وشرور الدنيا ويوم الوعيد، كل الأصوات المناوئة لهذا الصوت هي التي تصبح كهشيم تذروه الرياح، والأخطر أن عواقبها بعد ذلك، بُعد أبدي وطرد أبدي ولعن أبدي وعذاب عظيم مهيل شديد أبدي.
فلِم ننصت لهذه الأصوات؟! هذا نداء الحق (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) [آل عمران:193].
ومحمد هو المنادي، وقد ناب عنه الرسل من قبل، وينوب عنه الأتقياء الصادقين من أمته من بعد، وهو المنادي بأمر الإله، الذي اختاره فجعله خير هادي.
وقال له في كتابه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ * صِرَ ٰطِ ٱللَّهِ) [الشورى:52-53]، تهدي إلى صراط الله؛ ليس صراط مُكون من غبرة أفكار تأتي من ذا ومن ذاك بين شياطين الإنس والجن ووحيهم: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام :112].
ويضعون للناس نظام ومنهج وقانون، هذا صراط من هذا؟
يقول -جلَّ جلاله- في ضرب نفس المثل، وقد تقدم معنا في سورة يونس، يقول لنا -جلَّ جلاله- وتعالى في علاه: (إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ); هذا المطر، (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ) [يونس:24]، أنواع الفواكه وأنواع البقول وأنواع الطعام للناس وَالْأَنْعَامُ، (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) هذا الغرور، يقولوا: نجحنا، حققنا، وعملنا وسنعمل، ونطلع، هم يقولون: كذا في وقتكم، وقبل وقتكم، والقرن اللي قبل قالوا كذا، والقرن اللي قبل قالوا كذا، وبادوا وانتهوا إلى سوء المصير.
والله ما ربح إلا أتباع الأنبياء، ما ربح إلا أتباع محمد، (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس:24]؛ ما بقي شيء، والله ولا يبقى شيء، لكل زمجرة الكفر الموجودة على ظهر الأرض، ولا لكل الاتجاهات المنقطعة عن رب السماء والأرض، ما تحتها شيء، ولا فيها شيء، ولا يبقى منها شيء، (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24]؛ لمن يعقل، لمن يُحسن استعمال العقل، جعلنا الله وإياكم من خواصهم.
يقول -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-: (وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرِّيَٰحُ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ مُّقْتَدِرًا (45))، قال تعالى عن هذا المغتر بماله قارون: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ فِى زِينَتِهِ) [القصص:79]، فذكر الله -تبارك وتعالى-:
قال: (قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا يَٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَٰرُونُ)، هؤلاء الجُهال .. هؤلاء قليلي العقل، (إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) -العلماء العقلاء- (وَيْلَكُمْ) [القصص:79-80]، ما هذه التمنيات؟!
ثم جاءت النتيجة بسرعة، وإلّا ما جاءت؟! وأين هو؟! هل هو موجود؟! هل أحد راح يتفرج عليه؟! يذهب لينظر، هل أحد سيغتر به اليوم؟ لا، هو بنفسه قارون، ما أحد يقدر يغتر به.
لكن خلفاء قارون كثير مغترين بهم، وكثير معنا في الأرض يقولون: "يَٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتوا" كثير، والنتيجة هذه مقبلة واحدة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ)، هذه فئاتكم؛ التحزبات هذه، والجماعات والجيوش، تتحدُّون بها من؟ تكابرون بها من؟ الجبار من فوقكم، لا يساوي شيء كل ما عندكم، هذا عنده، -لا إله إلا الله- (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص:81].
وَالَّذِينَ تَدَارَكُهُمْ الْعَقِلُ وَالْعِلِمُ بَعْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَ وَالْإِعْتِبَار: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخُسَفَ بِنَا) وفي قراءة: (لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص:82]:
يقول لنا -جلَّ جلاله- في الفئات هذه التي ما رضيت أن تعقل، وما اكتفت بأن لا ترضى أن تعقل الحقيقة؛ حتى صدت عن الحقيقة وآذتْ أصحابها وقاتلتهم، قال -جلَّ جلاله-: (وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ) -القوة الكبيرة معكم، القدرة العظيمة معكم- (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال:39-40] الله أكبر.
يا أيها الذين آمنوا؛ إذا صدقتم هؤلاء الذين ما أحسنوا استعمال العقول وكانوا جهالاً يدّعون العقل ويدّعون العلم على ظهر الأرض؛ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104))؛ هؤلاء فيما يطرحون وفيما يعرضون على الناس يدّعون ويدعون ويقولون؛ وجب أن نخاطبهم وأن ندعوهم إلى وعي الحقيقة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) [الأنفال:36] ، وما أُنفق -على سبيل المثال في هذه الأمة- من عصر النبوة:
كل الذين حاربوا هذا الدين وحاربوا الخلفاء الراشدين وخالفوا وحاربوا، أنفقوا أموالا، ولا يزالون ينفقون أموال؛
وكل الذي أُنفق إلى هذه اللحظة لا يستطيع أن يمس من عظمة هذه الملة ذرة، وصوت محمد قوي ومنهجه السوي يهدي كل غوي -يا ربي صلِّ عليه-. (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) [الأنفال:36]، لكن من أنفق ابتغاء وجه الله، من أنفق لإعلاء كلمة الله، من أنفق لنفع عباد الله، من أنفق لنصرة منهج الله؛ نِعم الإنفاق، هذا الذي يبقى وهذا الذي سنسمع الكلام عنه في الآيات المقبلة: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ..(46)).
يقول سبحانه وتعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ ..(46))، ما جعلنا وجود المال ووجود البنين يدخل في القوة العسكرية، ما جعلنا هذا الجيوش والجنود والأموال والسلطات، لم نجعلها ميزانًا للفخر ولا للشرف ولا للرفعة ولا للعزة ولا الكرامة ولا للسعادة؛ إنما هي زينة للحياة القصيرة التي ضربنا لكم الأمثال فيها، المنتهية المنقضية الفانية الزائلة.
لكن من أحسن استخدام العقل؛ حتى زينة الحياة الدنيا يصرفها لأجل الله -تبارك وتعالى- (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) -نضاعف لهم الجزاء، لهم الجزاء- (بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ:37]. يقول الله جلَّ جلاله وتعالى:
أما من اقتصر عليها من أجل الملاذ المجردة فهي الزائلة المنتهية، وإن كان جاوز ذلك للملاذ المحرمة وما فيه الإيذاء للغير؛ فهوعذاب شديد ونكال ووبال فظيع -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
ولكن قال سيدنا علي: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا وحرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، قال: وقد يجمع الله لبعض العباد بينهما"، ويصير صاحب عمل صالح وما جاءه من مال وبنين سيَّره لنصرة الحق والدين، سيَّره لله ورسوله الأمين ﷺ؛ هذا جمع حرث الدنيا وحرث الآخرة، (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى:20].
لكن الذي يجمع بينهما؛
فهؤلاء لا تحبسهم هم يحبسونها، لا تلبِّس عليهم، لا تخدعهم، لا تملكهم هم يملكونها؛ هؤلاء الذين أدركوا الحقيقة وعرفوا عظمة الرب وأنهم عبيد وتهيأوا للمآل إليه: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)).
(الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) ما الباقيات الصالحات؟
ولمَّا كان بعض تابعي التابعين من أكابر علماء الأمة، مات له ولد وخرج يقبره، يقول له واحد من الناس: احتسبه عند الله فإنه كاد يكون قائد جيش؛ فاحتسبه عند الله، قال: كيف لا احتسبه؟! وقد كان من زينة الحياة الدنيا فأصبح اليوم من الباقيات الصالحات، قال: أيام كان حي، كان عندي من زينة الحياة الدنيا -البنين- لكن الآن صار لي من الباقيات الصالحات، احتسبه عند الله فيؤجرني عليه وأصبر؛ ولهذا قيل في معنى الباقيات الصالحات: الصبر على فقد الأولاد.
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ..(46)) وفي الحديث الصحيح: "لَأنْ أقولَ : سُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبَرُ، أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعَتْ عليه الشَّمسُ" .
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا (46)) فصلواتنا واجتهادنا في القيام بأمر ربنا وتعاوننا على مرضاته، مخلصين لوجهه هو (والْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ).
ونحسب أن الله تبارك وتعالى وفَّر حظًا ونصيبًا منها لمن ودَّعناه وشجعناه اليوم محمد بن عبد الله بن عثمان، أعلى الله درجاته، وما وفَّقه له وآتاه من الباقيات الصالحات، نسأل ربنا الرحمن أن يضاعِفه له إلى مالا نهاية، وأن ينمِّيه له أبداً سرمدًا وأن يسُرَّ به روحه أبداً سرمدًا في البرزخ ويوم القيامة ودار الكرامة، ويجعل له من نتائج ذلك لقاءً حسنًا بمن أنزل عليه الوحي ومن دخل في دائرته.
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا):
(خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا) ماذا سيعطيك غيره؟ يعطيك شهادة، يعطيك وظيفة، يعطيك ولاية، يعطيك قيادة، تبقى كم؟ أحيانا سنة .. أحيانا سنتين .. أحيانا عشر، أحيانا عشرين انتهت، هذا هو الغاية عندهم؟! قال: أنا سأعطيك هذا، عاملني وانظر ماذا تجد من عندي؟.
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)):
قال: اسمع تريد الآمال الكبيرة؟ ارتبط بي، واصدق معي..
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)) سمعت؟ يبيّن سبحانه وتعالى هذه الحقيقة واضحةً جليةً، فيما يذكر لنا في شؤون النظر إلى هذا المال:
قال ربي لحبيبه محمد، يبيّن الحقيقة لهذه العقول:
يقول: (وَتَأۡكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكۡلٗا لَّمّٗا * وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبّٗا جَمّٗا) [الفجر:19-20]؛ هذا الهون أن تركن إلى غيره وتغتر بغيره وتميل إلى معصيته هذا الهون هذا، ما هو وجود المال وعدم المال.
(قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ) العلم الحقيقي ليس العلم الذي يعطيك فيه شهادة ويضعك في وظيفة أو منصب، من ثم أنت والشهادة والوظيفة ومن أعطاك إياها حصيد جهنم، ما هذه المصيبة؟! ما هو هكذا هذا العلم؛ العلم النافع!
(إِنَّ رَبِّي يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥۚ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥ)، يعني هذا الذي يبقى لكم؛ ما أنفقتم له ولوجهه فقبله منكم فالخلافة عليه والأجر عليه -سبحانه وتعالى- (وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ) [سبأ:39]. والنهاية بعدهم (وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا)، ومنهم فِرق كانوا يعبدون (ثُمَّ يَقُولُ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَهَٰٓؤُلَآءِ إِيَّاكُمۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ * قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ * فَٱلۡيَوۡمَ لَا يَمۡلِكُ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٖ نَّفۡعٗا وَلَا ضَرّٗا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) [سبأ:40-42].
هل تصدقون أحد يحدثكم عن المستقبل والانتباه منه وتحسينه أعظم من هذا؟ هذا ربكم يحدثكم، هذا إلهكم يخاطبكم، هذا الرحمن على لسان رسوله يبين لنا؛ فهذا هو المستقبل لنا ولجميع من على ظهر الأرض، الذين مضوا والذين في زمانه ومن سيأتي فيما بقي من عمر الدنيا، وجعل الله لها عمر ممتد لكنه بالنسبة لعمر الآخرة قصير وقليل من بدايته إلى نهايته، ليس أعمارنا! عمر الواحد منا كم! لكن من بداية الدنيا إلى نهايتها بالنسبة للآخرة قصيرة، ونحن الآن في آخرها، أكثرها قد مضى، "بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةَ كَهاتَيْنِ"، أكثر الحياة الدنيا قد مضى، أمم أمم كثير كثير، ملأوا الدنيا أفكار، ملأوا الدنيا مظاهر، ملأوا الدنيا حضارات.
الآن يحدثونكم أنَّه في الاكتشافات، يرون في تحت الأرض بعض المخلفات القديمة، أنَّه كان على ظهر الأرض كهرباء، كان على ظهر الأرض طائرات قديمة، قديمة من قبل ما تظهر هذه، وانقرضت من مئات ألوف السنين، ورجعوا الناس هنا ورجعوا ثاني مرة، (وَعَادٗا وَثَمُودَاْ وَأَصۡحَٰبَ ٱلرَّسِّ وَقُرُونَۢا بَيۡنَ ذَٰلِكَ كَثِيرٗا) [الفرقان:38]؛ حتى قال من كثرتهم، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ) [ابراهيم:9] والذين لا يعلمهم -إلا الله- كثرة كاثرة مروا على ظهر الأرض، وبعد باقي العمر القليل من هذه الأرض، والذين سيأتون من بعدنا في هذا العمر القليل و سنجتمع نحن وإياهم والذين من قبل (أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ أَنَّهُمۡ إِلَيۡهِمۡ لَا يَرۡجِعُونَ * وَإِن كُلّٞ لَّمَّا جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ) [يس:31-32].
يقول جلَّ جلاله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46))، فلنجعل أملنا في الرب وفي التقرب إليه وفي تعاوننا على طاعته ومرضاته، صدقنا معه في القيام بأمره؛ حتى تعود علينا عوائد الوجهة إليه في صلواتنا وزكواتنا وعوائد حج الحاجين واعتمار المعتمرين وزيارات الزائرين بأنوار في القلوب تضيء، نخرج بها من التلبيسات والتدليسات كلها إلى إشراق نور اليقين، وخلال العمر القصير؛ نكسب الملك الكبير، نكسب الملك الكبير في مرافقة البشير النذير والسراج المنير، يا رب هيئنا لذلك، يا رب أكرمنا بذلك واسلك بنا أشرف المسالك برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
وبسر الفاتحة
إلى حضرة النبي الأمين محمد ﷺ
25 ذو الحِجّة 1445