تفسير سورة الكهف - 6 - من قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... (24) ) إلى 29

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:  

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

مساء الإثنين 19 ذي القعدة 1445 هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمدُلله مكرِمنا بالقرآن وتنزيله، على قلب عبده وحبيبه ورسوله، سيدنا محمدٍ صفوة الرحمن -صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه في كل حينٍ وآن- وعلى آله المطهرين عن الأدران، وصحبه الغُرِّ الأعيان، وعلى من والاهم في الله واتبعهم بإحسان على مدى الأزمان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الصدق والعرفان، من رفع الله لهم القدر والمكانة والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أمَّا بعد ،،

فإنَّنا في نعمة اتصالنا بوحي إلهنا، وتدبّرنا لخطاب خالقنا، وتفهُّمِنا لمعاني وحي الربِّ الذي بلَّغه نبينا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- انتهينا في سورة الكهف إلى قوله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (َوَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24)).

(َوَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ (24))؛ متداركًا ما يحصل منك من نسيان إلى الأوبةِ إلى حظيرةِ الذكرِ والحضورِ مع الإله العزيز الغفور، وأسلفنا القول في من قال: أنَّه إذا نسيت أن تقول "إن شاء الله" و "إلا أن يشاء الله" فذكرتَ فقل ذلك، لتخرجَ عن إضاعةِ الأدب، وأمَّا اعتبار الاستثناء فجماهير علماء الشرع المصون لا يعدُّون الاستثناء مُبعِدًا للحِنث، إلا أن يكون متصلًا بالقول حينما يحلف أو حينما ينذر وما إلى ذلك.

 (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ (24))؛

  • جاء في معنى النسيان: الغفلة

  • ومعنى النسيان: المعصية

  • ومعنى النسيان: الغضب أيضًا

فإنَّه قد جاء في بعض ما أنزل الله في الكتب: "اِبْنَ آدَمَ اُذْكُرْنِي حينَ تَغضَبْ أَذْكُرْكَ حينَ أَغضَبْ فلاَ أَمْحَقْكَ فِيمَنْ أَمْحَقُ!"، إذا غضبت فاذكر الله، انتزعَ منكَ فتيل الغضب الذي يتسلط به عليك الشيطان؛ الذي يقول: إنّي أوسوس لابن آدم في قلبه فإذا غضب طرتُ إلى رأسه، فصرتُ ألعب به كما يلعب الصبيان بالكرة، فعند غضب الإنسان يفقد كثيرًا من توازنه وانضباطه، وضبطه لأقواله وأفعاله وحركاته، حتى أنَّ صورتهُ وحدها لموحشة ومفزعة، لو رآها بنفسه لأنكر على نفسه، ولاستقبح أن يكون بهذه الصورة وبهذا الحال، فلذا يقول: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ (24))، "اذكرني عندما تغضب أذكرك إذا غضبتُ فلا أمحقك فيمن أمحق".

يقول: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ (24))، حتى يستغرقُ الذكر منك مختلف الأحيان.

(وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24))، حين أحملُ الرجاء المُعَبَّرُ عنه ب (عَسَىٰ) أن أرتقي في كل شأنٍ إلى ما هو فوقه، وفي كل مقامٍ إلى ما هو أعلى منه.

(عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ (24))، يُوفقني، ويُوصلني ربي (..لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24))، لأعظم رُشد من الحال الذي أنا فيه وأقرب إلى إدراك الحقيقة.

(عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24))، ويذكرُ بعض أهل التفسير: عسى أن يعلِّمني ربي أيضًا من الأخبار والأنباء ما هو أعظم وأقرب رشدًا من أخبار أهل الكهف، فكانت أنباء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم.

(عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24)) وفي الآيات معانٍ من التزكية والتربية و الترقية.

 (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23)) بعد أن نهى عن المراء والجدال، (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا (22))، ونهى عن أن نُسنِد الأمر لغير أهله، ونوسِّد الأمر لغير أهله فلا نسأل في أمور الدين والشريعة والخُلق، وما ينفعنا على الحقيقة في الدنيا والآخرة لا مفكرين ولا ممثلين ولا أهل قوانين ولا شرقيين ولاغربيين، الحق من ربي؛ هو الذي يدل، وهذا مصدرنا في معرفة الصلاح والهدى والرشاد.

(وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ (23))، ودُم على الذكر وفَوِّض الأمر إلى المذكور المعبود، (وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24)).

يقول الحق -جلَّ جلاله-: (وَلَبِثُوا) أي أهل الكهف (فِي كَهْفِهِمْ (25)) الفتية المباركون الصالحون الصادقون الذين أمام شدة الأوضاع وزعزعة الظروف ثبتوا، (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14))، (لَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ (25)) أحياءً مضروبًا على آذانهم، نائمين.

(وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ) أي من السنين (ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا (25)) كان يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنَّ الثلاثمائة من السنين بالسنين الشمسية هي سواء سواء، لبثوا ثلاثمائة سنين بالسنين الشمسية، ولكن تزيد السنين القمرية على الشمسية فيزيد في كل سنة عشرة أيام وساعات من النهار ودقائق، يكون أقل من الأحد عشر يومًا في كل عام، يزيد فتجتمع فتكون في الثلاثمائة والفارق تسع سنوات، فجاء الحق بذكر العدد بالسنين الشمسية والسنين القمرية، وقال: (ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25))، بحساب السنين القمرية، فتصير ثلاثمائة وتسع سنين بالحساب السنين القمرية؛ التي أولها محرم وآخرها ذو الحجة، وهذه هي مرجع الدين والأنبياء إليها، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة:63] فهذه السنون، والسنون الشمسية؛ التي تبتدأ بيناير وتنتهي إلى ديسمبر، وتزيد أيامها على هذه الأيام، (وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا (25))،  فوقها بالحساب القمري.

 (قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ (26)) قالوا: عرفنا ثلاثمائة سنين، من أين هذه؟! كيف جاءت التسع؟؛ يقول بعض أهل الكتاب، (قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ (26))، لا تتطاولون على ما ليس لكم!، لا تُحاجّون فيما ليس لكم به علم!، من أين تعلمون أنتم؟ الله الذي ينزل عليَّ الكتاب هو الذي أنامهم، وهو الذي ضرب على آذانهم، وهو الذي أحصاهم، وهو الذي أحصى أنفاسهم فضلًا عن السنين. ما لكم حق تتكلمون أمام كلام الحق!

(قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ (26)) أي كلُّ ما يغيب عن دَركِ مُدرِكٍ في السماوات والأرض فهو له، هذه من جملة علمه -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

(لَهُۥغَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ (26))، والغيب: ما غاب عن إدراك، وهذا إنَّما يكون بالنسبة للخلائق، أمَّا الرحمن لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء؛ كل ما يغيب عن أحد -جميع من في السماوات ومن في الأرض مما في السماوات والأرض- فلهُ (لَهُۥغَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ (26)) أحصاها وأحاط بها علمًا وأحصاها عددًا، وهو أعلم، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]، هو الذي صنعها وأنشأها -جلَّ جلاله-، فالعلم لله على وجه الحقيقة.

فيا أيها المغترون بعلمكم من الإنس والجن، إن كانت لكم عقول أحسنوا استخدام العقول؛ لتسلموا من الغرور والزور، وإلا عرَّضتم أنفسكم لخسارة الأبد، ولعذاب الأبد ولسوء الأبد، وكم عَمِل بالناس اغترارهم بالعلم من إنس ومن جن كذلك؟، كم عَمِل بهم اغترارهم من العلم حتى أنكروا ما لم يحيطوا بعلمه؟، (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) [يونس:39]، وما أدركوا أنَّ حقيقة العلم للذي خلق وأوجد، وما يساوي علوم الخلائق -وهم مع كل ما اتسعت فيه قليلةٌ- لا تساوي شيئًا، (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85].

(لَهُۥغَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ (26))، ما أبصره وما أسمعه، البصر له على وجه الحقيقة، يخلق الأبصار مستعارة للمبصرين من ملائكة وإنس وجن وحيوان؛ ضعيفة، صغيرة، حادثة، قابلة للزوالً؛ يحجبها أدنى الأشياء كثيرة، لكن البصر له يبصر كل شيء، (أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ به (26)) فلا بصر كبصره، ولا سمع كسمعه -جلَّ جلاله- أحاط بصره بكل شيء، وأحاط سمعه بكل شيء -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

ويُقرِّبون للعقول فهم صفة البصر والسمع للرحمن، ويقولون: لو أنَّ هناك نملة سوداء، وُضِعت وسط صخرةٍ صماء ثم رُميت في أعماق البحر وجاء ظلام الليل، فإنَّ الرحمن يرى هذه النملة وعروقها وحركة أرجلها ومخ ساقها ويسمع دبيبها؛ السمع له والبصر له، ماذا معنا من سمع، وماذا معنى من بصر؟ لا إله إلا الله، هو السميع هو البصير -جلَّ جلاله-، وما لنا إلا ما آتانا من مقدورات السمع والبصر إلى الحدود المحددة، ووعدنا باتساع الأسماع والأبصار في عالم الآخرة، لمن نُعِّمَ وأُدخِلَ الجنة، فيسمع ما لم يكن يسمع، ويبصر ما لم يكن يبصر، حتى ينتهي الأمر إلى فضل الله العظيم عليهم.

(أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ) وفيه أيضًا معنى: بصِّر بهذا الإله، من يقبل التبصير من هؤلاء لتنفتح بصيرتهم، وأسمِع بهذا الإله من يقبل السماع من هؤلاء القلوب والعقول ليسمعوا فيهتدوا، (أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ (26)).

 (مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ (26)) يقول الرحمن لنا: لا تغتروا بولاية بعضكم لبعض، ونصرة بعضكم لبعض، وحماية بعضكم لبعض، وتعاون بعضكم مع بعض؛ كله محدود، محصور، قليل، منزوٍ، منتهٍ، منقرض، وكله في قِصره وفي انقضائه تحت أمري وحكمي، ألا ترون أنَّي أجعل الذين سلطتُ عليهم إرادة صرف قدراتهم لموالاة بعضهم البعض في ساعة، يتعادون في ساعة أخرى؟ لا أحد ولي غير الله، لا أحد ولي غير الله على الأصل أصلًا، على الحقيقة.

يقول لك يُسلط الإرادات والدواعي من الناس ليوالي هذا هذا، وهذا هذا، فكل ما وُلِيَ لغير الله فهو الضلال والفساد والشر، فلا ولي لنا إلا الرب، وإنَّما نوالي أولياءه من أنبيائه ورسله والمؤمنين، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة:55]، (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:56]، والمعنى: من اتخذ له وليًا غير الله ورسوله والمؤمنين خرج من حزب الله، خرج من حزب الله، (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:56]، ومن اتخذ وليًا غير الله ورسوله والمؤمنين خرج عن حزب الله، وليس من حزب الله، وسيغلبه حزب الله، فلا يجوز للمؤمنين أن يتولوا أعداء الله، لا يجوز لمؤمن أن يتولى شيئًا يقطعه عن الله كائنًا ما كان.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة:51].

ويقول سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال:73]، تظنون أنَّ كفارًا يُوالونكم أو تُوالون الكفار على خلاف شرع الله، هذا الفساد الكبير، هذه الفتنة، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض) [الأنفال:73]. 

يقول سبحانه وتعالى في بيان هذه الحقيقة، يقول سبحانه وتعالى في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال:72] مستجيبين ملبِّين لنداء الله، مظهرهم أيام بعثته مهاجرين وأنصار(أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ) [الأنفال:72-73]، تمضوا على هذا النظام، (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)  [الأنفال:73]،

منهج عظيم، قال: أحسنوا، وأقسطوا، واعدلوا بين الكل، حتى من يحاربكم، فلا سبيل لكم إلى ظلمٍ معهم، حتى من يحاربكم لا سبيل لكم إلى ظلمٍ معهم، ولكن رد عدوانهم وكيدهم وقتالهم وإذلالهم أمام أمر الله تبارك وتعالى، هذا شأنكم.

 وأمَّا الذين ألقوا السّلَم فما لكم سبيل عليهم، على أي ديانة كانوا، هل نظام أعظم من هذا النظام؟! أصلح لعباد الله على ظهر الأرض، عرَبهم وعجمهم، بمختلف اتجاهاتهم وأفكارهم، ولكن هذه الأهواء وهذه الشرور وهذا التجرؤ العظيم.

 يقول -جلَّ جلاله-: (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26))أي مهما والَىَ بعضهم بعضًا في مخالفة أمر الله ومضادة رسوله وأنبيائه ووحيه وتنزيله، فهم خاسرون، وهم مخذولون، وهم معذبون، وهم نادمون، وهم في السوء واقعون، لأنه لا أحد ولي غير الله، يتولى نصرك الحقيقي إلى الأبد، ويتولى هدايتك على الحقيقة إلى الأبد، لا أحد غيره، (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)).

كما يقول في الآيات الآتية في نفس السورة: (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51))، (..وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26))، لا تظن أنَّ شيئًا من الأمر خرج عن قبضة ربك، ولا خرج عن أمر ربك، ولا خرج عن حكم ربك (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:56]، -جلَّ جلاله-.

(وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا (26)) والغيب لا يُطلع عليه إلا من شاء، كما شاء، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ) [البقرة:255]، (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) [الجن:26-27].

(وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا (26) وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ (27)) قم بالحق واصدّع يا نبينا المختار، يا صفوتنا المجتبى المنتقى، بلّغهم رسالة ربك، أنقذهم من ظلمات أفكارهم وتخبطاتهم في أنظارهم وفي آرائهم.

 (وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ (27)) اقرأ عليهم لتقوم الحجّة (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ) [النساء:165] -صلوات الله وسلامه عليهم- 

واتلُ: قراءة، واتلُ: اتباع (وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ) يعني اتَّبع ما أوحي إليك، اعمل بما أوحي إليك، بلّغهُ، واقرأهُ، واعمل به، وطبِّقه. 

(وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ (27)) -جلَّ جلاله-، وهو القرآن الذي شرّفنا الله به، اللهم حقق تشريفنا بالكتاب، وأعزّنا بهذا الكتاب، واربطنا بهذا الكتاب، واجعلنا من العاملين به، والمطلعين على سره، والممتثلين لأمره، والمنتهين عن زجره يا أرحم الراحمين.

(وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ (27)) الذي ربّاك فأحسن تربيتك، وتولاك في أطوارك، وخلق روحك قبل خلق العوالم كلها، وراعى تنقلك من آدم إلى شيث بن آدم، إلى إدريسٍ، إلى نوح، إلى الآباء الذين اختارهم لك حتى أخرجك في هذا العالم، وأولدك ولادة لم تولد مثلها مولد، وأنشأك نشأة لم توجد مثلها نشأة، وأحاطك بالعناية، واختارك لختم النبوة، وجعل رسالتك للعالمين؛ ربك.

 (وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ (27)) الذي أحسن تربيتك، وخصّك بهذا المقام. 

(لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ (27)) فأمّا ما تعلّق بحكمه، فالحكم له ولا حاكم غيره (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ) [الأنعام:57] -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، ومسار هذه الاختيارات والإرادات من المكلفين، وتسلّط الأهواء عليهم، واتباعهم للشياطين تحت حكمه وتحت أمره، والكل يرجع إليه -جلَّ جلاله- كما سيأتي معنا.

(فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ

(لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ (27)) والوحي الذي أنزله إليك بهذا القرآن، لا يستطيع من يعاديك مع كثرتهم من إبليس إلى كل من اتّبعه، أن يغيِّروا حرفًا واحدًا منه، ولا أن يبدلوه، وهذه آية عظيمة، أي كتاب على ظهر الأرض له هذه المدة ما تغير منه حرف ولا نقص منه حرف؟! بل ضُبط ما بثّه في الأمة من مدوده ومن إدغامه ومن تنويناته، لو أرادوا أن يدخِلوا غيره شيئًا ما يقدرون (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ).

 (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] حاولوا وجعلوا بعض الطبعات تطبع نسخ وغيروا كلمات؛ وانكشفت، لا يقدرون، ما هذا؟ قوة القوي! قدرة القادر! حكم الحاكم! صدق محمد! 

(لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا (27)) قل لهم؛ أنا لو ضيِّعت ذرة من أمر ربي، أو غيرت شيئًا من أمر ربي، ما أحد بينصرنا، ما أحد بيؤوينا، ما أحد بيمنعنا من عذابه.

 (وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا (27)) فأتقوا هذا الربّ، فإنه لن تجدوا موئل ولا ملاذ دونه، ترجعون إلى من؟ فاني يرجع إلى فإني، حقير يرجع إلى حقير، صغير يرجع إلى صغير، ساقط يرجع إلى ساقط، هابط يرجع إلى هابط. وبعدها ماذا ينفع بعضهم البعض؟

(مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:28-29]، (..كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ) [الأعراف:38]

 يقول: (وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا (27)) ما تميل إليه استنادًا واعتمادًا وذخرًا، ما تجد غير الله، ما لأحد من أهل السماء والأرض موئل ومرجع وملاذ إلا الله.

( وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا (27)) واسلك على السبيل القويم والصراط المستقيم، وهذا مظهره.

(وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم (28)) إبحث في حياتك؛ من هم أهل الدعاء لله والتضرع والتعلق به، وكن معهم، وانتهت المسألة، تذهب الى غيرهم تخسر. 

(وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ (28)) طرفي النهار: يعني الليل والنهار، صباح ومساء، (يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ) وما ميزة هؤلاء؟ لا مال ولا رصيد في البنك، ماذا معهم؟ يريدون وجهه، هذه سرَّهم، هذا شرفهم، هذه ميزتهم، هذه سعادتهم، هذا مجدهم، (يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ).

 فأين منهم من أراد أي شيء غير الله؟ هؤلاء (يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ) وجميع هؤلاء الذين يعيشون معنا ممن لم يقبلوا دعوة الله، يريدون سلطات، يريدون وجاهات، يريدون ثروات، فما تغني عنهم؟ وما قيمتهم أمام من يريد وجه الله؟! خالق الكل، ووارث الكل، يرث الأرض ومن عليها، وإليه ترجعون -جلَّ جلاله-.

(وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ (28))؛ قربه، معرفته، محبته، رضوانه؛ هذه أغراضهم، هذه أمنياتهم، هذه مقاصدهم، هذه إرادتهم، (يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ) ألحقنا بهم يا رب، وحققِّنا بما به حقَّقتهم به. 

(وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ (28)) يا أكرم الخلق علينا (مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ (28)) ليعرف من سواك أنه أحوج لأن يبحث عن هذا الصنف وأن يكون معهم، وأنت سيدهم وإمامهم، وأنا ربك آمرك أن تكون معهم، فماذا إذا سمع واحد من أمتك هذا التوجيه؟ فأين يرضى بنفسه؟ يرمي بنفسه في أحضان من؟ ويوالي من؟ ويلتجئ إلى من؟ ويجلس مع من؟ يجالس من؟ 

(وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ (28)) نزلت وهو في بعض حُجَره الشريفة، وقام ودخل المسجد، وجد جماعة من أهل الصفّة فقراء يذكرون الله جلس بينهم، ونظر إلى دعائهم وإلى ذكرهم، وذكر معهم ودعا، وقال: الحمد لله الذي أراني في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم. 

(وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ  (28)) كم الآن من عقليات عندنا في العالم ما تصدق أنَّه في ناس ما لهم غرض في سلطة ولا في ثروة ولا في وجاهة، ويجتهدون من شأن أن يقربوا من الله! ما يكاد يصدّقون، ما يكادون يصدقون؛ ظلمات ملأت قلوبهم وأفكارهم، ما عرفوا، هل هذا الواجب أن يكون قصدك يا أبله! أنت الذي ضيّعت نفسك، ورأوا أنه ما أحد يتحرك في هذه الحياة إلا إن كان له غرض مثل غرضهم، لأنهم لا يتحركون إلا من شأن سلطة، ولا من شأن ثروة، ولا من شأن شهوة، من غير هذا ما شيء، ما يتحركون، فيظنون أي حركة في الدنيا كما حقهم. 

إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ *** وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ

قل: إن الأمة لن تخلُ ممن يريد وجهه يا أبله، لن تخلُ هذه الأمة ممن يريدون وجهه، وفيهم حِفظ حقائق القرآن، وفيهم حِفظ الملّة، وفيهم درء العذاب عن الأمة، وبهم تُنصر الشريعة إلى آخر الزمن.

(يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ (28))، (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا (110))

لذا كان يقول بعض أئمة العارفين منهم، من أئمة الوادي، كالإمام الحداد قال: جميع ما يرغبون فيه من أموال وسلطات ووجاهات وشهوات تركناها لهم ولا ننازعهم على شيء منها ولا نلتفت إلى شيء منها، فلمَ يعادي المعادي؟! نخاف عليهم، لماذا يعادي؟! للرغبات الحقيرة؟! تركناها لك كلها، ولا ننازعك على ذرة منها، تعادي على ماذا؟

ترك أهل الله كل ما يرغب فيه الغافلون، فجمع الله لهم خير الدنيا والآخرة، وعز الدنيا والآخرة، وشرف الدنيا والآخرة، وكرامة الدنيا والآخرة، إذ هو رب الدنيا والآخرة، وهم قصدوه -جلَّ جلاله-. 

قال: (يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ (28)) لا تتجاوز إلى غيرهم، لا تنظر إلى سواهم، هذه أسس للأمة، أفراد وجماعات، أُسر ومجتمعات؛ من يصاحبون؟ من يوالون؟ من يشاورون؟ إلى من يرجعون؟ هذه أسس في كتاب الله -جلَّ جلاله- ضيعّوها، وصاروا كل ما يُنشرونه لهم في وسائل من أي كلمة راحوا وراءه، كل ما جاءوا به لهم من مصطلح، لهجتْ به ألسنتهم، انظروا الكلام من فوق.

(وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ (28)) ويتعلّق بهذا أنَّ جماعة من أهل هذه القلوب المريضة والعقليات الملّوثة قالوا: يا محمد أنت تجيء بهؤلاء عندك، لهم جُبب من صوف تشمُّ فيها عرقهم، ونحن نأنف نجلس معك وعندك هؤلاء، اطردهم ونجلس معك، نحن سادة قريش إذا أسلمنا أسلم الناس، قال الله: أهل هذا التفكير دعْهم على جنب وابعد عنهم، دعْهم وأفكارهم. 

(وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا  (28)) قال لك: أنا سيد ماأدري من! وبيتبعون ما أدري من! دعْهم على جنب، هذه أفكار قاصرة وحقيرة وليست لها الأمر.

 يقول سبحانه وتعالى: (وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ ) مرت الأيام وجاء إلى مكة المكرمة، وهو كان يقعد معهم، والذي قال: لا تقعد معهم، وصعد بلال وهو أحد الذين قالوا: أبعده من عندك، فوق الكعبة الله أكبر، الله أكبر، ونادى بأشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله -الله أكبر- بقي من لوثة هذه العقلية يقولون: أحسن فلان وفلان ماتوا قبل ما يسمعون هذا الأسود فوق الكعبة يقول هذا الكلام، إلى أن تداركهم الله بإبعاد اللوثة، -لا إله إلا الله محمد رسول الله-. وإذا سمعوا سيدنا أبوبكر يقول: بلال سيدنا، يقولون:  أبو بكر سيدنا، أعتق سيدنا، وراحت هذه النخوات والترفّعات بالباطل.

يقول تبارك وتعالى: (وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا (28)) عرفت من تشاور في جميع أمورك؟ رجعت إلى الذي أغفل الله قلبهم عن ذكره؟ يورطونك. يورطونك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران:100]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) يوصلوكم إلى وراء (فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [آل عمران:149] تريدون الطريق الصحيح؟ (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ) [آلعمران:150-151].

يقول -جلَّ جلاله-: (وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ) لا تتجاوزهم إلى غيرهم، تريد زينة الحياة الدنيا، من هؤلاء الأثرياء والمتظاهرين بالمظاهر؛ الشرف المزعوم.

 (وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا) فحرمْناه شهود عظمتنا وحسن الالتجاء إلينا -مسكين- فهذا ما يُستمع إليه ولا يؤخذ قوله. 

(وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ) 

  • (وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا (28)) ضائعًا

  • (وكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا) ندماً

  • كَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا ) هلاكًا

  • كَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا) ضاعت عليه الحسبة كلها

وهو نهاية كل من صدَّ عن سبيل الله، وكل من خالف أمر الله، وعاند شرع الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) [البقرة:166] هذه يقينيات عن نهاية هذه التعاقدات والتحالفات على الشر والمكر؛ على الكفر، على الظلم، هذه نهايتها؛ أمر محتوم -لا إله إلا الله-.

يقال: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ۚ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ:31-33].

(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ) انتهت العقود والمعاهدات إلى آخر حد، انتهى ما بقي شيء (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ) الخير مع الرسل وأتباعهم والأولياء والصالحين، وأنا وأنتم في النار، حطب جهنم وعذاب أبد وانتهت المسألة، (مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ) ملأتُم لنا الدنيا؟! تقدّم وعلمي وعلمية وثقافة ونظام (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ) كله انتهى وتلاشى ولا عاد ذرة! (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) [إبراهيم:22-23] كم الفرق بين هؤلاء وهؤلاء؟ تريد أن تضيِّع هذا الفريق من شأن شهوة أو من شأن رئاسة أو من شأن وظيفة أو من شأن مرتب؟!

اعقل يا مخلوق، رجوعك إلى الخالق، وما أسرع ما تمر بك الأيام، فلِتمرُّ بك على صدق، وعلى أدب، وعلى شرف، وعلى عز، وعلى تقى، حتى تنال العيش الأكرم الأبقى.

قال: (وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا (28) وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ (29)) من هذا الذي يدل على الحق؟ من ذا الذي يبين الحق؟ من ذا الذي يعيِّن لكم الحق؟ 

(وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ (29)) خالقكم الذي أوجدكم وكوَّنكم، وبعد ظهور هذا الحق وبلاغ رسالته (فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ (29)) كلٌ يمشي في طريقه.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا) [الإسراء:84]، (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) [القصص:55].

فيا ربنا يا مبيّن الحق، يا من هو الحق، يا من أنزلت الكتب بالحق، وأرسلت الرسل بالحق، وجعلت محمدًا حقًا؛ اهدنا إلى الحق، اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، ثبّت اللهم قلوب الوافدين إلى بيتك الحرام، وزيارة حبيبك خير الأنام في هذه الأيام على الحق، وإلى الحق، وفي الحق، ونقّهم عن الشوائب، وهيئهم لحسن الإقبال عليك، والتذلل بين يديك، واكتب لهم القبول عندك، وردهم إلى أوطانهم في قبول وسلامة، وفرجا لأمة حبيبك محمد، وغياثا لأمة حبيبك محمد، وصلاحا لأمة حبيبك محمد، واجعلنا في أنفعهم وأبركهم عليهم ظاهرًا وباطنًا، وأصلح الشأن كله برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

بسرِّ الفاتحة

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،

 

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

21 ذو القِعدة 1445

تاريخ النشر الميلادي

28 مايو 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام