(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء:
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) }
مساء الإثنين: 26 صفر 1445هـ
الحمدُلله مُكرمنا بأنوار الوحي والتنزيل، ومُبيِّنها على لسان خير معلِّمٍ وهادٍ ودليل، عبده المصطفى سيدنا محمد الهادي إلى سواء السبيل، اللهم أدم صلواتك في كل لمحةٍ ونفسٍ بالغدوِّ والأصيل، على عبدك المجتبى المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار في دربه وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المبشرين به، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وخطابه وتعليمه وإرشاده، وتَنزُّله في التوجيه والتبيين على لسان المصطفى الأمين ﷺ انتهينا في سورة الإسراء إلى قوله جل جلاله وتعالى في عُلاه: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (33))، وذلك أنَّ من أكبر الكبائر التَّعدي على النفوس والبُنية التي بناها الله من جسد الإنسان، فيُهدَمُ ذلك البناء وتُزهَقُ تلك النفس من غير حقٍ.
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ..) مما جعل من قِصاصٍ وما جعل من حَدٍّ، وما عدا ذلك فلا وجه لأحدٍ أن يتجرأ على نفسٍ؛ سُميت نفسٌ لِنفاسة صُنعها من قِبَل الحق -جلَّ جلاله- فهي نفيسة لا يجوز لأحد أن يتجرأ عليها، بل حرَّم الله علينا قتل ما لا يَضُرنا من الحيوانات، أو ذبح ما لا يجوز لنا أكله من الأنعام من كل الحيوانات التي حرم الله علينا أكلها، فحرّم علينا أيضًا ذبحها، وكل ما لا يُضر من أنواع الحيوانات صغيرها وكبيرها لا يجوز أن نقتلها بغير حقٍ، فكيف بالآدمي؟ فكيف بالمسلم؟.
وقد سمعنا قول الله: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93] -اللهم أجرنا من عذابك-، "لا يَزَالُ العبدُ في فَسْحَةٍ من دِينِه ما لم يُصِبْ دَمًا حرامًا"، -والعياذ بالله-، "ولو أن أهل السماوات والأرض تمالؤوا على قتل نفس مسلمٍ بغير حق لأَكبَّهمُ اللَّهُ في النَّارِ" والعياذ بالله تبارك تعالى فالأمر خطير، "من أعان على قتلِ مسلمٍ" -بغير حق- "ولو بشطرِ كلمةٍ لقِيَ اللهَ وهو مكتوبٌ بين عينيهِ : آيِسٌ من رحمةِ اللهِ"، فالأمر عظيم وشديد، ولا هناك نظام ومنهاج للأمن والاستقرار وحُسن المعيشة أعظم من منهج الله وقرآنه وسنة رسوله المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد قال لنا تعالى عن فئات الكفار الذين رفضوا الإذعان للحق وقبول الحق، ولكنهم لم يضروا ولم يُؤذوا ولم يمنعوا نشر الحق قال: (.. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) [النساء:90]، وقال -جل جلاله-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]، هكذا جاء نظام الحق -جلّ جلاله- وشأن قتل النفوس من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله جلّ جلاله وتعالى في علاه، ومن أعظم ما يترتب عليه شديد الإثم في الآخرة وتعجيل أنواعٍ من العقوبات في الدنيا، "وبشِّر القاتل بالقتل ولو بعد حين".
يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا ..(33))، قُتِلَ بغير حقٍ لا يستحق القتل، لم يرتكب شيئًا يوجب القتل، فقُتل بأي كيفيةٍ كانت من أي أحدٍ كان، يقول الحق -جلّ جلاله- إنكم في نفوسكم هذه وطغيانكم وأهْويتكم، يصدرُ منكم تجاوزٌ للحدود حتى يَقتُل منكم من يَقتُل ظُلمًا، ولكن إذا سُيِّبَ الأمرُ على عِلَّاته وعواهنهِ، تضاعف الفساد والتعب والمشاكل والآفات فيكم، بمصيبةٍ فوق مصيبة حتى صِرتم تعيشون عيشةً ليست بعيشة السباع الضاريات في الصحاري و عيشة الوحوش في براريها.
ولكن بالترتيب (مَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ ..(33))، الذي يلي أمره من وارثه والمُطالب بحقه (سُلْطَانًا)؛ أي جعلنا له شؤونًا منها حكم الشرع المصون في أنَّ له الحق:
(فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ..(33)) ومن السلطان المعنوي أنَّ النفوس تكره ذلك القاتل بغير حق وتشمئز من فعلته، وتُنكرعليه،
(فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ) فوليُّ المقتول لا يجوز أن يسرف في القتل، كيف يسرف في القتل؟ يقتل غير القاتل؛ كما يفعل بعض الناس إذا قتل أحد من قبيلة يقول خلاص أي واحد من القبيلة نقتله أو نتخيّر منه فلانًا أو فلانًا؛ هذا من الإسراف في القتل، أو قتل واحدًا وقال نقتل اثنين أو ثلاثة هذا إسرافٌ
(فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ) أو قتله وقال أنا بقتله شرَّ قتلة أشد من هذا وبقطعه، أو قال أُمثِّل به، (فلا يُسرف) هذا كله إسراف في القتل ممنوع في الشرع المصون لا يجوز، لكن النفس بالنفس، إذا لم يعفوا أهل الدم وما أرادوا أخذ الديَّة ولا العفو عن الديَّة ولا عن القصاص، فليُقتَصَّ منه عبر الحاكم، ولو جُعِل الأمرُ أنَّ كلًا من نفسه يقتصُّ؛ لكانت الفوضى في واقع الناس تؤدي إلى استفحال القتل والمشاكل والمصائب والمخاوف والاضطراب، ولكن (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا(33)) إن نُفِّذَ حُكم الشرع وطُبِّقَ فالنصر كامل، وإلا فهو منصور بما يُجعل من البغض في قلوب الناس لهذا القاتل، ثم ما يُحصِّله ذلك المقتول من الدرجات في الآخرة، ثم ما يُعَذَّب به القاتل أيضًا في الدار الآخرة، فالنصر محقق ولابُدّ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]، ويأخذ من القاتل حق المقتول ويَعظُم عليه الأمر، وقد كان الحجّاج بن يوسف المتساهل بقتل النفوس وهو في سكرات الموت أسبوعًا، وقتْلة بعد قتْلة، ومما تحدّث به في ذلك الحين قال: "إنَّ الله قتلني بكل نفسٍ قَتلتُها قتْلة" -ويَحس ألم القتل وهو في سكرات الموت: "وقتلني بسعيد بن جبير مئة قتلة"، وكان آخر من قتله من سادات التابعين سيدنا سعيد بن جُبير عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
(فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (33)) هذا النظام لِئَلَّا يَعيث الناس في الأرض فسادًا، ولِئَلَّا يُتَّخَذَ من خطأ الخاطئ وظُلم الظالم وجُرم المجرم بابًا يفتح باب الإجرام الكثير وتكرُّر الإجرامات، ولكن قال لا، وبهذه الطريقة خذوا حقكم ومَرْجِعُكُمْ جميعًا إِلَيَّ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بعد ذلك ولن تُظْلم نفسٌ شيئًا، ولن يُظلَمَ أحدٌ شيئًا ويُعطى كل ذي حق حقه، فإنَّ الجبَّارَ الأعلى يقتص حتى بين الحيوانات، وبين الحيوانات والناس، فكيف بين الناس بعضهم البعض؟ لابد "مَن كانَ عِنْدَهُ لأخِيهِ مَظْلِمَةٌ فليستحلَّه اليوم قبل أن يأتي يوم لا دِينارَ فيه ولا دِرْهَم إنَّما هي الحسنات والسيئات".
(فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا(33)) ويأتيه بحسب صبره نصرٌ من الله قريبًا أو بعيد؛ وإن ظُلِم في فترة من الفترات أو رُشي الحكّام أو القُضاة، أو انصرفتْ بسببٍ من السياسة أو بسبب من النفوس والأهواء، فلابدَّ له بصبره وأدبه مع الله تبارك وتعالى من نصرٍ له يحصل في الُدنيا قبل الآخرة، ثم في الآخرة تُستوفى الحقوق حتى الذرات، ولا فتيل ولا نقير ولا قطمير ولا مثقال ذرة وإلا وأوتي به، ولا حبة خردل إلا وأُوتي بكل ذلك وأُعطي كل ذي حقٍ حقه، فالله يرحمنا برحمته الواسعة ويجعلنا من الآمنين يوم القِصاص ويوم الأخذ بالنواص، اللهم هَبْ لنا حَقَّك وأرضِ عنا خلقك برحمتك يا أرحم الراحمين.
(وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..(34)) يا مَنْ توليتم على أموال اليتامى، أنتم في محل الأمانة فاتقوا الله في أموالهم ولا تقربوها، فضلًا عن أن تأخذوها وتأكلوها، لا تقربوها بشيء من المس واللمس والمعاملات والتصرف (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أحسن ما يكونُ لليتيم وأحظى ما يكون له وأحسنَ ما يكون الى الغبطة له تصرفوا بذلك، وما ليس له فيه الغبطة وما كان فيه التغرير وما كان فيه المخاطرة، (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) في شيء من المُخاطرة ولا تتصرفوا فيه إلا بما ترونه أربح له وأنجح له وأحسن له. (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) مثل ما نهى عن القرب عن الزنا، كذلك عبَّرَ عن مال اليتيم قال ما تقرب منه (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) فضلًا عن أن تلمسه فضلًا عن أن تستعمله فضلًا عن أن تأكله.
(وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..(34)) إذا عندك النية الصالحة في أمرٍ أيقنت أنَّه خير لذلك اليتيم فاقرُب، ومن دون ذلك لا تَقرُب اتركه بعيد ولا تَمسَه (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10]، (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وانظروا الغبطة له والمصلحة، حتى قال في الآية الأخرى (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ..) [النساء:5] على أموال اليتامى، (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا) كيف فيها؟؛ ما قال وارزقوهم منها، تأخذ منها وتعطيه (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا) يعني نمِّها له وتاجِر فيها بالمصلحة حتى تًرزقه فيها وليس منها، وفيها ترزق وهي تنمو وتتكاثر، وإلا تأخذ وتأخذ منها، بعد ذلك تنقص، ولهذا جاء في الخبر أيضًا "اتجِرُوا فِي أَمْوالِ اليَتَامَى؛ لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ"، تتركونها مطروحة وتنفقون عليهم منها، وإذا جاءت السَنَة تزكونها فتنقص وتنقص، قال لا، قال اتَّجروا فيها (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) -أي فيها- (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) [النساء: 5]، مع رعايتكم لمصلحة الأيتام وعدم قربكم لمالهم إلا بالتي أحسن، كلِّموهم بالكلام الطيب وأعطوهم الكلام، لا تُعَبِّسُوا في وجوههم ولا تُغلِظُوا لهم القول، وقولوا لهم القول المعروف.
قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..(34))، "إنَّ من أحب البيوت إلى الله ، بَيتٌ فيهِ يتيمٌ يُكرَم" -بيت فيه يتيم يُرَبَّى ويُكرم، هذا البيت من أحب البيوت- "وإنَّ من أبغض البيوت إلى الله بَيتٌ فيهِ يتيمٌ، يُظلم" بيت فيه يتيم لكنه يُظلم ويُكسَر خاطره، أو يُؤخَذ مالُه في غير مصلحته، هذا من أخبث البيوت ومن أبعدها عن الله تبارك وتعالى، و حيث يترَبَّى اليتيم وهو مُكرَم ومُحترَم يُرفَع قدرُ صاحبِ تلك التربية و أهل ذلك البيت.
يقول: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ..(34)) يَكبُر ويَبْلُغَ ويَرشُد يصير رشيدًا أي؛ يعرف التصرف بالمصلحة بما عنده من عقل ووازعٍ ديني، ويعلم كيف يتصرف في ماله، وأين ينفقه، وكيف يُنَمِّيه ويُحافظ عليه ويضعه في محله، فإذا وصل كذلك (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ ..) [النساء:6]، يقولُ: (حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)، وشأن اليتيم وكل الأمور فيما أُخِذَ عليكم فيها من العهود فقوموا بالوفاء بحقها.
(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ..(34)) كلما عاهدتم الله عليه، أو عاهدتم الخلق عليه أوفوا بهذا العهد، فإن الموفين بالعهود هم الذين يرضى عنهم البر الودود ويُعدّ لهم جنات الخلود، وإن الخائنين للعهود لا يحبهم الله -جلَّ جلاله- ويُعذِبَهُم بنارهِ، وبذلك تعلم أنه بحكم الفطرة ثم بحكم الإيمان ثانيًا وأقوى، يخاف الإنسان من أن ينقض كلامه وأن يرجع في عهده بأي وجهٍ من الوجوه، وتجد الأحرار من الناس مَن إذا وعد وعدًا قام بحق الوعد ولم يطلب له تَعذُّرًا ولا مللًا ولا مخرجًا من هنا ولا من هناك حتى يؤدي العهد كما كان. ولذا كان بعض أئمة أهل البيت عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، إذا وعد أحدًا بوعد لا يأكل ولا يشرب ولا ينام حتى يُنَفِّذَ الوعد ويفي به، ما يعاهد ولا يوعد وعد إلا وهو يقدرعلى الوفاء به سريعًا، وإلا لا يوجد أكل ولا نوم ولا شرب حتى ينفذ الوعد ثم يرجع إلى حاله أدبًا مع العهود، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ..) [المائدة:1].
يقول تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)) كيف العهد مسؤول؟ صاحب العهد مسؤول وإلا العهد هو مسؤول؟ لشدّة المسؤولية وعظمتها؛ يجعل العهد نفسه كأنه مسؤول، هو مسؤول يُخاطَب، يُخاطِب العهد لم انتقضْت؟ لم نكثتَ يا أيها العهد؟ ترويعًا لصاحبه الذي ينكث، ما هو نفسه، مسكين ما يعرف يؤمِّن نفسه هو، ولكن صاحبه هو الذي عاهد. (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) جعل المسؤولية على العهد نفسه تعظيمًا لشأن المسؤولية على من أعطى العهد، حتى ردَّ المسؤولية كأنها على العهد، ثم أيضًا كان مسؤولًا عنه أي إن العهد كان مسؤولًا عنه، بالمعنى الثاني أي ستُسألون عن العهد وكل من يتأتى سؤاله عن العهد بكل جانب من جوانب العهد سَيُسأل عنه، فكل من عاهد على أمر مباح فضلًا عن أن يكون سنة أو واجبًا من أصله فلا يجوز له أن يخون في العهد ولا ينقضه بحال من الأحوال، أما المحرمات فلا يجوز التعاهد عليها، ومن عاهد عليها يجب عليه أن يتوب إلى الله ويتبرأ من ذلك، ولكن من عاهد على أمر مباح في الشريعة فضلًا عن أن يكون خيرًا أو سُنة، فالعهد لازم وثابت عليه لا يجوز له بحال من الأحوال أن يتساهل به، ولا أن يخون فيه ولا أن يُؤخر بعضه ويُؤدِّ العهد كاملًا، وهكذا عُهِدَ من خِيار البشر حتى جاء زمان التطور والتقدم هذا، فَصَارَ المَعهود من مُؤسَسات وجَماعات ودُوَل وشُعوب وأفراد وهَيئات، أنَّ الشَطارة عِندَهم في أن يَقلِبوا المَوازين على العُهود إذا فيها مَصلَحَتهُم يُذهِب كُل شَيء، وتَثبيت وجُهُد وتَوقيعُ؟، يذهب، ما كَأَن هُناك شَيء، خَساسة وسَقاطَة وخُروج عن الإنسانية وعن القِيَم وهذا تطوُّرهم، والله ما هو إلا شَرُّهُم وما هو إلا ضَرَرهُم ما هو إلا قَباحَتُهُم والعِياذُ بالله تَبارك وتَعالى.
(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)) جَاءَ جَماعة إلى سَيدنا الإمام البُخَاري وقَد جَاءَت لَهُ بِضاعة يُريد أن يَبيعَها فَأعطَوه فيها الرِبحَ بِخَمسة؛ يَكسَبُ فيها خَمسة. فَقال لَهُم: إن شاء الله تعالوا في الغد، ذهبوا. فَجَاء قَبلُهم في الغَد من قالوا له: نعطيك خَمسةَ عَشر بدل الخَمسة، خَمسةَ عَشر؛ ثَلاثَة أضعاف الرِبح اللي سيعطونك هؤلاء. قال: إنه قَد سَبَق لي شِبهُ وَعدٍ مَع الأولين فلا أَخون عَهدي، سنعطيك خَمسَةَ عَشَر رِبح ثَلاثَة أضعاف الذي سيعطونك.قال: لا، لا شئ، سَبَقتْ مِني كَلِمَة، قال الإمام البُخاري كَلِمة سَبَقت مِني خَلَاص، لا أَرجع فيها، وباعَها للأوَلين -عليه رحمة الله ورضوانه-. وهَكَذا شَأنهم؛ قال كَلِمَة خَرجَت مِني خَلاص، قال شِبه وَعد حتى ليس وعد ولكنه قال خَلاص، ما دام قال شِبه الوَعد كَأنه وَعد ولا أَبيع، وإن تَضاعَفت الأَرباح عِند الآخرين، بِهكذا كانوا أولياء الله وبِهكذا كانوا أصفِياء الله وبهكذا كانوا النَافِعين لِعباد الله -تبارك وتعالى-، وأمَّا حَضارَتُنا في عَصرِنا فَيُمكِن إعطاء المُتَخَصِصِين أموال مِن أَجل يَقلِبوا الميزان ويَكذِبوا، حَتى في صِحَة الإنسان، يَقولوا هذا الذي يَنفَعُه ويَتَبَين فيه مَشاكِل ويسبب لك كولسترول ويَعمل لَك ما أدري ايش ويسبب لك لا أعلم ماذا أيضًا، وذاك الذي يَضُرُّه الثاني هذا مُمتاز ما فيه شيء وهو يَعلَم أنهُ يَضرُه، ويُستَأجَر لِذلك دَكاتِرة ويُعطَون أموال ويُشيعون ذلك، وتَنتَشِر الأمراض في الناس وبَعد خَمسين سَنة يَقولوا لَك كَذَبنا، بعدما تَضَرَّروا ناس كَثير كما هو حاصل واقع في حَضارتنا وفي وقتنا هذا -والعياذ بالله تبارك وتعالى- مُتاجَرَة بِصِحة الناس، بِأَديان الناس بِعُقول الناس، المُهم فلوس تجيء -أعوذ بالله من غضب الله-، وصلوا إلى مواصيل غريبة جدا في أزمنتنا هذه.
ويقول سُبحانه وتَعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ ..(35)) إذا قُمتُم بالكَيل أو بالوَزِن (فَأقيموا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ..(35))، والقِسْطَاس الْمُسْتَقِيمِ: أي العَدل السَوي القَويم، يَقول أول آية نَزلَت بَعدَ هِجرَة النَبي إلى المدينة قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:1-3]، وكان بَعض المُتَساهِلين يَجعَل لَهُ كَيلين عِندُه، كَيل وَفَّاهُ يَأخُذ به، وكَيل ثاني أنقَص مِنه يَعطي الناس بِه، ويَأتي بالكَيل، والناس يُصَدِّقونه أَنه هذا الكَيل، وحَضَرَهُ المَوت وإذا به يَصيح جَبَلين من نار، جَبَلين من نار، يلقِّنونه الشَهادة ما هو حَول الشهادة، جَبَلين من نار إلى أن مات. تَمَثَّل له مكيالاه بجَبَلين من نار -والعِياذُ بالله تَبارَكَ وتَعالى-، (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين:1] . لذا كان بَعض الأَخيار والعَارِفين يَزَيِّد إذا وَزَن لِلغير، يزيّد حَبَة، وإذا وَزَن لِنَفسِه يُنَقِّص حَبَة، وَيَقول ما أشتَري الوَيْل بِحَبَة (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ)[المطففين:1] ،أشتَريه بِحَبَة، اترك حَبَة، فَاصِل بَيني وبَين الوَيْل، هذا التَهديد من الله -جل جلاله وتعالى في عُلاه-، يقول: (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:4-6]، أي: من يُوقن بِيَوم القِيامة والحِساب، لا يقدر يُطَفِّف في كَيل ولا وَزِن ولا يَبخَس أَحد ذرة ولا حَبة ولا شَعيرة ولا قَليل ولا كَثير، مادام يُؤمِن بِالحِساب. (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:4-6] -سبحانه وتعالى-.
وهكذا لمَّا رأى بَعضُ العارِفين وَلَده يُصَفِّي دِرهم لَهُ سيضعه في الوَزِن يريد أن يوزنه ليشتري به، وجد فيه وَسخ وراح يُنَظِفه وصفَّاه، قال: لماذا يا ولدي؟ قال: لئلا يَثقل في الوزن فأغُش. قال: والله إن عَملك هذا خَير من حجتين وعِشرين عُمرة؛ تَنقيتك لهذا الدِرهم حتى ما تَغُش الغَير به أحسن لك من حجتين وعِشرين عُمرة عِند الله -تبارك وتعالى- لأن الدِين المُعاملة، الدِين مُعاملة، وفي ذلك يَقول شاعرهم:
لا يغرنك من المرء قميص رقعه *** أو إزار فوق نصف الساق منه رفعه
أره الدرهم تعرف غيَّه أو ورعه
اجلبوه عند الدِينار و الدِرهم تَعرفوه هل هو صادق مع الله أم كَذاب؟ مُؤمن أم مُنافق؟ عند الدِرهم والدينار، أَره الدِرهم تَعرف غيَّهُ أو وَرَعهْ.
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)) خيرٌ لكم في الحَاضِر، طُمأنينة لنُفوسِكـم وبَرَكة في رِزقُكم، و(أَحْسَنُ تَأْوِيلًا)؛ عاقِبة لكم، عافية في أبدانكم وحسن خاتمة عند موتكم وسلامة في آخرتكم وأجور في عاقبتكم، فهو (أَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي مآلاً وعاقِبَة.
يقولُ: (ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)) وفَاؤكم بالكَيل وتَوفِيَتكُم لِحَق الغَير، وعدم استيفائكم لِحَقكم وزِنَتكُم (بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) حتى لا تَظلموا أحداً مِثقال ذرة (خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، لماذا (خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)؛ لأنَّ النفسَ ومعها إبليس وجماعة من شياطين الإنس والجن يقولون لك أحسن لك، أحسن لك غير هذا، كذبوا وصدق الله، الخير لك إلى هذا الوفاء وهذه التَوفِية للكَيل هو خَير وإن غَشوك وقالوا هو خَير لَك، مرضٌ في بدنك، وهمٌّ في قلبك وشغل في عقلك ومرض في آل بيتك، وسوء خاتمة وعذاب في الآخرة. من أين خير؟ من قال لك خير؟ كَذَّبوا، كذبوا الذين قالوا لك خَير، جَمَّعتَ فلوس من غير مَحلَّها وأحضرتها من هنا وهنا وغشِّيت، وقالوا لك خير لك، ليس بخير لك، هَلَكة في الدُنيا وفي الآخرة ولهذا ما يُبارَك لهم، ما يُبارَك لهم في أموالهم، ويتعبون في الدنيا وتجيء لهم آفات وعاهات وأمراض والعذاب في الآخرة، ولكن الخير أن تفي الكَيل، أن تَتَوَرع (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ) هذا الأحسن لكم، صَدَقَ الله، (ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) -الله أكبر- أحسنُ مَآلا وعاقبة.
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لا تَتَبِع (تَقْفُ): تَتَبِع، (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ): تَقول ما لا تَعلَم، تُصَدِّق مَن يَنقُل لك خبر على غير وَجهُه، تتكلم عن مسألة ما لك بها فهم ولا علم،
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) فلا تتكلم بِكَلِمة على أحد لا تعلم حقيقتها، كَلَّمك إنسان من غير عِلم فلا تذكرها ولا تَنطِق بها، وكن على حُسن الوفاء بهذا العهد والانتباه من هذا الأمر، فإن الحق يقول: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)؛ السَمع والبَصر مَداخِل الإدراك؛ المَدخَل للمُدرَكات، والفؤاد مَحل الإدراك (كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) أنت مسؤولٌ عن سَمعِك ومسؤولٌ عن بَصَرِك ومسؤولٌ عن قلبك وفؤادك، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ما أعطاك الله إياه تَلعَب به كما شئت؛ أعطاك السَمع لتسمع آياته، وتسمع بلاغ نبيه، وتسمع ما يَنفَعُك في دِينك ودُنياك، لا تَستَمِع للآلات المُحرمة ولا تَستمِع للغَيبة والنَميمة ولا تَستمِع للكلام الماجِن.
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) أعطاكَ سُبحانه البَصَر؛ أعطاك البَصَر لِتَنظر آيات الله، ولتقرأ كلام الله وكلام رَسوله ﷺ، ولتَنظُر إلى المُؤمِنين بِعَين الإحترام والمَحبةَ والمَودةَ، ولتنظر إلى الدُنيا بعين الإعتبار والإدِّكار لا للإستِحسان لزَهرَتِها، ولِتَكُفَّها عن نَظَر النِساء الأجنبيات، وكل صُور مُحَرَمة تَنظُر إليها بِشَهوة، وتَكُفُّها عن النظر إلى عَوراتِ الخَلقِ، تَكُفُّها عن النَظر إلى المُسلِم بِعَين الإحتِقار والإزدِراء؛ هذا شَأن البَصر الذي آتاك الله ومَسؤولِيَتَك عَنهُ.
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) لِذا جَاءَتنا عَدد من الرِوايات في الأحاديث؛ الذي يتكلم بالكلمة للآخر فقط لأجل أن يشينه بها، لأجل يُلحِقُه بالعار ويُشينه وهي ماهي فيه، فما الذي يَحصُل؟ جاءت عدد من الروايات منها رواية الحاكم وصححه عن أبي ذرٍ عن النبي ﷺ يَقول: "أيُّما رجلٌ أشاعَ على رجلٍ مُسلِمٍ بِكلمةٍ وهُوَ مِنها بَرِيءٌ كان حقًّا على اللهِ أنْ يُذِيبَهُ يومَ القِيامةِ في النارِ حتى يأتِيَ بِنفادِ ما قالَ" هات نفاذ ما قُلت، قُلت عنه كذا وهو ليس بكذا، هيا هات نفاذ ما قلت، وإلا ذوبان بالنار-محلَّك تَذَوَب- إلى أن تأتي بها، ومن أين يأتي بنفاذ ما قال؟ والكلمة لَيسَت في أخيه؟ فما أخطر الكلمات.
جاء في الرواية الأخرى عند أبي داود وابن أبي الدُنيا عن سَيدنا مُعاذ بن أنس يقول قال ﷺ: "من حمى مؤمنًا من منافقٍ بعث اللهُ ملكًا يحمي لحمَه يومَ القيامةِ من نارِ جهنمَ" حَمى مُؤمِنا من مُنافق يَتطاول عليه، يُهينهُ، يُذِله، يَستَهزئ به، فقام المُؤمِن بإيمانه وحمى هذا المُؤمن، قال: ولَك مَلَك يَحمي لَحمَك مِن النار يَوم القيامة وما تصيبك النار، قال: "ومن قفَّا مسلمًا بشيءٍ يريدُ شينَه بِه حبسَه اللَّهُ على جسرِ جَهنَّمَ حتَّى يخرجَ ممَّا قال"، وقال ﷺ: "من قال على أخيه المُسلِم بكلمةٍ ليست فيه لِيَشينَهُ بها، حُبِسَ في رَدْغَةَ الخَبالِ حتى يأتي بِنَفاذِ ما قال"، ما رَدغَة الخَبال؟ قال عُصارَةُ أهلُ النار؛ القَيح والصَديد الذي يخرج من فروج الزناة والزانيات في النار يُحبَس وَسَطُه، قَيح وصَديد ويغلي في النار ويُحبس فيها هات نَفاذ ما قلت، قلت عن أخيك كذا كذا وليست فيه، لا تحْسب أن المملكة ما فيها مَلِك، لا تَحسِب أن المؤمنين ما لهم رب، ولهم من يدفع عنهم -سبحانه وتعالى- ومن يحاسب عليهم فاتقِ الله -جلَّ جلاله-.
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) وتَعَلَم الأدَب على ظهر الأرض (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)) وإن كُنت بروفيسور، وإن كُنت رئيس حزب، وبعدين! ماذا؟ ستخْرق لنا الأرض؟ لا تستطيع تَخرقها، تجي بطولها وبِعُرضَها ولا تخرقها إلى عمقها، لا تستطيع، (وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) فاعرف قدرك وتأدب لربك.
رزقنا الله التوبة والإستقامة والخير، ودفع عنا كل شر وضير، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أدبنا بأدب القرآن يا رب، وخلقنا بأخلاق القرآن، أخلاق نبيك المصطفى يا رب وادفع عنا السوء والشر من حيث أحاط بهما علمك ظاهراً وباطناً في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
الى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله
الفاتحة
26 صفَر 1445