(572)
(222)
(43)
(536)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:
{ ورَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
مساء الإثنين 23 محرم 1446 هـ
الحمد لله مُكْرِمِنا بالوحي والتنزيل، والبيان على لسان رسوله الهادي والدليل، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكَرَّم عليه، وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان في النية والقصد والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتمجيد والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ؛
فإنَّنا في تأملنا لمعاني كلام ربنا -جلَّ جلاله- وتعليمه، والدلالات التي في وحيه وتنزيله وإرشاده وتبيينه -جلَّ جلاله- على لسان حبيبه المصطفى، انتهينا في سورة الكهف إلى قوله -جلَّ جلاله-: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (59)).
يقول -جلَّ جلاله-: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ)، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام:164]، ولكنه في هذا الخطاب لسيد الأحباب، الذي تولى تربيتك واختيارك واصطفاءك من بين هذه الكائنات والموجودات كلها وقدّمك عليهم رَبُّكَ.
(الْغَفُورُ) كثير المغفرة، واسع المغفرة، جزيل المغفرة، له الحمد والمِنَّة.
(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ) الذي تنوعت مظاهر مغفرته، فهو بالنسبة للمعصومين من الأنبياء والملائكة المقربين، وَهَبَهُم أعلى معاني المغفرة، فجعلها سترًا بينهم وحجابًا وبين جميع الذنوب والسيئات صغيرها وكبيرها، ويعطي من إرث ذلك نصيبًا لبعض أوليائه فيحفظهم، والعصمة للأنبياء والملائكة، ثم بعد ذلك -على كثرة ذنوب الناس-
فمغفرةٌ بالمسامحة والعفو،
ومغفرةٌ بالستر، فلا يُفضح بها في القيامة ولا تذكر لأحد،
على مراتب في الستر إلى مراتب كبيرة؛ ينشر الحق كنفه على بعض هؤلاء الذين بَوّأهم الستر الأعلى، ينشر كنفه عليهم حتى لا يدري ملَكٌ ولا من سوى الملائكة ما يقول لهم؛ لأنه يريد أن يُذِّكره ببعض هفواته وزلاَّته، ليعلم عظيم مِنَّته عليه؛ بعفوه وغفرانه وتبديل السيئات الى حسنات فينشر عليه كنفه، فيقول: "أتذكر يوم كذا؟ يوم فعلت كذا؟"، ولا تدري حتى الملائكة ما يقوله الرحمن لهذا الإنسان، لأنه يريد أن يذَّكره ببعض مساوئه فينشر الكنف فلا يدري أحد ما قال له، ينشر عليه كنفه يقول: أتدري يوم كذا؟ يوم فعلت كذا؟ أتدري يوم كذا؟ يوم قلت كذا؟
فيظن أنه هلك ويخاف، ويلقنه حُجّته فيقول: يا رب ألم تغفرها لي؟
فيقول: بلى سترتها عليك في الدنيا، وأنا اليوم أغفرها لك، ويكشف الحجاب فيقول: قم فادخل الجنة برحمتي، فيسمع الملائكة أنه نادى عليه بدخول الرحمة، ولا يسمعون شيء من العتاب السابق، فينادي المنادي: لقد سَعِدَ فُلان بن فُلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وهكذا إلى أن تصل في المغفرة لمن شاء بتبديل سيئاتهم إلى حسنات، كما قرأنا في قوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:70].
ثم مع تعدد تلك المغفرات للصغائر وللكبائر كما يشاء -جلَّ جلاله-، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:48].
اغفر لنا مغفرتك الواسعة؛ اللهم مغفرتك أَوْسَعُ من ذنوبنا ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا.
يقول: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ (58)) صاحب الرحمة الواسعة التي لا حدَّ لها ولا غاية، وإن اشترك جميع الكائنات فيها من حيث تكوينهم وخلقهم، فخصائصها الكبيرة المُفضية إلى نعيم الأبد مخصوصة بمن لم يكفر من المُكلفين، ومن بلغتهم الدعوة من العقلاء البالغين إنسًا وجنًّا، فأُولَٰئِكَ الذين يَرْحَمُهُمُ الله رحمته الخاصة، وما أعجب تلك الرحمة العظيمة! مع أن كل الخلق والإيجاد وأنواع الإنعام مظهر من مظاهر الرحمة يعمُّ الكل، يقول الله لنبيه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، فكلٌ منهم، حتى من جملة المظاهر -والمظاهر كثيرة ومتعددة ومتنوعة-، كفار الأمة ومعاندوها ومكذبوها، ما يُعجَّل لهم العذاب كما عُجِّل على الأمم السابقة، على مدى القرون التي مضت حصل عِبر عظيمة وهلاك ذا وهلاك ذا، لكن نوع من الهلاك الذي يستأصل ويعم كما كان للأمم السابقة لا يحصل لهذه الأمة، وهذا مظهر من مظاهر الرحمة؛ ومُيَسَّر للجميع العودة والرجوع، (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُو يغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على سعة رحمة الله -عز وجل-.
حتى شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-: ثم تأتي شفاعته -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، فالكل يخرج من تحت الشمس حتى ولو كافر حتى ولو ملحد، وترتفع الشمس عن الكل، وينتقلون إلى أرض الحساب، بسبب شفاعة صاحب المقام المحمود -صلى الله عليه وسلم-، فالرحمة عامة للجميع، ولكن خصائصها المُفضية إلى نعيم الأبد والمرافقة للمرضيين للواحد الصمد -جلَّ جلاله- هذه للمؤمنين والمخلصين (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56]، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71]، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:218] فهذه الرحمة العظمى خاصة، وفَّر الله حظنا من رحمته.
قال: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)) لو يؤاخذهم هؤلاء الذين يكذبونك ويعاندونك، ويؤذونك بما كسبوا (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) وكذلك كانت سُنته على العموم، وفي هذه الأمة على وجه الخصوص؛ (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا) في نياتهم وأقوالهم وتصرفاتهم بأعضائهم ومعاملتهم، (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ (58)) ولأهلكهم بسرعة.
قال: (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ (58)) والموعد لكلٍّ موعدان:
موعد أولي: وهو أنه ينتهي شأنه في هذه الحياة الدنيا بموتٍ أو بعذابٍ ينزل عليه، أو بأي شيء من هذه الحوادث التي يبرزها الله في الوجود.
والثاني: الموعد الكبير وهو جمع الأولين والآخرين، (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42]، -جلَّ جلاله-.
(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)) محْرز، ولا تأخر ولا عذر ولا خروج عن ذلك الموعد، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)) ما يستطيعون أن يتخلّصوا من الحضور في ذلك الموعد، (قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَوَّلِينَ وَٱلۡأٓخِرِينَ * لَمَجۡمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ) [الواقعة:49-50].
(وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ (59)) انظروا في صحيفة ما أبرزنا لكم في واقعكم على ظهر الأرض في هذه الحياة الدنيا، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد:10].
يقول: (وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ) قرى قوم نوح، بل الذين خالفوا النبي إدريس من قبل، وما بين إدريس ونوح من الأنبياء، وقوم إبراهيم، وقوم هود (عاد)، وقوم ثمود، وقوم النبي لُوط، وقوم موسى، ومن بينهم ومن قبلهم ومن بعدهم.
(وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ (59))؛ فسبب الهلاك الحسي النازل على الناس في هذه الدنيا الظلم، وهو سبب الهلاك المعنوي الذي يتأبد، والتعذيب به وإيلامه إلى الأبد.
(أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ (59)) فيُبشِر كل متمادٍ في الظلم بالهلاك، "إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى يَأخَذَهُ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"، (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:183].
(وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا (59))، لِمُهلَكِهم: هلاكهم، في القراءة الثانية لِمَهۡلِكِهِم: إهلاكهم، (لِمَهۡلِكِهِم) موعدًا لن يتجاوزوه، ولكن كلّ الساعين في الشر والضر والمعاندة لأمر الله ورسوله بأي نوع من الأنواع وصنفٍ من الأصناف لن يتجاوزوا قدرهم، ولهم موعد لن يُخالفوه، (ولَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)).
(وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا (59)) محددًا معينًا بالأيام والساعات واللحظات والأنفاس، إذا جاء حلَّ عليهم ما أُعِدَّ لهم من عذاب الله تعالى، (وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا (59))، فما الشأن إلا أن يجيء الموعد فقط، فإذا جاء الموعد وجاء الوعد، حلَّ بهم العذاب وحلَّت بهم المُثلات (وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا (59)).
ثم يذكر سبحانه وتعالى هذه القصة البديعة، قصة سيدنا موسى عليه السلام وفتاهُ يوشع مع سيدنا الخضر على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام؛ (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ (60))، اذكر يا محمد وذَكِّر أمتك بعجائب ما أوجدنا في هذا العالم وما جعلنا من الشؤون البديعة.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ (60)) موسى بن عمران عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لفتاهُ يوشع بن نون، (لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ (60)) وذلك كما جاءنا في الصحيحين، وعند النسائي، وابن ماجة، والبيهقي، وغيرهم من أهل السنة أن سيدنا النبي موسى -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-: سُئِل عن أعلم أهل الأرض، أو هل يوجد في الأرض أعلم منك؟ وفي لفظ: سُئل هل تعلم أحدًا على وجه الأرض أعلم منك؟ فقال: لا، ومن أعلم أهل الأرض إذًا؟ قال: أنا، فعتب الله -عز وجل- عليه وأنزل عليه: بلى عندنا عبدٌ، لِمَ لا ترد العلم إليه، لما سألوك وأنت لا تعلم؟ قل: أسأل الذي يعلم، قل: ربما أحدًا أعلم مني وأنا لا أعرفه، فلما بادر بالجواب من دون أن يرجع إليه عاتبه، وهذه منزلة الأنبياء عند إلههم -جلَّ جلاله- في دقيق تنبيههم وتربيتهم، يقول له: لما لا ترد العلم إلي؟ بلى عبدٌ من عبادنا -عبدنا الخضر- أعلم منك، فلمَّا قال هكذا، قال سيدنا موسى عليه السلام: يا رب، وأين يوجد عبدك هذا؟ كيف لي به فأتعلم منه؟ أدب الكليم مع الإله العظيم -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
قال: خُذ حوتًا فاجعله في مكتل (زنبيل)، وامضِ إلى مجمع البحرين على سِيف البحر، حتى يخرج الحوتُ بإذني من مكْتله -من الزنبيل- هذا، فهناك تجد عبدنا هذا.
فجعل له سبحانه وتعالى رحلةً وترتيب حتى يصل به إلى سيدنا الخضر، هو كليم الله، وكان بإمكانه أن يقول: ماهو العلم الذي علَّمته علِّمني هذا العلم الذي عند الخضر، ولكن أدبهم.
مع أنَّ الطريقة في أخْذ العلوم أنَّ من خصّه الله بعلمٍ إذا أردت أن تتعلم؛ فاقصِدَ هذا الذي خصصّه الله بالعلم فخذه منه، وبالتلقي والأخذ، مابادأك به سبحانه وتعالى من فتحٍ أو أوحى إلى أنبيائهم من علمٍ فشأنه معهم وعلّمهم الله اعظم العلوم، وخير العلوم؛ ولكن ما لم يجعل الطريق إليه ذلك، فالشأن أن يُؤخذ من أهله، أن يُؤخذ مُسندًا إلى رجاله وإلى معادنه.
فلذلك سيدنا موسى عليه السلام قال: أين أجد عبدك هذا لأني أريد أن أتعلم منه، لأن هذه سنتك في تلقي العلوم، وما دام هذا علمٌ شريفٌ مرفوعُ القدرِ عندك فأريد أن أتعلمه، فأين ألتمس عبدك هذا؟، حتى ما قال له دعه يجيء إلى عندك بل قال له: اذهب وخذ الحوت وضعه في مكتل -زنبيل- وامضِ إلى أن أُحيي لك هذا الحوت، فإذا أحييته وخرج فهناك تجدُ عبدي الخضر، وكان في ذلك كلامٌ عظيمٌ واختبارِ وترتيبِ وامتحانِ، إذا أردت علم صدق، وتريد أن تطلب العلم؛ تحمل المشقة وامشِ وامضِ واصدق، فقام بالصدق سيدنا الكليم عليه السلام، فانظر ما عرفنا قدر العلم، وكيفية تلقي العلم، وكم بذلنا من وُسع، وكم بذلنا من مُدة حتى نصل إلى أن نتلقى العلم.
هذا كليم الله وقال لفتاه مباشرة، (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ (60)) يوشع بن نون، كان يقوم في خدمته، ويرافقه، قال: هيا يا يوشع، نعم.
(لَا أَبْرَحُ (60)) لن أتراجع ولا أقف عن السير والسفر، مواصلة، (لَا أَبْرَحُ (60)) ولا أتوقف ولن أنقطع، (حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ (60)) حيث وعدني الله أن ألقى الخضر.
(أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)) إذا كان مجمع البحرين هذا الذي في فهمي وذهني القريب الذي سأصل إليه، وإلا أمضي السنين.
(أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) حقبًا يعني: زمن طويل، السبعين سنة، الثمانين سنة.
(حُقُبًا) قول ضعيف أنه سنة، حقب، يمشي هذه السنين كلها من أجل يلقى هذا الخضر ليتعلم، وفي سادتنا الصحابة، من سافر مسافة شهر من أجل يسمع حديث واحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا قال: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)) سأمْشِي سنة، سبعين سنة، ثمانين سنة، ولن أنقطع حتى أحصِّل هذا، وهكذا شأن طلبة العلم، وهكذا شأن من عرف قدْر العلم، وكيف إذا كان أعز العلوم وأشرفها، وهو العلم بالله وبأحكام الله، وصفات الله وآيات الله، رزقنا الله إنزال العلم منزلته.
أنواع من العلوم الأخرى رتّبوا آلَ الدنيا فيها تراتيب، وجعلوها وسائل للوصول إلى شيء من الأغراض الدنيوية، يعني الناس فيها أسفار ورحلات ومحلات بعيدة، يقضون سنين؛ شيء أربع، وشيء سبع، وشيء ثمان، وشيء عشر سنين، لأجل يحملوا شهادة العلم هذا! ومدى معرفة قدر هذا العلم الذي يُطلبه، أنه سيحصل به على وظيفة ودخْل مال، هذا هو؟!
خذ علم أكبر من هذا، خذ علم مردَّه ومردوده ونتيجته أشرف من هذا وأفخر وأدْوم، وأعرف قدْره وسافر من أجله، وكانوا لهم رحلات في طلب العلم، ويمشون أشهرًا ويقطعون الأرض من الأرض، ويعرفون قدر العلم، عرّفنا الله قدر العلم وكيفية طلبه.
يقول: (لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا (61)) البحرين؛ بحر الروم وبحر فارس، حيث يلتقيان، قال: -على أصح الأقوال في ذلك- يمشي سيدنا موسى وسيدنا يوشع، يمشون حامل الحوت -حمله يوشع- إلى أن وصلوا عند الشجرة هناك، عند صخرة -حجرة كبيرة- على سِيف البحر، عند مجمع البحرين وناموا، وإذا بيوشع يرى الحوت يتحرك وسط الزنبيل ويدخل في البحر، ورجع إلى نومه تركه.
ولما قام سيدنا موسى قال: قم فقام، فقال: سنمشي، ونسي أن يكلمه أن الحوت حَيّ وقد خَرج ونَسيه، كيف نَسِيَ هذا؟! أمر كَبير وحوت خرج،
كان بِقوة إيمانه وكَثرة ما يُشاهد من العَجائب مع موسى، ما كان هذا بالأمر الغَريب الذي يَأخُذ انتباهه، فكأن ما حَصل شَيء وراح يَمشي مَع موسى.
وثانيًا أنساه الله -تبارك وتعالى- أيضًا؛ لِيُبَيّن لِعَبده موسى أن العِلم إنَّما هو مَوهبة مِنهُ يَضعه في قَلب من يَشاء ويَحفَظه عليه متى شاء وإذا أراد أن يَنزعه يَنزعه، وإذا أراد أن يُنسيه يُنسِّيه؛ فما لأحد عِلم في الحَقيقة غير الله (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32]، وأكبر عالِم قليلٌ من النسيان يجيء عليه لم يعد يعرف ماذا يقول، ولو أُخِذ عَقلُه ورَجِع مَجنون ولم يعد شيء من العلم كله ذهب، فالعلم لله، يَتَكَرم على مَن يَشاء بِما يُؤتي من أنواع العُلوم، وبَعضها أشرف من بَعض، ويَحفَظها عليه مَتى ما شاء، وإذا أراد أن يُزيلها يُزيلها، وإذا أراد أن يَنزَعها يَنزعها، فالعلم في الحَقيقة لواحد هو الله العَليم الحَكيم علام الغُيوب (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59]، وهذا عِلم أَزَلي أَبَدي؛ هذا هو ثابت لا يَزيد ولا يَنقُص، مُحيط بكل شيء، وهذا ليس إلا لله وَحدُه، فَحَقيقة العلم له، والناس يغترون بما يؤتوا (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85] -جل الله- فلهذا نَسَّى يوشع -مسكين-.
وليأخذ عِبرَتُه، حتى موسى يَقول له هذا عِلم أمام أعينكم أَعطيتُكم إياه وأَخبَرتُكم أنه عندما يَخرُج الحوت، ولكن قمتم تَنْسَوْنَهُ ولاعاد جئتُمْ عَلَيْهِ، وجاوزتم المكان، ولما جاوزتم المكان أذَقتَكُم مَسّ النَّصَب والجوع، لما جاوزوا الحد.
(فَلَمَّا جَاوَزَا (62)) تَجاوزا الحد الذي أُمِروا به، (قَالَ لِفَتَاهُ (62)) موسى يقول: مَشينا كثيرًا، تَعِبنا، وَجُعنا.
(آتِنَا غَدَاءَنَا (62))، أعطنا من الحوت هذا، سنأكل منه الآن.
(آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا (62)) قال سيدنا محمد: وما مَسّ النصب موسى إلا بعد ما جاوز المَكان الذي أُمِرَ به، بعدها مَسّه النصب قال: آه، الحوت نسيت أن أكلمك! هل تَذكُر لمَّا جِئنا عند الصخرة هناك؟ أنا وإياك وَرَقَدنا عِندها؟ قام الحوت وخرج، هذا الذي نُريد كيف لم تُخبرني؟، قال: نسيت، قال:(أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ (63)) هناك قام وخرج ودخل في البحر، نسيت الحوت، (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ (63)) يعني أنساني الشيطان أن أَذْكُره لك، وراح من بالي من أن أَذْكُره.
(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63))، قال: (فَاتَّخَذَ) الحوت، (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) سرب أي: نَفَق وطَريق، فكان للحوت سَرَب، ولموسى وفتاه عَجَب؛ حتى جاء في بعض الروايات أنَّه لما مَشى، فَصَلَ الله تعالى بين الماء والماء الذي مَشى فيه الحوت ومَسك الجَريَ، فَبَقي المَكان الذي مَشى فيه ثابتًا مَحَلَّه، لم يَنطَبِق الماء على الماء في المَحَل الذي مَشى فيه الحوت، وبقي علامة لَهُم حتى يَرجِعوا، حتى رَجَع سَيِدنا موسى -عليه السلام-.
(قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ (64)) هذا الذي نبحث عنه ونَطلُبه، لأنَّ ربي قال لي: سأجده في المحل الذي يَكون فيه الحوت، (فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)) يَقُصان الأَثَر- بسم الله- رَجعنا الآن، هذا كله مشي ليس له داعي زائِد على الحاجة، رجعوا إلى المكان - لا إله إلا الله-.
قال: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا (65)) -سيدنا الخَضِر-، أَكثَر أَهل العِلم أَنه ليس بِنَبي وأنّه ولي، وقال بَعضُهم: بِنُبُوَته، وأَكثر أَهل العِلم يَقولوا: أَنه ليس بِنَبي، وهو مِن أَولياء بَني إسرائيل.
(فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا (65)) مَدح كَبير من الله لهذا الإنسان -الخَضِر-، سُمي الخضر يقال: لأنه جَلَس في فَروة يعني: بُقعة من الأرض يابسة فاخضرّت فَسُمّي الخَضِر، يقال ولا يُصَلي في بُقعة إلا اخضرّت، فلُقِّبَ الخَضِر، ويقال: اسمه -بَليا بن مَلكان-.
يقول: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا (65))، نوع من أنواع الرحمة الكبيرة الخاصة، نَسَبَها الحَق إلى عِندِيَته: (مِّنْ عِندِنَا (65))، (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً (65)) في المَعرِفة الخاصة، والمَحبة الخالِصة، والشُهود الأسنى، آتاه رَحمة من عِنده -جلَّ جلاله-.
(آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)) حتى صار كُل العِلم الذي يوهَب من حَضرِة الرحمن -سبحانه وتعالى- من غير طَريق الكَسب، بل وبالإقتِناص بِشَبَكات هذه الحواس سُمي لَدُني إشارة إلى قوله: (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)) تَعليم مُباشر من حَضرة الرحمن من دون واسِطة، ومن دون وَسيلة.
(وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)) اللهم إنا نَسألك العِلم اللدني والمَشرَب الصافي الهَني يا وَهاب يا غَني.
(وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)) فَسَلَّم على سيدنا الخضر، كان مُضطجعًا مُغطّى فَفَتَح، قال: وأنَّى بأرضك السلام؟! من يُسَلِّم في البقعة هذه من الأرض؟ لا أحد يعرف فيها السلام من أهل المنطقة هذه، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟! قال: أرسلك الله؟ قال: نعم، قال: مرحبًا بك، ما جاء بك؟ قال: جِئت (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66))، في قراءة (رَشَدًا) تُرشدني إلى عِلم أَعطاك الله إياه، قال له: كَفى بالتوراة عِلمًا، وَكَفى بِبَني إسرائيل شُغلاً؛ أنت عندك عِلم الله أنزله في التوراة وكفاك هذاك العِلم، ومَعَك بَني إسرائيل تُزاوِلهُم وتُبَلِغهُم وتُرَبيهم، ما الذي جاء بِك إلى هُنا؟ قال: الله تعالى، قال: مادام الله أَرسَلَك، إذاً كيف تَصبِر معي على عِلم لَيسَ عِندَك؟! إنك على عِلم آتاك الله إياه لَيسَ عندي، وأنا على عِلم عَلمني الله إياه ليس عندك و(إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)) كَيفَ ستَصبر؟! (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)) ما تَعلم بِخَفاياه وبَعض دَقائِق يُعلمنا الله إياها، أنت ما تَعلمها، ستستنكرها وستنزعج لها (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)) تَخبُر دَقائِقه وخفاياه.
قال له سيدنا موسى: أنا سأسلك مَسلك الطالب المُتعلم بالصِدق والحَق (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا (69))، كُل الذي تَقوله وكل الذي تَعمَله وكل الذي تأمر به سأُنفذ أمرك (وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69))، هكذا طلب العلم، فَعَلَّموهم الآن كيف يَتَعَلمون العُلوم؟ يُناقِرون الأساتِذة في القاعات والجامعات وعلى الكراسي، وإذا غضبوا من الأُستاذ يَخرُجون ويَحرِقون دراجته أو يكسرون سيارته، هكذا العِلم هو؟!ىهكذا يُؤخذ العِلم؟! هكذا يكون العِلم؟!
(هَلْ أَتَّبِعُكَ (66)) حتى لم يقل له ما هذه الألفاظ العجيبة، قال بِأَدب، حتى ما قال له أُصاحبك أَو أَجلس معك (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)).
قال له بعد ذلك: لما قال له (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)) قال: إذا كان هكذا، بسم الله (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ (70))، سأتصرف تصرفات وأنت اسكت، ولا تقُول لي: كيف، ولا ما هذا، حتى أنا أُنَبِئَك عنها، وأسألك عنها، وأَذكر لك ما عَلَّمني الله فيها، والله اختبار صعب هذا.
قال: (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا (71)) مشوا على ساحل البحر يَنتَظِرون سَفينة، وإذا بالسفينة أَقبَلت فدخلوا (حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ (71))، عَرَفوا الخضر -أَهل المَنطِقة يَعرِفونه- قالوا: تَفَضلوا بلا نول أنت وصاحبك، قال معي صاحبي، قالوا تفضل أنت وصاحبك لا نريد منكم نول ولا أُجرة أهلًا وسهلًا، دخلوا، يَعرِفونه رَجُل صالح صاحب أخلاق وفضائل ونور، ما يعرفون موسى لكن يعرفون الخضر، دخلوا فلما عَرفوه قالوا: أنت وصاحبك، ما نُريد مِنكم نول.
يَمشي في السفينة، إلا يَعمِد إلى فَأس أو قَدوم، وإذا بِلوح من ألواح السفينة يَدُقّه سيدنا الخضر، فيخَرَجه؛ سيدنا موسى تَعَجَّب، نَسِي الوَعد، قال بلا نول أرَكَبونا وأكَرَمونا، وتَقوم تُجازيهم بهذا الجزاء! تَخرِق سفينتهم وتدع الماء يدخل، وبعدها سيغرقهم؟! فقال سيدنا موسى: (حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا (71)) وفي قراءة: لَيَغرَق أَهْلَهَا (لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا)، أو (لَيَغرَقَ أَهْلَهَا).
(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)) عجيب، هذا شَيء فَظيع شَنيع مُقابل الجَزاء والإحسان؟ قال له (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)) أنا قلتُ لك: إنك لن تستطيع أن تَصبِر مَعي، قال أوه أوه أوه نَسيت.
فكانت الأولى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأولى من موسى نسيانًا؛ قال: (لَا تُؤَاخِذْنِي) في رِفقتي لَك ومُصاحَبَتي والتلقِّي عنك لهذا العلم (لَا تُؤَاخِذْنِي (73))، يعني تُكلِّفني شيء فوق طاقتي لأنها صَدَرَ عن نِسياني، ولو كنتُ ذاكِراً لن أتكلم، اسكت ساكت وسأدعك تفعل في السفينة ماشِئت.
(لَا تُؤَاخِذْنِي (73)) لا تُرهِقني، تُكلِّفني من أمري في مُرافَقتك والأخذ عنك (عُسْرًا (73)) أمرٌ شديد خارج عن الطاقة.
(فَانطَلَقَا) وهم يَمشون وإذا بِطائِر يَقف على حَرْف السفينة، يَنقر بِمنقاره في البَحر يَمشي، سيدنا الخضر قال: موسى، قال: أَمرك، قال: أرأيتَ هذا الطائر كم نَقَص من البحر؟ كَم نَقَص بِمنقاره؟ ماذا نَقَص من البَحر؟! ما نَقَص شيء، قال: فما نَقَص عِلمي وعِلمك من عِلم الله إلا بمقدار ما نقص هذا الطائر بمنقاره من هذا البحر، يعني عِلمي وعِلمك وعِلم المَلائكة والخلائق كلهم، ما يساوي شيئًا عند علم الله -تبارك وتعالى-، وهو علام الغيوب -لا إله إلا هو-.
وخَرَجوا مِن السفينة ويَمشون في الطريق هو وإياه، (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا (74)) جَماعة من الصبيان يَلْعَبون، فيهم واحد غُلام -ماشاء الله- نشيط يَلْعَب بينهم، مَسَكَهُ الخضر وقال برقبته هكذا قَصَفَهُ، قتله، سيدنا موسى أنكر لكنه ما قدر أن يصبر، يا خضر! ما ذنب الطفل هذا؟ قال: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ (74)) في قراءة (زاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ (74)) لم يفعل ذنب وما قتل أحد ولا شيء، وأنت تقوم تقتله، فعلت شيء منكر.
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)) قال: هذه أعطني إياها، بعد ذلك إن عُدنا مرّة ثانية وتكلمت بعدها على شيء فقد عُذِرتَ عن عدم قَبول صُحبَتي لَك ورفضك لاتباعي لك، وستكون أنت مَعذور، قال: (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (76)) أنت معذور، قال: أعذُرَك في هذه المرة، ومشى.
في المرّة الثالثة قال: تَعَمَّدها، لأنه قد اكتفى بما عَرَف من شُؤون هذا العِلم الذي عند الخِضر، وعَلِم أنَّه لا يَحتاج إليه في شأن سَيْرهِ إلى الله تعالى، وشأن قِيامه بالشريعة لن يحتاج إلى هذا العِلم؛ فاكتفى بهذا ورجع، حتى النبي قال: وددتُ أنه لو صبر، فسيُرينا الله عجائبَ مما يَفعَلُ الخَضِرُ، لكنه في الثالثة ما عاد صبر.
(فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ (77)) يقال إنّها أنطاكيا ويقال غيرها، (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا (77))، جائعين تعبانين أرادوا أن يُضَيِّفونهم، (فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا (77))، قالوا: لاشيء لكم -لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم- فخرجوا عن الفِطرة وعن عادة الإنسانية بِعُمومِها، وبعض العناصر منها على وجه الخُصوص، عَيب رَدّ الغَريب والوافد والضيف، كيف! يُكرم هؤلاء (فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا (77)) يَنظُر سيدنا الخضر إلى جدار مئة ذراع قد آوى إلى السقوط، مال، يعني مال، قال كذا ورتبه وأرجعه.
سيدنا موسى قال: أبوا أن يُضَيِفونا؟! وليس معنا شيء نأكله وتصلح لهم الجدار، صَلَّحه بِأُجرة، قل لهم هاتوا أجرة وسأصلح لكم الجِدار، ودع الأجرة نأكل بها أنا وإياك.
(فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ (77)) يريد أن يسقط لأنه قد مال، فأقامهُ سيدنا الخضر، (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)) لماذا لم تَأخذ أجر على هذا؟! بدل رفضهم أن يُضَّيِفونا؟ تأخذ أجرة ونتغدّى بها.
(قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ (78)) أنا قلت لك: لن تصبر، هذا آخر مرّة.
(قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78)) سأكشف لك الآن السر.
قال: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ (79)) مساكين! لماذا تُخَرِّب عليهم السفينة؟ (لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ (79)) شُغلهم هذا، وأكلهم هم وأهلهم من شُغل السفينة هذه، ما الذي دعاك أن تخرقها؟ (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا (79)) لماذا؟! (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ (79)) على الطريق التي يمشون عليها، مَلِك ظالم أي سفينة صالحة تعجبه يأخذها (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)) فبسببِ خرْقها هذا لن يَأخذها، ومَرُّوا وسَلِمَت لأهلها، مرُّوا بالمكان الذي فيه جنود الملك هذا ولما رأوا هذا، قالوا دعهم يمشون، دعْهم يمشون، ولو تركته مكانه، كان لم يعد معهم سفينة الآن والجماعة كلهم راحوا (فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ (79)) صالحة (غَصْبًا (79)) فَهِم الحكمة الآن -الله- أحسن إليهم، ما أساء، ولكن بطريقة غريبة مُلتوية، لأن عنده علم من الله.
قال: (وَأَمَّا الْغُلَامُ (80)) قتلناه هذا الطفل (فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ (80)) وهو كافر (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)) يقول لو بقي من تَوَلُعهم وتَعَلقهم به سيوافقونه على الكفر وسيكفرون معه -والعياذ بالله تعالى-.
قال: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا (81)) وفي القراءة الأخرى (يُبَدِلَهُما) (رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً (81)) طُهرًا (وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)) رَحمةً، لايَكفُرون بسببه ولايَخرُجون عن دين الله ولا يَدخُلون النار ولايَخسَرون الجنة أحسن لهم، ولّا ولد يُفَوِّت عليهم الجنة ويدخلون بسببه إلى النار؛ فَهِم حِكمة ثانية.
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا (82)) تركه لهما أبوهما، وهم أيتام ولكن الكنز تحت الجدار، ولو تركنا الجدار يسقط سيظهر الكنز وسيأخذونه منهم، ما عاد يصِل إليهم.
(وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا (82)) فَلأَجل صَلاح الأب، الله تعالى أَمَرَني أن أخدم هذين رِعاية لصلاح أبيهما، حتى لا يَنكَشِف الكَنز، ويَكبُران ويخرجان الكنز، فَيُحصلان وصية أبيهم، والكنز في المَحل الذي فيه، ويُخرجانه بأنفسهم.
قال: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا (82)) يقول بعضهم: ليس هو الأب المُباشر، ويقول بعضهم: حتى ليس هو من جِهة الأب، بل من جِهة الأم -جَدهم السابع- كان صالحًا، وَليًّا، فحفظ الله هذين الغلامين وكنزهما رِعايةً لِحَق هذا الصالح الولي، لمحبة الله له.
(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا (82)) يَكبُران في السن، ويُخَرِجان الكنز بنفسهم سالم محفوظ يُنفقانه في الحاجة وفي مرضاة الله، (كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (82)) ليس باختياري ولا بِتَرتيبي ولا بِعَقلي، هذا أمرٌ معي من الله.
(وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (82)) كما قال الله لأم موسى: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) [القصص:7] هل أحد يرمي عيالهُ في البحر ؟!، لكن أمر معها (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7] وهذه ليست نَبِية، هي نَبِية؟! لا توجد امرأه نبيّة، إن هذه إلا ولية، أم سيدنا موسى "يوحان" وهذه شبيهة بتلك، وأدخلته وسط البحر، ورجع لها كما قال الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
قال: (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82))
في الأولى قال (مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78)) لأنه عاد ما كان يعرف الحكمة فيه، فالاستطاعة بعيدة، أمر شديد، فزيد التاء (مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78))
لما بَيَّن له وفسر له، صارت سهلة الآن عليه، صارت (مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82))، ما عاد تحتاج إلى تضخيم في التاء، (مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)) أما الآن فقد عرفت الحكمة، ما عاد فيه مشكلة عندك، الأمر اتضح لك (ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)).
قالوا: واستعمل سيدنا الخَضر الأدب فقال:
(فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا (79)) على السفينة،
وقال في الغلامين: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا (82))؛
ولما كان هذا خير مَحض إقامة الجدار والمُحافظة على الكَنز، ما فيه إلا خير محض، نِسبَه إلى الرب، أما ذاك لما ظاهره فيه مشكلة ويُخَرِج اللوح على الناس قال: (فَأَرَدتُّ (79)) نَسَبه إلى نَفسه -سيدنا الخضر- أدبًا مع الرب؛ والكل بأمر الله، والكل بخلق الله، ولكن هكذا يتعلم المؤمن كيف يختار اللفظ ولا يُنسَب إلى الله إلا الخير المحض -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
لك الرغبة ولك الطلب، والشر ليس إليك، -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
رزقنا الله الإخلاص واليقين والتقوى والصدق والقبول، وقبلنا والوافدين والزائرين، وربطنا بالقرآن ومعانيه، ورَقَّانا في مَراقيهِ، وجعلنا عنده من خواصّ أهليه، وحشرنا في زمرة أهليه في عافية وهو راضٍ عنا مع صلاح الحس والمعنى، وكشف الضرّ عنا وعن أهل لا إله إلا الله، وختم لنا بأكمل الحسنى، وفرّج كروب المسلمين، ورزقنا العلم النافع والعمل الصالح والإقبال الصادق والقبول التام في لطف وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
24 مُحرَّم 1446